المغايرة النصية وتنوع الكودات في مسرحية “قرحة” للكاتب عمار نعمة جابر
مجلة الفنون المسرحيةالمغايرة النصية وتنوع الكودات في مسرحية “قرحة” للكاتب عمار نعمة جابر
حيدر جبر الاسدي
اشتغل الكثيرون على مبدأ المغايرة في الادب وصياغة تلك المغايرة ضمن أنساق العرض المسرحي ومنهم المخرج الروسي فيزفولد مايرهولد، من خلال إخراجه لمسرحية ( المفتش العام) لغوغل، وقد اعتبرة نقاد المسرح ائنذاك بانه أساء/للادب الروسي، بحسب ماذكره الكاتب احمد شرجي، وهناك نماذج عديدة ضمن هذا السياق، ولكننا الان هنا بصدد المغايرة في النص بوصفها تحولات متباينة داخل الانساق التداولية التي اجترحت لها مساحة في التحولات النمطية في النصوص المسرحية ومنها نص “قرحة” للكاتب عمار نعمة جابر.
فلمتتبع لنصوص جابر كما اشرنا لها في قراءات سابقة فسيجد احداثها مفترضة وحواراتها بين الإلهيات والشاعرية وصراعاتها داخلية وامكنتة مفترضة أيضا وازمنتها غير تداولية وفيها إشارات تاليفية بعضها تصل الى التفصيل وسردياتها غائرة في تأصيل الفعل الدرامي لتفكيك الثيمة الاساسية، اما النصوص الحالية فهي ذات أنماط مغايرة من حيث المعمارية والزمكانية والشخوص والعلامات، (فالنص المسرحي وان كان مضمرا محملا بدوال تؤدي الى مدلولات على المستوى الذهني الا إنه لا تنطبق عليه اعتباطية اللغة، بل هو نص توافقي واع لشفيراته وتوصلاته) بحسب قول غسان حسن، ومن هنا فان العلامات تنتظم بشكل يمظهر الايحاءات المخفية ضمن ايقاع تشكيلي لسردية النص، فالثيمة المتمركزة في النص هي الصورة البلاغية المتحكمة في استنطاق المعنى وانتاجه سواء كان واقعيا او مجازيا.
حيث تبدا الانطلاقة الاولى التي تنظم المعمارية الشكلية وهي مغايرة لفظية، فالتقابلات بين العلامات التي يؤسس لها جابر في هذا النص تنتمي الى انسقة متباينة كما انها تقدم تعارضات كثيرة في الكودات او الشفرات المترامية في اتون المتن العام للنص، تبدا اللحظة الاولى للنص دون اية مقدمات ارشادية او تاسيسات لفظية او صورية وهي مغايرة نسقية خارجة عن السياقات (الزوج بوصفه قاتلا لزوجته) بمدخل بسيط غير معقد، جار يقتحم بيت الزوج ليتعرف على حقيقة الزوج ثم يتدحرج الحوار بين الزوج والجار ويحتدم لنتعرف بعده بان سبب قتله لزوجته جاء بفعل ارهاصات قدرية يعيشها الزوج بفعل السلوك غير السوي الذي كان يستخدمه ابيه مع امه ثم ربط قتل ابيه بزوجته بوصفها احجية اريد منها ارسال مجمل العلامات التي تعطي ازاحات كثيرة على مستوى المعاني والرموز ….الزوج // هي التي دفعتني لافعل ذلك بها ماكنت ارغب بذلك) ..ثم يتحرك النص مبدئيا من المدخل باتجاه التاسيس للحبكة الاولى دون تعقيد وتكلفة في نسق واقعي، الا انه فانتازي بكل المقاييس حين تغور في الكودات والشفر الموضوعه امام القارئ بدءا من بنية العنوان الرئيسي (القرحة) بوصغها علامة الجرح الذي لا يندمل، فالزوج بوصفه قاتلا يستمد قدراته في قتل زوجته من ابيه وهو في ذات الوقت قاتلا لابيه رغم ان الذي قتله الله بسبب سوء/افعاله كما يشير الزوج في بعض حواراته ثم يقتحم الجار عالم الزوج ليفصح الاخير عن فعلته وجريمته الكبرى كما انه يصف موت ابيه هو مدعاة لسعادة امه فقد كانت تاخذ في ظل ابيه حصتها من الضرب والأذى، ثم يقوم الزوج باغواء الجار ليتخلص من زوجته….الزوج// هل تريد ان تتخلص من زوجتك انت الاخر ، فيجيب الجار بالموافقة لكن الزوج يشترط ان يقوم الجار بقتل ابيه الا انه لا يوافق، بقوله (لا افكر في ذلك مطلقا) .
اقول كل هذه الاحداث الدرامية ما هي الا مقدمات طبيعية اوهمنا فيها الكاتب على ان ثيمته الاساسية هي ضمن هذه الدائرة، الا اننا نصاب بصدمة مرجعية عبر التحولات النصية واحداث المغايرة في النسق العام للاحداث وكذلك في العلامات وقبل ان نوضح ذلك التحول نشير الى ان علامات (الزوج، الزوجة، الاب، الجار ، الام) هي مسميات وضعها الكاتب لنتعرف على شفيراتها من خلال الصفات التي تتحلى بها كل شخصية، فالاب يمثل تاريخا وماضيا فيه الكثير من الاشكاليات الظاهرة والمتوارية، وهو من المهيمنات التي قوضت سلوك الابناء، تقابلة الام وهي من ضحاياه بسب تعسفية الاب وتعنفه في التعاطي معها، اما الزوج فهو خلاصة الجيل الذي ورث هكذا سلوكيات شاذه بوصفها افعال اجتجاجية ثائرية لامبرر لها، ضد المبادئ المطلية باصابع الشيطان وهوس العقول الجوفاء والنفوس المريضة، لتصبح مهيمنات سالبة لكل ارادات الخير، اما الزوجة هي الاخرى الضحية الكبرى التي دفعت ضريبة هذا الفكر المنحرف، والغريب ان الجار يقتحم المنزل بطريقة غير اصولية ولااخلاقية وهي اشارة الى التدخلات الامشروعة التي ستفضي نتائج وخيمة على الاسرة بوصفها شعب باكمله.
لقد وضع الكاتب هذه اللعبة البسيطة في طرحها المعقد وفي ابعادها الفلسفية ليؤسس الى نسق اخر وثيمة اكبر اسماها (اليمين المتطرف) كعلامة جدلية وصفها الكاتب بالعاهرة، كما جاء على لسان الزوج واكدها الجار (عاهرة من اليمين المتطرف)، فالنص باعتقادي فيه جولتين وفي كلتاهما ثمة مغايرة، لكن الملفت هنا فان الجولة الاولى احدثت اشاراتها علامات انطلقت من الفاظ واقعية تداولية ضمن السياق العام للحدث، ام الجولة الثانية فان العلامات أنتجتها الصفات التي عززها الكاتب في الشخصيات وهي مغايرة واضحة كشفت الكوادات التي تمركزت في المنحى الاخير الذي ساقه الكاتب عبر التركيز على اليمين المتطرف وهو قراءة فلسفية وجودية للاني المتجذر الذي نعيش احداثة بضربه للتابوات وهو انعطافة واضحة في السياق الذي تنساق له الاحداث عبر بث شفرات غاية في الدقة والتشخيص من قوله (عاهرات اليمين المتطرف تجدها في كل مكان حولك، تعمل بصيغة مسؤول في التجمعات السياسية وكذلك بصيغة قيادي بارز ، وفي المناسبات الدينية ) بعد تحديد الكاتب للأمكنة يذهب ليحدد صفاتها ( هي عاهرة وفي ذات الوقت ملتزمة دينيا ، متطرفة لعقيدتها) ، كما انه يبعدها عن مكان تواجدها الواقعي والحتمي فيقول (لا ترتاد الملاهي الليلية مطلقا، ولا تعرف طريقها البته) اذن مالذي يريد ان يصل اليه الكاتب بهذا الوصف؟ اعتقد ان المعايير هنا اختلفت، فهذه العاهرة من نوع اخر انه عهر سياسي وديني ومجتمعي وبسبب هذا العهر انتج لنا كل تلك التركات التي اجهضت تطلعات المجتمع وافسدته فاصبح اهله كالنفايات لاقيمة لهم…وهو طرح صادم وبشكل لا يحتاج الى كثير من التأمل وهذا ايضا مغايرة في وخز الذاكرة الجمعية للقارئ، لقد ساق لنا جابر نظاما لغويا مؤسس على نظم من العلامات والشفر انتجت تظاما مغايرا عن انساقه السابقة من خلال استنطاقه البنية التحتية للنص ليكشف السمات الدلالية الكامنة في الشخوص واللغة والصراع والجو النفسي العام مما منحنا خطابا ابستمولوجيا كشف الكثير من المتراكمات في مرجعيات النص للتتحول ثيمته المركزية من الخاص الى العام ولتستبطن الجوهر وتستنطق الاحداث عبر محكيات جريئة تحسب للكاتب بوصفه استطاع اختزال مجمل عناصر النص بثيمة واحدة وضبط ايقاعها وبحث في تفاصيلها الفلسفية والفكرية وقطع الخاتمة بشكل قصدي صادم ليعطي إشارة حمراء تشتعل في تقاطع الازمات…
ومن هنا فاننا نقف على بعض المؤشرات الاتي:
اولا:تمركزت المغايرة النصية في نص قرحة في تحديد باطن الفكرة والزحف نحوها بشكل مباشر دون ازاحات في المعنى..
ثانيا : خلص النص من الارشادات التاليفية واستقر على الجمل القصيرة الدالة الى المعنى والغائرةفي التاؤيل
ثالثا: اختبات المعاني في النص خلف الكودات التي وضعها الكاتب بوصفها اسيجة منيعة ..
رابعا: اقترب النص في ثيمته الى الفانتازيا رغم معماريته الواقعية، كون الفكرة جوهرها فلسفي..
خامسا: قوض النص التابوات المجتمعية بوصفها يمين متطرف ووصمها بالعاهرة والتي اسهمت في خلق كل تلك التداعيات التي ارهقت المجتمع وفككت بنيته الداخلية….
اخيرا النص فانتازي مثيرا للدهشة، سرديته تحاكي واقعا لامعقولا، يسبر اغوار عمق الجدلية القائمة في داخل البنية المجتمعية، فالنص رحلة البحث عن الاوكسجين ليملئ/رئات العالم المختنقة التي اثقلها الدخان المجهول
0 التعليقات:
إرسال تعليق