د. ياسر البراك وحديث المسرح / عقيل هاشم الزبيدي
مجلة الفنون المسرحيةد. ياسر البراك وحديث المسرح / عقيل هاشم الزبيدي
على مدى أكثر من عشرين عاماً عكف الكاتب والمخرج المسرحي العراقي ياسر عبد الصاحب البراك على إنجاز مشاريع مهمة للمسرح العراقي والنقد المسرحي في مدينة الناصرية، فكوّن في العام 1992 (جماعة الناصرية للتمثيل) التي عدَّت باكورة المسرح الحديث في هذه المدينة، ومن ثمَّ المحرك الرئيس للمشهد الفني فيها.
البراك (تولد الناصرية 1968) الذي يسعى الآن لإنجاز عمل تجريبي جدي بعنوان (سجناء المرايا)،حصل على الدكتوراه في المسرح، وكانت أطروحته التي بعنوان (تحولات الأنساق الثقافية في الخطاب المسرحي العراقي)، مستفيداً من مفاهيم النقد الثقافي، ومطبقاً لها من خلال الخشبة. فمنذ أول دراسة نقدية له في العام 1984، توالت أعماله النقدية، حتى أخرج أول مسرحية في العام 1990 بعنوان (أغنية التم) المأخوذة عن عمل للكاتب الروسي أنطوان تشيخوف، ليقدم بعدها أعمالاً في معهد الفنون الجميلة، ومن ثم كلية الفنون الجميلة، وصولاً إلى المسرح الذي عرف به مؤخراً (مسرح التعزية) إذ أنجز رسالته في الماجستير عن خمس مسرحيات قدمها خلال السنوات الماضية. كما أسس مسرح الدمى في الناصرية عام 2005، وفرقة المسرح الجامعي في جامعة ذي قار في العام نفسه، أصدر في العام 2008 كتابه (المسرح في البصرة: مقاربات في المتحقق)، وفي العام 2010 كتاب (جمرات: أنطولوجيا النص المسرحي العراقي في مدينة الناصرية)، وهو كتاب مُحرر من قبل البراك وعلي عبد النبي الزيدي وجبار وناس ويضم نصوصاً لتسعة كُتّاب من الناصرية. ليتولى بعدها منصب رئيس اتحاد الأدباء والكتاب في الناصرية لدورتين، بعد أن جدد انتخابه خلال الانتخابات التي جرت الشهر الماضي بعد فوزه باغلبية الاصوات الانتخابية.
(جماعة الناصرية للتمثيل) تاسست عام 1992 وما زالت قائمة إلى الآن، ويقول د.ياسر البراك واستطاعت فعلاً أن تقدم نصوصاً ربما تمثل خطوطاً حمراء في زمن النظام الدكتاتوري السابق مثل: مسرحيات (قضية ظل الحمار) و(من البلية؟) و(الراكبون إلى البحر) و(الواقعة) و(كوميديا الأيام السبعة) و(الرخ) و(عشك) و(لعبة مظلوم الخياط) و(الشاعر والمخترع والكولونيل)، في ذات الوقت الذي كان فيه أغلب المسرحيين في المدينة يقدمون أعمالاً تعبوية تمجد الدكتاتور وحروبه العبثية، ولم تستطع التخلص من هيمنة المؤسسة الحكومية كلياً، إذ كانت الجماعة المسرحية تقدم عروضها برعاية اتحاد الأدباء أو اتحاد الشباب أو نقابة الفنانين وهي جميعها منظمات مهنية وجماهيرية مرتبطة بالمكتب المهني للحزب الحاكم آنذاك، إذ لم يكن يُسمح للفرق الأهلية المستقلة أن تعمل بدون إجازة مسبقة تخضع فيها الفرقة لمعايير الفرق الحكومية في التعبير المسرحي، إلا أننا استطعنا الإنفلات من سطوة المؤسسة الحكومية عبر تبنينا لاستراتيجيات فنية وجمالية تعتمد الترميز والتشفير للزوغان من سلطة الرقيب الحكومي، لذلك يمكن القول إن تجربة الجماعة قد أسست وعياً مسرحياً جديداً في المدينة، فضلاً عن خطابها الاحتجاجي الواضح ضد السلطة، ما جلب لها جمهوراً واسعاً كان يفهم مقاصد تلك الأعمال، فتفاعل معها أيما تفاعل في وقت كان التعبير فيه عن الرفض لسياسات النظام يمثل انتحاراً لصاحبه.
أما الآن فعلى الرغم من شيوع مناخ واسع لحرية التعبير، إلا أن واقعنا العراقي ما زال محكوماً بالعديد من التابوات التي تجعل الفنان المسرحي حذراً في ظل الفوضى التي يعيشها البلد وغياب القانون، والموت المجاني الذي يطارد الجميع في البيت والشارع والمقهى والساحات العامة والتي تؤمن وجود حشود كرنفالية تفاعلية مع العروض المقدمة .
وكان تقديمي لرائعة يونسكو مسرحية (الدرس) واحدة من التجارب المهمة في حياتي المسرحية لأنها انطوت على معالجة إخراجية جديدة أشاد بها معظم مبدعي المسرح الذين شاهدوها سواء في عرضها الأول عام 2003 في فعاليات مهرجان الحبوبي الإبداعي في الناصرية، أو في عرضها الثاني على أنقاض مسرح الرشيد في بغداد عام 2005 ضمن فعاليات الملتقى الثقافي العراقي الأول الذي حصدت فيه الجائزة الأولى، فضلاً عن اعتمادها عينة تطبيقية في رسالة ماجستير وأطروحة دكتوراه في الدراسات العليا.
عملي الإخراجي مع النص العالمي يقوم على (تكييف) النص لمتطلبات واقع المتلقي، إذ أقوم بتجريد الواقعة المسرحية من مرجعياتها الزمانية والمكانية، وأخلق لها مرجعيات جديدة لها في الذاكرة الجمعية للمتلقي فتشكل بذلك حضوراً بارزاً، وهو ما أسميته في معظم تجاربي السابقة بـ(المسرح الإسقاطي) الذي يصبح فيه المتلقي مركزاً موازياً لمركزية العرض عبر (فعالية الإسقاط) التي يجتهد في تحقيقها عبر القراءة النابهة لمرموزات العرض المسرحي.
وبالطبع هناك تغير واضح عن ما كان سائداً قبل عام 2003، لكن هذا التغير ليس بمستوى الأحلام المسرحية التي نسجناها على نول التغيير، فنحن جميعا نشعر بخيبة، لأن التغيير لم يحمل لنا سوى المزيد من الموت والدمار والقتل المجاني، والمسرح لا يمكن أن يعيش وسط أجواء الفساد واللصوصية والتطرف الديني، فضلاً عن الرّدة في الوعي المدني للمجتمع العراقي، فقد تراجعت مساحات الفرح والشعور بالأمل كثيراً، وتحولت حياتنا إلى مأتم لا نهاية له. صحيح أن الكثير من المدن العراقية أخذت زمام المبادرة لتعيد الحياة للمسرح العراقي عبر العديد من المهرجانات المسرحية، لكن ثنائية المركز والهامش ما زالت متحكمة برقاب الإبداع المسرحي العراقي، ومازالت دائرة السينما والمسرح والفرقة القومية للتمثيل ومن وراءهما وزارة الثقافة تحاول اختزال صورة المشهد المسرحي العراقي في شخصها عبر سياسة الاحتكار المسرحي، خاصة في تمثيل العراق في المهرجانات العربية والعالمية، ما دفع العديد من المسرحيين في المحافظات إلى التحرك خارج هذه المؤسسة التي تحتاج إلى إعادة تأهيل عبر تشريعات قانونية تتوائم مع طبيعة النظام السياسي الديمقراطي الحالي، لا أن تبقى أسيرة الأنظمة والقوانين الشمولية التي كرسها الحكم الدكتاتوري السابق، فإلى الآن ما زال المركز (مسرح العاصمة) يتنفس برئة الهامش (مسرح المحافظات)، لذا من الواجب علينا كمسرحيين إعادة إنتاج العلاقة من جديد بين المركز والهامش ليصبح الإثنان مركزاً وطنياً للمسرح العراقي المهتم بردم الهوة بين تلك المراكز المتباعدة في تفاعلها.
وفي حدود تجربتي المسرحية المتواضعة أرى أن النقد لا ينفصل عن الممارسة الإخراجية لأنهما يكمل بعضهما البعض، فالمسرح قائم على نقد الواقع المزيف، والنقد يقوم على فضح المسرح المزيف والرديء وتأشير نقيضه والترويج له عبر فعلي التحليل والتأويل، لذلك نجد أن النقد ممارسة لصيقة بالمسرح، فهو كما يسميه رولان بارت (خطاب على خطاب)، ما يعني أننا بحاجة على الدوام إلى النقد الجريء البعيد عن المجاملات، والذي يقتفي أثر المنهجيات الحديثة في قراءة الظاهرة المسرحية وما يتولد عنها من أثر جمالي وذوقي في المجتمع، والمسرح العراقي كان خاضعاً لخطاب النقد على الدوام، فكان يطور كل منهما الآخر. صحيح أننا بدأنا نشهد في العشر سنوات الماضية تراجعاً خطيراً لدور النقد في التجربة المسرحية، إلا أننا متفائلون بالعدد القليل من النقاد الذين نقرأ لهم هنا وهناك، بالطبع أن الإنتاج المسرحي العراقي على المستوى التجريبي قد سبق المشهد النقدي كثيراً، فقد طوّر المشهد المسرحي من آليات بنائه البنيوية والرؤية، بينما نجد الخطاب النقدي العراقي في المسرح ما زال تابعاً لحركية المشهد المسرحي، ربما لضيق مساحة القبول الفني لخطاب النقد كونه يكشف العيوب ويفضح الأنا المتضخمة لدى بعض المسرحيين، لكن المنهجيات الحديثة منحت النقد لغة جديدة بعيدة كل البعد عن الفهم التقليدي الذي يقبع بين ثنائية المديح والهجاء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق