أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الثلاثاء، 6 مارس 2018

مسرحية " ليـلةٌ وَحشيًةٌ " (مونودراما) تأليف : *محمود القليني

مجلة الفنون المسرحية



الشخص : وحشي بن حرب 
الزمان : ليلة من ليالي العام الثالث من الهجرة 
المكان : حجرة نوم وحشي بن حرب بالطائف 

الظلام والصمت يسودان المكان  ، وسط المسرح تظهر بقعة أشد إظلاما ،  سرير وفوقه جسد شخص ضخم ، يمضي الوقت والجسد ساكن ، ظلالٌ تتحرك على الجدران تهتز الستائر الحمراء المسدلة ، شيئا فشيئا يتحرك الجسد ، يلقي الغطاء من فوق جسده ، ويتخذ حركات  ، يتقلص ويتكور كحركات الجنين في بطن أمه ، يستمر في التكور والتقلص والانكماش يتوازي مع تلك الحركات أصوات وحوش ضارية وصهيل خيول وصليل سيوف وصرخات وتأوهات وعويل وأنين ، مع دقات طبول حادة ومتسارعة وتعلو شيئا فشيئا مع بقية الأصوات ، وتستمر حركات الجسد بصورة أسرع ، مع تسارع حركة ظلال ،والستائر  يظل الجسد يتكور ويتقلص ويتداخل في بعضه حتى يشغل مساحة قليلة جداعلى السرير .
وفي اللحظة التي ينبسط فيها الجسد محركا يديه ورجليه في كل اتجاه ،ينهض  مطلقا صرخة  مفزعة ، تصمت كل الأصوات وتتوقف حركة الظلال المرعبة والستائر ، ويسلط دائرة من ضوء أحمر وهاج على الشخص ، يجري في كل اتجاه  ودائرة الضوء تلاحقه كظله ،  يتلفت حوله ،  وحركاته تدل على مدى فزعه  ، يحيط عنقه بأصابعه  ، يجذب رداءه من فوق جسده  ، يخمش أجزاء من جسده بأظافره ، نظراته لا تستقر على شيء،أنفاسه تتسارع ، صدره  يعلو ويهبط  ، بخطوات مترنحه يقترب من السرير ما يكاد يلمسه حتى يبتعد عنه .
وحشي : ( مشيرا إلى السرير )  لا ، لن أنام مرة أخرى ..سأظل  مستيقظا ...النوم عذاب مقيم ، جحيم أبدي ، ( يتلفت حوله ، يتراجع  يجذب شعره  ) نفس الحلم كل ليلة ...، إنهم شياطين يريدون أن يدفنونني ..يضعون في فمي وعيني التراب ، وأنا أصرخ  أحاول أن أهرب  ،  أتضرع  ،وأسألهم  : لماذا تريدون دفني؟ ...أنا ...مازلت حيا ..
حيا ...
 ( يدور حول نفسه ..يتراجع ) وفجأة يتحولون إلى نساء قبيحات المنظر والهيئة ، يسيل الدم والصديد من أفواههن وعيونهن ، أذانهن مصطلمة وأنوفهن مجدوعة وعيونهن مفقوءة ، يزحفن كالأفاعي ، حفيفهن المرعب يصم أذني ،  يحطن بي ..يمسكنني ويجرنني يردن أن يعيدننى إلى رحم أمي ، وأشعر بالحبل السُري يجذبني ويلتف حول عنقي ، رائحة اللحم والدم والمخاض ، ثقب صغير ..يدفعنني  ، أشعر أن أعضائي تتحطم جسدي ينسحق .
( يضع يديه حول عنقه يتهاوي يجثو على ركبتيه ) لا أستطيع أن أتنفس.
 ( يضع يده على صدره ) قلبي ينفجر ..إني أموت كل ليلة ...
منذ أن قتلت حمزة.
 وهذا الحلم لا يفارقني ولا أفارقه .
( يجثو على الأرضويدق الأرض بقبضته  )
 ليتني لم أقتله ...
ليتني لم أقتله ...
 ( يضاء المسرح يتجه نحو منضدة خشبية عليها ألوان من الطعام والشراب ، يتهاوي على قطعة حجر ينكس رأسه ثم يرفعها ساخرا) وكأنك يا وحشي لم تولد إلا لتقتله ....لم تحمل إلى هذه الدنيا إلا لتحمل وزر دم حمزة (تعود الأصوات من جديد ) 
يطاردني ليل نهار
 ( يتحرك حركات قلقة )
الدم ..
يخرج من الشقوق ..
من الثقوب ..
