مونودراما "في حضرة الشيخ القوقل" تأليف كريم الفحل الشرقاوي
مجلة الفنون المسرحية
المؤلف كريم الفحل الشرقاوي |
شخصية النص
مسرور : ابن عاشور الكتبي بن دهشور المطبعي
ابن منشور الناشر ابن شحرور الخطاط
ابن بعرور الناسخ بن قنطرور الوراق
ابن الفهرستاني الكبير .
الشيخ القوقل : محرك غوغل
قبو سفلي معتم إلا من نافذة ضيقة عالية تكاد تلامس السقف . جدرانه عبارة عن رفوف تزدحم جنباتها بالكتب و المجلدات . ينتصب في مقدمة الجهة اليسرى للركح مشجب خشبي تنكفئ على قمته قبعة طويلة صفراء مزينة بنجوم زرقاء و خضراء و حمراء وتتدلى منه لحية زرقاء طويلة مضفورة و سلهام أحمر باذخ مبطن بالحرير الأزرق مما يوحي بلباس ساحر غربي . بينما تجثم في مقدمة الجهة اليمنى منصة عتيقة مخصصة للخطابة فوقها مطرقة خشبية كبيرة و شاشة ورقية رقمية ملتصقة بواجهتها الخشبية الأمامية . في حين تتراكم صناديق على مسافة غير بعيدة عن باب القبو .
تسمع طرقات على الباب .. تزداد الطرقات عنفا .. يخرج من بطن المنصة رجل أشعث نحيف البنية حاد النظرات .. يتجه بحذر و توجس نحو الباب ليلتصق بصفحتها كسحلية متلصصة .. تسمع طرقات أشد عنفا فيفزع الرجل إلى الخلف .. يبتلع ما تبقى من لعابه اللزج المالح وقد استبد به رعاش عارض .. يرمق ظرفا بريديا ينزلق من تحت الباب قبل أن تتناهى إلى سمعه خطوات ثقيلة تبتعد شيئا فشيئا .. يعاود الإلصاق بالباب ليتأكد من مغادرة الطارق المزعج .. يعود و يلتقط الظرف وهو يتفحصه بارتياب غريزي قبل أن يفتض غلافه مفرجا عن مظروف إداري…
مسرور :
( يقرأ الورقة بصوت مسموع ) إنذار قضائي صادر عن محكمة المنازعات العقارية يقضي بالإفراغ العاجل من العقار الذي تستأجرونه مع أداء كافة التعويضات المستحقة لصاحب المنزل ( يقهقه وهو يهتز بمبالغة كاريكاتورية ) أنا فقط أفتعل القهقهة والقعقعة وزلزلة الكتفين و هزهزة الرأس ( موجها كلامه لشخصية المشجب الوهمية ) تخيل معي يا شيخنا الجليل أنهم يطلقون على هذا القبر الحضيضي المتعفن صفة منزل مع أنه مصنف كأحد المحميات الطبيعية الحاضنة والمحتضنة لأعرق سلالات الجرذان والفئران وكل القوارض القارضة والمنقرضة ( يرتدي قميصة ) دون ان ننسى طبعا أندر و أشرس أنواع الحشرات الزاحفة و المجنحة المعززة بالفصائل البرمائية … ناهيك عن فيالق الباعوض و كتائب البرغوث و جحافل القمل التي ما فتئت تشن على جثتي حربا ساحقة ماحقة لا هوادة فيها ( وهو يزرر قميصة ) بل و يستبسلون استبسالا تاريخيا في امتصاص دمي الملوث ( ملتفتا لشخصية المشجب الوهمية ) في البداية كانت الحشرات هي التي تنقل إلى أسلاك جسدي عدوى الأمراض المصنفة وغير المصنفة لدى منظمة الصحة العالمية … ومع مرور الزمن وتناسل خلطات وجلطات العلل في شراييني … صرت أنا وبلا فخر من ينقل العدوى للحشرات … لدرجة أن هذا المخبـأ الأسطوري تحول الى قسم مستعجلات تحشر فيه الحشرات حشرا كي تتلقى العلاجات الأولية والثانوية و حتى الثلاثية الأبعاد ( يقهقه قهقهته الشهيرة وهو يرتدي سترته ) أنظر يا شيخنا سأعيد أمامك مشهد القهقهة والقعقعة والزلزلة باحترافية لا مثيل لها ( يقهقه و هو يهتز كمن أصيب بتيار كهربائي … يسمع هدير قطار آت من بعيد فينخرط مسرور تلقائيا في العد العكسي بأصابعه ) خمسة .. أربعة .. ثلاثة .. اثنين .. واحد .. صفر…( يخبو ضوء المصباح الوحيد و يسود ظلام دامس مع الإرتفاع التدريجي لهدير القطار السريع الذي يمر فوق القبو . و مع ابتعاد صخبه يعود ضوء المصباح للإنبلاج تدريجيا مبددا عتمة الغرفة ) .
مسرور :
( مستلق فوق أحد الصناديق المرتفعة وقد وضع وردة حمراء كبيرة في عروة سترته . يفتح صندوقا بجانبه و يسحب من بين الكتب المتراكمة قنينة كحول يعب منها ثم يتجشأ بصوت مسموع ) هذه إحدى عطايا مولانا “قعبور” ( يعب من القنينة وهو يخاطب شخصية المشجب ) تسألني يا شيخنا من يكون قعبور هذا ؟ إنه رفيقي وخليلي في الأيام الخوالي … رجل طويل جدا … وقور جدا … لحيته طويلة جدا جدا … يؤدي صلواته الخمس ويقوم الليل و لا تفوته سنة من السنن و لا نافلة من النوافل … ( يتجشأ بعد ان يشرب من القنينة ) يعمل الآن بكل تبتل و روحانية موزعا للمشروبات الروحية بمعمل الخمور القريب من هذا الحي العشوائي المنسي … اختار قصري المنيف هذا كمخزن مؤقت لصناديق القنينات التي يصادرها لحسابه … يعتبرها زكاة مفروضة على صاحب معمل الخمور بموجب فتوى من فتاواه الشهيرة ( يقهقه قهقهته الكاريكاتورية الشهيرة . ينهض و يلتقط الظرف من جديد ثم يوجه خطابه لشخصية المشجب ) على أية حال هذه ليست المرة الأولى التي أتوصل فيها بإنذار بالإفراغ من المحكمة … فلدى جنابنا الشريف تاريخ طويل وعريض وسمين مع الإنذارات بالإفراغ والإخلاء والتهجير الطوعي و القسري ( يقرمش الظرف و المظروف بين أصابعه قبل أن يركلهما برجله بعيدا كالكرة ) لا زلت أذكر ذلك اليوم المشؤوم الذي تلقيت فيه حكما نهائيا بإفراغ دكان والدي ( ملتفتا لشخصية المشجب ) لا يا شيخنا الجليل … لم يكن لوالدي دكان تجاري يكدس فيه البضائع … و لا دكان سياسي يكدس فيه المصالح … لقد كان والدي طيب الله ثراه سيد قوم الباعة و البائعين أجمعين … بضاعته كانت أنفس من اللؤلؤ و الياقوت و المرجان … و أغلى من الذهب الأصفر و الأسود أيضا … أنا بلا فخر بائع وابن بائع من قال في حقه المتنبي ( ينشد ) خير جليس في الزمان كتاب … وقال في حقه آخر ( ينشد بطريقة مبالغ فيها ) نعم المؤنس والجليس كتاب / تخلو به إن خانك الأصحاب … هذه الأبيات المأثورة كان والدي يرددها بقداسة وحماسة صباح مساء على مسامعي ومسامع كل زبنائه وزواره وخلصائه وأعدائه أيضا ( يجلس على صندوق قريب من شخصية المشجب ) كنت وأنا صبي طري العود ألعب في دكان أبي بتصفيف الكتب … وآكل وأشرب وأتبول وسط ركام الكتب … وأنام كالملائكة متوسدا رزم الكتب … وعندما بدأ يشتد عودي صرت مساعدا لأبي في بيع الكتب المستعملة ( فجأة تنفتح النافذة بعنف قبل أن يظهر عبرها مكبر صوت ضخم حاشيته المستديرة مدببة ومسننة فيقفز مسرور مذعورا ليتوارى خلف الصناديق ) .
