العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس (2) معلومات مفيدة لاكتشافات جديدة/ د. سيد علي إسماعيل
مجلة الفنون المسرحية
العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس (2) معلومات مفيدة لاكتشافات جديدة
من خلال تتبعي للأخبار المنشورة في الدوريات المصرية المتعلقة بتونس، وجدت معلومات مهمة جداً – ورغم ندرتها – لم أجد لها توابع فيما بعد لتكتمل الصورة! وفي الوقت نفسه وجدتها معلومات مفيدة لو تتبعها الباحثون – وخصوصاً في تونس - لخرجنا بنتائج مذهلة ستغير الكثير من معارفنا حول العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس!
البعثة الأولى
من أمثلة هذه الأخبار، الخبر المنشور في مجلة «الفكاهة» في شهر يونية 1927، والمتعلق بالحكومة التونسية، ونصه يقول: «قررت الحكومة أن ترسل إلى مصر بعثة مؤلفة من مائة شاب تونسي ليتلقنوا العلوم في التمثيل والغناء واللغة العربية»!
وأهمية هذا الخبر أنه منشور من خلال جهة رسمية وهي «الحكومة»! ولو بحثنا حول الخبر ربما نكشف النقاب عن أضخم بعثة تونسية إلى مصر لتعليم التمثيل والغناء؛ لأن تعليم اللغة العربية أمر معروف ومتوقع، لوجود البعثات العربية إلى الأزهر الشريف منذ مئات السنين! حتى ولو كان الطلاب الدارسون سيوفدون لدراسة اللغة العربية في كلية الآداب بالجامعة المصرية الحكومية، سيكون الأمر مقبولاً، لأن الجامعة المصرية الحكومية بدأت رسالتها رسمياً عند افتتاحها عام 1925!
أما الجديد – والغريب - في هذا الخبر فكان تعليم التمثيل والغناء للوافدين التونسيين؛ بسبب عدم وجود معاهد لدراسة التمثيل والغناء في مصر حتى عام 1927. والمكان الوحيد الذي كان يُدرس الموسيقى بصورة أهلية وليست رسمية، كان معهد الأستاذ برجرين الإيطالي بشارع الشواربي، وكان أغلب أساتذته من الأجانب ويدرسون للطلاب الموسيقى الغربية! وفي هذه الفترة، كان يوجد أيضاً نادي الموسيقى الشرقي، ولعله المقصود بهذا الخبر! أما معهد فن التمثيل في مصر فقد تم افتتاحه عام 1930، مما يعني أن الخبر ربما كان يقصد إلحاق شباب تونس بإحدى الفرق المسرحية الموجودة في مصر لتعليم التمثيل بصورة عملية تطبيقية، لا بصورة علمية نظرية عملية داخل قاعات الدراسة. ولو بحث الباحثون التونسيون في الوثائق التونسية المتعلقة بالبعثات في عام 1927، ربما يصلون إلى إجابات حول هذا الموضوع.
سيرك أحمد عمار
نشرت مجلة «الكشكول» في يناير 1931 خبراً ضمن أخبار «المسارح والملاهي»، قالت فيه: «هبط أرض مصر رجل من الغرب يقولون إنه تونسي واسمه أحمد عمار، وهو مُرقص وحوش وفيّلة وخِيل وسباع، حاله حال سيرك عبده سليمان وغيره ممن يضربون خيامهم في آخر شارع الدرّاسة في مولد سيدنا الحسين. جاء أحمد عمار بخيله ووحوشه واتخذ له مكاناً ضرب فيه خيامه وجعل أجر الدخول مرتفعاً لدرجة لا تحتملها الأزمة المالية، واتخذ من المغريات ما استطاع، وليس في أعماله شيء مما يجعلك تعجب أكثر من أنه رجل درب هذه الحيوانات على ألاعيب خاصة مثله كمثل مروض القردة والمعز والحمير، بل ربما كان المصري أشد ذكاء وأكثر فراسة، ولكنه أقل من الأجنبي مغامرة وأبعد الناس عن معرفة طرق الاستيلاء على النقود في مثل هذه السنة».
وهنا عقدت المجلة مقارنة بين سيرك أحمد عمار، وبين سيرك عبده سليمان وما يُقدم في الموالد من فنون مختلفة. ومن خلال هذه المقارنة، أبانت المجلة عن هدفها من نشر هذا الموضوع، وهو أن أحمد عمار نجح في استنزاف أموال الجمهور المصري في عام الأزمة المالية العالمية، حيث عاشت مصر – وغيرها من البلدان – أزمة اقتصادية طاحنة في هذا العام، ورغم ذلك جاء سيرك عمار واستفاد من أموال الجمهور المصري، هذا هو غرض المجلة من نشر الخبر والمقارنة بين سيرك أحمد عمار التونسي، وبين سيرك عبده سليمان المصري!
والجدير بالذكر أن المجلة ذكرت تفاصيل مهمة لتؤكد فكرتها، قائلة: «لم يتخير أحمد عمار سنة رخاء ينزل فيها مصر حتى يقال إن هذه الكماليات قد تصادف قبولاً من الشعب المصري، ولكنه نزل أرض مصر في وقت استحكمت فيه حلقات الأزمة المالية في جميع البلدان. ومصر كغيرها من البلدان التي أصيبت بهذه الضريبة القاسية، ضربة الأزمة الاقتصادية ولكنها بدل أن يطأ أرضها جيش من السائحين جاءها مربي الحيوانات بجملة من حيواناته، التي رباها صغيرة واستنزف الأموال المصرية دون رقابة على شعب بلغ به الهوس هذا المبلغ؟!! ففي الوقت الذي تهتم فيه الحكومة بماليتها وتبحث عن أيسر الطرق التي تضمن التوازن المالي، يأخذ أحمد عمار التونسي في جيبه خمسمائة جنيه من مصر، فماذا استفادت منه مصر؟؟ وهذا السؤال أهم ما ألفت إليه نظر الجمهور، فهو أحضر حيواناته على بواخر خاصة، وأركبها عربات تماثل عربات السكة الحديدية وتسير على البر فلم يتحمل لها ولا لرجاله نفقات سفر لا في البر ولا في البحر، وهنا في مصر استأجر قطعة من الأرض ودفع لشركة النور أجر ما يستهلكه منها لا أكثر ولا أقل. أما مصر فلم يستفد منه فيها فراش لأن خيامه معه، ولم يستفد منه مطعم لأن رجاله يقومون بتجهيز الطعام، ولم يستفد منه فندق لأن رجاله يبيتون في خيامهم».
وإذا كانت المعلومات السابقة تتعلق بسيرك عمار أثناء وجوده في القاهرة، فقد وجدت معلومات أخرى عن محاولته سفر السيرك إلى فلسطين من مصر، أخبرتنا بها مجلة «الصباح» في نهاية يناير 1931، قائلة: «سافر إلى فلسطين منذ مدة وجيزة مندوب من فرقة سيرك أولاد عمار ليطلب من الحكومة الفلسطينية السماح له بإحياء بضع ليال بها. ولكن الحكومة رفضت بدعوى أن الأزمة الاقتصادية الحاضرة، لا تسمح بذلك».
كما أخبرتنا المجلة نفسها أن سيرك عمار ترك القاهرة ونصب خيمته في «بني سويف»، وهي إحدى مديريات صعيد مصر. وروت المجلة تفاصيل حادثة حدثت في هذا السيرك في فبراير 1931، قائلة: «في منتصف الساعة العاشرة من مساء أمس توجهت إحدى السيدات المصريات ومعها ابنها الصغير - وهي تنتمي لإحدى العائلات العريقة - للتفرج على سيرك أولاد عمار. وبينما هي ذاهبة لتأخذ مكانها تبعها أحد موظفي السيرك الأجانب وأخذ يضايقها مضايقة شديدة، وصدر منه حادث يعتبره القانون المصري جناية، وكان الأستاذ عبد العال أفندي محمود المحامي موجوداً بالقرب من مكان الحادث، فهمّ من مكانه وطلب إلى ذلك الرجل أن يبتعد من المكان خوفاً من اعتداء الجمهور عليه. ولكن موظفي السيرك جمعوا شتاتهم وحدثت بينهم وبين الحاضرين مشادة أفضت إلى تصميم النظارة جميعهم على هدم الخيمة حفظاً للكرامة والشرف، وكان من بين الحاضرين مدير بني سويف الذي توسط في إخماد الثورة بأن أرسل الحكمدار لحضرة الأستاذ وطلب إليه تهدئة الحالة، وأنه سيقوم بعمل اللازم. وفعلاً هدأت الحالة وبعد الانتهاء من الحفلة اعتذر مدير السيرك أمام الأستاذ بحضور سعادة المدير. وإزاء هذا الحادث امتنع الجمهور السويفي من حضور حفلات هذا السيرك حرصاً على الشعور الوطني».