يصعد من الأرض..
 يهبط على من السماء... 
( يحجب عينيه بيديه ) لا أريد أن أرى اللون الأحمر ..
 أكرهه ...
أمقته .
( يتجه نحو الحائط ، يجذب الستائر ، ويمزقها ويلقيها على الأرض ، يري الحربة منتصبة خلف الستائر ، يبعد يده يتراجع بسرعة )
 أيتها الحربة اللعينة تأبين إلا أن تلاحقينني 
تطاردينني ..
كأحلامي المفزعة ..
لا أستطيع أن أتخلص منك ...
أنت سبب كل عذابي ...أنت 
( يقترب من الحربة يلمسها بأصابعه يتحسسها ) كم كنت أحبك ، أنام وأصحى وأنت معي لا تفارقينني ولا أفارقك .
 (يقرب الحربة من صدره ) وأنت معي أشعر أني فارس الفرسان ..مارد ..عملاق ..
(يمس عليها بيده ويجلس محتضنها ) كثيرا ما كنت أجلس معك ، أشكو لك همي وأبوح لك بغمي ، احتضنك ...أقبلك ..عمري  معك 
( يرفعها إلى مستوى نظره ) لم تعصينني في يوم من الأيام ، كل ما آمرك به كنت تفعلينه ، تصيبين الهدف في سرعة وقوة ، وهذا ما جعل سيدي ( جبير بن مطعم ) يثق بي ويصحبني معه في رحلات الصيد  ، يشير إلى الفريسة في عرض الصحراء ، كنت أسر إليك ببضعة كلمات ثم أقبلك ، وأسددك ، ومهما كان الصيد قويا وسريعا ، لا شيء يوقفك أو يمنعك أن تخترقي هدفك .
 ( يضع الحربة جانبا يقف ) كان سيدي يحتضنني ويقبلني ، ويعطيني مكافأة ..مزقة لحم ...كأس خمر ...جارية بيضاء أقضي ليلي معها ، لا شيء يسعدني من كل هذا سوى  رضا سيدي ، لذلك أحببت رحلات الصيد ، كنت أنتظرها على أحر من الجمر .
 ( يدور حول نفسه رافعا يديه إلى أعلى ) وأنا في الصحراء  كنت أملأ رئتي من الهواء ( يقفز إلى أعلى ) 
أجري . 
أقفز.
أصرخ .
أرقص .
 كأنني ريشة في جناح طير نزق ، أخرج من جلدي الأسود ، من عبوديتي الحمقاء .
 أطير.
أصعد في السماء حتى ألمس السحب .
 وأغوص في زرقة السماء .
( يشير إلى الحربة  ) كل هذا وأنت  تشاركينني جنونني وحماقتي .
( يجلس على الأرض ويضع الحربة على فخذيه ) وفي ليلة أيقظني سيدي ، وأجلسني أمامه  ، وتأملني ، ثم قال لي :
 أنت حر ....
حر أنت ...
هززت رأسي ، وأغمضت عيني وفتحتها ، ربما يكون حلما ، فكثيرا ما حلمت بالحرية ...ولكنه لم يكن حلما أنه يجلس أمامي بشحمه ولحمه : أنت حر ...حر أنت
( مندهشا )
 أنا حر !
حر أنا !
ولكن لماذا ؟! 
( يرفع الحربة ويقربها من وجهه) أنت تعلمين لماذ ا...
أعطاني حريتي ...؟
لماذا حطم جدران عبوديتي ؟
 لماذا أطلقني من ذل أسري ؟
( يترك الحربة جانبا وينهض يمد يده )
 ومدً يده إلي .
 فمددتُ يدي لأصافحه .
 فقبض يده دوني .
وقال لي : 
لا أريد مصافحتك يا أحمق . 
إذن ماذا تريد  ؟!
ثمن حريتك .
ولكن ليس معي مال !
لا أريد مالا .
 إذن ماذا  ؟!
دما .
دم من ؟ 
حمزة بن عبد المطلب .
 ( يتراجع خطوات إلى الخلف ، يستند إلى طرف المنضدة حزينا )
مادت الأرض من تحتي .
 مطارق من حديد تسحق رأسي ...
نعم قتلت الكثير  ..ولكن من الطير والحيوان ( ينحني ويلتقط الحربة )وأنت تشهدين  ، ما سقيتك دم إنسان من قبل ، ولم أفكر أن أقتل إنسانا .
ولماذا أقتل ؟ !
ألأني عبد ؟!
نعم ، لأني عبد ، ولأن سيدي أمرني بذلك ، لا أرفض ما يأمرني به .