مكبر الصوت :
( يزعق بصوت خطابي كاريكاتوري ) أيها المواطن المدفون تحت الأرض … تبرع لكي تسمو إلى الأعالي .. تبرع لكي ترتفع إلى قمة القمم .. قمة المواطنة الحقة … تبرع ولو بدريهماتك القليلة .. تبرع ولو بقوت يومك .. تبرع و لو بدمك .. تبرع و لو بأحقر عضو من أعضائك .. تبرع لكي تسمو إلى الأعالي .. لترتفع إلى قمة المواطنة الحقة …
مسرور :
( يظهر من بين الصناديق حاملا سوطا يلسع به أديم الأرض . يفتح الباب ويخرج هائجا . ينسحب مكبر الصوت من النافذة . يسمع صوت عويل كلب يتلقى ضربا مبرحا ومؤلما . يعود مسرور إلى القبو لاهثا . يلقي بالسوط بين الصناديق وهو ينفض يديه ملتفتا إلى الشيخ القوقل وكأن شيئا لم يحدث ). نسيت يا شيخنا الجليل أن أخبرك بأن والدي رضي الله عنه وأرضاه كان آخر بائع للكتب المستعملة … و أشهر كتبي في سوق الأشياء المستعملة … أعني سوق يروج كل ما هو قديم و مستعمل … الأثاث المستعمل والملابس المستعملة والأواني المستعملة … كل شئ … بما فيها الوجبات السريعة للحوم النساء المستعملات ( يقهقه قهقهته الكاريكاتورية الشهيرة ) لا تنزعج يا شيخنا … المقصود بهن المومسات المعتزلات وصاحبات السوابق المترهلات اللواتي انتهى عمرهن الإفتراضي وأحلن على التقاعد الإجباري … ولم يجدن من ملجأ سوى زبناء سوقنا العجائبي الذي يعاد فيه تدوير كل ما هو متلاشي ومتآكل ومتحلل وآيل للمحو والإنمحاء … باستثناء طبعا دكان والدنا عاشور بن دهشور بائع الكتب المستعملة الشهير الذي كان قبلة لمريدي الكتب النفيسة … ومزارا لعاشقي المجلدات والمصنفات العتيقة … لقد كان والدنا رضي الله عنه وأرضاه كتبيا جامعا مانعا ومفهرسا ساطعا لامعا … يكفي أن تلقي على مسامعه بعنوان الكتاب حتى يسحبه سحبا من بين أطنان الكتب المكدسة في دكانه تماما كالساحر الحاذق الأنيق الرشيق الذي يفرج فجأة عن أرنب من تحت قبعته السوداء … لهذا كان زبناؤه وجلساؤه يلقبونه بالفهرستاني … وهو اللقب الذي كان يفخر به و يفاخر به القاصي والداني … ( يقترب من شخصية المشجب ) أراك تدون كل شيء يا شيخنا … ( و فجأة يتوقف عن الكلام وهو يصيغ السمع ) إني أسمع خشخشة ( يعيد القنينة إلى الصندوق محاولا أن لا يحدث صوتا ثم يلتصق بالباب وينصت بجسده كله . يفتح الباب بخوف و توجس نصف فتحة فتنجذب ذر اعه بعنف نحو الخارج . يتشبث بالباب وهو يصرخ . يصارع لاستعادة ذراعة المنجذبة بالقوة . و عندما يفلح في استرجاعها يغلق الباب بصعوبة شديدة . يلتصق ظهره بالباب قبل أن ينزلق جالسا على وهو يلهث بصوت مسموع . فجأة يرتفع نباح كلاب شرسة من خلف الباب . يقفز مسرور مذعورا ليتوارى وراء الصناديق . تستمر زمجرات الكلاب الجائعة من خلف الباب كأنها تنهش لحم فريسة . وعندما يتباعد النباح ينسل مسرور من خلف الصناديق ويلصق أذنه بالباب ) … في المرة الأخيرة التي فتحت لهم فيها الباب نزلت علي هراواتهم و عصيهم من كل حدب وصوب … كانوا ينهالون على جثتي كما ينهالون على جحش أجرب مصاب بأنفلوانزا الجحوش ( يعود ويلصق أذنه بالباب ) الحمد لله لا أحد .. ولا إثنين .. ولا حتى ثلاثاء ( لشخصية القوقل ) إنه عبد الجبار الجزار … إنه يمارس علي الإرهاب هو و أعوانه حتى لا أستأنف حكم الإفراغ بالمحكمة … إن عبد الجبار الجزار يستعجل رحيلي من جحرة الذي استأجرته منه لكي يحوله إلى مخزن للثلاجات الضخمة التي ستستقبل جثث الكلاب و الحمير والبغال المريضة قبل ان تتجه لمجزرته على أنها لحوم البقر والأغنام ( يسحب من جيب سترته هاتفه النقال ) عفوا سأهاتف زوجتي شبشوبة المسعورة … سأفاجئها بخبر تشريفك لنا … لعل هذا الخبر المبهر يمتص طوفان غضبها و تقرر العودة لهذا البيت … الحياة بدون شبشوبة المسعورة مملة يا شيخنا الجليل .. مملة جدا ( يركب رقما هاتفيا ) آلو … ( لشخصية المشجب و هو يبعد الهاتف عن أذنه ) عند مستهل كل مكالمة مع شبشوبة أمنحها فسحة من الوقت لكي تفرغ جحيم سعارها الشهير وحممها البركانية المشحونة بالزعيق والنعيق و البصق و السباب والقذف بأقذع النعوت و أفحش المصطلحات من عيار خمسة نجوم تحت الصرة و سبعة نجوم فوق الركبة … و هو سعار عادة ما ينتهي بالولولة و اللطم والعويل والبكاء على شبابها و أيامها التي ضاعت مع رجل فقير حقير سكير مثلي … ( يقرب الهاتف من راس المشجب ) إسمع يا شيخنا قذائف المدفعية الثقيلة و القنابل الإنشطارية و الصواريخ الباليستية … ( يعيد الهاتف المحمول لأذنه ) قبل ان تقفلي الهاتف في وجهي كعادتك … أريد ان أزف لك هذا الخبر البهيج … أتدري من شرف بيتنا المتواضع … إنه الشيخ القوقل … نعم غوغل .. شيخ شيوخ العارفين أجمعين … لقد أطلق العنان لكل قنواته ومحركاته القوقلية للبحث عني في كل بقاع الأرض … لقد جاء خصيصا لكي يدون سيرتي الذاتية باعتباري آخر بائع للكتب في كل الأزمنة .. لا يا شبشوبة … إنتظري أرجوك ( ينظر إلى الهاتف ممتعضا ) المسعورة … لقد اغلقت الهاتف في وجهي … ( لشخصية القوقل ) لقد اعتبرت كلامي مجرد خدعة بليدة لكي أستدرجها للعودة للبيت … ( ينصت لشخصية القوقل ) تسألني يا شيخنا لماذا غادرت شبشوبة البيت ؟ حاضر سأجيبك ( يلف رأسه بمنديل نسائي وأثار التعب بادية على مشيته الأنثوية وهو يتجه إلى منصة الخطابة العتيقة . يخبط منصة الخطابة بالمطرقة الخشبية الكبيرة وهو يعتصر الكلمات اعتصارا على طريقة زوجته شبشوبة المسعورة ) أنهض كل صباح كالمسلوقة … أشتبك مع المطبخ كالممسوسة … أغادر هذا القبو كالملسوعة … أمشي في أرض الله كالمشبوهة … أستقل حافلتي أو بالأحرى مصيبتي اليومية حيث الكتل البشرية ترتطم .. تختنق .. تلتحم .. قبل أن ألتحم من جديد مع مئات الصحون و الأواني في مطبخ فندق مصنف سبعة نجوم خطر …. تديره مديرة برتبة قوادة … تشنف مسامعنا كل يوم بفضلات قاموسها أو بالأحرى قادوسها الكريه المتعفن … ( يتنهد بصوت مسموع كالنساء ) سنوات وسنوات و انا أكد و أشقى من أجل زوج سكير .. فقير.. عاطل معطل … وعندما أعود إلى بيتي وأندس في فراشي أجد رجلا باردا كالثلج .. ( مسرور يلتفت إلى الشيخ القوقل وهو يخلع المنديل النسائي ) . لا تنظر إلي يا شيخنا بنظرات الريبة والشك .. شبشوبة تقصد البرود العاطفي و ليس البرود الذي يدور في رأسك … و الدليل هو أن والدي عاشور لم يكن فقط بارعا في فهرسة الكتب والمجلدات العتيقة والمحدثة … المقدسة والمدنسة … بل كان أيضا من كبار مفهرسي زبونات السوق المتمرسات … وخاصة منهن الدبابات البشرية الثخينات اللواتي تفيض أرطال اللحم والشحم من أخلفهن و أمامهن وتتدلى متموجة من بين ثنايا أعطافهن … مما يحدث زلزالا ارتداديا في سلم استشعار والدنا المشمول بمغفرته عاشور بن دهشور الفهرستاني الذي كان متخصصا في فهرسة الدبابات البشرية وتصنيفها و جدولتها قبل ان يفرج عن نابه الذهبي الشهير( ملتفتا للشيخ القوقل ) نعم يا شيخنا كان لوالدي ناب مغشى بالذهب … شهير لدى الخاص والعام بكونه شيفرته السرية لاستمالة صاحبات الأرداف الثقيلة و الأعطاف الثخينة والضفتين المتلاطمتين … وطبعا لا حاجة بي للتذكير بأن مدخرات والدنا لا غفر الله له و لا أسكنه فسيح جناته ضاعت وتبخرت ما بين هاتين الضفتين اللعينتين ( ينفض ما بين يديه وهو ينظر لشخصية المشجب ) تضحك يا شيخنا ؟ ستضحك أكثر عندما ستسمع هاته … اسمع مهزلة المهازل ونازلة النوازل … ستضحك من قلبك ومصارينك و كل مخارجك أيضا ( يقترب منه ) في إحدى الليالي المقمرة و بعد أن خاض والدنا رضي الله عنه و أرضاه معركة تاريخية مع أرطال اللحم المتلاطمة لإحدى الدبابات البشرية من ذوات الأوزان الثقيلة و السوابق و اللواحق العتيدة … قرر أن لا يدفع لها أجرها عدا ونقدا و إنما دررا ونفائس من أمهات كتب الفقه والتفسير مشفوعة بديوان شعري للبحتري … فما كان من المرأة التي أصيبت بسعار هستيري إلا أن لطمته بالكتب وهي تصرخ في وجهه :
إسمع يا ابن الديوث لو أن بحتريك هذا ضاجعني شخصيا لأرغمته على تعويضي بالعملة الصعبة مع أداء رسوم الضريبة على القيمة المضافة وهو ما ستؤديه يا ابن العاهرة حالا ”
ثم جثمت بكل أثقالها وأوزارها وأرطالها و أطنانها على صدره واقتلعت نابه الذهبي الشهير بالقوة قبل ان تختفي عن الأنظار . ( يقهقه لكن قهقهته سرعان ما وقفت في حلقه بعد أن انفتحت في تلك اللحظة نافذة القبو العالية بعنف ليظهر عبرها مكبر صوت تتدلى منه لحية طويلة فيهرع مسرور ليختفي من جديد وراء الصناديق ) .