هذه المعلومات حول سيرك أحمد عمار التونسي، وزيارته إلى مصر، تُعدّ معلومات مهمة لأننا لم نكن على علم بها، لا سيما وأن المعلومات المتاحة – في الإنترنت – عن بدايات هذا السيرك شحيحة جداً، وتقول بأن أحمد عمار جزائري وليس تونسياً، وأن سيركه تكوّن في فرنسا قبل أن يستقر في الجزائر، وأنه مازال يعمل حتى الآن في الجزائر باسمه الشهير «سيرك عمار»، ولكن بإدارة أشخاص آخرين اشتروا الاسم والعلامة التجارية للسيرك. والغريب أن المعلومات المتاحة لم تذكر أية علاقة لتونس بهذا السيرك، كما أنها لم تذكر أية معلومة عن زيارة هذا السيرك لمصر! لذلك فالبحث مطلوب الآن لمعرفة علاقة تونس بهذا السيرك، وهل بالفعل أصله من تونس أم من الجزائر؟ وإن لم نصل إلى إجابة مقنعة، فعلى الأقل عرفنا معلومات جديدة عن زيارة هذا السيرك إلى مصر، لم نكن على علم بها من قبل!
طالبان من تونس
من يقرأ في تاريخ المسرح التونسي سيجد لغزاً كبيراً متعلقاً بتدريس المسرح في تونس، ودور المصريين فيه، وخصوصاً زكي طليمات، والذي سنقف عنده كثيراً فيما بعد - في سلسلة مقالاتنا هذه – ولكن المعروف أن زكي طليمات بدأت علاقته بتونس عام 1950، مما يعني إننا لو أردنا أن نقول إن زكي طليمات بدأ يوثر في التونسيين مسرحياً، يجب علينا أن نوضح ونقول إن هذا التأثير بدأ عام 1950 وليس قبل ذلك!! وربما سيسألني البعض ويقول: ما علاقة هذا الموضوع بما نحن فيه؟ سأجيب قائلاً:
وجدت في بروجرام المعهد العالي لفن التمثيل العربي في مصر لعام 1949، دعوة لحضور حفلة تمثيلية اُقيمت في الأوبرا الملكية، برعاية وزير المعارف العمومية الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا، بمناسبة تسليم إجازة المعهد إلى خريجيه في قسميه، إذ يقدم المعهد مسرحيتين هما: المنقذة، والصعلوك لمحمود تيمور، وإخراج عميد المعهد زكي طليمات. ووجدت في البرنامج المطبوع والموزع على الجمهور، تعريفاً للمعهد، مثل الغرض من إنشائه، وهو تدعيم أساس فن التمثيل باللسان العربي من خلال إعداد ممثلين وممثلات ومخرجين إعداداً فنياً صحيحاً، ليعملوا في الفرق التمثيلية وتولي التدريب الفني في الفرق التمثيلية بالمدارس، وكذلك من أجل تنشئة كُتاب يعملون للمسرح بأقلامهم. ومن المعلومات المنشورة أيضاً أن المعهد يشتمل على قسمين: قسم الإلقاء والتمثيل، وقسم النقد والبحوث الفنية. ومدة الدراسة أربع سنوات في كل قسم، وتجرى الدراسة مجاناً، وتمنح الطالبة في قسم الإلقاء والتمثيل مكافأة شهرية قدرها 6 جنيهات، تشجيعاً للفتيات المثقفات على العمل بالمسرح. أما مواد الدراسة في قسم الإلقاء والتمثيل، فهي: إلقاء وتمثيل، وفنية مسرح، وأدب مسرح، وأدب السلوك، وحركة إيقاعية، وحمل السلاح وألعاب رياضية، واللغة العربية أدباً وأصولاً، وتاريخ فنون جميلة، وعلم نفس، وصولفيج، ومكياج. ومواد قسم النقد والبحوث الفنية، هي: النقد وتاريخه، وعلم نفس، وأدب مسرح، وتاريخ، وفنون جميلة، وأدب لغة عربية، وإلقاء وتمثيل، وفنية مسرح، وصحافة.
وبعد قراءة هذه المعلومات المهمة، وجدت في نهاية البروجرام فقرة عنوانها «عدد الطلبة عام 1948»: في قسم الإلقاء والتمثيل 55 طالباً و20 طالبة. وفي قسم النقد والبحوث الفنية 46 طالباً! أما أهم معلومة منشورة في البروجرام، فكانت هذه العبارة: «وبين طلبة المعهد يوجد طالبان من فلسطين، وثلاثة طلاب وثلاث طالبات من سوريا، وطالبة من لبنان، وطالبان من تونس»!!
وإذا علمنا إن هذا البروجرام يُعدّ وثيقة رسمية وصحيحة، لأنه صادر من معهد حكومي، وفي مناسبة سيحضرها الوزير شخصياً، مما يعني أن البيانات المنشورة في البروجراك رُوجعت أكثر من مرة، ولا تحتمل أي خطأ!! وهذا كله يعني أن «طالبين تونسيين» كانا ضمن طلاب المعهد الدارسين فيه عام 1948: إما في قسم التمثيل أو في قسم النقد أو كل طالب في قسم من القسمين، فهل يعرف أحد منّا جميعاً اسمهما أو اسم أحدهما؟! وهل يعلم أي أحد منا في مصر أو في تونس أن طالبين تونسيين كانا ضمن طلاب المعهد العالي لفن التمثيل العربي عام 1948؟!
هذه نقطة بحثية من أهم النقاط المطلوبة في هذه الفترة، لأن كشف النقاب عن هذين الطالبين أو عن أحدهما، سيوضح لنا حقيقة تاريخية مهمة، لأن هناك عدة احتمالات وراء هذه المعلومة المكتشفة، مثل: هل دراسة الطالبين كانت في مجال التمثيل أم في مجال النقد، وماذا فعلا بتخصصهما هذا؟ وهل عودتهما بعد الدراسة كانت إلى تونس أم إلى مكان آخر؟ وهل بالفعل أتمّا دراستهما أم أنهما تركا المعهد أثناء الدراسة، وهذا أمر تكرر كثيراً من بعض الطلاب الوافدين من الدولة العربية!!
أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات من باحثين داخل تونس، يبحثون في وثائق التعليم والبعثات التعليمية، لا سيما وأن تاريخ الواقعة معروف وهو عام 1948، وأن الجهة المبعوث إليها هي مصر، ومكان التدريس معروف أيضاً وهو المعهد العالي لفن التمثيل العربي!! وأرجو من الباحثين مستقبلاً أن يستبعدوا فكرة أن أحد الدارسين هو الفنان «علي بن عياد»، كونه أول تونسي درس في المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة فترة من الزمن، لأن دراسته كانت بعد عام 1948، وكانت لها ظروف خاصة وتعليم خاص، وهذا الموضوع سأتطرق إليه في حينه عندما أصل إليه مستقبلاً، بناء على خبر نشرته مجلة «الفن» في سبتمبر 1963، عندما قالت نقلاً عن مراسلها في تونس «أبو بثينة»: «سيتولى الأستاذ علي بن عياد إدارة الفرقة البلدية .. المدير الجديد درس في القاهرة وباريس وكان من ممثلي الفرقة وأحد مخرجيها».
-----------------------------
مسرحنا العدد 733
0 التعليقات:
إرسال تعليق