وهل لي أن أرفض ؟
ليس لي أن أرفض ، أو حتى أن أقبل . 
ليس لي إلا أن أطيع  . 
 ( يرفع الحربة ويتأملها ) سهرتُ معك ليال طويلة ، وتحدثنا كثيرا ، وأقتنعنا أن نقتل ، ولكن لم أستطع أن أقنع نفسي أن أقتل حمزة ...
حمزة لا ...
لا حمزة ...
( يجر الحربة وراءه ويسير في شكل دائرة مغلقة ) وفي ليلة سوداء كهذه الليلة ..ذهبتُ إليه أجرك خلفي كما أجرك الآن  ، أخبرتُه ..بل رجوتُه ...بل تضرعتُ إليه  ..أقتل أي إنسان غير حمزة .
نظر إلي طويلا ، حدق في عيني ، كأنه يريد أن يخترق عقلي ، وسألني بمكر وخبث :وفيم يختلف حمزة عن غيره يا وحشي ؟ 
لم أجبه ، ليس لأني لا أعرف الإجابة ، ولكن كي لا أفضح نفسي   ، وأجعله يغضب  ، بل يقتلني . 
كنت أريد ان أقول له : نعم  ...يختلف حمزة عن غيره ، أتدرك لماذا  يختلف حمزة عن غيره ، وغيره يختلف عنه ..أتدري لماذا  ؟ ولماذا رجوتُك وتضرعتُ إليك  ؟
 لأنني أحبه ...
لقد أحببت حمزة  ..
 أحب وحشيٌ حمزة !
كنت أريد أن أقول لك ذلك ..ولكنني جبنتُ وعجزتُ ولم أستطع قولها.
 ( يسير  مترنحا) ويا ليتني ما أحببته .
وهل أحد يملك قلبه ، كلنا عبيد قلوبنا ، الأحرار والعبيد ...الشيء الوحيد الذي نتساوى فيه ..كلنا عبيد قلوبنا .
نعم .
 أعترف .
وأقر.
 أنني أحببت حمزة .
وهل كان أحد من شباب مكة يقدر ألا يحب حمزة  ، ولايعجب بأسد مكة الجسور؟!
( يسير خطوات ، ينحني ويلتقط قطعة من الستائر الممزقة ويضعها فوق كتفها ) كنتُ أعجب به ( يرفع رأسه .يقلد ) أقلده في مشيته ( يدق الأرض)كان يسير كالأسد يهز الأرض هزا ، وإذا رأيتُه يسير في طرقات مكة أظل أسير وراءه  ، مالئا بصري منه ، وأظل هكذا حتى يغيب في داره .
 ( يقف مطرقا ) كان حبي وإعجابي به يزداد كل يوم ..وإذا جلستُ أنا ورفقائي كان حديثنا لا ينقطع عنه ، وكأن لا رجل ولا فارس في مكة إلا حمزة ، لم أكن وحدي في هذا الشعور ، ولكن كان يشاركني فيه الكثير من فتيان وشباب مكة  .
 ( يرفع رأسه ويتقدم خطوات متهللا ) وتُوج حمزةُ على قلبي وعقلي بعدما رأيتُ بأم عيني ما حدث ، يوم لا أنساه ما حييتُ ، الذي رأيتُه جعلني لا أصدق أن حمزة بشرٌ ، إن هو إلا مارد ..
عملاق ..
لا ...ليس مثلنا ، أن ما يجري في عروقه ليس دما .
 أو دما ولكن ليس كدمنا .
 ( يسرع ويجلس محتبيا بجوار المقعد الحجري ) كانت الشمس توشك على الرحيل ، وونسمات رقيقة تهب على مكة ، وبدأ المساء ينسج في رداء الليل ،كنت أجلس بجوار الكعبة ما بين النوم واليقظة ، أحسست بطيف مرً من أمامي ، نبهني صوت أقدامه ، وعطره الذي لا أخطئه أبدا ، نهضتُ مسرعا وأخذتُ أطوف حول الكعبة وراءه .