مكبر الصوت :
( بصوت رنان فخيم ) أيها المؤمن المدفون تحت الأرض و كل الأراضين … نحن من سينتشلك انتشالا من أسفل سافلين الى أعلى عليين … نحن من سينقلك نقلا من مدفنك الحضيضي إلى مسعاك الفردوسي … اللعنة ثم اللعنة على الكفرة الأراذل الذين يحشرونكم حشرا في القبور … حشرهم الله يوم الحشر عراة حفاة مع الشياطين الأباليس … أيها المؤمن المقهور ما جدوى عيشك مدفونا في قبور مظلمة وحفر معتمة ؟ … حيا على الجهاد ضد الكفرة … حيا على الإستشهاد … حيا على الميعاد … قصور الجنة تناديك … الفردوس الأعلى يناجيك … مفاتن الحور العين تنتظر فحولتك … أبشر ثم أبشر … ستطأ كل يوم سبعين صبية من الحور العين الغيداوات الشقراوات الفاتنات بإذن الله …( مسرور يظهر من خلف الصناديق حاملا سوطه يفتح الباب ويخرج هائجا بينما مكبر الصوت يكرر نداءه ) أيها المؤمن المدفون ……( فجأة ينسحب مكبر الصوت من النافذة ويسمع صوت عويل كلب يتلقى ضربا مبرحا ومؤلما ) .
مسرور :
( يعود مسرور الى القبو وهو يلهث . يلتقط قنينة و يعب منها و يتجشأ بصوت مسموع قبل أن يلتفت للشيخ القوقل ) ذكرني يا شيخنا .. أين وصلنا ؟ ماذا قلت ؟ متلهف لسماع ما جرى لوالدي عاشور بعد حادثة سرقة نابه الذهبي ؟ ( يقهقه قهقهته الشهيرة ) أنت لئيم وخبيث يا شيخنا … تنتشي وتستلذ بمصائب الآخرين … وخاصة إذا كانت المصيبة برتبة أم المهازل كما هو الحال بالنسبة لمهزلة والدنا الذي انتشرت فضيحته كالنار في الهشيم … وتحولت قصته إلى نادرة النوادر في سوقنا الشهير بترويج الفضائح كما تروج اللحوم الفاسدة
لشخصية المشجب ) ستفاجأ يا شيخنا عندما ستعرف بأن هذه الحادثة لم تكسر ظهر أبي … وإنما الذي كسر ظهر أبي و كسر ظهر كل الكتبيين والمكتبيين هي شريحة صغيرة جدا ودقيقة جدا … شريحة كشفرة الحلاقة لكنها تمتلك قوى سحرية خارقة … وذاكرة رهيبة جبارة ما فتئت تبتلع وتلتهم كل الكتب و المجلدات والمصنفات والمطبوعات والمنشورات منذ بدء الخليقة الى اليوم (يعب من القنينة ) و المصيبة أن هذه الشريحة الكاسحة المكتسحة تستوطن أجهزة رقمية جبارة ما انفكت تمارس سحرا مغناطيسيا أسطوريا على العالمين … فترى رؤوس الناس مدفونة كالنعام في الهواتف الذكية … وترى مصائرهم مرهونة بحواسيبهم المحمولة … وترى أفئدتهم تكاد لا تنبض سوى مع جريان صبيب الإنترنيت في شرايينهم وعروقهم مجرى الدم … ( يعب من القنينة من جديد ) كان والدي غالبا ما يرفع عقيرته ساخرا ( مقلدا صوت والده الأجش ):
هزلت … لقد صار قارئ الحاسوب يتحسس مؤخرة فأرة قبل أن يقرأ مقدمة ابن خلدون … مسخرة آخر الزمان …. القراءة صارت مرهونة بتحسس مؤخرات الفئران … تا الله إنها من علامات الساعة الكبرى ” ( يقهقه قهقهته الشهيرة ).
مرت السنوات تلو السنوات والأعوام تلو الأعوام … وانقرضت المنشورات والمطبوعات الورقية … و اختفت الكتب والمكتبات … وصار العالم يوجه ويدار بوخز الأنامل عل الشاشات … وخزات و نقرات … وخزات و نقرات .. وخزات ونقرات … و والدي المسكين يراقب العالم من بيضة دينصور بعد أن تحول دكانه إلى مقبرة منسية … كان المسكين يتحسر على أيامه الخوالي وهو يتآكل يوما بعد يوم ( يعب من القنينة بحسرة ) .
في مرضه الأخير قال لي والدي وهو يحاول ان يرفع من همتي وهامتي ( مقلدا صوت والده الأجش ) :
” أنا اعلم يا ولدي يا مسرور بأني لم أترك لك مالا و لا متاعا ولا ضياعا … ولكني تركت لك كنوزا ورثتها عن آبائك و أجدادك … تركت لك دررا لا تبلى … تركت لك كتبا ومجلدات للزمخشرى وأبي تمام والمتنبي والبحتري و … “
فقاطعته متحسرا … الزمخشري يا أبتي والبحتري والمتنبي وأبي تمام و كل ما كان قبلهم وكل ما جاء بعدهم … تم تهجيرهم قسرا من ضفاف الكتب و المجلدات إلى العالم البراق … العالم الرقمي الجهنمي … ربما يتحتم علي أنا أيضا أن أهجر هذه الحرفة البائدة … فانتفض أبي في وجهي محتجا :
” لا يمكن أن تهجر مهنة آبائك و أجدادك … لا يمكن أن تهجر خير جليس في الزمان كتاب ” فقلت له يا أبتي … لو أن المتنبي كان حيا بيننا اليوم فإنه حتما سينشد خير جليس في الزمان هاتف محمول و لوح محمول و حاسوب محمول …… و في الغد كان جثمان أبي محمولا إلى مثواه الأخير……. ( ينشد على إيقاع رجع الصدى ).
موتك يا أبتي تا الله ميتتان / أنت و الكتاب في روضة النسيان
( تسمع دقات على الباب و طرقات ايقاعية تدل على كونها شيفرة متوافق عليها . مسرور مقتربا من الشيخ القوقل ) هذه طرقات مولانا ” قعبور ” الوقور .. صديق الليالي و الأيام الخوالي الذي سبق وأن حدثتك عنه ( يخرج ويعود بسرعة محملا بصندوق . يسمع صوت شاحنة تبتعد ) صديقي قعبور عندما علم بأني أقطن في هذا القبو القريب من معمل الخمور الذي يعمل موزعا به .. قرر جزاه الله خيرا أن يأتمنني على الصناديق التي يركنها لحسابه … ( مقلدا صوت زوجته ) و نعم الأمين و المؤتمن … هكذا كانت تستقبلني شبشوبة كلما دخلت عليها بصندوق … قالت لي يوما وهي تمضغ علكتها مع غضبتها …( مقلدا صوت شبشوبة من جديد ) صديقك قعبور الوقور لص محترف و أنت شريكه في الجريمة و أخشى ما أخشاه أن تغمض عينيك وتفتحها فتجد قوات الأمن وقد طوقت هذا القبو من كل الجهات .
