مسرحية " ميت مات " توليفة فلسفية تعيد انتاج اخطر الأسئلة / د. حميد صابرعلي
مجلة الفنون المسرحية
من عروض المسرح العراقي التي شاركت في مهرجان العراق الوطني للمسرح برعاية الهيئة العربية للمسرح بالتعاون مع نقابة الفنانين العراقية
من البديهي ان يقف النقد عند النص وبنيته واهميته التي لا تنكر وتغفل عمقه وأسسه وحين يكون بأهمية نصوص الكاتب الكبير (علي عبد النبي الزيدي) التي وثّقت حال الوطن بلغة درامية كثفت الآمال والأحلام بواقع خرافي ومهيمنات غروتسكية مزقت استار التابوهات والمسكوت عنه في صدمات تدفع المتلقي للتساؤل وتستفزه وتحرضه نقديًا والمواجهة والبكاء تطهيرًا وتغريبًا لا بكاءً هروبيًا وانكفاءً على الذات أي انه يرسم صورة نادرة لتراجيديا عراقية معاصرة.
في عرض (ميت مات) تجمع الاضداد بين وجود وعدم بين انتظار غودو وانتظار مولاي في توليفة فلسفية تعيد انتاج اخطر الأسئلة اذ تخرجها من سلطة الدين والسكون المرعب الى سلطة السؤال التشكيكي والحائر المتردد والعامر بوجدان الذات العربية مذ عرفت طريقها وكأن ابن رشد يُعاود احراق كتبه في مقابلته مع الغزال لكن ابن عربي حاضر في أداء المدهش (محسن خزعل) بالصمت المريب والاحساس الوجداني المهيب ويشاركه في صلاة الانتظار ويشاركه في صلاة الغائب المنتظر الموعود ورقصة المولوية الخفية البارع (مخلد جاسم العبيدي) والرقص الساكن الا من إشارات وبعض أوضاع التفاتات مدروسة مصاغة بالتلقائية القصدية التي لا يصل اليها الا العارف بفلسفة التمثيل المتبحر في جوهر البحث الادائي في مختلف نظريات التمثيل والتي تسعى في غالبيتها الى فلسفة العلاقة مع المتلقي حين تتلاشى امامه لعبة الأداء الاستعراضية والتي اختفت تمامًا في روح ووجدان وعقل وأداء الفان القدير (محسن خزعل) وتوأمه (مخلد العبيدي) وكان الدراماتورج قاصدًا بوعي متقدم وفهم متعمق بهذه الابعاد التشكيلية المتحولة في ثباتها المكاني والوضعي.
وفي هذا العرض الطقسي يجد المتلقي نفسه امام مفهوم متجدد لفن الأداء التمثيلي الذي احدث حالة من التواصل مغايرة لاغلب أساليب التواصل مع المتلقي اذ لا نعثر هنا في هذا العرض على سينوغرافيا تقليدية تشتغل على الابهار البصري وتفتقد الى وجودية المعنى وفي بعض الأحيان الى هارمونية تتوافق مع الاداء التمثيلي فكثيرًا ما نجد ان هنالك في بعض العروض انفصال بين الابعاد البصرية وما ترمي اليه وتقصده المعاني الخفية والدلالات المضمرة بينما في هذا العرض تتجلى بنسق وانسجام كعزف ناي حزين في محراب الوجد والزهد وبوصلة للروح عبر حركة منتجة فاعلة ونبرات صوتية تنفذ الى أعماق القلب فالممثلان (محسن ومخلد) كانت الكلمات تجري على لسانيهما كحرير مياه ينساب عذوبة وهدير رياح يعصف بالاسئلة الوجودية الكبرى، اذ لم نلحظ ممثلًا يلعب الدور وانما شاهدنا الممثل عارف عرفاني صوفي معقلن يرسم بالعين والوجه سيمياء الامل والخيبة والسخرية ان الممثلين (محسن خزعل ومخلد العبيدي) يظهران كراويين وكشاهدين وبطلين مغتربين على منصة محنة الانتظار والقلق ين غودو ومولاي وان هذه هي الحقيقة الإنسانية في عالم مضطرب لا ترتبط بمكان محدد ولا زمان معين، فإن مسرحية (ميت مات) لا تستعرض مهارات الأداء وبلاغة الحوار ولكنها قدمت مسرحًا عراقيًا عربيًا أعاد انتاج الوعي الفني والفكري عبر قراءة بصرية سمعية غامرت ونجحت لنص باذخ المعاني غني الدلالات وجزالة وبلاغة الأداء وحكمة الدراماتورج.
0 التعليقات:
إرسال تعليق