 ( ينهض ويقف فوق المقعد الحجرى ويصعد منه فوق المائدة ، بانبهار وذهول ) وجدتُه يسير مسرعا نحو مجلس ( أبو جهل  بن هشام ) الذي كان يتصدر المجلس في فخامة وجلال تليق بسيد وزعيم مكة وأغلظ وأقوى رجالها ، بين يديه وحوله ذووه وأصدقاؤه وعبيده ، اخترق حمزة كل هؤلاء في لمح البصر ، ووصل إلى( أبي جهل بن هشام ) ورفع قوسه وهوى بها على رأسه فشجها وأسال الدم منها 
( يضحك ضحكا متواصلا يكاد يسقط ) من خوفي وفزعي  كدت أبول على نفسي ، توقعت أن كل من في المجلس سيهجم على حمزة ويمزقونه إربا ، وكان صوته  مجلجلا كزئير الأسد صاعقا كهزيم الرعد ، ( أتشتم محمدا وأنا على دينه أقول ما يقول ...فأردد على إن استطعت ) كان الدم يسيل من رأس أبي جهل على وجهه وهو لا يبدي حراكا فاغرا فاه ، وكأن الزمن وقف والوجود تحجر عند تلك اللحظة ، استدار حمزة وخرج على أعين الجميع ، وكأن على ر ؤوسهم الطير ..لم يكن بشرا وإنما أسد الأسود .
( ينزل من فوق المائدة على الكرسي الحجري ويجلس عليه )ظللت أياما وليالي أقص على رفقائي ما رأيته ،بل كانت مكة كلها لا حديث لها ، حتى النساء والفتيات كنً يتلهفن على رؤية هذا الرجل الذي ضرب زعيم مكة .
 ( ينهض ويسير إلى منطقة مظلمة في جانب المسرح يجلس يتأمل ما حوله بحزن ) أيمكن أن أقتل مثل هذا الرجل ؟!
هذا الرجل الموت نفسه يخشاه 
( يقف ويسرع إلى وسط المسرح يدور حول نفسه ضاحكا ساخرا ) ومن الذي يقتله ؟!
العبد الأسود...
وحشي !
( يصرخ ) 
ولماذا أنا ؟ 
ولماذا هو ؟
لماذأ أنا أكون القاتل ؟
 ولماذا هو يكون المقتول ؟ 
أمنية حياتي أن أقابله وجها لوجه ، وأن أصافحه وأجلس معه وأحادثه . 
وإذا القدر يحقق لي تلك الأمنية لأقابله ، ولكن ليس وجها لوجه .
وإذا القدر يحقق لي تلك الأمنية لا لأصافحه ولكن لأقتله .
وإذا القدر يحقق لي تلك الأمنية لا لأحادثه ولكن لأطفأ ذياك التوهج القدسي إلى الأبد .
أحيانا أحاول أن أتذكر ما حدث ، فلا أقدر .
 ذاكرتي طفل أخرق عبث بها ، محا كل ما خُط ونُقش بها ، وهذا ما يعذبني أشعر أن الجريمة تركت ذاكرتي وتغلغلت في دمائي وخلاياي تسمم جسدي تقتلني بتوؤده وتمهل .
وأحيانا أتذكر كل ما حدث ، وكأن لم يمض لحظات ، وهذا ما يعذبني ، شيطان  يعيد تلك اللحظة أمامي آلاف المرات  ، كل مرة أشعر بسوط من النار يلهب عقلي ويذيب قلبي .
فلا النسيان أراحني .
ولا التذكر شفاني .
وأحيانا أتعجب مما حدث ..كيف حدث ؟!
 ( يذهب نحو السرير يجلس ببطء ، يرفع قدميه ، يتمدد على السرير ، يُسمع صهيل خيول وصليل سيوف وأصوات رياح ، ينتفض واقفا مبتعدا عن السرير إلى وسط المسرح ) 
كان كل شيء غريبا في ذلك اليوم ، حتى أنا أحسست أني غريب عن نفسي ، لست أنا وحشيا الذي أعرفه ، أيمكن أن أجهل نفسي وأتوه عنها ؟! أنا لم أكنه حقا ، تبدلت  ،  لم أكن أنا ..لعل تلبس بي شيطان وسيرني كما يشاء ، أو اختطفتني ساحرات لعينات وصببن السحر في أذني وعيني ، فلم أعد أسمع أو أر إلا ما يردن أن أسمعه وأراه ...