( فجأة تسمع صفارات الإنذار وتفتح النافذة بعنف ويظهر مكبر الصوت على شكل مدفع )
مكبر الصوت :
المكان محاصر .. أكرر المكان محاصر من كل الجهات .. لا مجال للمقاومة .. سلم نفسك حالا ( مسرور يصاب بهلع شديد ويختفي وراء الصناديق ) نحن نعلم بأن مسكنك تحول إلى مخبأ سري لصناديق المتفجرات .. سلم نفسك حالا وإلا قصفنا مسكنك أيها الإرهابي ( مسرور يرفع يديه إلى الأعلى ) أنا مسرور بن عاشور الكتبي بن دهشور المطبعي بن منشور الناشر بن شحرور الخطاط بن بعرور الناسخ بن قنطرور الوراق بن الفهرستاني الكبير … أقسم بأغلظ الأيمان بأني لست إرهابيا و لا حتى في الخيال … أنا ضد الإرهاب و ضد الإرهابيين لعنة الله عليهم أجمعين … لكني أعترف بأني أخفي صناديق القنينات بعد أن أقنعني مولانا ” قعبور” الوقور بأنها زكاة مفروضة على صاحب معمل الخمور.
مكبر الصوت :
أخرج حالا حاملا صناديق المتفجرات … وإلا دمرنا مسكنك فوق رأسك .
مسرور :
( يلتفت إلى الصناديق بريبة ) متفجرات …؟؟؟ أيمكن أن يكون هذا ؟ أيمكن أن تكون بعض القنينات معبأة بالمتفجرات ؟ يا لغبائي … الآن فهمت لماذا كان ” قعبور” يمنحني صندوقا ويحذرني من الاقتراب من باقي الصناديق … قاتلك الله يا ابن الزانية كما قتلتني ( يحمل صندوقا من القنينات فوق رأسه و يخرج . تسمع في الخارج أصوات إطلاق الرصاص والمتفجرات وقنابل مصحوبة بصوت الطوافة التي تحوم فوق المخبأ .. إظلام تام .. تعود الإضاءة فنرى مسرور مستلق فوق الصناديق يعب من القنينة ويقهقه قهقهته الشهيرة ) . لن تصدق يا شيخنا الجليل ما حدث … كل هذا الحصار والرصاص و الإنفجارات والطوافات … كان مجرد مشاهد من فيلم أمريكي حول الارهاب .. اختار مخرجه حينا العشوائي البئيس ليصور مشاهده السينمائية المرعبة .( يلقي في جوفه بكل ما تبقى في القنينة ) لقد ظلمتك يا قعبور .. ظلمتك يا أصدق أصدقائي .. ( يمشي مسرور الهوينى في اتجاه منصة الخطابة ) لقد كان يوما حزينا يوم أرغمت على تنفيذ الحكم القضائي بإفراغ الدكان من كنوز أبي … لقد تم إجتثاتي مني ومن ذاكرتي … لقد تم اقتلاعي من جذوري ومن كينونتي … لأتحول تدريجيا الى كائن رصيفي … أنشر كتبي على الرصيف … وأعتصم طول النهار بحبل الرصيف … و أرحل من رصيف إلى رصيف … ما كان يؤنسني و يثلج صدري هو إلتفاف الناس حولي لأخذ صور سيلفي مع شخصي المنقرض … إلى أن تم ذات يوم مشؤوم مصادرة كتبي و اعتقالي بتهمة احتلال الملك العمومي ( مسرور ينفخ في صفارة شرطي كالأطفال . يعم ظلام تام قبل أن تنبلج دائرة ضوئية تبئيرية حول المشجب الذي صار يحمل هذه المرة بزة و قبعة ضابط شرطة ) .
مسرور :
( مخاطبا الضابط الوهمي ) يا سيدي الضابط المحترم … أدام الله انضباطك وضبطك لكل الخوارج الخارجين عن صراط المنضبطين آمين … إني أعترف أمامك وأمام كل القوانين والمراسيم منذ تشريعات سيدنا حمورابي طيب الله ثراه إلى اليوم … بأني مذنب في حق الحكومة والوطن والشعب … نعم مذنب لأني قمت باحتلال رصيف الدولة … واستغلال الملك العمومي أبشع استغلال … يا سيدي الضابط المحترم من حقك أن تعتقلني وتصادر حقوقي المصادرة أصلا … لكنه ليس من حقك أن تصادر الزمخشري وتعتقل أبا تمام وتحبس البحتري وتسجن المتنبي … ( ينصت ) ماذا ؟ تسألني من يكون المتنبي ؟؟؟ إنه المتنبي يا رجل … متنبي الشعر والشعراء … المتنبي الذي قد تأتي رياحه بما لا تشتهي مرسديسك … ماذا ؟ المتنبي رجل خطير و سيكون أول المصادرين والمعتقلين ؟ لا أرجوك أترك المتنبي إنه قرة عيني وعين والدي ( يقدم لشخصية الضابط الوهمي كتابا آخر ) إنهم الشعراء الصعاليك … الشنفري وعروة و تأبط شرا … هؤلاء يمكنك اعتقالهم … لقد كانوا لصوصا و قطاع طرق و ثوارا و متمردون على سلطة العشيرة و القبيلة ( يتجهم وجهه ) ماذا ؟ تتهمني بترويج الأفكار المسمومة التي تحرض الناس على التمرد والعصيان المدني ؟ لا يا سيدي الضابط … إضبط كلامك من فضلك …هذا اتهام خطير وخطير جدا … قد أقبل اتهامك لي بمنافسة الحيتان الكبيرة على استغلال الملك العمومي … وقد أهضم أيضا اتهامك لي بمزاحمة العجول السمينة على شفط الثروات العمومية … أما نشر أفكار التمرد و العصيان فهذا ليس من اختصاصنا و تخصصنا و لا يقع في دائرة اهتماماتنا يرحمك الله ( ينصت ) ماذا ؟ أنا أحشر نفسي في ما لا يعنيني . وأتهم المسؤولين باستغلال ثروات البلاد والعباد ؟ لا يا سيدي الفاضل … حاشاي أن أتهم مسؤولا كبيرا كان أم متوسطا او حتى صغيرا … كلب وبن كلب من يتلفظ بهذه الاتهامات المغرضة … أنا لا أتهم سوى مسؤولا واحدا ووحيدا … تسألني من هو ؟ ومن غيره ؟ إنه المسؤول عن كل مصائبي وفواجعي و كساد بضاعتي وبوار سلعتي وطردي من دكان والدي الذي مات بحسرته … إنه المسؤول الأول عن تشريدي وتشريد كل الكتبيين و المكتبيين … لهذا أطالبك سيدي الضابط بإنصافي منه … تسألني ثانية من هو ؟ ومن تراه يكون ؟ إنه الشيخ القوقل … الذي قوقلني وقوقل أيامي وبخر أحلامي … وابتلع هو وشركاؤه كل الكتب والمجلدات وكل ما كتب وسيكتب أيضا ( للضابط الوهمي ) … ماذا ؟ أنا معتوه ومخبول وعلي أن أغادر مكتبك فورا وإلا سترسلني إلى مستشفى الأمراض العقلية أنا و الزمخشري والبحتري وأبي تمام والمتنبي … لا يا سيدي إلا هذا … سنرحل عن مكتبك حالا ( تختفي الانارة الدائرية التبئيرية من حول المشجب و يعم المكان إظلام تام وعندما تعود الإضاءة من جديد تظهر شخصية المشجب الأولى حيث يوجه لها مسرور خطابه بحدة ) نعم أنت … أكررها على مسامعك … بسببك أنت يا شيخنا كسدت بضاعتي و بارت سلعتي و انقطع رزقي … بسببك أنت عزف الناس عن اقتناء نفائسي و درري و ذخائري و كنوز والدي … نعم والدي المسكين الذي قضى نحبه بعد ان بارت بضاعته وبضاعة كل الكتبيين والمكتبيين في العالم أجمعين ( يقف أمام منصة الخطابة ) أيها الناس … إن سبب مصائبي وغربتي واغترابي هو هذا الشيخ ( مشيرا الى المشجب ) الشيخ القوقل … الشهير بينكم بغوغل … طبعا غوغل … لأنه غول … متغول … و متغلغل في كل شيء … وأي شئ … إنه المصادر الأول لكل المصادر والمناهل والمراجع … والمبتلع الأكبر لكل المخطوطات والمطبوعات والمجلدات و المصنفات …. إنه الملتهم الأشرس لكل المعارف ولكل العلوم والفلسفات والنظريات والاكتشافات والاختراعات … إنه ثقب أسود رهيب … يريد أن يبتلع كل ما دونه الجنس البشري منذ آدم الأول الى آدم الذي لم يولد بعد … وأنا واحد من ضحاياه … واحد ممن شفطته بلوعة هذا الثقب الأسود السحيق …
( تنفتح في تلك اللحظة نافذة القبو بعنف وتنقذف عبرها العشرات من أوراق الإنتخابات قبل أن يظهر عبر النافذة مكبر صوت ضخم ).
مكبر الصوت :
( يصرخ بصوت خطابي كاريكاتوري ) أيها المواطن المسحوق … أيها المواطن الممسوح … أيها المواطن المدفون تحت الأرض … نحن من سينتشلك من ظلمة القبور لنعبد لك كل الجسور … و نفتح لك بوابات العبور إلى رحابة القصور … نحن طوق نجاتك … نحن طوق خلاصك … صوت ثم صوت أيها المواطن على لون حزبنا … صوت ثم صوت على لون الأمل … لون الشفافية والديمقراطية والرفاهية لك ولأبنائك وأحفادك وأحفاد أحفادك وإن سفلوا. ( يشرع مكبر الصوت في تكرار نداءه الإنتخابي ) أيها المواطن المسحوق…
مسرور :
( يلتقط من بين الصناديق سوطا يلسع به أديم الأرض . يفتح الباب ويخرج هائجا . ينسحب مكبر الصوت من النافذة . يسمع صوت عويل كلب يتلقى ضربا مبرحا ومؤلما . يعود عبد الشكور الى القبو وهو يلهث ) أديت واجبي الوطني وأدليت بسوطي الإنتخابي ( يلقي بالسوط بين الصناديق وهو ينفض يديه ملتفتا للشيخ القوقل ).
طبعا هناك في الخارج ثقوب سوداء أخرى أكثر بشاعة و اكثر شراسة … تمتص دمي ودماء المسحوقين و الممسوحين و الملسوعين أمثالي لكن هذا لا يبرئ ساحتك … إسمع أيها القوقل قد أكون محنطا و متخلفا ومتجاوزا ورجعيا أيضا … لكن هذا لا يسقط مسؤوليتك اتجاهي واتجاه آلاف الكتبيين من ضحاياك …( ينصت للشيخ القوقل ) أعرف أيها القوقل بأنك لست وحدك … و أن لك شركاء و منافسين أيضا في السوق الرقمية الشرسة يلتهموننا التهاما … لكنك شيخهم الأكبر ورمزهم الأشهر وتميمتهم المقدسة …( تنبعث موسيقى إلكترونية صاخبة وأضواء متراقصة ودخان تلسعه وخزات الإضاءة الزرقاء و الحمراء و الصفراء و الخضراء ليتحول الدخان إلى وهج قزحي قوقلي . مشجب القوقل يتحرك وسط الدخان المتوهج في اتجاه منصة الخطابة وعندما يتوقف أمامها تظهر صورة حية لرمز محرك غوغل تحيط به المجرات والكواكب والنجوم بشكل تفاعلي مبهر ومثير على الشاشة الورقية الملتصقة بالواجهة الأمامية للمنصة العتيقة . يسمع صوت محرك غوغل الإلكتروني وهو يوجه حديثه لمسرور . )
صوت غوغل :
مسرور بن عاشور الكتبي بن دهشور المطبعي بن منشور الناشر بن شحرور الخطاط بن بعرور الناسخ بن قنطرور الوراق بن الفهرستاني الكبير .
مسرور :
( ملتفتا نحو تميمة غوغل بانبهار )
صوت غوغل :
مسرور يا خاتم الكتبيين أجمعين … لقد قررنا أن نمنحك الخلود أبد الآبدين .
مسرور :
الخلود ؟؟ وأبد الآبدين ؟؟ ( يقهقه قهقهته الشهيرة ) سأعيد أمامك مشهد القهقهة و القعقعة و الزلزلة و هزهزة الكتفين و الرأس …
صوت غوغل :
مسرور … أيها الكتبي الخاتم … تهيأ للاحتفال الأضخم بتوقيع العقد المقدس الأعظم .
مسرور :
ما هذه القوقلة الشاقولية ؟؟
صوت غوغل :
مسرور … يا خاتم الكتبيين أجمعين … سأعقد معك عقدا احتكاريا أبديا وأزليا … مقابل تعويض خرافي لم يحلم به آباؤك وأجداد أجدادك الكتبيين و المطبعيين و الناشرين و الوراقين و الناسخين و الخطاطين و المجلدين و المفهرسين أجمعين .
مسرور :
تعويض خرافي ؟ أنا لا أومن بالخرافات أيها القوقل المتقوقل .
صوت غوغل :
أقصد تعويض مالي لا يعد و لا يحصى بعدد الرمل والحصى .
مسرور :
هل تعني حقا بأنه سيكون باستطاعتي شراء حذاء فاخر من جلد التمساح الذي تحلم به زوجتي شبشوبة لكي تكيد به جاراتها العوانس السليطات المتسلطات .
صوت غوغل :
بل ويمكنك شراء التماسيح بعينها … لكي تشهد أمام زوجتك وأمام جاراتها العوانس بأن جلد الحذاء جزء لا يتجزأ من جلد سلالتها التمساحية .
مسرور :
جميل .. رائع .. فنتاستيك . ( يسحب الهاتف المحمول من جيب صداريته ويركب رقما ) ألو … شبشوبة … أقسم بأنك ستعودين فورا إلى بيتك حينما ستسمعين هذا الخبر التحفة … هيا اغلقي عينيك وافتحي أذنيك ( يتنحنح بتصنع مبالغ فيه ) الخبر المهم هو أنني سأشتري لك حذاء فاخرا مفتخرا من جلد التماسيح … أما الخبر الأهم هو أن التماسيح بنفسها ستشهد بذلك أمام جاراتك العوانس السليطات المتسلطات … ( يصرخ ) ألو… آلو… لقد أغلقت المسعورة الهاتف في وجهي ( يجلس فوق أحد الصناديق وهو يرمق تميمة غوغل على الشاشة بنظرات الريبة والشك) السؤال الذي يلح علي ويلحلح و يتلحلح في حلقي … هو ماذا ستستفيد أيها القوقل من إبرام عقد إحتكاري مع كائن منتهي الصلاحية مثلي ؟
صوت غوغل :
أنت يا مسرور تحفة العصر وكل العصور … و فلتة الدهر وكل الدهور … ونجم هذا الزمان وكل الأزمان … لهذا يعتزم متحف غوغل الكبير عرضك مع كتب ومجلدات والدك و أجدادك في أبهى حلة .. داخل قفص زجاجي شفاف لكي يتملى زواره الذين يحجون إليه من كل بقاع الأرض بطلعة آخر الكتبيين أجمعين .
مسرور :
إذن سأصبح شخصا مشهورا في كل بقاع العالم .
صوت غوغل :
ستصبح يا مسرور أشهر مشاهير متحف غوغل العظيم .
مسرور :
جميل .. رائع .. فنطاستيك … وكم عدد الساعات التي سأقضيها في متحفكم الشهير ؟
صوت غوغل :
متحف غوغل العظيم هو أيقونة مدينة غوغل العظمى .. يديره عقل رقمي جبار … ولا تغلق أبوابه أبدا .
مسرور :
لا تقل لي بأني سأقيم في قفصك الزجاجي ليل نهار كالدجاجة الكهربائية.
صوت غوغل :
ستقيم في بيتك الزجاجي مدى الحياة … هذا ما تنص عليه بنود عقدنا الإحتكاري الأبدي .
مسرور :
هذا حكم بالسجن المؤبد … واعتقال أبدي داخل قفصك الزجاجي القوقلي … أما الطامة الكبرى والمصيبة العظمى هو أنني لن أنعم بتعويضكم المالي الخيالي … وحدها زوجتي شبشوبة المسعورة ستنعم وتتنعم بأموالي وملاييني مع أحد الفحول الكواسر .
صوت غوغل :
زوجتك ستنعم بمتعة زائلة … متعة فانية … أما أنت يا مسرور فستنعم بنعمة النعم … نعمة الخلود الأبدي و المجد الأزلي في ذاكرة التاريخ …
مسرور :
يا لحظك العاثر يا مسرور … كتب عليك أن تعيش وحيدا معزولا أبد الدهر ..
صوت غوغل :
إطمئن يا مسرور … لن تشعر بالوحدة و الفراغ أبدا في بيتك الزجاجي القوقلي … سيتم حقن دماغك بفيروس رقمي … سيسبح بك في عوالم افتراضية لا نهائية … سيصير بإمكانك ممارسة السياحة افتراضيا في أجمل جنات الأرض … وممارسة التسوق افتراضيا في أرقى وأفخم المحلات التجارية في العالم … وممارسة السباحة افتراضيا في أكثر الشواطئ سحرا وجمالا … ويمكنك أيضا ممارسة الجنس افتراضيا مع أجمل نساء الأرض … حتى المخدرات يمكنك تعاطيها افتراضيا لتسبح بك في الأكوان اللانهائية … باختصار يا مسرور يمكنك ممارسة كل رغباتك ونزواتك وشهواتك افتراضيا وأنت قابع في مكانك والزوار يحومون حول قفصك الزجاجي البلوري الشفاف.
مسرور :
لا تقل لي بأنه في نهاية حياتي سأقابل عزرائيل افتراضيا .
صوت غوغل :
عندما تنتهي حياتك يا مسرور … سيتم تحنيطك جثتك .
مسرور :
ماذا قلت … تحنيطي ؟؟
صوت غوغل :
سيقام على شرف موتك يا مسرور حفل تحنيط كبير … سيحضر طقوسه مشاهير أهل الفن و الفكر و الأدب و الإعلام … وسيتم نقله مباشرة أمام شاشات العالم … كل سكان الأرض يا مسرور سيشاهدون عملية تحنيطك كأحد ملوك الفراعنة العظام … ليستمر عرض جثتك المحنطة في قفصك الزجاجي كمزار خالد للأجيال المتعاقبة … ستطوى العصور والدهور يا مسرور … وستظل خالدا مخلدا أبد الآبدين …
مسرور :
ما يتراءى لي أيها القوقل المتقوقل … هو أنك تريد أن تخلد في الأبد و في الآبدين … صورة آخر الكتبيين محنطا وملفوفا في حنوط هزيمته … تريد أن تخلد في ذاكرة الأجيال المتعاقبة والمتلاحقة سقطة آخر الورقيين المهزومين … تريد أن تخلد في ذاكرة متحفك القوقلي العظيم انتصار الزمن الرقمي على الزمن الورقي الذي تشتهي أن تحوله إلى جثة محنطة تعرض ليل نهار أمام أعين الأجيال الشاهدة دوما وأبدا على انتصارك التاريخي القوقلي … لهذا فأنت تسعى إلى مسحي مسحا وكنسي كنسا من دفاتر الوجود … تماما كما سعيت لكنس وشفط رائحة الكتب والمجلدات والمطبوعات لتقذف بها إلى أرشيف المتاحف الصقيعية المنسية قبل أن تعلن عن ربوبيتك الرقمية وانتصارك الأزلي وخلودك السرمدي … أيها القوقل المتقوقل رغم أنفك و أنف ترسانتك الرقمية الجبارة سأحمل كتبي و ذخائري على ظهري .. وسأجوب بها الشوارع و الأزقة و الأسواق و الأعراس و المآتم و المواسم … سأبسطها أمام أبواب الجوامع والكنائس والمعابد والحانات و المراقص … و سأرتل حروفها مع آذان المؤذنين وتراتيل الرهبان وترانيم العشاق وشطحات السكارى وهمسات الهائمين وأحلام الحالمين و هلوسات الملسوعين و آهات التائهين … ( يحمل صندوقا من الكتب ويتوجه نحو الباب . في تلك الأثناء تسمع طرقات و صرخات وتهديدات عبد الجبار الجزار و أعوانه يتلوها نباح كلاب شرسة … يتراجع إلى الخلف ويسقط مع صندوق الكتب على الأرض .. فجأة تفتح نافذة القبو العالية لتطل من خلالها بالوعة مياه ضخمة يسمع لها شخير امتصاص فظيع ).
صوت غوغل :
مسرور .. يا خاتم الكتبيين أجمعين … لقد انتهى زمانك وليس لك من ملجأ أخير .. سوى قفصي البلوري الأثير .
مسرور :
( ينهض من سقطته ليصعد فوق الصناديق) سجل عندك أيها القوقل العظيم بأني أرفض ان أموت ممسوحا ومكنوسا بمكنستك الرقمية الرهيبة … سجل في كل مخازنك وشرائحك الرقمية بأني أرفض الإنسحاق والإنمحاء بيديك وعلى يديك وتحت يديك … لهذا قررت اليوم و ليس غدا … قررت أن أخلد رحيلي في ذاكرتكم الرقمية الجبارة … لتظل صورة انسحابي النهائي من عالمكم خالدة ومخلدة في أرشيفكم القوقلي … ( يسحب حاسوبا محمولا من أحد الصناديق و يشغله فتظهر صورة مسرور على الشاشة الورقية الملتصقة بواجهة المنصة العتيقة ) أيها الناس .. أنا مسرور بن عاشور الكتبي بن دهشور المطبعي بن منشور الناشر بن شحرور الخطاط بن بعرور الناسخ بن قنطرور الوراق بن الفهرستاني الكبير … أخر بائع للكتب في هذا الزمان وكل الأزمان … أعلن أمامكم بأني قد قررت اليوم قرارا لا رجعة فيه … قررت أن أضع حدا نهائيا لحياتي على شاشة اليوتوب مباشرة فداء لكل الكتب المقدسة والمدنسة … وفداء لكل الكتبيين والمكتبيين إلى يوم الدين … أيها الناس لقد قررت ان تكون نهايتي العلنية ويصبح رحيلي الفضائحي … نصبا تذكاريا فجائعيا للزمن الورقي الآيل للمحو و الإنمحاء … الآيل للموت و الغياب …( يحاول ان يبتلع مسحوقا ) .
صوت غوغل :
أفضل أن لا تنتحر بسم الفئران ؟؟
مسرور :
( يتوقف فجأة وهو ينظر لتميمة غوغل ) وهل تريدني أن أنتحر بسم الغربان ؟
صوت غوغل :
أقترح عليك وأنت تموت أن تستفيد من مداخيل الإشهارات التي ستنهال على فيديو انتحارك المباشر … ستجني منها أرباحا خيالية لا تعد ولا تحصى بعدد الرمل والحصى …
مسرور :
( يقهقه قهقهته الشهيرة ساخرا) لا شك أني سأصبح أشهر منتحر مستشهر … و أغنى مستشهر منتحر في العالم … ( يقهقه من جديد وهو يهتز بمبالغة كاريكاتورية ) أنا فقط يا شيخنا أفتعل القهقهة والقعقعة و الزلزلة وهزهزة الكتفين و الرأس …( يسمع هدير القطار آت من بعيد فيسرع مسرور في العد العكسي مباشرة ) خمسة …أربعة .. ثلاثة .. اثنين .. واحد ..صفر….
( يضع المسحوق في فمه تنطفئ الأضواء يتصاعد هدير القطار السريع فتخبو الأضواء تماما .. و مع ابتعاد هدير القطار تعود الإضاءة حيث نرى مسرور ممددا جثة هامدة تحت مشجب الشيخ القوقل … في حين تنهال الإشهارات متلاحقة ومتزاحمة على فيديو الإنتحار مباشرة على الشاشة الورقية الملتصقة بواجهة المنصة الخشبية العتيقة .
إظ……….لام
( يظهر عبر النافذة مكبر صوت زجاجي أنيق تتدلى منه فراشة عنق كبيرة مزركشة ) .
مكبر الصوت :
( موسيقى إيقاعية ثم صوت أحد مقدمي نشرات الأخبار ) بعد الرحيل الفضائحي و العلني و الفرجوي لمسرور آخر الكتبيين في هذا الزمان وكل الأزمان أمام شاشة اليوتوب وتحوله الى أيقونة إعلامية وإشهارية عالمية غير مسبوقة حدث ما يلي :
باعت زوجته شبشوبة جثته لمتحف غوغل العظيم بتعويض مالي خيالي . و تزوجت أحد الفحول الكواسر. ( موسيقى إيقاعية صاخبة ) قام قعبور أصدق أصدقاء مسرور .. ببيع الأسرار التي اختلقها من عندياته عن صديقه الراحل لمختلف وسائل الإعلام التي تهافتت عليه … وافتتح بمداخيلها متجرا لبيع المشروبات الروحية الفاخرة سماه متجر مسرور لبيع الخمور و الحبور . ( موسيقى إيقاعية صاخبة ) عبد الجبار الجزار استغل أيضا شهرة مسرور الكاسحة وتراجع عن فكرة تحويل قبوه الى مخزن لتبريد لحوم الكلاب والحمير و البغال المريضة وحوله إلى مزاد مفتوح خاص ببيع مقتنيات مسرور للمتهافتين ( موسيقى إيقاعية صاخبة ) بعد شراء متحف غوغل لجثة مسرور قام بتحنيطها وعرضها داخل قفص زجاجي بلوري شفاف فاسحا المجال أمام الزوار من مختلف بقاع العالم لمعاينة الجثة المحنطة لخاتم الكتبين أجمعين .
إظ…………….لام
ستار
كريم الفحل الشرقاوي
theatrenoun@gmail.com
الفايس karim elfhal
2120666670512
0 التعليقات:
إرسال تعليق