( يسير خطوات ناظرا إلى قدميه ) أخذت حربتي وخرجت مع من خرجوا الشمس حامية ، الرمال محرقة ، صخر (أُحد) ينفث نارا ، اصطف الفريقان ، السيوف مشرعة كمخالب الموت ، الفناء يحوم ويلقي بظلاله المرعبة على الجميع ، كل منهما يتهيب الآخر ، خرج (سباع بن عبد العزى ) يختال متباهيا بسيفه ، يطلب مبارزا وأخذ يضحك ويشير بسيفه إشارات سخرية واستهزاء ، فخرج إليه ( حمزة ) وضحك وعير سباع بأمه قائلا بصوته المجلجل : ( إلى يا ابن أم مقطعة البظور ) فجن جنون سباع حين سمع تلك الإهانة ، وهذا ما كان يريده حمزة ، فاندفع سباع اندفاعا أعمي نحو حمزة ، ثار الغبار وحجب الاثنين ،وحينما انقشع كان سباع صريعا مجندلا تشخب دماؤه على الرمال ،كان حمزة يجوس في الميدان كالأسد ، أسرعت مختبئا خلف صخرة ، أرقبه ، تخيلته عملاقا يطاول ( أُحد ) ، يتحرك في كل مكان  ، كان وحده كجيش لا أحد يقف أمامه ، بيديه سيفان ، يجندل الفرسان عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه .
شعرت برعشة تجتاحني ، خوف فزع ، حب كراهية ، شجاعة جبن ، لا أدري ماذا أصابني، اشتعلت الدماء في عروقي ، قلبي يكاد  يمزق صدري ، الدماء و الأشلاء في كل مكان وصليل السيوف والحر والرمال والصخر ، إحساس بالذل والمهانة والعبودية طغى في لحظة ، تاريخ عبوديتي ومض في عقلي ، الشوق إلى الحرية يلذعني ، الانطلاق من الرق يدفعنى ، نشوى غريبة  ملأت قلبي ، تجددتُ انتفضت كلُأعضائي وشهقت ، الدماء تتدفق في عروقي بقسوة ورعونة ، أشعر أني على وشك الانفجار ،حتى الحربة في يدي لم تعد قطعة من حديد ، شعرت بها ، دمائي تتدفق إليها لتكون عضوا من أعضائي ، كل شيءيتحرك حركات أفعوانية ، حمزة يقتل ويقتل لا أحد يصمد أمامه ، كلُ حواسي متعلقة متشبثة به .
وفجأة...
وجدتُه أمامي .
 أنا لم أرمه ، ولكنني تركتُ الحربة فاندفعت بكل قوتها  نحوه .
 في تلك اللحظة ...
أغمضت عيني وتركت العنان لعقلي يتخيل ما حدث ، وحينما أرسلتُ بصري ..الحربة ناشبة في جسد ( حمزة ) ، والدماء تسيل ...لا كانت تزأر زئير مفزع ومخيف ، تلفتُ ، وتقدمتُ نحوه وقلبي يفيض بالخوف والفزع ، توقعتُ أن ينهض وينزع الحربة من جسده ويدقها في قلبي ، أسرعت ونزعت الحربة  ، وأغمضت عيني كي لا تقع على وجه ، ولكن قبل ان أغادر المكان .
نظرت  ..
 رأيته يبتسم ..
 خفتُ ..
 ركبني الرعب من تلك الإبتسامة ، التي لم أعرف سرها إلا مؤخرا .   
 ( يضع يديه خلف عنقه ، يسير في شكل دائرة مفرغة ) كنتُ أطوف على نوادي مكة ومجالسها ،  واسترق السمع ، كانت كل أحاديثهم عن ( حمزة ) وحزن محمد عليه ، كان لا يريد أن يواري جسده الثرى ، وقال : ( لولا أن تحزن أخته صفية  لتركته حتى يحشر من بطون الطير والسباع ) وقال : ( لن أصاب بمثلك أبدا وما وقفت موقفا أغيظ على من هذا ) 
كان أهل مكة يرون ويتحدثون بذلك تشفيا وانتقاما . 
كنت أسير ذات ليلة في الصحراء فسمعت من ينشد :
بكت عيني وحق لها بكاها   * وما يغني البكاء ولا العويل 
على أسد الإله غداة قالوا لحمزة *ذاكم الرجل القتيل 
أخذت أبحث عن من ينشد هذا الشعر ، لم أجد احدا فظننته شيطانا ، وأخذت أجري  ، فسمعت صوتا حزينا  يطاردني  :
مال شهيدا بين أسيافكم * شلت يدا وحشي من قاتل . 
 ( يرفع يديه يتأملها طويلا ) قضيتُ مدة طويلة  لا أستطيع أن أحركها  ، فكأنها تعاقبني على ما فعلتُ بها ، أو كأني أعاقب يدي على ما فعلت بي ، ليست يدي فحسب من يعاقبني ، بل كلي يعاقبني ..
أنا يعاقبني ..
يعذبني ...
( يجثو على ركبتيه ، يتقلص ، يحيط نفسه بزراعيه ) أشعر أني منبوذ ملعون ( يجلس يجهش بالبكاء المتواصل يتلفت حوله ) 
في حاجة إلى أمي ...
أين أنت يا أمي  
 محتاج حضنك الدافئ يا أمي .
 البرد والخوف يزحفان إلى قلبي .
أشعر أنني طفل 
حائر .
تائه .
 وسط الظلام ، لم أشعر باليتم هكذا من قبل ، ( يتحسس الأرض يتمدد بجسده يزحف ) لا ..أنا لست في حاجة إلى حضنك ، أريد أن أعود إلى بطنك ، أرجع مرة أخرى جنينا .
 ( ينتفض واقفا مذعورا يحدق إلى لا شيء ) يا الله ...إنه الحلم الذي يعاودني كل ليلة ، ويطبق على صدري ويفزعني . ما بالي الآن أتمنى أن يتحقق ؟!
ولم لا ...أرجع إلى بطن أمي لأولد من جديد
 طاهرا .
نقيا .
 خالصا من كل شر . 
 بريئا من كل غدر . 
 نظيفا من كل خيانة .
لا ..لا أظن أن بطن أمي تقبلني بعد أن فعلتُ ما فعلتُه ، بل قد تنكرني
 تتبرأ مني ..
ستقول بأعلى صوتها :(  لستَ ابن بطني ) .
 ( يحضن نفسه ) 
أمي ...أمي كانت امرأة طيبة  ..
طاهرة كضوء الشمس 
جميلة كنور القمر 
 رقيقة كقطرة الندى 
 عذبة كنسمة الطيب ....
كثيرا ما كانت تحتضنني وتمطرني بالقبلات  ..وتضمني ..
( يطرق بيده على رأسه ، يدور حول نفسه ، يمسك جبينه ..يحدق في اللاشيء ) لقد جننت يا وحشي ..ما هذه الترهات التي تتفوه بها لقد عدت طفلا .
ليتني أستطيع أن أكونه !
 ( يقف .ينتفض يدق الأرض بقدميه ، يضع يديه حول خصره يرفع رأسه يتقدم خطوة إلى الأمام ) أنت تهرب ...لن يجديك الهروب .ولن يفيدك  الضعف والخور .
أنت لستَ أول من قتل ، ولست آخر من سيقتل ، وهل ستظل تجلد نفسك وتعذب روحك .انك بهذا تقتل نفسك أيها  الأحمق ...لقد حدث ما حدث  ( يضعف ينهار يبكي ) ليته لم يحدث  ( يتماسك يمسح دمعه ) إن شياطين الأرض  تهزأ وتسخر بي ( يبحث عن الحربة ، يلتقطها يحركها في كل اتجاه يطعن بها الظلام ) أيتها الشياطين أظهري لي ..أخرجي من عالمك ...واجهيني وسالقنك درسا لن تنسيه .
( يهز الحربة ، يتأملها) مرة أخرى أيتها اللعينة ..أجدك في يدي ..ماذا تريدين مني ...وما الذي تجرينني إليه لأفعله ( يعبث بها في الأرض ) إنك بائسة مثلي ، كنتُ عبدا ( لجبير بن مطعم ) وكنتِ أنت عبدةً لي ، تطيعنني فلا لوم عليك فقد كنت مأمورة ، ( مبتسما متهللا ) إذن لا لوم علي أنا أيضا  فقد كنتُ مأمورا ، وقتلت لأنال حريتي ، فمن يلومني ...كنت عبدا، وهل للحياة معنى بدون حرية ؟
 ( ساخرا ) حرية ! لم أكتشف إلا الآن أنها أكذوبة وخدعة كبرى . ها أنذا حر طليق ... ما الجديد في ذلك ؟
 لوني مازال أسود .
 مازلت آكل ما كنتُ آكله 
أشرب ما كنتُ أشربه  
مازال الناس لا يعرفونني ولا ينادونني إلا بالعبد الحبشي 
( ضاحكا ) سمعتهم ذات مرة يقولون العبد الحبشي الذي صار حرا ، أنا نفسي مازلت أشعر بالعبودية متغلغلة في قلبي ، الرق يجري في دمي ، وما أراني إلا أنني إزدتُ إلى عبوديتي عبودية الذنب والجريمة ، ودم حمزة الذي أورثني ندما وحسرة . ..نحن دُمى في يد القدر يعبث بنا ..
حتى حمزة كان لعبة في يد القدر .
 فما الذي جعله يقف أمامي في تلك اللحظة ؟ 
وما الذي جعله يغفل عني ؟
 ولماذ لم تخطئه الحربة ؟ 
ولماذا لم يقتلني قبل أن أقتله؟
لا ..لا ، حمزة لم يكن لعبة في يد القدر .
 بل كان قدري  الذي لم أستطع أن أهرب منه.
 وكنت قدره الذي لم يستطع أن يهرب منه .
لا..حمزة واجه قدره ، تصدى له بكل جرأة وشجاعة .
حمزة كان رهانا على الحياة والشرف والأمانة .
 وكنتُ رهانا على الموت والضعة والخيانة .
وكلانا كسب رهانة .
 ويا ليتني خسرتُ رهاني . 
( يدور حول نفسه باسطا زراعيه صارخا ) والآن ماذا على الآن ان أفعل ؟!
 قلتُلنفسي أرحل عن هذا العالم 
 ( ينكس رأسه )
 ليست المشكلة في المكان ( يشير إلى نفسه ) المشكلة داخلي أنا ..إلى أين أهرب من نفسي ، ( مطعم بن جبير ) حرر جسدي ، في حاجة إلى من يحرر روحي من  عبودية الذنب
من رق الخيانة
من  ذل الغدر .
 من عذاب الندم .
 من جحيم الحسرة والألم . 
( يذهب ويجئ ، يتحرك في كل اتجاه ينظر إلى أعلى وأسفل يمينا ويسارا يتوقف في المنتصف ) أمران لا أرى أني سأظفر براحتي إلا بفعل أحدهما .
( يلتقط الحربة ويوجها إلى صدره ) إما أن أغرز الحربة في قلبي  ، وإما أن أذهب إلى محمد ،  قالوا لي   : ضاقت عليك الأرض بما رحبت ، ولا منجى لك إلا أن تذهب إليه ،لا أحد يقدر على تحرير روحك إلا هو ...هو وحده القادر . 
ولكن أتراه...
 يصفح ؟
يغفر؟
يسامح ؟ 
لا أظن .
إذا كنتُ أنا  لم أصفح ولم أغفر ولم أسامح نفسي .
نعم ، أنا لا أستطيع لأني:
عبد .
 قذر.
 نجس .
 دنس .
الدماء التي تجري في عروقي دماء ملوثة..
 بالذنب .
بالخطيئة .
ولكن محمد يقدر لأنه:
حر .
شريف .
طاهر .
نقي.
رسول .
نبي .
 ( يلقي الحربة بعيدا ) لا حيلة لي ، أني لا أطمع في النجاة بجسدي ، فقد كرهتُ لوني ،كرهتُ رائحتي ..أطمع في النجاة بروحي .
( يجلس يمدد قدميه ويلقي بيديه جانبا ) أريد أن أستريح .أشعر اني أحمل حجارة جبل (أحد )فوق كاهلي ...
نعم ، سأذهب  وألقي بنفسي تحت قدميه.
 أقبل التراب .
 وألثم يديه وجبينه متضرعا له أن  يصفح عني.
 ( ينهض متهللا ) إنه لا يحمل ضغينة لأحد ، قالوا لي إن قلبه يسع العالم كله ، إنه قدسي الروح ، قالوا : إنه غفر وسامح وصفح عن الجميع  ..نعم ..قالوا ذلك .
( يضرب جبينه ويخمش جسده بأظافره ) ولكن ليس منهم من قتل حمزة ، ما أنكد حظك وسوء قدرك ، ليس لي من حيلة سوى أن أتوسل إليه بأعز وأغلى من لديه 
( يضرب جبينه ) يا ويلى ...الأعز والأغلى كان حمزة .
 كل الأبواب والسبل سُدت في وجهك يا وحشي .
 ( يتماسك يتشجع يتجرأ ) ما لي خائف هكذا ؟! لأذهبن إليه ، حاملا روحي على كفي ، مقدما عنقي ، طالبا منه أن يقتص مني لحمزة ، وهذا هو العدل  ، من قتل يُقتل .
 وإن قتلني فقد أراحني .
وإن عفا فقد أعتقني من 
عبودية الذنب .
وأسر الخطيئة.
 ورق الجريمة.
 ( تتسلل خيوط من نور الفجر من خلال شقوق في الجدران وثقوب في السقف ، يبدأ المكان يسبح في الضوء شيئا فشيئا ) نعم أريد أن أزيل ظلام الذنب وظلمة الندم عن قلبي كما تزيل أنوار ذياك الفجر ظلمة الليل ...
أغتسل 
أتطهر
 أتبرأ ..
أكسر هذا القيد الذي يكبل روحي .
 أحطم تلك الأغلال  التي تشقي نفسي 
 ( يذهب نحو السرير يلتقط وشاحا يضعه على كتفه ) سأذهب إليه ..
 فإن قتلني فقد أراح هذا الجسد المعذب وتلك الروح الحائرة القلقة .
 وإن عفا عني ، فهو أهل للعفو والمعغرة . 

                    ( ستار ) 

*سيرة ذاتية 
الاسم : محمود محمد محمود القليني . 
المؤهل : ليسانس في الآداب والتربية جامعة الإسكندرية لغة عربية عام 1979.
تاريخ الميلاد : 16- 11- 1955م 
العنوان : جمهورية مصر العربية – دمنهور – محافظة البحيرة .  
الإيميل : elkellenymahmoud@yahoo.com
الهاتف :0201061414124- 0201025544856
الأعمال المنشورة : 
أولا : في المسرح : 
1- مسرحية : ( إخناتون والكهنة ) جهة النشر : الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة عام 1994
2- مسرحية : ( مصرع الخُرساني ) جهة النشر : الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة عام2002.
3- مسرحية :(محنة الإمام أحمد بن حنبل) جهة النشر : الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة عام 1997
4- مسرحية : ( بلد راكبها عفريت ) جهة النشر : الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة عام 2010.
5- كتاب : ( الأدب في مسرح الطفل ) جهة النشر : العلم والإيمان للنشر والتوزيع بدسوق عام 2015
ثانيا : في الروايات والقصص :
1- رواية :(الإسكندرية عناقيد العشق والغضب) جهة النشر : مكتبة بستان المعرفة عام  2011.
2- رواية :(الجنوب الهادئ ) جهة النشر :الهيئة العامة لقصور الثقافة عام : 2014
3- رواية : ( الدجال والشيطان ) جهة النشر : مكتب معروف للنشر والتوزيع عام 1985
4- ( إنهم يذهبون ) مجموعة قصص قصيرة ، جهة النشر : دار الشعب بالقاهرة عام 1983.
ثالثا : في الكتب : 
1- (الفكر الإسلامي ومستجدات العصر) جهة النشر :المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة عام 2005 .
2- ( أمير الصحافة العربية ) جهة النشر : مكتبة بستان المعرفة عام 2009
3- ( العمرية ..في رحاب عمر بن الخطاب ) جهة النشر: مكتبة دار العلم والإيمان عام 2007
4- ( عش حياتك سعيدا ولا تحزن ) جهة النشر: مكتبة بستان المعرفة عام 2004 .
5- ( الثورة في وجدان المصريين ) جهة النشر : مكتبة بستان المعرفة عام 2012.
6- ( الباحثون عن الله ) جهة النشر مكتبة دار العلم والإيمان عام 2013.
7- (شخصية موسى النبي) جهة النشر : مكتبة بستان المعرفة عام 2011 .
8- (شخصية المسيح)  جهة النشر : مكتبة بستان المعرفة عام 2014.
9- ( شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم ) جهة النشر : مكتبة بستان المعرفة عام 2014
10-(قيم ومعايير في أدب يوسف إدريس ) جهة النشر : مكتبة دار العلم والإيمان عام 2015.
11-( الذاتية والقيم الوجودية في أدب إبراهيم عبد القادر المازني ) جهة النشر : مكتبة دار العلم والإيمان عام 2015. 
12- (النساء فقدن عروشهن) جهة النشر :مكتبة العلم والإيمان بالمنصورة عام 
الجوائز الحاصل عليها : 
1-جائزة التأليف المسرحي من المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة عن مسرحية ( محنة الإمام أحمد )
2- جائزة ( ملتقى جائزة أبها )  بالمملكة العربية السعودية عن مسرحية ( محنة الإمام أحمد ) عام 1417هجرية .
3- جائزة التأليف المسرحي من المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة عن مسرحية ( إخناتون والكهنة ) .
4- جائزة التأليف المسرحي من مجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة عن مسرحية ( مصرع الخرساني ) .
5- جائزة الدراسات النقدية عن دراسة بعنوان ( قيم ومعايير في أدب يوسف إدريس ) من المجلس الأعلى للثقافة .
6- جائزة الدراسات النقدية عن دراسة بعنوان ( الذاتية والقيم الوجودية في أدب المازني ) 
7- جائزة المقالة النقدية عن دراسة في قصة ( الطريق ) لنجيب محفوظ ،من المجلس الأعلى للثقافة .
8- جائزة الهيئة العربية للمسرح – الشارقة – الدورة التاسعة –( 2017) المقامة في الجزائر عن نص بعنوان ( غائب لا يعود ) 


0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption