أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الأربعاء، 23 نوفمبر 2022

مسرحية " الْبَعْبِع " مأساة في خمسة فصول تأليف رمضان العُوري

مجلة الفنون المسرحية


مسرحية "  الْبَعْبِع   مأساة في خمسة فصول   تأليف رمضان العُوري


المقدمة
 
  لعلّ أكثر ما يسترعي الانتباه في مسرحيّة "البعبع" لرمضان العوري، خضوع أحداثها ووقائعها وشخصيّاتها لأُطروحة ناظمة تتناول الواقع أو تبحث في تناقضاته عن طريق المجاز. وهي، إلى ذلك، مليئة بمناخات ثريّة  تأخذ قارئها إلى آفاق التأمّل الشّعريّ والفلسفي وتستعير بعض عناصرها من الخيال العلمي. أمّا الحوار فينحو منحى الجدل والمناظرة، مع روح ساخرة تنتشر في الأسلوب، يخالطها حسّ بالمأساة. وتشير المرامي والدّلالات إلى الأوضاع الرّاهنة لمجتمعنا ومن ورائه المجتمعات العربيّة وما تجابهه من تحدّيات خارجيّة، وأشكال مختلفة من الهيمنة والاستلاب الثّقافيّ وتفسّخ الهويّة. ويتّخذ الكاتب من انجراف اللّغة وتفكّكها وعجزها عن أداء المعنى، مجازا على تلك الأوضاع في سياق خرافة تحكي صراعًا بين مجموعة بشريّة وبين قوى خارجيّة معادية نشرت بين أفرادها وباءً غريبا يضرب ملكة النّطق والجهاز الكلامي ممّا يؤدّي إلى تشوّش العبارة وتفكّكها وتشظّي الكلمات فتنفلت حروفها وتتطاير في فوضى تفقدها  كلّ معنى. وتبرز شخصيّتا "الشّاعر" و"عالم الجينات" من جهة والشّخصيات المعادية المتسبّبة في ذلك الوباء من جهة أخرى  كطرفي صراع تسير أحداثها على إيقاعه حتّى النّهاية.
   تبدأ المسرحيّة بعرض حالة مجموعة من النّاس يعانون اضطرابا في نطق الكلمات تنقلب حروفها ثمّ تتفكّك إلى صواتم أشبه بثغاء الأغنام (الـ "بعبعة")، وينهض من بينهم شاعرٌ تُفزعه  تلك الظّاهرة  ويرى فيها نذيرا بزوال إنسانيتهم ويهيب بهم، دون جدوى، أن يعوا وضعهم الشّاذ، وضع السّوائم تُساق إلى مصير مجهول. وتذكّرنا حالة البعابع بانحدار قوم الـ "ياهوو" من الإنسانيّة إلى الحيوانيّة، في "جزيرة الجياد النّاطقة"، ضمن "رحلات جُلِّفر" (Gulliver’s Travels) للكاتب الأيرلندي السّاخر جوناثان سويفت. 
تنعكس مأساة الشّاعر الذّاتيّة إزاء فقدان القول لوظيفته كأداة تواصل وتفاعل، في شعورَه بالغربة عن محيطه. فكأنّه يخشى أن يخيبَ سعيُه ـــ ولعلّه سعي كلّ شاعر ـــ إلى إثراء لُغة قومه بمعانٍ أكثر نقاءً حسب عبارة ستيفان مالارميه (S.Mallarmé). يقول تفجّعا لما حلّ به :
"...قُضِي الأمر ويبدو أنني سأظلّ وحيدا أنعق في سباخ الكلم والملح هذه، وأحطّ على جماجم الأصوات..."
   كما تعبّر مأساته، فيما وراء الغربة الذّاتيّة، عن القلق على مصير اللّغة كقيمة جماليّة وكخصوصيّة إنسانيّة، إذ يقول:
"   - كارثة.. كارثة !.. كفّوا عن القيء أيها الحمقى.. أنتم لا تتلفون أحشاءكم وإنما أصواتكم.. وسيجف النبع. .هذا انتحار صوتي أو جريمة دبرت بليل.. كفّوا.. كفّوا أيها المجانين... لقد أهدرتم ما به تنهض أجمل القصائد وتنضّد إنسانية الإنسان !"
   يُحتفظ بالبعابع المرضى في مخبر بأحد المستشفيات بينما يجتمع أخصّائيون في علوم مختلفة (الصّوتيّات والجينات وطبّ الحنجرة وعلم النّفس) لدراسة ذلك الدّاء الغريب ومعاينة آثاره عليهم. ويحتدم بين الأخصّائيّين جدال في توصيف الحالة ويعلّل كلّ منهم أسبابها بالرّجوع إلى اختصاصه. ويعارض عالم الجينات آراءهم جميعا ويعزو الحالة إلى "عدوى جينيّة"، سببها فيروس تسرّبه عبر الحدود قوى خارجية معادية ممّا يستلزم البحث عن مصل لمكافحته. 
   لا غرو أنّ الكاتب يشير هنا إلى ضراوة داء لئن كان لا يصيب في الظّاهر سوى الجهاز الكلامي إلاّ أنّ خطره  أشمل ممّا يبدو إذ يضرب الجينات المكوّنة لشفرة الحياة ذاتها والمتحكّمة في نظام الجسم بأكمله. وفي ذلك كناية على آثار الغزو الحضاريّ على لمجتمعات المُهيمَن عليها بما تعيشه من حالات التّدجين والاغتراب عن ذاتها.
   لذلك يلجأ عالم الجينات برفقة الشّاعر والبعابع إلى كهف جهّزه بآلات اختبار، ويعقد  العزم على مواصلة الصّراع مع القوى الخارجية المعادية رغم إيقاعها به إذ سطت على مختبره وأتلفت بحوثه وأرسلت في غيابه شخصا مُسْتَنْسخا منه إلى زوجته ليعاشرها في غفلة منها إلى أن أنجبت منه طفلا، ممّا دفعها إلى مغادرة البيت هائمة على وجهها وقد تبيّن لها فداحة ما فعلت. ويبدي العالم تعجّبه من بقاء الشّاعر مُعافى وسط المصابين ويرى في مناعته تلك أملا للتّغلّب على الفيروس ويطلب منه الاستعانة بعيّنات من دمه في صنع مصل ليجرّبه على البعابع، فيجيبه الشّاعر إلى ذلك. ويزيد من عزم العالم على مقارعة المرض لجوء زوجته مع طفلها إلى الكهف وقد بدت أعراضه الخبيثة عليها. 
   غير أن الآمال في إعداد المصل الشّافي تنهار فجأة إذ تقتحم الكهف "وحوش مقنّعة" ويهاجم بعضُها عالم الجينات وتأخذ في نهشه بينما يتمكّن الشّاعر والمرأة وطفلها وبعض البعابع من مغادرة الكهف. 
   يجد الشّاعر نفسه والذين معه في صحراء رمليّة مقفرة وتتحوّل زوجة العالم بدورها إلى بعبع. وبينما يعمّ الصّمت ذلك المدى لشّاسع، تُسمع أصوات مجهولة من داخل الشّاعر تنبئ بتبدّد حلم الواحة المنشودة التي كان ينوي الارتحال إليها بمن معه. إنّها نهاية موجعة لحلم يضيع في امتداد الصّحراء الموحش كسراب ما أن يتراءى في الأفق حتّى يضيع. 
   يبدو اختيار رمضان العوري للفصحى لغةً للمسرحيّة (مع القليل من الاستعمالات العاميّة) متساوقا مع الفكرة العامة التي يتأسّس عليها للعمل في مجمله، حيث أنّ الانفصام اللّغوي وما ينتج عنه من اغتراب وتشوه ثقافي وذوبان للذّات هو ممّا يهدّد المجتمعات العربيّة في الزّمن الرّاهن. ولعلّ في استعمال الفصحى رغبة كذلك في إحياء دورها كلغة لمسرحنا المعاصر بعد تراجع ذلك الدّور تذرّعا بأسباب واهية.
   لقد أورد الكاتب في النّص عديد الإشارات الموجِّهة لأسلوب إخراج المسرحيّة باذلا عناية واضحة بالتّهيئة الرّكحيّة والمؤثّرات الصّوتيّة والضّوئيّة نظرا لدورها الأساسيّ في فهم الخرافة وتطوّر المأساة مع التّركيز على تحديد هيئة الشّخصيات وحركاتها  وتنقّلاتها  فوق الرّكح كأبعاد أساسيّة في بنائها وتكملةٍ لأدائها الصّوتي سدًّا  لثغرات الدّلالة في خطابها المفكّك المضطرب.  
   تنتهي المسرحيّة بصوت يهمس من داخل الشّاعر بعبارة مخيفة: "لن ينبت شيء في الصحراء ولن يزهر إلا التيه...". ولعلّ في تلك العبارة اليائسة إشارة إلى أنّ  مسرحيّة رمضان العوري في معناها العميق ليست سوى مرثيّة لوضع راهنٍ يغترب فيه الفرد عن نفسه وتفقد معه أمم وشعوب القدرة على التّحكّم في مصيرها.
علي اللواتي 


                                           في المخاض..
هذا النص سكنني واستبد بي دهرا، وانغرز كالجرح في الخاصرة ..وكان يزلزلني كالبركان كلما اثبتت ملمّات الواقع صدقه، وما زال بي حتى طرحته من  بين الاصابع كطين الخزاف؛ ولا أعلم إن استوى الخلق ام خرج مشوّها ..لقد طعم مني وطعمت منه وتقمصت شخصياته وأنا أزرع فيها الحياة والكلِم حتى أعيش ما تشعر به وأحسّ فعليا بألم تفسخ الانسانية وغوصها في رمال البعبعة القاتلة ..ورغم لبوسي لأقنعة مختلفة تُوغل بي في اللعبي و التّخييلي، يتبدّى الواقع من خلال هذه الامثولة كالحا وحاضرا بطعم الحريق.
                                                                         الكاتب الدرامي

الشخوص
الصوت الأول
الصوت الثاني
الصوت الثالث
بعبع 1
بعبع2  
بعبع3
بعبع4
بعبع5
الشاعر
عالم الصوتيات
عالم النفس
طبيب الحنجرة
قصي 1 (قصي عدنان قصي عالم الجينات)
المعين كفاح الطريفي
قصي 2
رانية زوجة عالم الجينات
الطفل 
الجنرال لاير
البروفسور أريآل ديان
الملازم عزرا


 
ملاحظات   إخراجية                                                        

 تتشكل البعبعة على مستويات كثيرة منها الصوتي والحركي و الحواسيّ  والضوئي....
على الممثلين الذين يتقمّصون دور البعابع ألاّ يصعدوا على الركح بإنسانيتهم من لغة ومشاعر ونحوه ؛بل عليهم أن يتسربلوا بطاقة رهيبة من الحيوانية  تزداد وتتضخم كلما انزلقوا أكثر فأكثر في  متاهة البعبعة...عليهم أن يتصرّفوا كالحيوانات إن على مستوى  النظر أو الشم أو الحركة..
على المستوى الصوتي تكون أصواتُهم شبه ميكانيكية في البداية ، بيضاء لا خصوصية فيها أو محاكية لأصوات بعض الحيوانات ثم تتسارع حين تستشري الخلخلة ..فتتلاطم الجمل وتُقذف الواحدة بالأخرى في استعراض تناظر صوتي رهيب، محدثة قرقعة، ثم تغيم شيئا فشيئا بعد أن تُفكك وتُجزّأ، إلى أن تُطمس كلُّ الصواتم أو تكاد، وكأنما قضمتها صواتم مفترسة لتحل محلها  وتطغى في النهاية على السلسلة الصوتية التي تستحيل شبهَ صراخ بدائي أحشائي يجرح السمع  ويرُجُّه؛ ما يستدعي جهدا كبيرا وتركيزا أكبر من قبل الممثلين حتى ينجحوا في مثل هذه التأدية.
هذه الصواتم الغريبة أشبه ما يكون بمروحة سفينة أو رَحَوية بحرية دوّارة تبتلع كل ما حولها فتُدغم كلُّ الصواتم الرخوة والهشة والجوفاء منها بالخصوص في صوتم وحيد مركز، طاغ هو حرف العين ،ما يهيئ للقيء والإسهال الصوتي ومن ثمة لفقدان القدرة عن النّطق والكلام.
                                                  ق            أ 
                                               م            ع       ب
                                                   خ               ح  
                                                              ه      
ويرفد الصوتيَّ الحركيُّ و الجسديُّ....تأتي الحركات شبه خاوية لا معنى لها في بعض الأحيان ، ثم بالموازاة مع سيل الأصوات وإيقاعها المتسارع، تصبح  نافرة غريزيّة شرسة، تخالطها البدائية وربما الشبقية.. ويصير الإيقاع الجسدي أفعوانيا جارفا أيضا كلما حدثت" تخميره صوتية" ثم يُفضي إلى تخشب تدريجي للّسان كلما تطور الداء وازداد المرضى غوصا في الرمال المتحركة.
في  ذات الوقت ينشأ إيقاع مواز ..فكما  يُوَقّع زمن التفكك بالصوت والجسد يُوقّع أيضا بِلُغة حسيّة منشؤها الروائح والإضاءة حتى يُحس المتفرج ماديا بفظاعة تفسخ الأصوات..
بخصوص المظهر الخارجي فإن ما سيعرض على الخشبة ليس بشخوص ذات وجوه عادية وإنما وجوه متحوّلة يمكن التعبير عنها بأشكال مختلفة منها القناع المزدوج يحوي وجها وقفا: وجه إنسان ووجه بعبع بآذانه الطويلة المتهدلة  وخطمه، يظهر عند التحول النهائي الفظيع.
وفي ما يتعلق بالاستنساخ يجب إبرازه ركحيا من خلال المماثلة التامة على مستوى المظهر الخارجي في أدقّ تفاصيله، والحركات والصوت  بوسائط مختلفة  منها استعمال الزينة الدرامية  بقدرة فائقة وكل المؤثرات الدرامية التي تدفع المتفرج للوقوع في خلط كبير يستحيل معه أن يميز بين النسخة والأصل ..فيكون ضحية إزعاج مسترسل وفوضى حواس  يعيش بموجبها ذات البلبلة التي تتعرض لها الشخصيات حين تشاهد شخصيةً ونسخَتها.



استهلال



فضاء بلْقَع يندلق فيه نور غبش  يوحي بخواء الخشبة   تشرخه أضواء سميكة ومتنامية لحفر حضور  شخصيات أشباح ...
الصوت الأول
(في يسار الركح وقد انسكبت عليه إضاءة شفافة يقول في شبه حيرة بلهاء وهو يرتدى قناعا محايدا)   
أنا ثَمَّ حَاجَه ما فْهِمْتْهاشْ لْتَوّْ...أشْنُو معْناها بَعْبَعْ  إِطِيرْلِكْ فُمّْ ؟؟
الصوت الثاني
  ( في وسط الخشبة تحت دائرة ضوء لزج مجيبا كالصدى المعكوس من وراء قناع محايد أيضا)
 معناها فمم يبعبعلك طير وإلا طير يفمملك بع...
الصوت الثالث
( بقناع محايد هو الآخر تحت ضوء أزرق خاثر متنافر مع بقية الأضواء دون أن يمنع ذلك التواصل)
 معناها اللي تعرفو الناس الكل و...
الصوت الأول (وكأنه لم يسمعهما )
 زعمة آنا كينبعبع يطيرلي فم والا يطيرلي فم؟؟ على خاطر كان يطيرلي فم فقط يمكن نقبلها، أما كان يطيرلي فم، تولي حاجة أخرى..
الصوت الثاني
                  
 بعبع، بعبع ؛ كان طارتلك حاجة تو نشدوها
(ضحك جماعي)                                                       
الصوت الثالث
 ونْتَا فاشْ قامْ تبعبع ماهو  استنا وقيس قبل ما تغيص ..آ غيص قبل ما تقيس..ماهو شوف اشكون بعبع قبلك وشوف آش طارلو..وعينك ميزانك ..كان طارتلو حاجة قليلة بعبع على روحك.. وكان طارتلو..
الصوت الثاني

 هو يظهر فيه طايْرِتْلُو قبل ما تطيرلو.. آ قبل ما يطيرلو فُم و  وبقل ما يفمملو طير
الصوت الأول ( نفس اللعب وكأنه لم يسمعهما)                       
   أنا نحب نبعبع وما يطيرلي شيء خاصة والتبعبيع آفار في ها الوقت
الصوت الثاني
 الوقت ها آفار شي نحب..نعبعب
الصوت الثالث
 تعبعب وما يشيرلك طي ؟ لا ما نْظُنشْ.. لابد تشيرْلك ..آ تطيرلكْ حاجة..
الصوت الأول( لا يبرح مكانه تحت نفس هالة الضوء الشفاف ):
 نْحِبّْ نبعبع. .ويلزمني نبعبع..التبعبيعة كابسة علي.. في حلقي  بالعمل سادتهولي..بلعومي قرب يتفجر، وما عادش ننجم نستنى ( واضعا يديه حول رقبته إشارة إلى الضيق الذي يحس به ثم مُغيرا حركته ) لكن خايف  على فُمّي...على خاطر يظهر فيها تبعبيعة قْوِيَّة ..ونخاف لا ترحلو بكلّو..
الصوت الثاني                                               
 خافْ خافْ على روحك..الّي نْجَا خَافْ...
الصوت الثالث                                              
 تحب تقول اللي فاخ جنا ..لا ما نظنش
الصوت الأول ( يتحرك من مكانه ويتجه إليهما بالحديث وكأنه يسمعهما لأول مرة ) 
  إنت ماكش قتلي اللي قبل ما نبعبع يلزمني نشوف آشكون بعبع قبلي ونشوف آش طارْلو..وبعد نْحِل فمّي ونمد لساني ونتوكل على ربي ( للجمهور) بعبعتش إنتا وإنتا بعبعتش ؟؟؟
الصوت الثاني والثالث(معا)                                             
 احنا بعبعنا وهاو آش وقعِّلْنا..وعقلنا هاو آش بعععع...                                                                          .

(تتغير الأضواء)                                                             





                                                الفصل الأوّل




قاعة كبيرة بيضاء جيدة الإضاءة مجردة من كل زخرف ومن كل الأشياء تقريبا ماعدا كاميرا متحركة العين مثبّتة  في السقف متربصة لالتقاط كل حركة وكل دبيب.. المكان قاعة فسيحة في مشفى  أو مخبر زُرعت فيها أبواب عدة غير واضحة المعالم  سجينة نفس البياض الجارح.
 تُفتح الأبواب فجأة كجحور فئران المخابر وتندلق منها تحت رشقات الضوء شخوص غريبة متسارعة الحركة تجوب القاعة عرضا وطولا وقد أوصدت دونها الأبواب وكأنما وقعت في مصيدة...
موسيقى توحي بهذا الجو، تخفُت تدريجيا حين تتّجه إحدى الشخصيات إلى صدر الركح بخطوات مرسومة على عجل يؤثثها الرّعب 
الشاعر
( رجل نحيف في الخامسة  والثلاثين يلبس  قميصا باهت الزرقة في مثل لون سراويله ،يظهر من تحت جمازة جلد سوداء..  وجهه المشبع بسمرة قمحية  والغائر في لحيته الإبداعية تبرز فيه عينان مذعورتان...يتفرّس في الشخوص شبه الميكانيكية من حوله على الخشبة الخلاء ثم وكأنه يواجه الجمهور، يقول بصوت متهدّج ومتشنج في آن)
الهول ..الهول.. الويل ..الويل.. لقد رأيته وما أفظع ما رأيت...
بَعبٍعْ1
 ( كهل في الخامسة والأربعين ..بدأ الشيب يغزو فوديه وتهدلت كرشه.. يلبس كسوة دجين بالية تفوح منها رائحة الأسماك ..يعبر الركح من اليمين إلى اليسار مقلدا حركة الدب وصوته..)  
إه..إه..إه..إههههه  ...
الشاعر( في حركة تعبيرية)
 فَمٌ قُدّ من نار وأسنان كما قواطع جبال الجليد القطبية، وعينان في هدير البركان وصوت في قصف عواتي السحاب و.."
بعبع3
   (كهل فتيّ في الثلاثين ..كسوة بنية.. طربوش أنيق. .يحمل في يده محفظة مكتنزة.. يقول بصوت سريع يحاكي  صوت القردة)   
   ها قد بدأ يهذي... 
بعبع 2
   ( كهل طويل نحيف يلبس كوفية باهتة اللون و "دنقري" ويضع "عجارا" مرقطا بالأصفر والأبيض حول رقبته يعبُر الركح من اليسار إلى اليمين في شبه حركة الجمل.).
أه..أه..أه..أه..أههههه..
الشاعر( مواصلا سرده كأنه لم يسمعهم)
 والجسد.. الجسد شلال من زبد أصفر، كسته حراشف سميكة مُقرفة، ونبتت فيه مخالب حادة وفتحات سوداء متحركة ..شرسة ..نهمة.. تتسارع حركتها كلما تلوى جسد الوحش..
بعبع1    (نفس الحركة)
إه..إه..إه..هُه..هُه..هُهههه 
بعبع2   (يرغو كالجمل)
وغغغ..وغغغ..واعغغغع..
بعبع3
( متجها للجمهور بصوت شبيه بصوت القرد  ومشيرا إلى الشاعر) 
 حكايته هذيان في هذيان.. أرّقنا بها مذ جئنا إلى هذا المكان. .إنه خوف  استبد بخلجانه الإسفنجية ويريد أن يزرعه فينا وفيكم ،فلا تصدقوه ؛فالشعراء يتبعهم الغاوون..آ ..العاوون..
بعبع4
  (امرأة في الخامسة والعشرين. .مسحة من جمال.. وشم على الجبين ..حلي من فضة حول الرقبة. .تلبس ملية حمراء، حواشيها مخططة بالأزرق ،وتحمل في يدها مسبحة خضراء باهتة اللون من فرط الاستعمال ..مواصلة في شبه نحيب وقد قفزت أمام بعبع 3)  
 أما العاوون ففي أفلاك أخرى يسبحون..عو ..عو ..عوووو..
بعبع1  (نفس الحركة ونفس الإيقاع)
 هه..هه..ههه..ههههعععع...
الشاعر( بذات الإيقاع الملحمي)
ولقد ربض في كهف تتكسر على جنباته عواتي الرياح ..كهف في زُرقة رصاصية لزجة.. تنمو فيها أصوات الوحش الضاري وتتموّج وتخرج على الناس غواية.. فيتلقفونها.. ويتعمّدون بها ،فيقفز الفحيح إلى حلوقهم ويتردد فيها صداه فتسمق نتوءات كما ضواري الصخور وترتعش ذؤابات الأصوات وتتكلس ليبدأ التفكك والطاعون..
(متجها بالقول للجمهور)
 لماذا تحملقون في هكذا بعيون بلهاء ساخرة خاوية’؟؟ألم تصدّقوا بعد؟ ألم تحدسوا الخطر وتقدّروا حجم الكارثة؟؟؟ غادروا أماكنكم بسرعة. .هيّا قبل أن يفوت الأوان..(وحين يلاحظ عدم اكتراث المتفرجين، يخرج عن طوره)
أغبياء.. أغبياء.. سوف تندمون..
بعبع 3   (وقد أخذ صوته شبه الميكانيكي في التسارع )
 وصل به الهذيان إلى حد الوقاحة والجنون
بعبع 2(   بصوت خاو و رتيب لا خصوصية له)
 جنون جنّان في جنان هام بالتفاح..
بعبع3
 دعونا من هذا الشاعر ومن نعيقه السّمج  ..وتعالوا نؤثث الوقت بطريقة أفضل.. أعرف حكاية مخالفة تماما لما كان يهذي به ..حكاية البقرة السمينة الزرقاء..
( يتحلّق حوله الجميع في اهتمام متزايد رغم حركاتهم الميكانيكية وتنسدل على الشاعر ظلمة الخشبة وقد تركزت الإضاءة على البعابع)
بعبع 1( يطوّح برأسه وهو يكاد ينكفئ)
 ولما  البقْ.بقْ.بقرة؟؟  
بعبع3( وكأنه لم يسمعه..)
يُحكى أن بقرة نحيفة بيضاء، هدّها  الشبع ،فقصدت مرْجا قريبا منها. .مرْجا من الأفيون..
البعابع (في انتباه زائد)
 مرجا من الأف..أفيون؟؟
بعبع3
كانت تظنه برسيما. .فأكلت ..أكلت حتى...(ثم يصمت ،ويذرع الغرفة جيئة وذهابا والبعابع تتبعه وكأنما علقت بصوته)
بعبع4
 حتى ماذا؟؟
بعبع 3 ( مُعيدا السرد بشكل ميكانيكي علّه يتذكر)
 بقرة سمينة زرقاء، مرحت في مرج من الأفيون.. كانت تظنه برسيما ..أكلت ..أكلت حتى..(ثم يصمت من جديد)
بعبع 1
   وبعد ذلك ما الذي حصل ؟ أجب ..حتى ماذا؟.. حتى ماذا يا هذا؟؟
بعبع5
   حتى  ماتت..(يركز عليه الضوء.. شخص غير واضح  المعالم  يلبس ملابس قديمة متنافرة الألوان. .ياقة القميص ضخمة وربطة العنق صفراء ضامرة متدلية فوق السترة   الخضراء الفضفاضة والسراويل طويلة حمراء   تغطي حذاء ضخما شبيها بحذاء مهرج السرك..)..نعم  حتى ماتت شبعا أو قل شبعت موتا...
 أعرف حكاية أخرى أمتع، لا  علاقة  لها بالبقرة تماما  سأسردها عليكم.. يُحكى أن بقرة حمراء فاقعة مزركشة الألوان ..
بعبع 3
   أهي صفراء فاقعة أم حمراء قانية ؟؟
بعبع 2
 صفراء أو حمراء لا يهمّ ،المفيد أنها فاقعة كثمرة البندورة الشهية..
بعبع 5
   لا.. أنا أريدها مزركشة حمراء وصفراء وخضراء وزرقاء في ذات الوقت تماما مثل ملابس الروبا فيكيا..(ثم وكأنه  يبيع..  يصيح وسط البعابع رافعا ملابس غير مرئية  بيديه ) روبا فيكيا ..روبا فيكيا.. اكيا..اكيا.. افرز والبس ..بالة جديدة.. افرز والبس ..بلاش فلوس.. بلاش فلوس (ثم كمن ينتبه إلى أنه يتحدث عن شيء آخر ..يقف مكانه ويستعيد وضعيته الأولى  يدور وينفجر ضاحكا مع رذاذ من بصاق ) تصوروا بقرة مزركشة ..تتهادى في مشيتها ( يمشي على الركح في حركات مضحكة مثل البقرة الحلوب ويخور مووه..موووه.. ويستطرد) تتهادى وسط حقل من برسيم مخطط  بالطول والعرض أو..أو...(بانبهار)بقرة من قماش التويد الإنجليزي المعتبر يا عيني ..ترتع في..
بعبع4
  (مقاطعة في خبث) وإن هبّتْ ريح ماذا يحدث لبقرة القماش تلك؟؟
البعابع( بصوت واحد ساخر)
 تطير ويبقى حقل البرسيم..هاهاهاها ..هاهاها..
بعبع 5(منفعلا بعض الشيء ومتهكما في غيض ..بصوت خيشومي)
 تطير ويبقى حقل البرسيم ..لا ..ظرفاء ..ظرفاء حقا.
بعبع 3( يعود إلى سرده)
 هذه البقرة التي ليست سمينة ولا زرقاء مرجت في مرح من الأفن.. ما كانت تظنه برسيما لذيذا.. أكلت ..أكلت حتى نسيت لونها.. أرادت أن تخور فقالت ..بعع ..بععع (ثم محملقا في من حواليه وكأنه يحاول أن  يرى أو يقدّر صدى البعبعة على كهوف الوجوه ..ولكن لا انفعال ولا ردة فعل تذكر ..فكأنما العيون ميّتة..)
بعبع 2
    بعْ.. بعْع. .بعد أن فقدت صوتها ما الذي وقع للكمثرى؟ أنا أعرف أنها لا تنضج إلا في الماء والمشمش لذيذ يقطر نحلا، تتدلى منه سيقان الكرز ..وتفوح منه روائح العناب..
الشاعر( يقفز من ظلمته.. ويقترب منهم محاولا قطع السرد)
 يا إلهي ..ما هذا؟؟ ما الذي أسمع ؟؟؟  
بعبع 1
 بع.. بعع.. بعدما سمعتم   قولوا لماذا نتحدث عن السمكة العملاقة في حقل البرسيم؟
بعبع 2
 لأنها نسيت لونها. 
بعبع3
  لا بل لأنها نسيت صوتها.
بعبع1 (بصوت كالنشيج)
- وأنا نسيت اسمي ووجهي وتضاريس العمر ..دمِيَتْ قدماي من الموج ..أبحث في شباكي عن كنز.. وأُمنّي النفس بعروس البحر التي سمعتُ عنها في حكايا البحارة القديمة.. فأجدها  تمور في حقل البرسيم  آ.. في حقل الأف ..الأف...
بعبع5
 - أفن هذا الزمان. .بقرة كمثرى ..بقرة سمكة ..بقرة روبا فيكيا ..أفن ومثقوب هذا الزمان ومهترئ.. فيه ثقوب تخرج منها الجرذان (يخرج أصابعه من ثقب  في جيب سترته وهو يكاد ينكفئ كمن فقد اتزانه)
بعبع 4
  (مُحاولةً إضفاء جو من المرح المشروخ بعد أن كادت الكآبة تُحكِم قبضتها على المكان)  
 نحكي عن بقرة سمراء كانت على موعد مع الثور.
البعابع(كالمستيقظ فجأة وبصوت واحد كالجوق)
 مع الثور؟؟
بعبع4
 - كانت تتهادى في حقل البرسيم، تمشي في دلال وتغنّج وترسل له نظرات العشق الجارف (تحاول تجسيد الحركة فتمشي برشاقة وتحرك ردفيها من تحت الملية و ترشق البعابع بطرف نظراتها وهي تتبعها وعيونها تقطر شهوة وحيوانية  وتواصل بصوت تشوبه بحة لذيذة) فتلتهب عيناه الخضراوان ويق...
بعبع 1
 فيقفز ويغشاها بتوهّج..
بعبع 4
 ( تومئ بسبابتها وبطرطقة خفيفة  من شفتيها أن لا) 
بعبع5
   يقترب منها ويقدّم لها برسيمة بين شفتيه قبل أن...
بعبع4  (نفس الردّ والحركة )
بعبع 2
  يقصُر ويطول ويقسم أن لا بقرة إلا هي..
بعبع 4( نفس الرد ولكن بأكثر تغنج)
بعبع 3 (في شبه لهفة)
  يقْبَل بها خليلة ويقبّل البرسيم التي تمشي عليه وكمقبلات...
الشاعر( مقاطعا في حدّة وانفعال شديدين  )
 بل يقرف منها ومن تغنّجها المصطنع.. كما أقرف أنا منكم ومن هذه المهزلة..(تنفرط البعابع من حول التقازة وتنظر إليه كالمستيقظ من حلم لذيذ.. ويضيف)ما الذي أصابكم؟ ماذا دهاكم؟؟ما هذا الهراء ؟؟عمّ تحكون في ركاكة مملة؟؟؟ أيُمكن أن يصل بكم الإسفاف إلى هذه الدرجة؟ أعقول آدمية أنتجت هذا السبك المقرف  أم لوثة أصابتكم فنطقتم دون أن تعوا ما تقولون؟ ماذا أسمع بقرة خيار ..بقرة قماش ، بقرة سمراء.. وبرسيم مزركش  وأفيون وثور؟؟؟ هل هذا معقول.؟؟.
بعبع 4
 اهدأ.. اهدأ.. هل تريد أن أنظر في المسبحة وأقرأ لك الكف ؟؟
الشاعر( بحنق أكبر)
  كفّوا عن هذا التهريج و أفيقوا مما أنتم فيه، وإلا جرفكم الطوفان..".العزُوزة  هازّها الواد وهي تقول العام صابة".
بعبع 3
 (يتكلم من بين أسنانه في غيظ لا يستطيع كتمه)
 عاد  ينعق من جديد كغراب أصلع..
الشاعر
  أنا لا أنعق، بل انتم الذين تنعقون وستنشرون الخراب الذي في داخلكم من حولكم إن واصلتم ..كفاكم هذيانا و أفتحوا أعينكم على الخطر الداهم..
                                      تتغير الأضواء وتتحلق البعابع حول الشاعر وهو مشدوه، وتبدأ في الدوران ..تدور وتدور في صمت تحت هالة الأضواء الدوّارة والشفافة وتتّخذ مع مرور الوقت هيئات عدوانية كمن يتحفّز للانقضاض وفجأة ينفجر أحدها
بعبع3
    ماذا تريد؟؟ وعمّ  عميت؟؟..عم.. عن  معاذ؟ معه معن ومعين الأعمى.. عماه عمّه عمها وهمعا فمعط و معظ إثر عماه وعمّ ومعى..
بعبع 1
  نعم ،ماذا  تريد منا؟ وعد عوى  فوعى...
بعبع 4
   نعم. .نعم.. يا صاحب القاض والقضقاض والإبرة والمقراض ،اعطني قاضك وقضقاضك وأبرتك ومقراضك، وحين أملك قاضا وقضقاضا وإبرة ومقراضا  أرجع لك قاضك وقضقاضك وأبرتك ومقراضك..
بعبع 2
    وإن يك، فلماذا تركتَ ناقتي تأكل الهعخع والخعهع؟؟
بعبع 5
  ..أنت على صواب.. عبتُ عليه ما باعني فبعا وبغى و بعى..
( تضيق الحلقة وبشكل أسرع) 
بعبع3
 عم  معيتَ عَذْ مُعان معه نميع وعَمْن الأمعى  معاه عمّه معها وهمعا فعمط وضمع إثر عماه فمعّ ومعا آآ (بصوت يشبه المعي)
بعبع 5
  بعت عليه ما عابني فعبا وبغى وبععْعَا.. ى ..
بعبع 2
     لماذا ترقت ناكتي تأقل الهععع ..خععع
بعبع4  (   بصعوبة واجهاد بيّن في النطق)
    يا صاعب القاعض والقضعقاعض والإبرة والمقعراض إعع..طني قاعضك  وقضعقاعضك  وابرتك ومقعراعضك وحين املك قاعضا  وقضعع قاضا  وعبرة ومقعراضا أرجع لك قاعضك ووقضقاعك وعبرتك ومقعر رعع.. قع  قعع..
بعبع 1
    دوع وععى فعوى..ووعع.. ععع

(تتواتر الجمل، يرتطم  بعضها ببعض في أيقاع متسارع ؛حركة وقولا، تتقاطع أشلاؤها في البدء  لتُكوّن نتفا صوتية تُحدث قرقعة  في وتيرة تصاعدية، ثم تُسلخ وتشرخ كل الصواتم تدريجيا حتى تُطمس وتصبح مجرد تسلسل من المعي والقعقعة والبعبعة المتواصلة في شبه حشرجة)
بعبع3
   مع ..معع..عععع..
بعبع 1
     دعع..فععع..ععععع..
بعبع 5
     بععع..وعععع.
بعبع 2
     هعع..خع.. خععع..
بعبع 4
      قع..قععع..قععععع...
  (الإيقاع أشد سرعة ..تختلط الأصوات فتُشكل همهمات كما الإنشاد وتمتزج رغم القرقعة، والأجساد تتثنى وسط التخميرة الصوتية. .كل هذا والبعابع تحاصر الشاعر وتضيّق عليه الخناق وتدور من حوله فتشعره بالدوار...وتتواصل الغمغمات العاوية التي تعلو لتصبح صياحا بدائيا، وتتحول تدريجيا إلى سيل من الصراخ المصحوب بحشرجة ..يصاحب ذلك كله دوار توحي به الإنارة.. والموسيقى...فجأة تُغير البعابع حركاتها فتنفرط الحلقة ..ويمسك كل منها ببطنه   ثم بلعومه في إجهاد كبير ويرتمي  على الأرض يتلوّى كمن عصف به ألم مفاجئ حاد ..تبرز العيون من المحاجر...وتتفجّر الأفواه قيئا أصفر كالقيح أو كما فيضان البالوعات إثر يوم شتائي ماطر، ويعلو الخشبة  دخان أزرق كثيف مشوب بسواد... ويجسد ذلك كله إيقاع ضوئي وحركي وصوتي متناسق..)
بعبع 3
( وقد هدّه الألم وكأنما سكاكين حادة تقطّع أمعاءه يحاول أن يمسك برجل الشاعر كمن يستغيث فلا يستطيع..)
    ععع....ععععع...عععععع ..عععععععع  (قيْء)
بعبع 2
 (يضرب رأسه بنعله ليُخرس أصواتا استبدت به وسياطا تلسعه من الداخل) 
     هع...هععع ..هعععععع...هععععععععع  (قيْء)
بعبع4
 ( تحاول جاهدة الا تتعرى وهي تتلوى ترفع يدها اليمنى الممسكة بالمسبحة كمن يطلب الرحمة..)
        قع..قععع..قعععععع....اععععععععع..( قيْء)
بعبع 1( وقد تكور من الألم المبرّح...)
        أعع...أعععع...وُععععع....أأععععععع...( قيْء)   
بعبع 5 (كمن طحنته صخرة..)
          بُعْع.. بُععْوآآ...بعععع...(قيْء)
الشاعر( في شبه حُمّى وقد انتُشل  من تخشبه)
يا إلهي ما هذا..؟؟كنت أظنها دعابة ثقيلة سمجة تجعلني أخرج عن طوري أو مناورة يريدون بها تخويفي...وإذا هي كارثة حقيقية رهيبة ..ماذا أرى؟؟ إسهال من قيْء لزج نتن كما رائحة  المراحيض (يتأفف)  يا للسماء ...المساكين.. ما الذي أصابهم؟؟ أهو الطاعون أم داء مستشرٍ لا أعرف مأتاه؟؟
(يسرع إليهم تباعا، يحاول المساعدة ولكن بلا جدوى فالقيْء متواصل...يظهر عليه الاشمئزاز والقرف من جديد ورغم ذلك يتعاطف...)
        مساكين ..مساكين إن واصلوا.. سيقيئون أحشاءهم كلّها (ثم كالمحتار) ماذا أفعل؟ ممن أطلب النجدة؟       
 (يتجه بسرعة إلى أول باب يعترضه ويدق بكلتا قبضتيه صارخا..)
افتحوا الأبواب...افتحوا الأبواب...كارثة ..النجدة ..النجدة.. هُبوا إلى الطوفان..(.ثم يقصد بابا آخر فآخر مطلقا عقيرته بالصراخ ولكن بلا طائل..     
   فجأة تتغير الأضواء فيلتفت ويشاهد من خلال الدخان الأزرق المشبع بالسواد نتفا من ضوء... يقترب منها سريعا مشدوها ويقلع عن طلب النجدة..)
 ما هذا؟؟ ما فَراش الضوء هذا؟؟أأنا في حلم أم يقظة؟؟ ما الذي أرى؟؟ حروف تتطاير   من  فقاقيع الدخان والقيء؟.. أهذا ممكن؟ لا بدّ وأنني أحلم أو أنه أثر الأصوات المفككة التي كنت أسمع والدّوار الذي أصابني بعدما  تحلق حولي  هؤلاء المجانين ..آه ..ماذا أبصر..؟؟حرف السين ( يفرك عينيه كمن يتأكد) نعم حرف  السين ..يا إلهي كم هو جميل ومهيب في سناه و لمعانه.. وهذا حرف الرّاء يتحرك في رشاقة فرح الفراش.. وتلك الفاء ..الفاء ترفّ مع القاف كجناحي خطاف ..وهذا ..هذا الألف كالرمح شامخ كعواتي النخيل ..والنون في  تعرجها كفلقة موج البحر..
يحاول اللحاق بالأحرف ..يمد يده نحوها.. يتعثر ..ينزلق من جراء القيء وينكفئ.. ينهض ويعيد الكَرّة مطاردا الفقاعات التي تتموج أحرفها وتشكل كلمات فريدة ثم تتلاشى.. تتزايل   ..ثم كمن يفيق من لذة  على فجيعة عاصفة يصيح كالموتور..
         كارثة.. كارثة.. كُفوا عن القيء أيها الحمقى.. أنتم لا تتلفون أحشاءكم وإنما أصواتكم.. وسيجفّ النبع. .هذا انتحار صوتي أو جريمة دُبّرت بليل.. كفّوا.. كفّوا أيها المجانين. .لقد أهدرتم ما به تنهض أجمل القصائد وتنضّد إنسانية الإنسان. .كفاكم  هكذا قيئا.. ألا تسمعون؟؟
ولكن البعابع لا تجيب وتواصل القيء والحشرجة والتلوي....يقف الشاعر وسط الخشبة منهكا ويتمتم في شبه إحباط..
 لا فائدة  ..قُضي الأمر ويبدو أنني سأظل وحيدا أنعق في سباخ الكَلِم والملح هذه، وأحط على جماجم الأصوات..





                                                      ستار
   


الفصل الثاني


قاعة صغيرة مصممة بإحكام..تتوسّطها  شاشة عملاقة خاوية... يؤثث هذه القاعة ما يدل على أنها فضاء علمي  جدّ متطوّر...حواسيب غريبة وخرائط  جينية ورسوم لمتحوّلين أو إنسان المستقبل المخبري.. أربعة كراسي وثيرة في الناحية اليمنى من الخشبة وباب أوتوماتيكي مقابل، مقفل..
يجلس على بعض الكراسي الوثيرة  ثلاثة علماء ..يثيرُ جدّهم المبالغ فيه وحركاتُهم المتكلّفة وهيئاتهم ولباسهم الكثير من السخرية.
فجأة يُفتح الباب ويدخل رجل مهيب في الخمسين  وخط الشيبُ شعره وفوديه و لحيته المصفوفة في عناية كبيرة..
 يلبس هذا العالم صدرية بيضاء ويحمل بين يديه فأرا غريب الشكل كبيرا مشدودا إلى سلسلة رفيعة. .يسلّم  على زملائه ويأخذ  مكانه على الكرسي الوثير الفارغ ..ثم يضع ساقا على ساق ويمسّح  على الفأر الغريب ويستهل القول.               


عالم الجينات الدكتور قُصَيْ
     مرحبا يا سادة.. لقد استدعيتكم لنتناقش في أمر جلل بعد أن طلبت  من فريقي  أن يريكم هذا الفيديو.. ما رأيكم  في ما رأيتم على الشاشة العملاقة من خلال هذه اللقطة الحية المسجلة؛ أليس الأمر جللا؟؟ أرأيتم الحالة الصعبة لهؤلاء المرضى ولمستم فداحة هذا الداء الذي يصيب الأصوات ؟؟
عالم الصوتيات ( بصوت خيشومي)..
     نعم داء عضال في ما يبدو ..لكنّ ظواهره كثيرة و مربكة.
عالم الحنجرة (نابحا)
     إنه داء محيّر فعلا..
عالم النفس(بشعره المنفوش ونظاراته الصغيرة)
   وفيه من الصراخ والتلوّي الكثير وكأن المرضى صرعى..
عالم الجينات (بهدوء)
    هؤلاء المرضى ليسوا صرعى  أو دراويش ،وإنما أصابهم داء غريب لم يسبق له أن ظهر من قبل على وجه البسيطة في ما يبدو..
العلماء الثلاثة (بصوت واحد )
     وما ذاك  الدّاء؟؟؟
عالم الجينات (مُمرّرا  يده بلطف على الفأر الغريب )
    إننا لا نعرف عنه إلا   القليل.. أعراضه أعراض طاعون  ،ولكنه يصيب الأصوات..
العلماء الثلاثة( في استغراب)
   طاعون يصيب الأصوات ..؟؟  
عالم الجينات (مواليا)
    نعم ويتلفها كما الألياف في البرك الآسنة.. ألم تلحظوا ذلك عبر القيء؟؟..ألم يطارد الشاعر أمامكم الكلمات والأصوات المتزايلة ؟؟
عالم النفس (بشعره المنفوش وحركاته المتشنجة المضحكة ومن وراء نظاراته الصغيرة )
    كنت أظنه   يهذي...
عالم الصوتيات (بصوته الخيشومي)               
    ثم إن الأصوات  تُسمع ولا تُرى.. فكيف له أن يطاردها؟؟    
عالم الحنجرة (في شبه نباح)
      لقد صوّت المرضى و قاءوا  ورأينا مع الشاعر حروفا وكلمات تتطاير وتختفي.. ولكن كنتُ أعتقد أن ذلك حصل لسبب آخر..
عالم الجينات
       لا بل للسبب الذي ذكرتُ..   
عالم النفس (مشاكسا)
       وما يدريك..؟ ..وما الذي يجعلك متأكدا لهذه الدرجة.؟.
عالم الجينات
     لقد ارتبط الأمر في كل مرة بفقدان الأصوات.
عالم الحنجرة
     وهل انتشر الداء في أماكن أخرى..؟
عالم الجينات
     لا .. من حسن الحظ ..لم يظهر إلا في حارة قديمة بالمدينة العتيقة  ..وبالتحديد في "وكالة بن معتوق" قرب الأسواق  حيث يقيم هؤلاء المرضى الذين كنتم تشاهدون..
عالم الصوتيات
       وكيف كان المنطلق..؟
عالم الجينات
         ظهرت أعراض الداء في البداية ،فجأة على بائع الأسماك في السوق المركزية ذات صباح  ،بينما كان يمدح سلعه ليُغري الزبائن...
(تزْرَوْرق الشاشة وتُضاء ...يظهر جناح من سوق كبيرة صُففت  فيه الأسماك  بأنواعها  بعناية كبيرة تحت أضواء فوانيس ساطعة ..الباعة يتصايحون ويشهرون أسماكهم ،والحرفاء كُثرٌ يتنقلون بين السلع يقلُبون ويشترون...
 يقف سماك الوكالة وراء مبسط سلع يضع قطعا من الثلج على أسماكه ويمثل كلام عالم الجينات...)
               أسماك لذيذة طازجة ..ما زالت ترفرف ..وتعج بالحياة..تريلية..ورقة ..غزال وقاروص ومناني  ومرجان..يا مرجان...
أسماك لذيذة وشهيّة.. مرجان للشفاه المرجان..(يغازل إحدى الحريفات الهيفاء التي تمر بالقرب منه في تغنّج..)..أحلى طعم لأحلى فم..أحح...أعع..( وفجأة تغيض نظراته ويمتقع لونه وتحتقن أوداجه ويسقط على الأرض في شبه حشرجة ويتحلّق حوله الباعة والمشترون.).
أحد الزبائن
     ما به ؟،ما الذي أصابه؟
بائع أول
      لقد كان على حال حسنة...لعله صَرْع ..من عنده  مفتاح ذكر؟ ..مفتاح ذكر؟؟..لا أحد؟
زبونة في سفساريها
      لا ليس صرعا ..بل هي أزمة قلبية في ما يبدو.. يا شومي ..   الراجل باش يموت وانت تلوّج على مفتاح ذكر ..أطلبوا الإسعاف ..أطلبوا الإسعاف.. ياديني..
بائع ثان
     لا تخافوا لقد أصابته سهام العيون العسلية وكادت تقضي عليه.. عيون الحريفة التي مرت من أمامه منذ حين ..لقد كان يلاحقها من زمان وهي تصدّه في كل مر ة.
الزبونة
 لا تمزحوا ..الرجل في حال صعبة.. أنظروا إليه ..إنه يتلوى ويجب إسعافه...
تنطفئ الشاشة وتختفي السوق، تُركز الأضواء على العلماء من جديد ..ويواصل عالم الجينات سرده  بعد أن استقطب انتباه سامعيه.
    لقد أُبلِغْتُ بحالته صدفة عن طريق أحد الممرضين يعمل بالمستشفى الجامعي ويداوم عندنا أيام راحته بمخبر الأبحاث الجينية ..وزاد اهتمامي حين علمتُ أن نفس الداء تفشّى في بقية متساكني" الوكالة": بائع الخضار وبائع الملابس القديمة والمعلم والسمّاك  و"التقازة" ولم يسلم حتى الآن إلا الشاعر..
عالم الحنجرة
    إذن هي عدوى في ما يبدو..
عالم الصوتيات (مستغربا)
     عدوى اختفاء الأصوات.؟.
عالم النفس
      لذا جمعتَنا في هذا المكان علّنا نجد سِرّ هذه الظاهرة الغريبة
عالم الجينات
        نعم ويجب أن نُسرع قبل أن يستشري المرض في أماكن أخرى من المدينة .
عالم الحنجرة (بصوته النابح)..
 اسمح لي يا دكتور قُصَيْ ،ولكن.. إذا كان الأمر كذلك ما دخلُك أنت بالموضوع؟  أنت تشتغل بالجينات والوراثة، وهذا الداء يصيب الأصوات كما تفضلت.. وأوْلى وأحرى أن يكون المرضى في مكان آخر تحت رقابتنا نحن؛ فهذا من صميم اختصاصنا، فما علاقتك  أنت وعلاقة الطب الجيني بالموضوع ؟؟
عالم الصوتيات وعالم النفس (كالببغاء)
     نعم ما علاقة الطب الجيني بالموضوع ؟
عالم الجينات
     العلاقة وطيدة يا دكاترة وسأبينها لكم لاحقا .
عالم الصوتيات
     ما هذا التخريف ؟؟
عالم النفس
 (متهكما)العلاقة وطيدة جدا يا سيد ... ألا تعرف أنك تتكلم وتنطق بجيناتك؟ فلولاها لكنت أخرس ( غامزا بعينه اليسرى من تحت نظاراته الصغيرة   ،فينفجر عالم الصوتيات وعالم الحنجرة ضحكا) 
    ها ها ها هاهاها
(فجأة ينط الفأر الغريب ويُغير على العلماء الثلاثة نابحا ومكشرا عن أنيابه وعالم الجينات يشد على السلسلة حتى لا يفلت...فتنقطع ضحكاتهم ويصيبهم الهلع ويصعد كل منهم على كرسيه الوثير وهو يرتجف هلعا).
عالم الصوتيات (بصوته الخيشومي)
    ما هذا ؟..فأرٌ كلبٌ..؟؟
عالم الحنجرة
     فأر نبّاح ، هذا لم يكن يخطر لنا على بال. .إنها أعجوبة القرن ..   
عالم النفس
    ويدافع عن سيده بشراسة.. أجئتَ بنا هنا ليستهدفنا فأرك ..آ  كلبك؟؟ ألا تعلم أن هذه الحيوانات ناقلة لداء الكلب؟  هيّا أمسكه ..أمسكه  وأبعده عنّا وإلا سنرحل بدون رجعة.. 
عالم الجينات(مبتسما ومهدئا من روعهم  )
    لا تخافوا ..لا تخافوا ..لن يمسّكم بسوء.. ولكن التزموا الهدوء ولا تثيروه.. عودوا إلى أماكنكم  من فضلكم..( يعود العلماء إلى أماكنهم في حذر  شديد. .يجلسون ..وبعد فترة من السكون يواصل عالم الجينات..)
     لقد جمعتكم لأن الأمر يخصّكم كما ذكرتم، وأريد أن أستمع إليكم أوّلا قبل أن أطلعكم على فرضياتي والنتائج المعملية التي توصلت إليها.. فربّما نستطيع بتضافر جهودنا  كشف سرّ هذا الداء الغامض العضال.
عالم الحنجرة
      داء عضال ..، ولكن الثابت أنه يصيب الحنجرة كما رأينا وهذا لا يختلف فيه اثنان..
عالم الصوتيات
     نعم إنه مرض يصيب الجهاز الكلمي  بصفة أدقّ ..ولكن أظن ،إنْ صدق حدسي، أنها ظاهرة لسانية إيجابية (تلتمع عيناه في شيء من الجد الهزلي ..)
عالم النفس
     ظاهرة إيجابية ؟؟ ماذا تقول وبماذا تهذي؟؟ نتحدث عن مرض خطير منذ ساعة  ونيف وأنت تقول أنه إيجابي ،لا..، جُنَّ الدكتور..
عالم الحنجرة
      أيعقل أن يكون هنالك مرض إيجابي. كيف ذلك؟؟ ما هذا الهراء  ؟؟ ما هذه الحماقات؟؟ ؟
عالم الصوتيات
      كُفّا عن النباح واسمعاني حتى النهاية..
عالم النفس
     لا لن نستمع إلى مثل هذه الترّهات ..ولسْنا هنا لإهدار الوقت.. قل شيئا منطقيا وإلا فالتزم الصمت..
عالم الجينات
      ولماذا لا نستمع إليه، فلربّما وجدنا في كلامه ما ينير أبحاثنا.؟.
عالم الحنجرة
      أفي مثل هذا الكلام ما يفيد ؟ مالك يا دكتور قصي..؟
عام الجينات
      أرجوكما فلنُصغِ إليه وبعد ذلك نناقش  ونقيّم..
عالما الحنجرة والنفس(على مضض)
       حسنا فليتكلم..
عالم الصوتيات (دائما بصوته الخيشومي وفي جد مضحك)
إن هذه الظاهرة لسانية بامتياز وهي متّصلة بتعامل الأصوات والملاحظ أن أحدها يسيطر  على بقية الصواتم، ولكنه يتضخم إلى درجة أنه يبتلعها كلّها وهذا الجديد في الموضوع فتغيض نقاط الارتكاز الأخرى .
(تلمع عين الشاشة العملاقة وتظهر عليها البعابع وتنخرط في حديث ينتهي إلى استحالة وحشرجة)
بعبع 4
(وقد تحلقت حولها بقية البعابع تتجه بالقول إلى بائع الخضار لتقرأ له الطالع متفحصة سبحتها في اهتمام)
     قتلي اسمك الهاني ..وابيّك صالح..   
الهاني قلبك هاني ..مسعاك ثابت وانت فالح ..وغيرك الّي يحفر وراك  ما عندو وين يوصل وراهو طالح ..والسبحة ماتكذبش.. انت فالح وطريقك أخضر..أذاك علاش حاسدينك وهازين منّك وكدهم، وكان يلقوا يبيعوك فلّي تكسب ويخرجوك مالدار  ويقولوا خلي تخرب.. ولكن ما تخافش..معاك سيدي عبد السلام  لسمر بوعلام.. والي معاه عبد السلام ما يُضام.. بيّض الكف وخلي السبحة تخف (وفجأة بعنت شديد) بييضض..بععض الكف ..الكهف.. الكععف وخلي السبحع..تخفف..تخععع
بعبع 1
      الخمسة إلّي لحقوا بالجُرّة..لا.. ستة والا سبعة.. لحقوا  مول العركة المُرة  المشهور الدغباجي..المش. .المشعور   ..عوعوو...
بعبع 3
      أقحوانة تمسك بفمها كلبا يقعى.. كان جالسا على أسْته حين أمسكته  الأقحوانة ..أمم..عمسكته  العقححعوانة . (وبإجهاد بيّن) عمسكته..عمسكتهُعْ..هُعْ..عْعْع...
(يتدخل عالم الصوتيات مقاطعا فتنطفئ عين الشاشة وتختفي البعابع.)
    هو ذا ما أشرتُ إليه.. إنه حرف العين يطغى فيمتصّ ما حوله..
عالم النفس
      إيه ..ثم ماذا بعد؟ ما الإيجابي في كل هذا؟
عالم الحنجرة..
     أيُعدّ طمسُ الأصوات وتفكّكها وتلاشيها إيجابيا؟ أيُعقل هذا؟  
عالم الصوتيات (مقاطعا في حدّة)..
       تلك مرحلة بدئيه تتلوها ربما مرحلة أشد إثارة.. مرحلة حاسمة في تطور الأصوات والجهاز الكلامي..
عالم النفس
      وما هذه المرحلة يا عبقري زمانه؟
عالم الصوتيات
      إنها، إنْ صدق حدسي، مرحلةُ التثوير الصوتي الرهيب في ظل التّغيرات التي يشهدها العالم وفي ظل قصور اللغة على مسايرة كل أنساق التواصل ..ولذلك سيتأقلم الإنسان مع غابة التواصل الجديدة هذه، ويُنتِج أدوات تواصلية غير مسبوقة تثري جهازه الكَلَامِي. .فلا يحتاج إلى وسائط أخرى.. وذلك بعد وقوع الانفجار  الصوتي الأعظم  وأظن أن هذه بداياته ..فيعود الإنسان إثره إلى المرحلة الذهبية في الرضاعة مرحلة الثغثغة ..فتنشأ آلاف نقاط الارتكاز الجديدة وآلاف الصواتم..( تظهر البعابع على الشاشة من جديد في شبه محضنة تلبس فوق ملابسها العادية حفاظات تشدها بمشابك كبيرة وتثغثغ مثل الأطفال الرضّع والشاعر يقوم بدور الحاضنة).
بعبع 5
      دع..نغا..برر.ززز...زسسسخ..
بعبع3
       سينبغ..تكللل...كغغ..كغغغ
بعبع1
         تتا..تاتا ..دادا..ماما..
بعبع2
      نانا..نع..نغ..يغغغ...
بعبع4
 (تضحك ضحكا شديدا  كالأطفال الخدّج...
فينفجر العلماء  ضاحكين) 
عالم الحنجرة
        ها..هههه.ههههها..ما هذه  الاكتشافات الفريدة التي أبدع خيالك ؟؟ يظهر أنك أكثرت من مطالعة بعض الكتب الخيالية حتى أفْسدَت عقلك.
عالم النفس (ساخرا)
       ولم وقفتَ عند مرحلة الثغثغة بالمناسبة.؟ .لماذا لا تعود شخوصك إلى حالة الإنسان البدائي الأول ...؟؟؟
عالم الصوتيات
          هذه فرضية غير مستبعدة. ..حينها تتعلم الأصوات بتقليد الحيوانات من حولها..
عالم النفس
        هذا هراء ..هراء وليس من العلم في شيء.
عالم الحنجرة (بتخابث)
        -  تريّثوا.. تريّثوا.. كيف؟ ..كيف ذلك ؟؟ أظن أنني فهمتُ ما يريد أن يقول..(يُسلط عليه ضوء ساطع فينكفئ على أربع يمشي كما الإنسان الأول.. ويضع في كل مرة على وجهه تباعا أقنعة لحيوانات مختلفة كالذئب والأسد والفيل والسعدان والجاموس الوحشي  متخذا في كل مرة هيأة من هيئاتها ومقلدا أصواتها ، وأصواتٌ خارجيةَ تردد ذلك كالصدى ..فتسري في العلماء عدوى الضحك ..وينبح الفأر العواء وقد أثارته أصوات الحيوانات الوحشية.).
عالم الجينات
          يا سادة. .يا سادة..  كفانا هزلا ولنتقدم في النقاش ..إن فرضية الدكتور زكي على غرابتها تبدو طريفة..
عالم النفس (بتهكم)
        طريفة فعلا وفيها اكتشافات مثيرة...
عالم الصوتيات(بشيء من الغضب)
       أي نعم اكتشافات مثيرة ولكنها عصيّة على فهم أمثالك.
عالم الحنجرة
       وأهمها الانفجار الصوتي الأعظم (غامزا  بإحدى عينيه ومحركا سبابته بشكل ساخر..)
عالم النفس( ضاحكا وكرشه تهتز)
      لقد كان انفجار الحماقة الأعظم..هههههه  هههههه.
                                    (ضحك جماعي)  
عالم الصوتيات ( بصوته الخيشومي وقد قام من كرسيه).
     إنني أحتجّ ،وإن تواصل تحقيركم هذا فسأنسحب وأقاطع الجلسة..
عالم الجينات
     لا يا دكتور زكي.. أرجوك  لا تغضب ..إنّه مجرد مزاح ليس إلا..
( يجلس عالم الصوتيات في شبه نرفزة ويواصل عالم الجينات كلامه..)ولنمرّ الآن إلى الدكتور مانع..ما رأيك بالأمر  يا دكتور؟؟
عالم الحنجرة
     سوف لن أطيل عليكم ،لأن الأعراض واضحة... برأيي الأمر خطير خاصة والمرض مصحوب بالقيء ..لقد قاء المرضى قيئا أصفر لزجا مُقرف الرائحة كما ظهر من اشمئزاز الشاعر.
عالم الصوتيات
     لا.. القيء أزرق.
عالم النفس
      لا بل أرجواني. 
عالم الحنجرة
      لا بل أصفر.
عالم الصوتيات
      لا أزرق.
عالم النفس
      أرجواني يعني أرجواني...
عالم الصوتيات
      وأنا أؤكّد أنه أزرق ولن أغير رأيي
عالم الحنجرة
        أنتما أصابكما عتهُ الألوان دون شكّ ..إن القيء أصفر وسيبقى أصفر..   
عالم الجينات
          أصفر ..أرجواني أو أزرق لا يهُم...وبعد؟ وبعد  يا دكتور مانع.؟.
عالم الحنجرة
         هذا القيء نتيجة لجراثيم فتاكة استحكمت بالحنجرة و البلعوم..
عالم النفس
          و ما علاقة هذا بذاك؟ أنا لم أفهم
عالم الصوتيات(متخابثا لينتقم)
      كيف لم تفهم ؟البلعوم فيه مصران يتأثر سريعا فيكون القيء ههههههها (يضحك عالم النفس مجيبا كالصدى).
عالم الحنجرة(بذيئا)
    أصمت أيها المصران ..مثلك لا يفقه  هذه الأشياء(ثم مواصلا) قلت إن الداء جرثومي في ما يبدو ..وهو يصيب الحنجرة، فتنتفخ وتحمرّ ويصبح المريض غير قادر على الكلام بعد تقلّص المزمار وانسداده .وهو يحس بأوجاع كما وخز الإبر وبثقل وشدّ مؤلم في الأوتار كما شدّ الكلابات يمنعه من النطق .ولا بد من فحص مجهري وتشريحي إن لزم الأمر حتى نقف على سر هذا الداء.
(تظهر البعابع على الشاشة بوجوه ضخمة مصطنعة وقد احمرّت حناجرها من الخارج وانتفخت كما البالونات ،تلبس أحذية  مهرجي السرك لتقوم بتمثيل فرضية طبيب الحنجرة في صمت بطريقة إيمائية، والشاعر يقوم بدور الطبيب ..فيخرج مرّة من فم بعبع مجموعة من الإبر.. ومرة موسى حلاقة من فم بعبع آخر ..ومن فم ثالث كلابات مع قرقعة رهيبة)

عالم النفس (ضاحكا)
    هههههههه...هههه.. ما هذا؟ هذه ليست حناجر وإنما كهوف عجيبة ..أو دهاليز أثاث قديم منسي هههههها..
عالم الحنجرة
    دهاليز أثاث منسي ..منسي(بتهكم) سنرى ما تفجره عبقريتك الفذة ..ها قد جاء دورك يا منسي.. هيا هات لنرى
عالم النفس( وقد استعاد جديته)
     أظن أن الأمر معقّد يختلط فيه الجسدي بالنفسي "الحصلة سيدي" ..برأيي هؤلاء المرضى ضحيّة مرض نفسي عويص يغلب عليه الذّهان الحركي والصوتي ..وله حتما  نفسُ المسببات لدى الجميع خاصة وهم يقيمون مع بعضهم في فضاء واحد مغلق في أرباض المدينة العتيقة...
   حدَسي" الحصلة سيدي" أن حالتهم ساءت حتى أصابتهم حُبسة ( يتطلع في وجوه سامعيه  وحين يلاحظ شكهم في ما يقول يرتبك) نعم حُسبة ظرفية ..آ بُحسة ظرفية..   
عالم الصوتيات (كمن ينتقم)
      لا ظرفة ..ظرفة حبسية..
عالم الحنجرة
       رظفة حُبسية..آآ ..فرظة ..فرظة حُبسية
عالم النفس..(محاولا السيطرة على الموقف دون أن يقوى على ذلك والعلماء يكادون ينكفؤون من شدة الضحك)
          بُسحة ..بُسحة رظفية
عالم الصوتيات
         رَفْسة..رفسة حربية..حَرسة فرظية
عالم النفس
       لا لا..سرحة..سرحة رظفية  (متأففا وسط سخرية جماعية)..لا يهمّ.. لنقل خلل في الوظيفة اللغوية ناتج عن تغيير مرض لحائي ..أتصوّرهم في الدار العربي التي تحدثتم عنها يدورون مضطربين ، عاجزين عن النطق والتواصل وكأنما ثُبتت صخورٌ في حلوقهم "الحصلة سيدي" فلم يعودوا قادرين على الكلام.
(تلتمع عين الشاشة الكبيرة مرة أخرى ..تحت ضوء أرجواني شاحب يظهر عاملان يضعان البعض من المتممات الركحية للإيحاء بفضاء وكالة بن عبد الله ثم ينسحبان. تظهر بعد ذلك البعابع الخمسة وكأنهم تائهون في فضاء لولبي. .يدورون مضطربين أو يتحركون في اتجاهات مختلفة، بعضهم يمسك برقبته أو يدخل أصابعه في فمه  وكأنما يحاول نزع شيء ما يسد حلقه، وبعضهم يحاول النطق وتجاذب أطراف الحديث مع الآخرين ولكن دون جدوى في ما يبدو)
بعبع 1
          أأ..أاا...أأأ
بعبع4
        عع..اع..أععع.
بعبع 3
        ..............
بعبع 5
(مغتاظا لعدم قدرته عن الكلام ، يترجم عن ذلك من خلال حركاته وفمه المفتوح الذي يشير إلى العجز بشكل واضح)..بَهْ..         به ..دد..أأأ.
بعبع 2 (مستعملا إشارات الصم والبكم يوحي هو أيضا أنه لا يستطيع أن يتكلم)
عالم النفس( مواليا)
  ثم يزداد تيهُهم داخل هذا الفضاء ويعظُم قهرهم وغضبهم ( تتوتر حركات البعابع على الشاشة ويعظم قهرهم وغضبهم في صمت) وأتصور إن تواصل الأمر أن تصبح الحبسة حركية فيمشون إن استطاعوا كالمتخشبين أو كالآلات تماما وقد أُفرِغوا من الإدراك والحس والفهم( يمشي البعابع كالمتخشبين وقد أفرغوا من كل حس وإدراك ولكن بطريقة هزلية فيصطدم بعضهم ببعض ويقعون على الأرض على إيقاع ضحك العلماء)
طبيب الحنجرة( مقاطعا ونابحا وقد رُكزت عليه الأضواء فاختفت البعابع)
        ما هذه الشخصيات المفكّكة المُهلهلة  وهذه المسوخ التي أبدعت؟؟ أية خرافات تروي؟ مضحك هذيانك المحموم هذا وشخوصك المهزوزة.
عالم النفس( بحدّة وحركات عصبية)
      هذّب ألفاظك لو سمحت يا دكتور فايز..
عالم الصوتيات
       هو على حق ..كان عليه أن يجرّح أكثر وأن يكون بذيئا إن لزم الأمر، فأنت تستحق أكثر من ذلك ..سخرت من طرحي وها أنت تسوق تفاهات لا علاقة لها بالداء أصلا وبالقيء ..أين رأيت مثل هذه الأراجيز التافهة المهلهلة التي وكأنها خرجت لتوّها من أفلام هتشكوك أو رومان بولانسكي؟؟ أي خيال مريض استلهمتَ منه كل هذا؟؟؟
عالم النفس( بعصبية أكبر )
          أحسنت يا سيد بهمي ..آ فهمي ..يا فريد زمانه ..و يا ألمعي( ثم مرددا بشيء من التحريف)"كان عليه أن يكون بذيئا" ولماذا؟ من تظنان نفسيكما حتى تتهجما علي بهذه الطريقة التي لا تليق إلا بالسّوقى ( ثم متجها بالقول إلى عالم الجينات) ما هذا يا دكتور قُصي عدنان؟؟أجئتُ هنا لأكون هزؤا
عالم الجينات
           معاذ الله ..معاذ الله إنهما يمزحان معك دون شك.
عالم النفس
          يمزحان معي..؟ أنتَ لست جادا في ما تقول ..يشبّهان شخوصي بالأراجيز المهلهلة التي أفرزها خيال مريض وتقول أنهما يمزحان...إن كان ذلك فهو مزاح ثقيل ..ثقيل جدا..
عالم الجينات
          لا تغضب أرجوك ..كن أريحيا ..ولا تنس أنك أنت الذي بدأت بالمزاح وأنهما تحملا تعليقاتك بكثير من الصبر و التسامح ..اجلس ..اجلس أرجوك......حسنا  والآن علينا أن نقيّم ما وصلنا إليه ..لقد أجمعتم ثلاثتكم على اختلاف طروحاتكم أن هذا المرض يصيب الجهاز الكلامي وهذا صحيح ..أليس كذلك؟ ..كما أنكم اتفقتم على أنه مرض مُعد، ولكنكم أغفلتم  جانبا مهما ومحدّدا.
العلماء الثلاثة (معا)
         وما ذلك؟؟
عالم الجينات
           كيفية انتقال العدوى ..لقد قمنا بالأبحاث المخبرية والتشريحية والسريرية اللازمة  ووجدنا أنه لا يصيب فقط الحنجرة والبلعوم والحبال الصوتية وإنما يؤدي إلى تشويهات جينية. ..وأظن إن صدق حدسي وهذه فرضية، أنّه داء جينيي أتانا من خارج الحدود ولا نعلم كيف..، وتفشى بطريقة مثيرة.
عالم النفس (مقاطعا)
         وما علاقة الجينات بالأمراض المعدية ؟؟
عالم الحنجرة
       أظن أن صاحبنا قد اشتبه عليه الأمر حتى أصبح يخبط خبط عشواء
عالم الجينات
       أرجوكم يا جماعة ،كفاكم  سخرية واستمعوا إلي..
آخر الأبحاث الجينية تُفيد أن الأمراض لا تنتقل عبر الوراثة وحسب وإنما عن طريق العدوى الجينية من سلالة إلى أخرى
عالم الصوتيات
       غير ممكن هذا  محض خيال علمي...
عالم الجينات
        لا ممكن ..ممكن يا سيد هاني ..لقد وجدنا كلبا غريبا أُجْريتْ عليه تعديلات جينية في ما يبدو، وصادف أن عضّ احد الفئران المخبرية فتغيّر شكل هذا الأخير بعد أيام من ذلك الحدث، وأثبتت الأبحاث المعملية أن تركيبته الجينية تغيرت، وأصبح ينبح.
عالم النفس (ضاحكا وقد نسي في ما يبدو هو وأقرانه وجود الفأر النباح)
     فأر كلب ..لا حِلو..هههههها
عالم الصوتيات
       صاحبنا متأثر بأفلام الرعب والذئاب العضاضة ..فأر ينبح ها ها ها هههه...
عالم الحنجرة
       ولماذا لا يزقزق كالعصافير بالمناسبة ؟؟هههههههه..هههههههها
عالم الجينات
        ما هذا يا سادة ..أرجوكم ، احترموا الموقف.. الأمر في غاية الخطورة وأنتم تمزحون..
عالم النفس
       ههها..هاهاها ههههه(مواصلا على وتيرة ضحكه الأولى وكرشه تهتز تحت صلعته التي يحيط بها شعر منفوش)...ما يضحكني ليس الفصيلة وإنما الوظيفة الجديدة للكلاب. .آ.. للفئران الكلاب .في المستقبل ستحرسُ بيوتَنا فئران تنبح..هههههها..وستُخيف اللصوص ها ها ها.هههه..
عالم الصوتيات
       ها ها ها... ، إن كان ذلك صحيحا لماذا لا تخلقون لنا  في مخابركم ذبابة ناقوسا مثلا.. نستيقظ على رنينها كل صباح. .تدور في الغرفة  وتطنّ ،تطنّ، ثم ترنّ أو تدقّ ..ترننن ..ترننن، فنستعيض بها عن جرس الساعة هههههه..هههه
عالم الحنجرة
      لدي فكرة أطرف ..لماذا لا تحوّلون لنا ذبابة، فتصبحُ ديكا تصيح عند طلوع الفجر.. ها ها هاها..تَصوّروا ذبابة بعرف ديك ..عرف صغير أحمر متدلٍ .. ترفع خرطومها وتصيح  ..كوكوريكو..كوكوريكو.. أهاااي ..ههههههها
عالم النفس
         ههههههه.ها ها هاها ها ..ويجيبها الفأر النباح هب ...هب هبهبهب.(ثم فجأة تغيض ضحكته ويمتقع لونه حين يرى أن الفأر بدأ في يد العالم في التكشير عن أنيابه فيسال وهو يرتعش ) لا تقل لنا أن  الفأر الذي ت.. تحدثت عنه هو هذا؟

في هذه  اللحظة بالذات ينفلت الفأر الغريب  من  يدي الدكتور قصي عدنان نابحا ويُغِير على العلماء فيقفزون من أماكنهم ويفرّون والفأر النباح يتبعهم وهم يتصايحون، ويدورون في الغرفة/المخبر مذعورين ثم يندفعون خارجها والدكتور قصي يناديهم ويحاول الإمساك بالفأر العضاض بلا جدوى.



                                                                   ستار 
 
                                          


الفصل الثالث




قاعة جلوس فسيحة تزينها رؤوس نعاج وساعة كبيرة حائطية كبيرة ،غريبة الشكل تنبض عقاربها دون أن تتحرك من مكانها. .حيطان القاعة مكسوة بالمرايا وفي وسطها كرسي هزاز يجلس عليه رجل في لباس نوم، وخط الشيب شعره  وفوديه وبعضا من لحيته الأنيقة المصفوفة في عناية كبيرة.. وهو يطالع كتابا ضخما  في علم الوراثة.
من باب في يسار الركح تبرز السيدة رانية قٌصي عدنان في ثياب شفافة، فياضة الأنوثة رغم أنها تجاوزت عقدها الثالث بقليل ،وتنادي..
قٌصي ..قصي.. أين أنت يا عزيزي؟؟ آه.. أنت هنا..( تسرع إليه وهو مستغرق في القراءة في انتباه كبير أو هكذا يبدو رغم نظراته الفارغة من وراء صرامة النظّارات الثمينة ..تجلس بجانبه وتحيطه بذراعيها وتتمسح به كقطة مودُوقة وتقول حالمة):
     آه يا حبيبي ..لقد تغيرتْ حياتُنا بعد رجوعك ...لقد أصبحت رائعا وجبارا تعزف على جسدي أعذب الألحان...البارحة كنت فتيا وفحلا ..فجّرت كل البراكين وزرعت نخيلا من نار وأرجوحة من لهب..
قصي
 ( يعلق الرّجل في حمحمة غريبة هي إلى البعبعة أقرب، دونما اكتراث)
رانية
(تبتعد فجأة في خفة ورشاقة وتبدأ في الدوران في شبه رقصة فالس) لقد طوّحتَ بي في البعيد البعيد ..كنتُ ذؤابة ثلجية مرتعشة.. وداهمني إعصارُ أدغال حار ،فاعتُصِرت ..اعتُصرت حتى تفككتُ ..وتحولتُ إلى حبات من الندى تلاشت مع آخر خلجات الثلج..
قصي ( نفس البعبعة الخافتة المبحوحة المشوبة بحشرجة  )
رانية
 ( بصوت منتش) وتراقصت أمواج النار على إيقاع فحيح الماء وابتعدتْ ..ابتعدتْ حتى كادت تخبو أو تنقطع كالنفس لتعود من جديد مُزلزلة  غاسله و..
(فجأة يقطع عليها استرسال أحلام اليقظة والحركة رنينُ الساعة الحائطية الغريبة الشكل التي تنفتح فيها كُوّة، يخرج منها رأس خروف ميكانيكي ويطلق أربع بعبعات متتالية عنيفة لها نفس الإيقاع ،وتفصل بينها نفس المدة الزمنية ..تقفز السيدة قصي هلعا وتصيح..)
 يا إلهي، كم هو مزعج هذا الصوت وكم هي مقرفة هذه الساعة ..لقد قطعتْ علي سيل سعادتي ..لو لم تكن أنت الذي جلبتَها منذ سنةٍ تقريبا من رحلتك العلمية الطويلة لابننا الذي انتظرناه طويلا لحطّمتُها أو لبِعتُها إلى أحد الباعة المتجولين..
(بعض الصمت ..ثم تستعيد بشرها وحبورها..) ولكن لا بأس ما دمتَ أنت الذي اخترتها، فهي هدية غالية ..ثم إن انقلابا خطيرا حدث في حياتنا مذ أتيت بها ..لقد أصبحتَ على عكس ما كنتَ عليه، تهتمّ بي أكثر مما تهتم بتجاربك المخبرية، ثم إنني لمستُ فيك قوّة وشبقا لم أعهدهما فيك من قبل....تغشاني بضراوة الفحول وشدّتها. .وتترك رائحة غريبة وتنسحب.. رائحة تبن أو صوف ..أو زريبة ..تعبق منك وتزيد في فحولتك.
(تسرع إليه وتنزع من بين يديه الكتاب وتلقي به بعيدا وترتمي بين أحضانه وتواصل في همس..) إنها رائحة جارفة ومذهلة، بدائية وحارّة ..أليس كذلك؟ آه قُصي ..قصي.. كم أنا سعيدة ..سعيدة يا حبيبي..
(يجيب الرجل بنفس الحمحمة التي تشبه البعبعة، ينزع نظارتيه، وتتّقد عيناه شبقا حيوانيا ويضّمها إليه ويدفن أنفه في شعرها ويرفع شفته العليا ويتشمّم كما تفعل الفحول ..ثم يطرحها على الكنبة ويبدأ في نزع منامته ..وهي تضحك في غنج وتتظاهر بصده) آه ..حبيبي ..حبيبي ..ليس الآن. .ليس الآن..
(فجأة تسمعُ حركة مفتاح خفيفة في قفل الباب الخارجي الذي ينفتح في الجهة اليمنى من الركح ..يدخل رجل يلبس كسوة أنيقة وقد وَخط الشيب شعره وفوديه ولحيته الكثيفة المصفوفة في عناية كبيرة ..يحمل بإحدى يديه محفظة كبيرة وباليد الأخرى حقيبة ضخمة ..إنه السيد قصي عدنان عالم الجينات الشهير ..عاد بعد أن قضى سنة كاملة   في أمريكا.. استضافوه بإلحاح  ، فحاضر  في الجامعات والتقى بأشهر العلماء ليطلعهم على آخر اكتشافاته القيّمة ..ينادي.)                                                                          
 رانية ..رانية ..ها  أنا عدتُ ..كم أنا مشتاق إليك يا عزيزتي..
(ثم يستدير بعد أن يطبق الباب، فيتخشّب في مكانه ويترك المحفظة والحقيبة تسقطان...صمت طويل ثقيل كليِل زمن أبدي ثم يهمس في صعوبة وقد أصابه الذهول)
قصي 1
  يا للسّماء رجلٌ يشبهني تماما في بيتي ..ويعانق زوجتي ..لا أصدّق ..لا أصدق غير معقول(يفرك عينيه ) أأنا في كابوس أم في يقظة  . (.؟؟ ثم يمعن النظر ويقترب ..يفك رباط عنقه وكأنه يختنق) نفس الملامح والقسمات والأنف واللحية وحتى فرقة الشعر.. وكأنني أرى نفسي في مرآة ..لا ..لا.. مستحيل ..غير معقول..( يفرك عينيه من جديد ويتفرس ..وفي إشارة بلهاء) أنا.. نعم أنا..(ثم كالمستدرك) لكن أأنا هو أم شخص آخر..؟؟..أنا؟؟ كيف..؟ ولكنني وصلتُ اللحظة فكيف أكون موجودا من قبل في البيت..؟؟ كيف أكون هنا وعلى الكنبة..؟؟ في ثياب النوم  وفي هذه الوضعية المثيرة مع زوجتي وأنا عدت لتوّي من السفر؟؟ لا ..لا ..أكاد أُجن.. أو ربما أنا ضحية تهيئات.. لم لا ؟و..( ثم يستدير ويدقّق النظر من جديد في الرجل وزوجته.. يتقدم منهما حانق الخطى ويفيقُ من ذهوله ويصرخ كالملسوع)
 من هذا يا زوجتي الفاضلة..؟؟؟ من هذا يا رانية ؟؟؟؟
السيدة قصي
 (وكأنما أصابتها صدمة عنيفة تبقى فاغرة فاها لا تجيب.. ثم تطيل النظر فيه وفي الرجل الذي بجانبها والذي تبتعد عنه في رعب ظاهر وهي تستر جسدها في اضطراب شديد)
قصي1
   من هذا يا رانية؟ أجيبي..من هذا ؟؟ أكاد أُجن ..
السيّدة قصي (لا تجيب)
قصي 1
    ( يمسكها من يدها بعنف..) تكلمي ..قولي شيئا ..مَن هذا الخنزير يا خائنة؟؟ أهكذا تقضين الوقت في غيابي وأنا كالأحمق أتحرّق شوقا إليك ؟؟ثم من هذا القذر المتنكر في هيأتي ؟؟ ربما هي لعبة من ألاعيبك الدنيئة حتى لا يتفطن لك احد.
قصي 2 (بنفس صوت قصي 1)
    أتركها وإلا هشمت رأسك.. 
قصي1
     ووقح أيضا ..أنا  هو الذي سيهشم رأسك.. سوف ترى ما أفعل بك (يتشابكان ويسقطان على الأرض في عراك دام يخرج منه قصي 2  منتصرا لخفته العجيبة وقوته الجبارة غير العادية.. تفصل بينهما رانية الزوجة وهي تصرخ..)
        كُفّا ...كُفا عن هذا العراك (ثم تسرع إلى الوراء كمن يريد أن يحتمي بشيء وهي ترتعب.. وبصوت مسلوخ..)  
 من أنتما ؟؟ قولا من أنتما ..أنت وأنت ؟؟ أنا لي زوج واحد.. (وكالمحدث نفسه  وقد انتفش شعرها ونظراتها تقطر خوفا وهي تتعثر إلى الوراء)..غير ممكن ..قصي يتعدّد...يزدوج وكأنما هربتْ صورته من مرآة ..أو كأنما برزتْ نسخةٌ منه..(تغمض عينيها بيديها وتصرخ .).لا.. لا  أغثني يا رب السماوات والأرض ..غير منطقي ..غير معقول...
قصي 1 ( وقد أشفق عليها بعض الشيء دون أن يذهب حنقه تماما..)
       أنا زوجك قصي.. كنتُ في بعثةٍ منذ سنة ونيف وقد عدتُ اليوم ..وها أنا أجدك مع هذا المسخ.   
قصي2
        لا تصدقي.. أنا زوجك  الحقيقي وهذا مُدّع أفّاك.
قصي1
       بل أنا زوجها..( إلى رانية)أنسيتِ البعثة العلمية إلى أمريكا ودموع الفراق والرسائل التي كنتُ أبعثُ بها إليك طيلة سفري؟
السيدة قصي(دون أن تستعيد توازنها كلّيا)..
      لم أتلقّ أية رسالة. .ثم إنك هاتفتَ وعدتَ بعد أسبوع من سفرك...قلتَ وقتها إن ظهور بعض النتائج المخبرية المهمّة التي أجريتها على مرضى الوكالة، جعلتك تلغي مهمتك وتعود ..وجلبت معك تلك الساعة هدية..
قصي1 
       ما للساعة وما نحن فيه..؟ وعن أية هديّة تتحدثين..؟؟ أنا ما زلت مثقلا بغبار السفر وأنت تزعمين أنني عدت من زمان وأتيت معي بهذه الساعة المقرفة ..بماذا تهذين يا امرأة؟ قولي كلاما آخر.
السيدة قصي(وقد تماسكت أكثر)
      لست خرفة أو مخبولة ..لقد عدتَ بعد رحيلك بأسبوع محمّلا بالهدايا وجلبتَ معك تلك الساعة هدية لطفلنا الذي انتظرناه طويلا والذي وُلد بعد رجوعك بعشرة أشهر تقريبا..
قصي1 
      يا للكارثة...وطفل  أيضا..؟؟ هذا فظيع ...فظيع لا يطاق ..رأسي سينفجر ...أية لعنة هذه..؟؟؟
قصي2
     ما لك ولطفلنا..؟ لماذا تحشُر أنفك في هذا الموضوع؟ أَوَصِيٌّ علينا..؟؟ ثم من أنت حتى تستنكر بهذه الطريقة الفجّة؟ اقتحمت علينا منزلنا  وحميميتنا ..ثم ها أنت تحاسبنا ..لقد صبرتُ عليك أكثر ممّا يجب ..أخرج وإلا..
السيدة قصي (صارخة)
  لا.. لا تتشاجرا من جديد..( وبصوت خافت وهي توشك أن تتهالك) كُفّا أرجوكما.
قصي 2 (يسندها في حنو حتى لا تسقط)
..أرأيتَ ما فعلته بزوجتي ..أخرج من هنا أخرج فورا..(ثم بلطف متجها بالقول إلى رانية..) سأطلب الدكتور حالا ..لا تخافي يا عزيزتي وستكونين بأحسن حال (يجلسها على الكنبة ويتجه نحو الهاتف.)
قصي 1 (منفجرا)
    كفّا عن هذه المسرحية السّمجة ..لقد أتقنتُما الأدوار أكثر مما يجب.. أنتَ تنكرتَ ببراعة في شكلي حتى تخدع الجميع ..الجيران بالخصوص ..وأنتِ تواطأت مع هذا التيس على ذلك حتى ترتعا دونما رقيب، لكن انكشفت حقارتُكما ..أنتِ.. أنتِ مومس ..مومس ..عاهرة..(يقفز إليه قصي 2 كالذئب  فتمنعه  السيدة قصي بحركة  عنيفة بعد أن لسعتها الكلمات وتقول بصوت جريح غاضب)
      أنا أشرف من الشرف أيها الوغد ..من أنت حتى تسمح لنفسك بالتجرؤ  علي وتجريحي بهذا الكلمات النابية وتحاكمني بهذه القسوة التي لا مبرّر لها في عقر بيتي ؟؟ تدّعي أنّك زوجي وما دليلُك في ذلك.؟ ولم لا يكون زوجي هذا الذي ما انقطع يوما عن حبي ..وما أسمعني مرة كلاما جارحا؟؟؟ ثم إنه أب ابني وهو كل شيء في حياتي، فكيف أشك فيه لمجرد ادعائك..؟؟؟ لم  لا تكون أنت  قصي المزيّف ..هه ؟؟ دخلت علينا كاللعنة وأردت أن تُهدّم كل شيء ..الأرجحُ أنك مجرم محترف أفاّك ..جئت تبتزُّنا لشهرة زوجي وعلوّ شأنه ومركزه الحساس واختلقتَ كل هذه الأكاذيب ..إن كان ذلك فخذ ما تريد من مال وارحل ،ولا تُرنا وجهك اللعين مرّة أخرى.
                       قصي 1 (وقد تغير موقفة بعد أن لمس حرارة صدقها)
       رانية  ماذا تقولين .؟.أنا زوجك ..زوجك الدكتور قصي عدنان قصي ..هل خُدعت إلى هذه الدرجة؟؟
السيدة قصي(حانقة)
      وتعرف أسم زوجي الثلاثي أيضا ..يبدو أنك جمّعت عنّا الكثير من المعلومات قبل أن تُقْدم على فعلتك الدنيئة هذه..
قصي 1
      أنا.؟. أنا أجمع المعلومات لأبتزّ..؟ أكيد أنك ضحية خُدعة كبيرة مُحكمة أو فقدان للذاكرة.. إن الاسم الثلاثي هو اسمي ولا أنتحل صفة ..أفيقي ..أنا زوجك ..زوجك الذي أحببتِ والذي تزوجته منذ عشر سنوات ..أنا زوجك الدكتور قصي  عدنان ..أنسيت.؟.
قصي 2
     لا أبدا ..أنا هو زوجك..
قصي 1
      هو كاذب أشر.. أنا زوجك الوحيد الحقيقي..
قصي 2
    لا بل أنا هو..
قصي 1
   ..أنا هو
قصي 2
    إطلاقا.. أنا هو
السيدة قصي
(تنتقل بنظراتها بينهما على وقع التجاذب الشبيه بكرة الطاولة،  ويخيل إليها أن  صورة زوجها تتعدد إلى ما لانهاية  على المرايا التي تكسو حيطان  قاعة  الجلوس،  وتحس بدوار مفاجئ  فتصرخ ويغمى عليها ..يهرع إليها الرجلان ويُفيقانها ..يمضي صمت ثقيل وهما يتبادلان نظرات شزره وحين تفيق كليا وتهدأ بعض الشيء  ينطلق قصي 2 وقد دبّر فكرة مفاجئة)
   بسيطة...سنحسم الأمر وبأسرع وقت ممكن حتى نُجنّب زوجتي انفعالات أكبر ..هل لديك أدلةٌ على أنك قصي عدنان..؟؟
قصي1
    ماذا تقول ؟؟ أأصبحتُ نكرة أنا العالم الشهير الذي طبّقت  شهرته الآفاق ..والذي تستقبله المحافل العلمية الدولية بترحاب لا مثيل له، وتتسابق أرقى المجلاّت المحكّمة للحصول على مقالاته ..أنا العالم الجليل الذي صنعوا له  تمثالا من الشمع وضعوه في متحف عظماء الإنسانية أثبتُ هويتي بأدلّة..؟؟؟ وأين..؟  في بيتي ولزوجتي أقرب الناس إلي.. أمام قردٍ ممسوخ؟؟؟ هذه قمّة المهزلة...
السيدة قصي( كالمتشبّث بقشة)
     ولم لا ؟ فكرة جيدة حتى أتخلص من هذا الشك الأسود..
قصي 1
      ماذا تقولين..؟ هل فقدتِ عقلك؟؟
السيدة قصي
     سأفقده إن لم أخرج من هذه المتاهة المرعبة وسجنِ المرايا الذي أتخبط فيه في ألم عاصف ..على كل منكما أن يُثبت أنه قصي عدنان الحقيقي ..بأدلّة قاطعة لا مراء فيها..
قصي2
     أنا..؟  هل تشكّين في ّ أنا أيضا وفي صحة كلامي..؟؟
السيدة  قصي
      نعم أشك ..أشك في كل شيء .. حتى في نفسي ...أنتما كالشخوص التي أحاطت بي في كابوس رهيب بتُّ أعيشه باليقظة ..وعليّ أن أعرف من منكما يقول الصدق ومن يكذب.. أريد أن أفيق ..أن أفيق سريعا..
قصي 1
    لا.. جُنّت ...جنت فعلا..
السيدة قصي
    أرجوكما ..أخرجاني من هذا العذاب المستشري وهذا الّدوار المميت..
قصي2
    حسنا ..حسنا ..أنا موافق ما دام هذا يريحك..
قصي 1
    وأنا لن أقبل.. هذه إهانة ما بعدها إهانة..
قصي 2  (بصوت قاطع كالسيف)..
     اقبَل أو غادر حالا ،فقد طالت زيارتك الثقيلة.. انصعْ أو ارحل بلا رجعة..
قصي 1(بعد تردّد وقد أسقط في يديه)..
      سأفعل ..ولو أنني لا أستسيغ ذلك مطلقا، ولكن لا بأس فأنا أيضا أريد أن أخرج من هذا النفق المظلم (وبعد صمت قصير) ..إن لي علامةً مميزة مذ ولدتُ، في كتفي الأيمن تشبه النّجمة ..فهل أنت كذلك؟
السيدة قصي( كمن بدأ يتنفس بعد طول اختناق)
          نعم ..نعم هذا صحيح ..ولطالما داعبتها بأصابعي ورأيت فيها الطموح والنبوغ ومؤشرا على الشهرة العظيمة والمجد الأثيل.. شهرة عالم الجينات العظيم الذي غيرتْ اكتشافاتُه مجرى التاريخ
قصي 2  (ينزع سترة منامته في فرح مكتوم)
..هي ذي..هي ذي وقد داعبتْها أصابعُك البارحة ونحن..
قصي1
كالمعتوه ينزع جمازته ،فربطة العنق وقميصه ويتجه إلى المرآة ويطالع علامته على كتفه الأيسر ثم علامة الرجل ويصيح كالمكلم نفسه..
يا إله  السماوات والأرض.. نفس الحجم ونفس الشكل واللون.. والمكان أيضا.. وكأنما نُسخت بدقة متناهية.. مستحيل ..مستحيل ..هذا لا يُصدّق... 
السيدة قصي( تتأمل علامة كل من الرجلين ..وتفغر فاها تعجبا)
    آه.
قصي 1 (متجها بالقول إلى غريمه).
  .من أين لك هذا؟ ..أجبني ..أجبني أكاد أصابُ بالعته ..من أي جحيم خرجت عليّ؟؟
قصي 2 (مستغلا الموقف ليجهز عليه.. يقول متحديا)
هنالك دليل آخر ..خالٌ كبير أسود على فخذي الأيسر ورانية تعرفه جيدا.. أرِنيهِ  إن لم تكن كاذبا محتالا..
السيدة قصي (تخرج من سهومها ودهشتها وكمن يتعلق بخيط واه تردف).
   نعم..نعم ..الخال الكبير الأسود في أعلى الفخذ الأيسر.
قصي 1
( في حنق وإحباط شديدين  وقد تخلّى عن هيبته ووقار مركزه  ينزع حذاءه بمقدمة أصابع القدم ويلقي به بعيدا ثم يخفض سراويله ويشير في حركة مضحكة في ذات الوقت مع قصي 2 الذي نضا سروال المنامة عن فخذه الأيسر يقول وكأنه يرى نفسه في مرآة إذ ترددت نفس الحركات ونفس الانحناءة في زمن وتطابق مذهلين..)
هو ذا ..هو ذا..
قصي2   (مجيبا كالصدى)
   هو ذا ..هو ذا..
السيدة قصي  (وقد امتقع لونها تصرخ بصوت مشروخ)
  ربّاه.. ربّاه.. كيف هذا ؟..كيف هذا؟.. هذه متاهة ألغاز..أعينيني أيتها الأقدار ..كل شيء حولي ينهار ..أحس وكأنني في  هوة ملساء لزجة مُغلقة وشيءٌ رهيب يجذبني إلى الأسفل.. لا.. لا.. لم أعد أٌقوى على الاحتمال ..من أصدّق منكما ..وقد تشابهت العلامات حتى غامت الدروب.
قصي 1
    هذا لا يستوعِبُه عقل بشري ..ولربّما نحن في ما يشبه  الصحراء وهذا الكائن سراب.. سراب لا وجود له إلا في تهيؤا تنا ..يصوّره ظَمأنا إلى بعضنا وشوقنا الطامي بعد طول غياب، وعلينا أن نتخلص منه وإلا صار أحبولة تخنقنا فنظلّ نهيم في عراء أنفسنا (ثم بعد شيء من الصمت تلتمع عيناه كمن انقدحت في ذهنه فكرة ذكية)
    نعم ..هو ذا ..وجدتُها كيف لم أفكّر في ذلك من قبل؟ ..العلم وحده يبطل الزيف.. لن تفلتَ هذه المرة مهما تقنّعتَ ..ستثبتُ البطاقة الجينية أيّنا الصّادق.. هل لك بطاقة جينية.؟ سنضعها في الحاسوب وسيعلمُنا بدقّة عن خصوصية التركيبة الجينية وموروثنا وبرمجتنا البيولوجية وحتى عن بصمتنا الجينية، ويقرِنها بالاسم وسيقطع بشكل نهائي ويُعلِمنا من منّا  قصي عدنان الحقيقي.  
قصي2
 قبلتُ بذلك( ينسحب في خفة غريبة كما السعادين للإتيان ببطاقته. يقترب في الأثناء قصي من زوجته بلطف يشوبه الحزن ويقول..)
قصي1
    ما الذي حدث ؟؟ ما هذا الطوفان؟؟ رانية ألم تعرفيني حتى الآن؟ الزوجة المحبّة لا تحتاج إلى علامات وقرائن حتى تتعرف إلى زوجها.. تعرفُه من صوته من نظراته ،من حركاته وتضاريس أحاسيسه... فقد تعودتْ عليه ..كما الساقية على الماء ، تغتسل ذراتها به في كال آن.. فراسةُ الزوجة وعاطفتها وقلبها دليلها مهما عصفت رياح الشك..(يقترب منها فتصده في عصبية)
السيدة قصي
 إليك عني ...أنا لا أعرفك.. لا أعرفك...لم أعد أعرف كليكما ولا حتى نفسي..
(يعود قصي2 سريعا ويقول)
.هي ذي بطاقتي الجينية 
يسرع ثلاثتهم إلى الحاسوب .يضع قصي 1 بطاقته فتظهر كل البيانات المخصوصة  بقصي عدنان قصي، بما في ذلك البصمة الجينية.. ويفعل قصي 2  الشيء نفسه، فيظهر نفس الاسم مع نفس المعلومات ..فيُصعق قصي 1 ولكنه يتماسك وينتزع من قصي 2 بطاقته ويدخلها بنفسه في الحاسوب، ويعيد  الكرة ويعيد، فتبرز في كل مرة المعلومات ذاتها مطابقة لبيانات البطاقة الأولى ..فيصرخ كالمستنجد
قصي1
- يا ويلي ..يا ويلي هو أنا وأنا هو.. أية لعنة حلت بك يا قصي.؟؟..( يضع يديه على رأسه ويمشي كالتائه.. في نفس الوقت تولول السيدة قصي وتفرّ هاربة إلى أعلى وكأنما أشباح تلاحقها... تختبئ وتوصد الأبواب خلفها ..يقفز قصي 2 في إثرها يطرق الباب وينادي) 
رانية.. رانية ..حبيبتي لا تخافي.. افتحي لقد انتهى الكابوس 
السيدة قصي (  ناشجة في رعب شديد)
    لا.. لا  لن  أفتح الباب.. أنا لا أعرفك ..لا أعرفك ..إليك عني وإلا قفزت من الشباك.           
قصي 2
     لا. .لا . لا تفعلي ..إهدئي .. إهدئي أرجوك وسأنسحب.( ثم يقفز من فوق المدرج وقد واتته ضراوة حيوانية رهيبة، ويتجه إلى قصي 1) والآن وقد تأكدتَ أنني أنا  قصي عدنان لم يعد لك مكان في هذا البيت؛ سأقذف بك إلى الخارج كما فأر المراحيض...
ويمسك به من تلابيبه وهو شبه عار ويرمي به إلى الخارج ويقذف وراءه أدباشه ومحفظته وحقيبته، ويطبق الباب. ثم يعود ، تسلط عليه الأضواء فيُحمحم بذات الهمهمة المشوبة ببعبعة، ويرنو إلى الغرفة التي تقبع فيها رانية، ويبتسم بطريقة غريبة. 


ستار






















الفصل الرابع










كهف بدائي حفرته الطبيعة بشكل عجيب تعكس جنباته الأضواء تماما كما صفحات المرايا ، وكذلك صور البعابع  التي تجمعت في ركن منه وكأنها خائفة مذعورة بعد أن بدأ شكلها يتغير تدريجيا بمرور الأيام...عيونها بدأت تتكور وتجحظ. .وبعضها بدأت آذانه تطول بعض الشيء...
في الوسط  أقيمت مسطبة عالية رُكّزت عليها آلات مخبرية غريبة ومعقدة :مسبر جيني ومكثفات خلوية وأنابيب بلورية متعرجة ومتشابكة تدور فيها سوائل مختلفة ألوانها تُحدِث فرقعات خفيفة في قنينات تنصب فيها
إلى جانب المسطبة ينتصب الشاعر بلحيته ولباسه المعهود قبالة باب خفي قُدّ من صخر تركزت عليه أضواء منوار كاشف  بعد أن سُمع صرير متأت من تلك الناحية. .ينفتح الباب الضخم في الصخر ويدخل منه عالم الجينات قصي عدنان..
العالم قصي
   مرحبا بكم أيها السادة في هذا المخبأ
(صمت)..آه نسيت أنكم لا تقدرون على الكلام،(ثم متجها بالقول إلى الشاعر) ولكن أنت.. أفقدت أيضا القدرة على النطق؟ (ينظر إليه الشاعر شزرا ولا يجيب ..يتجه العالم إلى البعابع التي يدب فيها الذعر فتفرّ من أمامه وتتجمع وتطلق بعبعات وحشرجة وترفع أيديها وكأنها تحتمي من خطر ما ). 
العالم (مواصلا)
   اهدؤوا ..اهدؤوا ..لا تخافوا ..أنتم الآن في مأمن (ثم يمدّ يده ويتحسس التغيّرات التي طرأت على المرضى ويقول كالمحدث نفسه ) لقد بدأت التحولات كما كنت أتوقع   وهذا شيء جميل إذ يثبت صحة أبحاثي ويدعم  نظرياتي..
الشاعر(وقد انفجر بعد طول صمت )
       شيء جميل يثبت صحة أبحاثك ..هذا ما يهمك فقط في الأمر؟ أي قلب حجري تحمل بين جنبيك يا رجل؟ أتتلذذ وهم يتألمون؟ تغذّي كبرياءك ونرجسيتك العلمية وهم يفقدون إنسانيتهم ويسفّون في هوة سحيقة حيطانها ملساء، يحاولون التشبث بأي شيء فلا يقدرون...ويتواصل سقوطهم وأنت تحافظ على اتّزانك ورصانتك الباردة وصلفك، ولا تحسّ بهم ولا بصراخهم الصامت ..أيّة وحشية عرّشت فيك، فأنستْك ما به يجب أن تكون إنسانا
العالم
       حِلْمَك.. حلمَك.. لِمَ كلّ هذا العنف والموقف لا يستدعي مثل ذلك؟ إنني لا ألتذّ بما هم فيه كما تعتقد، وإنما أستحسن صدق توقّعاتي بعد فحصهم و أتأكّد من صحة فرضياتي، فذلك يطمئنني أكثر ويحفّزني على المضي قُدُما لصنع مصل نهائي يقضي على هذا المرض الخبيث ويعيدهم إلى ما كانوا عليه.. هذا كل ما في الأمر..
الشاعر (بنفس الغضب )
     وستحتجزنا طبعا في هذا المكان كفئران في مخبر حتى تُتمّ أبحاثك التي تستعملها لاختراعاتك المجنونة (ثم متهكما) حتى يسطع اسمك من جديد شمسا في دنيا العلم، وحتى ينوّهوا   بأعمالك القيّمة  وما ستُقدّمه للبشرية...
العالم
      هو كذلك، وما يضير في هذا؟ 
الشاعر
    صلفك وقِحٌ.. وقح لا يطاق..
العالِم
 لماذا..؟ لم هذا التجنّي؟ أَوَ تُسمّي صلفا إشارتي إلى عطائي للإنسانية وإلى تفانيّ اللامحدود ،وتضحياتي في المحافظة على إنسانية الإنسان..؟؟؟
الشاعر
     صلفُك  يكمن في هذه الكلمات التي تتغرغر  بها....كلمات ضخمة فضفاضة  ،ولا يعرف التواضعُ إليك سبيلا.
العالِم
      لا ..ما تقول ليس صحيحا، بل فيه مغالاة وتجنّ مفرط.. والعالم كلّه ينوّه بما أفعل.
الشاعر
    بل هي الحقيقة ..ولعلّ صلفك هذا قد دفعك إلى سلخ هؤلاء المساكين بمشرط الدعاية، فجعلتهم يبثّون صُورهم على شاشات التلفاز لتتفحّصهُم الأعين البلهاء ككائنات غريبة قادمة من كوكب آخر...كائنات تحلم بالخلاص على يديك.
العالم
       لا..هذه ليست مغالاة وحسب وإنما حقد.. حقد دفين لا مُبرّر له   . بماذا تهذي يا رجل؟؟ وما الذي تريد أن تقول؟
الشاعر (بنفس الغضب الهادر)
       أريد أن أقول إن عطاءك هذا نفعي، تريد أن تحقق من ورائه الشهرة والثروة ..وإني أراهن أنك تنفُش ريشك مزهُوّا كالطاووس عقب كل اكتشاف تتوصل إليه.. ثم إن ثقتك بنفسك وغرورك لا حدود لهما.. من أدراك أنك ستنجح هذه المرّة؟؟  ومن أدراك أنّ الدواء الذي ستكتشف لن يزيد الحالة تعقيدا، والمسخ مسخا؟؟؟ ولربّما تحوّل هؤلاء المساكين ممّا هم عليه الآن إلى سحالي ضخمة تزحف في العراء ؟.
العالم (وقد عاد إلى اتزانه)
     لا.. لن يكون ذلك أبدا.. فأنا واثق ممّا توصلت إليه في أبحاثي الأولى ..لقد تسرّبتْ إلى سلاسلهم الجينية جيناتٌ غريبة ،نبتت كالفطر السام ؛فأحدثت تغيّرات وتشوهات غريبة أدت إلى مسخهم بهذه الشاكلة ،والمستحضر الذي توصلتُ إليه والذي عرضته في أمريكا، سيمكّن وقتيا من منع تطور هذا الداء ، ريثما نجد مصلا نهائيا، به نستطيع  القضاء على هذه الجينات الطفيلية وكذلك على التشوهات.
الشاعر
    إذن أتيتم بنا إلى هذا الكهف البدائي لتجرّب مستحضرك  بعد أن سجنتمونا قسرا في تلك الغرفة البيضاء داخل المشفى السري ، تراقبوننا وكأننا حيوانات  بدائية تثير الفضول العلمي؟؟
العالم (مهدئا )
    لا تتحامل أرجوك.. كان لا بد من المراقبة السّريرية حتى نقف على أسرار هذا الداء، ونشخّصه ونعمل على تعطيله.. واستوجبَ ذلك إقامتكم لدينا.
الشاعر
      دون أن تكلفوا أنفسكم استشارتنا وأخذ موافقتنا .
العالم
     نستشير من؟؟ كائنات تفسّخت إنسانيتها فعطّلت عقولَها ونطقَها ؟؟
الشاعر(محتجّا)
      أنا لست كذلك
العالم
      كنا نعتقد أنك مصاب بهذا الداء مثلهم.. ولكن صمودك حتى الآن جعلني أغيّر رأيي..    
الشاعر
      فلماذا لم تطلقوا سراحي إذن؟
العالم
     لا ليس الآن.. لقد أمرتُ بجلبك  مع البعابع لأنك أحدُ مفاتيح اللّغز في ما يبدو.
الشاعر( وقد ثار فضوله)
       كيف ذلك؟
العالم
      لقد أبديتَ حتى الآن مقاومة  قوية ضد هذا الوباء  رغم أنك تعيش معهم في نفس الفضاء، وبدراسة سرّ حصانتك هذه ومقارنة جيناتك بجيناتهم وفحص تكوينها سنتوصل إلى صنع المصل في أسرع وقت ممكن.
الشاعر(ساخرا)
    ههههها...هههههها .سرّ حصانتي ههههههها.ها.ها.ها شيء مضحك فعلا.
العالم
      وما المضحك في هذا؟.
الشاعر(مواصلا سخريته)
     ..ها.ها.ها.. حصانتي....هاهاها ...(ثم جادا)إن كنتَ تعتقد أنني أختلف عن البشر العاديين الطيّبين فإنك سلكت طريقا خاطئة وستعود من أبحاثك بخفّيْ حُنيْن.. لأني ببساطة أعرى وأجوع وأمرض خاصة مثلهم.. 
العالم
      وما يدريك ،هل قمت بفحص جيني أم إنها مجرد تخمينات؟
الشاعر
      لا لم أفعل ..ولكنني من طينة البشر وليس لي قوة خارقة.
العالم
       وما سرّ صمودك أمام طوفان إسهال الأصوات إذن؟
الشاعر
     حقيقةَ، لا أدري؛ وإن كان لا بدّ من جواب فلربما هي العزيمة أو الرفض أو الإرادة.. وأشياء أخرى لا علاقة لها بالجينات.. نعم الإرادة.. لم لا؟
العالم
    هذه ترّهات يرفضها العلم.. الإرادة لا تقهر مثل هذا الوباء إذا تمكّن، بل المضادات الجينية.. وسأتأكد من ذلك بعد أن نُجري  عليك الفحوصات اللازمة.
الشاعر(بهدوء جارح)
     ما آسف له، وأرجو أن لا تغضب كثيرا، هو أنك تندفع كبغلِ كسّار الحصى تجرّ الصخور في عربة مهترئة ، ولا ترى ما يحجبه عنك الغماء الموضوع على جانبي عينيك.. فتسلك ثنايا صخرية ملتوية ربما تحيدُ بك عن الطريق..
العالم(دون أن يفقد اتزانه)
     تشبيه بليغ.. لكن ماذا تعني؟ لقد زدتَ في حيرتي ..أأتخلّى عن تجاربي وأبحاثي؟ كيف الخلاص  إذن؟؟
الشاعر
     لم أقصد هذا.. وإنما بالإضافة إلى ذلك عليك أن تهتدي إلى أمصال أخرى من نوع آخر تساعدك في مقارعة الطوفان..
العالم
     سنتناقش في ذلك لاحقا، ولكن أرجوك أن تقبل بالفحوص الجينية وأن تساعدني في كل أمر حتى نسرع، فالمؤامرة رهيبة والكارثة وشيكة.. هل تعدني بذلك؟؟
الشاعر( وقد بدأ يستلطف العالم)
      أعدك ولو أنني لا أريد أن أكون كبغل كسّار الحصى .
العالم
     عدت إلى سخريتك الماسخة ..أنا أتوسل إليك وأنت تكابر..
الشاعر
      حسنا.. حسنا ولكن عن أية مؤامرة تتحدث؟ فالمؤامرات كثيرة هذه الأيام.. ماذا تقصد بالضبط ؟؟
العالم
      أقصد مؤامرة استئصال الأصوات.. كنّا نعتقد في البداية أنه وباء جاءت به "التقازة" من تنقلاتها الكثيرة ونقلته أليكم، أقصد إلى جيرانك في الوكالة.. ولكن تبيّن في ما بعد أنه فيروس جيني كوّنوه في مخبر وهرّبوه وزرعوه في منطقتنا ليجرّبوا مدى فاعليته التخريبية علينا وقد حصل ما حصل .ولم يكتفوا بذلك بل استنسخوني بعد أن تبينوا أنني بصدد القيام بأبحاث وتجارب تقضي على هذا الداء.
الشاعر(وكأنه لم يصدق)
     استنسخوك..؟؟؟ 
العالم(وقد ظهرت عليه مسحة من حزن دفين)
     نعم.. استنسخوني، إذ وجدتُ، حين عدت من بعثتي العلمية الأخيرة، نسخة منّي في بيتي مع زوجتي..(ثم في حنق)..نفس الملامح، نفس السمات وكأنني انشطرت إلى شخصين.
الشاعر(مخابثا )
     ولماذا في فراشك؟...عفوا ولماذا في بيتك؟
العالم
     كفى تلميحات مُهينة أرجوك.. إنهم يريدون تقويضي  من الداخل  ويسعون إلى تحطيمي نفسيا بتعويضي في البيت قبل أن يستأصلوا وجودي في أماكن هامة، وحين يضعون أيديهم على أبحاثي التي تُربِك مخططاتهم يجهزون علي ّ..
الشاعر(جادّا)
   وهل نجحوا في ذلك؟
العالم
   أيما نجاح.. لوّثوا شرفي وهتكوا عرضي دون وعي من زوجتي، فأنجبت طفلا من هذا المسخ الذي عوّضني.. وكان شرخا زلزلني وهزّ كل قناعاتي؟؟
الشاعر
   لماذا؟
العالم(في غضب يجاهد في كتمه دون جدوى)
     كيف لماذا ؟ أتقبل أنت أن يُهتك عرضك ؟تخيَّلْ للحظة أنك تعيش ما عشتُ وستفهم...ثم ابن من هذا الذي أنجبت زوجتي؟ إلى من ينتسب؟ من أبوه الفعلي؟ لست أنا في كل الأحوال..
الشاعر(بصوت باتر كاليقين)
    أنت أبوه شئت أم أبيت.
العالم(وقد كاد يخرج عن طوره )
      كيف؟؟  كيف وأنا لم.....أليس ابن سفاح..؟ ابن زنا؟
الشاعر
      يظهر أنك تخلّيتَ عن منطق العلم الذي تباهيت به حتى الآن، وعدت إلى منطق أخلاق كنت تعتبرها في بعض مقالاتك مهترئة.. متخلفة.. (ثم مواصلا بنفس النبرة) ألا يحمل هذا الطفل  صبغياتك  وصبغيات زوجتك؟
العالم
       بلى.. ولكن عن طريق النسخة..
الشاعر
       والنسخة تحمل مواصفاتك البيولوجية والجينية.. أليس كذلك؟؟
العالم(بقهر )
    نعم.
الشاعر(بنفس اليقين)
    مادام ابن نسختك فهو ابنك.. أنت شبيه بالأب البيولوجي الأصلي كما يحلو لكم أن تقولوا.
العالم(تتركز عليه أضواء بيضاء متخثرة في وسط الركح)
     هذه حقيقة لا مراء فيها مع الأسف، ( ثم بصوت ينضح حرقة) ولكن كيف لي أن أنسب هذا الطفل إليّ..؟ أن آخذه  وأضمه بين ّذراعي؟.. أن يتدفق حناني جارفا هادرا ويغمره وأن تتسرّب مشاعره في حناياي وهو غريب عني.. مفروض عليّ كقطعة جليد باردة؟؟..كيف أجيبُ إذا ترعرع وناداني أبي ..أأهرع إليه أم أتسمّر في مكاني؟؟أأتصنع مشاعر وألبس أقنعة وأمارس أبوّة وأنا أعلم أنها زائفة؟؟  لا هذا لا يطاق.. لا يطاق ... هذا فوق كلّ احتمال..
الشاعر(مشفقا)
   مؤلم ..مؤلم حقا.. كنت  أعتقد أن شرهك العلمي أتلف مشاعرك وأنك أضعت قلبك في سوق النخاسين ..ولكن  ها أنت ما زلت قادرا على التألم، والألمُ  متراس  الإنسان..(ثم مواصلا في هدوء..)أحاسيسك مشروعة لكن قل لي ما ذنب الطفل؟
العالم( بعد أن أشعل غليونه وجذب منه نفسا عميقا)
   وما ذنبي أنا؟ ثم ما ذنب زوجتي ؟ كيف ستتحمّل وضعها الجديد؟ زوجةُ من؟ كيف ستكون مشاعرها بعد أن تبيّنت الخدعة؟ كيف ستعيش مع شخص غريب عنها وتأوي إلى أحضانه؟ كيف ستطالعُ نفسها في المرآة وقد أجبروها على أن تكون عاهرة.. وأن تنجب طفلا ليس من زوجها الحقيقي؟؟ أُراهنُ أنها ستفرّ من البيت وتهيم على وجهها كالمجنونة وتتيه وسط زحام البعابع...
الشاعر
     يظهر أن مخططاتهم زَلزلتْك فعلا.. ولكن إن كان صحيحا ما تقول ،عليك ألاّ تستسلم
العالم (بمرارة شديدة)
     ألاّ أستسلم..؟.لقد أخذوا مني كل شيء...كل شيء.. زوجتي.. بيتي وكذلك مخبري وأبحاثي التي أفنيتُ العمر فيها.
الشاعر(باستغراب كبير)
        مخبرك وأبحاثك..؟؟؟
العالم
     نعم ،مخبري وأبحاثي...لقد شُرّدت من بيتي.. طردتني النسخةُ اللعينة، فذهبت إلى المخبر، ولكن العقل الآلي القائم على الباب لم يتعرف إلى نبرات صوتي، وحتى بطاقتي الجينية مرّرتُها أمام العدسة الفاحصة في الباب فرُفضت بدعوى أنّني مزيّف ، ذلك أن نسخة أخرى مني سبقتني وغيرت البرمجة.. ولم يتسنّ لي الدخول إلا عن طريق  مُعيني الأول كفاح الطريفي الذي كان مشدوها لما رآني ،فقد قال أنه تركني في الداخل في اجتماع سرّي هام مع كبار الباحثين المعمليين وخرج لسبب طارئ ، فكيف أكون في ذات الوقت داخل المخبر وخارجه ؟.. 
وقتها تبيّنت حجم المؤامرة.. وأعلمته بكل شيء.. دخلنا المخبر كالمجانين وهرعتُ إلى القاعة الخاصة بالأبحاث السرية فوجدت الصناديق الالكترونية خاوية.. لقد استولوا على كل شيء...مجهود الآلام والمثابرة والفشل والشك والسهاد والفرح العارم.. أبحاث الجينات المفتتة للسرطان والسيدا.. والزرع الجيني المخصب المضاد لكل الأمراض.. والتكثيف الخلوي الزراعي المقاوم للجفاف، وجينات التكاثر الزراعي وجينات التحوّل.. والفيروسات الجينية الناريّة المدمرة الفتاكة التي تقضي على شعوب بأكملها في أيام معدودة...تصوّر حجم الكارثة.. لو سرّبوها عبر الدم إلى أية بقعة من بقاع العالم؛ سينتشر المرض كما النار في الهشيم وسأكون أنا المسؤول وكذلك بلدي وسيصنّفونه ضمن دول الإرهاب.. وتكبر المؤامرة...سنكون مجرمين دون أن نجرم...
الشاعر(وقد اهتزّ )
هذا شيء فظيع.. فظيع فعلا.. ولكن لِمَ لَمْ تفضح كل شيء أنت ومعينك وتقبضا على النسخة اللعينة في المخبر؟ 
العالم
 لقد حاولنا... تحلّق بنا كل من يعمل في المخبر؛ كانت عيونهم  معروقة مُشعّة وهيئاتهم مخيفة، يتحركون كالآلات الضارية  
(تتغير الأضواء لتوحي بهذا الجو.. يظهر على الخشبة العالم والمعين وحولهم أناس عيونهم معروقة مشعة وهيئاتهم مرعبة ،وهم يتحركون كالآلات الرهيبة)
العالم قصي
     ما بالكم..؟ ماذا دهاكم..؟ أكرم... سالم...مُنيب...ممدوح...لؤي...ألم تعرفوني؟.. أنا مدير المخبر الدكتور قصي عدنان قصي ..وهذا مُساعدي العالم كفاح الطريفي.. لماذا تنظرون إلينا هكذا؟ أفيقوا فكلّنا ضحية خدعة كبيرة قذرة...
كفاح الطريفي
     ألا تسمعون..؟ إنّ الشخص الذي في الداخل نسخة مزيّفة وهذا هو العالم قصي عدنان الحقيقي..( تتقدم نحوهم الشخوص الغريبة  مهدّدة..) يا إلهي.. إن أصواتنا لا تصل إليهم وكأنهم تحت سيطرة قوة ما، قوّة غامضة.. ماذا نفعل؟؟ تعال معي يا دكتور قصي...(ويفران والوحوش تتابعهما.. وفجأة يتعثر المعين فتنقض عليه الوحوش، أما قصي فيختبئ ،يبحث عنه بعض منهم بلا جدوى.. وفجأة يصرخ المعين صراخا متفجرا مؤلما، فيتركونه وينسحبون كذئاب العتمة.. تتسلط عليه أضواء منوار كاشف ويهرع  إليه الدكتور قصي عدنان بعد أن خلا المكان..)
العالم قصي
    كفاح.. كفاح ماذا فعل بك هؤلاء الأوغاد؟؟؟(ثم كالملسوع) آه ..ما بك؟؟ لماذا يتغيّر وجهك بهذا الشكل السريع...أذناك.. أذناك تطولان وتتهدلان وأنفك  يطول ..يطول أيضا ويتحول إلى خطم.. وهذا الصوف على يديك وجسدك...
كفاح الطريفي (بحشرجة وإجهاد)مآآآ.. معذا تُرْعيد عن تقعول...؟؟ باءت جهو.. باعت جعودنا بال... باع ..باعع.. بععع........
(تجيب البعابع الموجودة في الكهف كالصدى بصوت واحد بععععع...بعععع.. بععع، فتتغير الأضواء ويختفي كفاح وبقية الوحوش ويواصل العالم سرده ) 
وفررتُ من المخبر لا ألوي على شيء ..آويت إلى مقهى حتى أهدأ وألمْلم ما تناثر مني، فوجدتُ العيون معروقةَ والوجوه خاوية وكأن طاعون الأصوات بدأ يتسرّب إلى الناس، فعدتُ إلى المشفى سريعا وأمرتُ بجلبكم إلى هنا ، إلى هذا المخبر السرّي حتى نجدَ حلا لهذه المعضلة، قبل أن يتفطنوا إلى وجودكم ويمنعوا إجراء التجارب
الشاعر
    آ... الآن فهمت ..لقد حاولوا فعلا.. ويظهر أن المؤامرة بدأت في غيابك ولم أتفطن إلى ذلك إلا الآن. 
العالم (في ما يشبه الهلع)
    كيف ذلك ؟؟ احك ما الذي وقع؟
الشاعر
      لقد علِموا بوجودنا في المشفى وجاءونا ليلا مقنّعين وحملونا في سيارات ضخمة سوداء مرعبة.. ووضعونا في قبو تحت وزارة الدفاع لأنني سمعتهم يذكرون ذلك.. 
العالم
 وبعد.. وبعد.. أكمل  هل حقنوكم شيئا ما؟؟ إن فعلوا فقد حصّنوا المرض ولن يفيد المصل الذي سأعمل عليه في شيء.
الشاعر
  لا بل أبقونا تحت المراقبة ..كانوا يأتوننا كلّ يوم ويتفقدوننا كفئران المخابر
( تضاء الشاشة بنور خافت فتظهر شخصيات مقنّعة كالأشباح مع البعابع  في دهليز كبير يتوسطه فضاء عليه قبْوٌ بلوري يتسرب منه النور..)
الجنرال لاير
     هيا.. يا بروفسور ..لقد جلبنا إليك المرضى لتفحصهم وتُطلعنا على مراحل تطور المرض.. إنهم يترقّبون النتائج هناك. 
البروفسور أريال ديان( من وراء قناعه بصوت بارد)
  سأفعل وسآخذ عينات  من الدم وأفحصُها  ولكن أريد أن أتفحّص الحلق و البلعوم أولا. (.يحاول الاقتراب من البعابع فتفر منه... يقبض احد الضباط على أحدها فترفسه ،تدفعه  وتطرحه  أرضا وتفر محدثة صوتا غريبا )       
الملازم  عزرا  (المطروح أرضا)
     تبًّا  إنها نتنة وقوية ..وتعفط  كما تعفط التيوس ..ولكن سأسلخ جلدها إن لزم الأمر.
(يأخذ سوطا وينهال على البعابع...ثم يقبل جنود ويشدون وثاقها ويقترب منها البروفسور ويفتح فم أحدها  قسرا ويدخل آلة مكبرة مضاءة ويبدأ  الفحص) 
    جيد ...جيد التغيرات مشجعة  .
العالم قصي (يقطع سير السرد...فيختفي الدهليز والشخوص المقنعة)
    أوْجز.. أوْجز.. وبعد و بعد.. ماذا حصل؟؟
الشاعر
      أبقونا تحت المراقبة المسلحة.
العالم
     وكيف عدتم إلى المستشفى؟
الشاعر
      بفضل ضابط شجاع ..من أقرباء أحد معينيك...سهّل لنا الهروب ليلا  وضحىّ بنفسه... فخبأنا مُعينك حتى عدت.
العالم
    ولماذا لم يطلعني معيني على ذلك؟؟
الشاعر
    لا أعلم.. ولكن ربما لئلاّ  تقرّعه ؛فحماية المرضى من مسؤوليته في غيابك. ولكن الحمد لله، فشل مخططهم و أفلتنا منهم...(ثم عن البعابع)..لماذا اشتد توتّرها و هيجانُها..؟ لماذا لم تكفَّ عن البعبعة؟ ربما لأن المرض أخذ  يتطور ..هيا.. هيا احقنها بالمستحضر الذي تحدثت عنه ريثما أحاول تهدئتها.( تواصل البعابع هيجانها  وتداحمها وكأنها تستشعر خطرا وشيكا.. يقترب منها الشاعر ويحادثها بطريقة غريبة ويتمكن من تهدئتها أمام العالم الذي بقي مشدوها، فاغرا فاه).
العالم
    ماذا أرى..؟ وماذا أسمع..؟ ..أأصبحت مثلها  أم أنك تفهم في حديث البعبعة  وأنا لا أدري.؟
الشاعر
   ولم هذا الاستغراب المبالغ فيه وكأنك أفقت على حقيقة كانت قبض الريح..
العالم
     لم هذا الاستغراب..؟؟ تُبعبع وتقول لم هذا الاستغراب؟؟
الشاعر
     مثلي لا يكتفي بلغة واحدة ولا بلسان واحد ..  
العالم
    لا .. هذا هراء...وأنا مغفّل، مغفل حقًّا.. كان عليّ أن أعرف أنك لن تصمد أمام هذا الداء، وأنك معرّض أكثر من غيرك لفقدان صوتك.. فأنت تستنزفه يوميا على كل العتبات.
الشاعر
    كفاك تلميحات سخيفة.. من يفعل ذلك ليس بشاعر وإنما نخّاس أصوات..
العالم
    وأنت.. هل أفلتت من سوق النخاسة..؟
الشاعر
     كُفّ عن هذه السخرية الآسنة التي لا مبرّر لها إلا قصور إدراكك وعلمك المجرد الأملس.. من كان مغسولا بالنار مثلي، ممسكا بأصل النبع الحارق ،فلن تعرف الأوبئة إلى صوته سبيلا..
العالم
   كلماتك سراب في سراب.. لقد خدعتني وأعطيتني أملا كاذبا.. أنت بعبِع ..بعبِع ..مسخ مثلهم
الشاعر( كمن ينفي تهمة عن نفسه)
    أنا لست كذلك..
العالم
     ولماذا ؟ ما الذي يحول دون ذلك..؟
الشاعر
      هذا لن يكون.. أبدا، أبدا لن يكون..
العالم
 ولماذا؟ لماذا ؟..قل لي .
الشاعر
      لأنها كارثة إن بعبع شاعر(يقذفها في وجهه كالصفعة ويتركه ويذهب في اتجاه البعابع..)
العالم
       كفاك فلسفة وتعاليا كاذبا.. كنتُ أظنك آخر المعاقل، والرفيق الأخير الذي سيصحبني في هذه الرحلة الشاقّة ، وينير لي الطريق حتى أستعيد إنسانية الإنسان، وأقضي على إخطبوط المرايا من حولنا.. وأسُدّ هذه البالوعات المبثوثة في الهواء، فأخنق روائح الوباء الكريهة المثقلة ..ولكن خاب ظنّي ..إذ يظهر أنك صوت خُلّب خاوٍ مثل أصوات الجميع..
الشاعر(وقد أشفق عليه)
      قلت لك أنا لا ولن أبعبع ..ولكن أفهمُ ما يقولون، فلُعبتي هي نحت الكلمات وحذق التواصل مع كلّ الكائنات ..و إلاّ لما كنت ولما كان الشعر..
العالم
       هذا ما ستبيّنه أو تدحضه التحاليل التي أصرُّ عليها أكثر من أي وقت مضى.
الشاعر
        اطمئن ..أطمئن من هذه الناحية ..فأنا لن أخذلك ..خاصة وأنني بدأت أدمن إصرارك وحماقاتك(ملاطفا) ..حماقات بغل كسار الحصى..( ثم مغيرا مجرى الحديث)..قلي ..ما مشروع  خلاصك؟؟
العالم(وقد هدأ نوعا ما)
       تساعدني ..فتقبلُ أن أجري عليك بعض التجارب ..وحين أكتشف المصل المضاد للجينات المشوهة، نفرّ حتى لا يجرفنا الطوفان..
الشاعر
         تريد أن تكون نوحا.. نوحا جديدا.. نوح هذا العصر.. تريد أن تكون نوح الأصوات تحمل في فلكك من كل صوتين اثنين وتبحر.؟ .ها ها هههها.. وتتّهمني بالإغراق في الأحلام وفي براءة لا تأتي..هههههههها
العالم( كالمكتشف فكرة غابت عنه)
        نوح الأصوات؟؟ ولم لا.؟ هذا جيد.. نعم نوح الأصوات ..وما الذي يضحكك؟.. أسخيف تفكيري إلى هذا الحد..؟؟
الشاعر
         لا ليس سخيفا ..ولكن علمك تتدلى سيقانه في برك من الأحلام والسراب وردية ..ثم أو تظنهم تاركيك تفعل ما تريد؟ ستفشل حتما
العالم
        أنت تقول هذا؟.. أين إصرارك على إنسانية الإنسان؟ ألم تكن تطلب من البعابع أن تصمد وألا تتلف أصواتها؟؟ ألم تكن تحاول جاهدا سدّ منابع القيء؟؟
الشاعر
        كنت ولا أزال، ولكن التيّار عنيف.. ثم إن جلباب النبيّ لا يواتيك
العالم
      ولماذا لا يواتيني.؟.العلم نبوءة ..نعم نبوءة  لأنه الخلاص.
الشاعر
     حسن.. وماذا ستجمع في فلكك المجنون هذا إن قُدّر له أن يكون؟
     
العالم
       ستعرفه في حينه.. هيا ...هيّا.. قم معي ولنتفحص الأبواب والممرّات السرّية، فقد عادت البعابع إلى توتّرها وهيجانها ..ولربما هاجمتنا الوحوش الآدمية على حين غفلة، وقضت  على آخر الآمال..( يُسمع في الخارج ركضٌ ووقع حوافرَ وبعبعات تقوى تدريجيا، تجيبها البعابع من الداخل بثغاء كالصدى .وينطفئ الضوء)




ستار

الفصل الخامس

الكهف البدائي ذاته بجنباته الشبيهة بالمرايا، وآلاته المخبرية المعقّدة...تُسلط أضواء ساطعة من مناوير مختلفة على فسحة منه...يظهر الشاعر وهو يدقّ بمطرقة من لوح، مسامير لتثبيت قطع ألواح قبل طلائها بالغراء، وبجانبه على طاولة حجرية رسوم وخارطة...يدلف العالِم  وغليونه بين أسنانه

العالِم
      ماذا تفعل؟
الشاعر
       أصنع سفينة
العالم
        سفينة..؟؟
الشاعر
      سفينة  تمخر عباب الرمال بشراع ومحرك ومزلاجين( وقبل أن يسمع جواب العالم ينهض من مكانه ويتّجه إلى الطاولة الحجرية ويأخذ الرسوم ثم يقول) أنظر هي ذي رسومُها أنجزتها البارحة  بعد أن أصابني سهاد مفاجئ.

العالم ( يتفحصها باستغراب ثم يعقب باستهزاء واضح)..
      لا .. ممتاز..ممتاز جدا..هذه سفينة سريالية.
الشاعر
      هي أقل سريالية من مسوخك أيها العالم الجليل.
العالم
    مسوخي لا تنتج عن خيال مريض متآكل من حمّى الشعر يا حضرة العبقري.
الشاعر
      عبقريتك  موتوره مدمّرة يا فذّ زمانه، ولا أدلّ على ذلك من فأرك المتحول الذي ينبح الليل كله، فيوتر المرضى ويحرمنا النوم.
العالم
    دعنا من هذا واكبح لسانك السليط ..قل لي ولِمَ هذه السفينة العجيبة؟
الشاعر(وقد تخلى عن سخريته)
     سنستعملها للهروب من هذه الزريبة النتنة...ألم نتفق على ذلك أم تراك نسيت ؟.
العالم
    لا لم أنس.. ولكن إلى أين؟
الشاعر
    إلى واحة الفرات.. واحة بعيدة ،موغلة في الصحراء؛ حدثني عنها أحد الشعراء الرحالة  وأعطاني هذه الخارطة المتآكلة(ينهض ويتبعه العالم إلى الطاولة الحجرية ويبسطان الخارطة..) أنظر...هي ذي الواحة/ المرفأ.
العالم
( بعد قليل من الصمت وهو يحدق في الخارطة، يجذب نفسا من غليونه و يقول بكل جدية كمن يعتذر)..
    جيّد..جيّد جدّا.. أنت إنسان عملي.. ويبدو أنني بخستك حقك ولم أتفطن إلى أن خيالك الخصب يمكن أن يتفتق عن مثل هذه الحلول التي نحن  في أمس الحاجة  إليها...فعلا علينا بالتفكير في ما يضمن الهروب والخلاص.
الشاعر
      والآن كفاك حديثا ولغوا.. عُدْ إلى أبحاثك واكتشافاتك وتثبت منها قبل صناعة المصل النهائي هيا أسرع ..أسرع وكفاك مضْيَعة للوقت واتركني أتمّ صناعة السفينة...هيا ..هيا ..ألا تسمع المرضى، إنهم متوترون جدا، ويبعبعون اليوم أكثر من أيّ وقت مضى..
العالم
       لقد فحصتهم هذا الصباح وتأكدت رغم  حرارتهم المرتفعة  أن المرض لم يتطور  ولربما بدأت الجرعة الأولى التي أخذوها في الأسبوع الماضي تعطي...(وفجأة يصمت ويحدّق كمن شاهد شيئا غير متوقع.. ويقول) يا إلهي ماذا أرى؟
الشاعر(يتوقّف عن عمله)
       ماذا  يحدث ؟ ماذا رأيت ولِمَ تخشّبْت في مكانك؟
العالِم
      أنظر هناك ..هناك على الشاشة الصغيرة المثبّتة في أعلى الكهف...
الشاعر( يحملق في الشاشة..)
      آ..إنّها امرأة. امرأة منفوشة الشعر، بالية الأسمال. حافية القدمين تتقدم بخطى متهالكة نحو الباب السرّي للكهف. وهي تحمل بين ذراعيها شيئا ما... أظنه طفلا رضيعا في لفافة..
العالِم (كأنه لم يسمعه)
      إنها هي...هي بعينها..يا إله السماوات والأرض..
الشاعر
 من هي هذه المرأة البائسة ؟
العالم
       إنها زوجتي ..زوجتي رانية التي حدثتك عنها...لقد فرّت من البيت كما كنت أتوقّع ..ويبدو أنها هامت على وجهها مع الوليد حتى قادتها خطاها إلى هذا الكهف.. إنها تدخل في المسلك السرّي وهي تكاد تنكفئ من شدة الإعياء والإرهاق..
الشاعر
       زوجتك رانية..؟ أوَ متأكّد من ذلك؟؟
العالم
      إنها هي ..هي نفسها ولا يمكن أن أخطئ في التعرّف إليها ..هيّا أضغط على ذلك الزرّ الأخضر وراءك وافتح الباب الداخلي للكهف ..أسرع. أسرع..
الشاعر (يبحث عن الزّرّ بلا جدوى فيثير حفيظة الزوج)
العالم
      هناك وراء الكرسي الحجري أيها الأحمق. أسرع ..أسرع قبل أن تجدها الوحوش..   
 ينفتح باب في الصخر محدثا كركرة وتدلف الزوجة باحثة عن مخبإ وتفضي بها خطاها داخل الكهف إلى الفسحة الكبيرة حيث يوجد زوجها والشاعر...تسلّط عليها أضواء متقاطعة متخثرة فتبدو في حال مزرية ...وما إن ترى زوجها حتى تصرخ مذعورة، متشبثة بطفلها وهي تتحرك إلى الوراء.   لا..لا..إنه هوانه هو.. ..أغيثوني..أغيثوني..هو..هو..إنه هو..
العالم( يحاول طمأنتها)
       رانية..رانية..عزيزتي اهدئي..اهدئي أرجوك .
رانية ( ترتعش وتصرخ جاحظة العينين)
        لا...لا...لا تقترب منّي(ثم كمن يهذي) الوحش يطاردني.. .النجدة. ..النجدة..
العالم
      رانية ..حبيبتي ،أصغي إليّ...أنا زوجك  قُصي عدنان...اطمئني؛ أنت هنا في أمان و لن يصل إليك الوحش ،أعدك.
رانية
(وكأنها لم تسمعه ..تحملق مذعورة في جنبات الكهف فتلاحظ أن صورة زوجها انعكست على كل المرايا تقريبا فتزيد في الصراخ كالملسوع..)..
      الويل ..الويل ..كَسّروا المرايا...أنقذوني.. الوحش يتعدّد. لا أريد أن أراه...سيفتَكُّ مني ابني ويفتِكُ به.
الشاعر
     بماذا تهذي..؟
العالم
     لستُ النسخة  ..أقسم لك على ذلك...تماسكي أرجوك، فأنت في أمان مع وليدك..
(يقترب منها الشاعر ويومئ إلى العالم أن يبقى بعيدا ثم يبدأ في تهدئتها وملاطفتها بعد أن فهم سبب فزعها)  
الشاعر
      لا تخافي أيتها السيدة الفاضلة...ما سمعتِهِ حقّ...هذا الرجل ليس بالوحش...إنه زوجك قصي عدنان الذي تألّم كثيرا لفراقك، والذي يحبك حبا مفرطا...أقسم لك بشرفي...لقد أسرّ لي بكل شيء.
 (فجأة  تصيح البعابع الموجودة داخل المخبر في الكهف ،فتفزع المرأة من جديد وتحاول الفرار...ولكن الأبواب مغلقة)
العالم
      رانية...رانية...لا تجزعي يا عزيزتي...إنها بعابع أليفة ؛بدأَ داءُ الإسهال الصوتي يدبّ في أجسادها ولكنّها ليست متوحّشة ولن تؤذيك في شيء...أرجوك...صدقيني.
(تنظر إليه الزوجة وهي ترتجف رعبا فيهدئها الشاعر من جديد حتى يذهب روعها رويدا رويدا، ويقدم لها كوبا من الماء، فتشرب بنهم...يتقدم منها الزوج ويربّت على كتفها في  لطف  ومحبة كبيرين؛ ثم يأخذها برفق من يدها ويجلسها على كرسي وثير وهي متشبثة بوليدها).
العالم
       مرحبا بك عزيزتي...وحمدا لله على سلامتك.. لقد كنتُ أفكّرُ فيك طوال الوقت وأنا قلقٌ عليك وعلى مصيرك ..ولكن ها أنّ الأقدار قادتك أنت والطفل إلي...كيف حالك؟؟
رانية( بشيء من الغضب المفاجئ بعد أن تماسكت)
        تفكّر فيّ طوال الوقت..؟ وخفتَ على مصيري؟
العالم( كمن تلقى صفعة)
        نعم...ألستِ زوجتي وحبيبتي؟؟
رانية (بغضب متصاعد لم تعد تسيطر عليه)
        زوجتُك وحبيبتُك..؟؟ أمتأكّد من ذلك؟ أيسُرّك أن تظل مرتبطا بعاهرة خانتك ولطّختْ شرفك وأنجبتّ طفلا ليس من صلبك؟؟ أليس هذا كلامك يا زوجي العزيز؟؟
العالم
        لا تغضبي من فضلك...لقد جَمعتْنا الأقدار مرّة أخرى لا لنتخاصم وإنّما لنتراجع  ونكمل الطريق مع بعض... لقد قلتُ ما قلتُه تحت تأثير الصّدمة حين رأيتك في أحضان ذلك الوغد...وأيّ رجل كائنا من كان يتصرّف مثلي..
رانية
        هذه تبريرات غبية لفحولة شرقية جريحة  .
العالم
       فليكن...ولكن في تلك اللحظة  ماذا كنت تنتظرين منّي؟ أن أقبل بالأمر الواقع وأتخلّى عن نخوتي ورجولتي وأربّتَ استحسانا على كتف ذلك القذر وأُبارِك ما فعلتُما، ونعيش تحت سقف واحد...ونكون أوّل أسرة يتعدّد فيها الأزواج..؟؟؟
الشاعر(مخابثا)
وضعية فريدة لزوجة فريدة تتلهّى بزوجين في وقت واحد.
العالم( في حنق متجها بالقول إلى الشاعر)
     أُصمتْ أنت...لسنا في حاجة إلى تعليقاتك السخيفة..
رانية
      لا، ليست سخيفة بل رشيقة...إن صاحبك يكْملُ ما بدأت بعد أن عُدت إلى التحقير والمحاكمة الجائرة(تَهِمُّ بالقيام فيهدئها)                
العالم
 لا تفعلي أرجوك، ودعينا نتناقش   بهدوء.
رانية( تنهض رغم ذلك هادرة )..
     يبدو أن أخلاقياتك أيها الزوج الشريف قد ألغت عقلك وعلمك ومشاعرك أيضا، ولا أدري أيُّ خطى مجنونة قادتني إليك ( ثم تحاول الخروج كعاصفة هوجاء فيلحق بها زوجها من جديد ليثنيها عن صنيعها)
العالم
     لا تذهبي حبيبتي أرجوك...دعينا نتفاهم
رانية
        أتركني.. أنت تقول ما لا تُضمر... أنت لم تعد تحبّني ولا زلتَ تحقِد عليّ في حقيقة الأمر(ثم ناشجة ومتفجرة) ألم تتبيّن أنني أنا أيضا ضحية مثلك...؟لقد عدتَ من سفرك مُفعما بالشّوق ...وكان من المستحيل أن أميّز بينك وبين النسخة..
العالم( مشفقا وحانيا).
      أنتِ على حقّ...لقد تيقّنتُ من ذلك في ما بعد...وأقرُّ أنّه لا ذنب لك في لعبة المرايا هذه..
رانية( باكية ومحتجّة)
       ولماذا لم  تعد وتخلّصْني من تلك المصيدة إذن ؟؟ 
العالم
        كنت مشغولا جدّا.
الشاعر(ساخرا)
      نعم كان مشغولا بتجاربه وندواته ومقابلاته...مشغولا بي وبالبعابع وفتوحاته المخبرية.
العالم
       عليك اللعنة...اصمت وإلا اقتلعت لسانك هذا وأطعمته لفئران المخابر( ثم متجها بالقول إلى زوجته)، لقد كنتُ مشغولا فعلا ، فالمؤامرة  الرّهيبة  تجاوزتِ البيت...لقد وجدتُ نسخة  أخرى مني هذه المرّة في المخبر المركزي الذي أشرف عليه .وأُطْرِدتُ منه كما أُطردتُ من البيت..
رانية( وقد نسيت كرامتها الجريحة إلى حين وتنامى فضولها)
 ماذا تقول؟ نسخة أخرى منك في المخبر؟؟
الشاعر(بنفس النبرة الساخرة)
      يبدو أنه شخص مهمّ جدا...ولذلك كثرتْ نسخُه  تماما كالكتاب الفريد.
العالم
     ألن تصمت يا هذا وتكُفّ عن سخريتك وتفاهاتك؟؟
رانية( وقد زاد فضولها)
      قلتَ شخص آخر مشابه لك كل الشبه في المخبر؟
العالم
      نعم نسخة أخذت مكاني لتُشرف على المخبر، وقد تحوّل كل العاملين إلى وحوش أو قل بعابع نهاشه ،واستحوذوا على كل شيء والله وحده يعلم ما يخططون..
رانية
      وما العمل أذن؟
العالم
      كل شيء بأوانه...ولكن قولي كيف فررْت من البيت؟ ومنذ متى؟ وأين اختبأت طوال هذا الوقت..؟ فحَالتُك الرثة تنبئ عن معاناة شديدة في العراء...لماذا لم تواصلي العيش مع ذلك الرجل السّيئ؟؟ أتفطّنْت للخديعة؟؟.
رانية( كالمكلّم نفسه وبمرارة كبيرة)
      أواصل العيش معه وقد تفتحتْ عيناي على الحقيقة.. ! مستحيل...مستحيل..(تتركز عليها أضواء  منوار متعقب وسط الخشبة  فتضع الوليد...وتبدأ في السرد)..لقد تفطنتُ إلى شيءٍ غريب في صوته...حشرجة مشروخة تُخفي ما يُشبه البعبعة كلّما حاول أن يقول كلاما لطيفا...أو كلّما ثار...وكان ذلك يُخيفني...ومع مرور الأيام  تحوّل البيتُ كلّه إلى إسفنجة ضخمة تنزّ صديدا وقيْحا وروائح نتنة نقلها إليّ فأصبحتْ تعْبق من ثيابي ومن شعري...وحتى من صوتي...لذلك كنت أغتسلُ المرّات العديدة...حتّى أتطهر.. حتى أتخلص من تلك القذارة ومن تلك الرطوبة الساخنة اللزجة التي تَسكنني   كلما غشيني بنهم وتوحش...(تقوم بالموازاة  بحركات تثبت هذا الاشمئزاز...تفرُك يديها على بعضها بعنف من يريد أن يتخلص من قذارة عصيّة وتُواصل) حتى الطفل كرهته لفترة ما...كان صُراخه كالصديد، حتى أنني كدت أخنقه في بعض الأحيان...
وذات يوم وجدتني أحملُه بَين ذراعي وأفرّ من البيت في غفلة من الرجل الغريب، أهيمُ على وجهي حتى أتخلص من جحافل الخوف ومن تيه السراب...وآويتُ إلى خرابة قرب المقبرة..
العالم (مشفقا)
     وعشتِ مع الرعب والعطش والجوع...تستركِ هذه الأسمال...أنت رانية قصي عدنان..؟؟ كم هو قاسٍ  وأخرق هذا الزمان..
رانية(وقد احتضنت وليدها من جديد)
نعم ..لقد كانت تجربة قاسية ..قاسية جدا...خبرتُ خلالها الجوع والألم والمرارة...كنت أضطرّ إلى أكل الحشائش والدّيدان بين القبور حتى أضمن بعض الحليب لهذا الرضيع المسكين..
العالم (حانقا وضاربا بقبضة يده على إحدى المرايا التي تغلف جنبات الكهف فيهشمها)
      الوحوش.. الأوغاد.. هم المسؤولون عن كل ما حدث...وسيدفعون الثمن غاليا.
رانية (وقد استعادت غضبها)
     أنت لا تَقِلُّ عنهم توحُّشا وأنانية..
العالم
 أنا ؟ أنا؟ كيف ذلك؟
رانية
       لقد عشتُ كالحيوانات السائبة وتعرضتُ لكل الأخطار لأنك تحصّنت داخل أنانيتك المقرفة وأخلاقياتك وتخليت عني..   
الشاعر(بنفس النبرة الساخرة)
       هو كذلك.
العالم
      اخرَسْ أيها الغراب الناعق ،(ثم لزوجته)قلتُ إنني لم أتخلّ  عنك...لقد كان ردُّ فعلي هستيريا في البداية...ولكن تغيّر موقفي منك ومن الطفل بعد ذلك...والدليل أنني أرحّب بكما الآن في هذا المخبر السرّي.
رانية
     ربما أشفقت علينا بعد  أن وخزك ضميرك والتقيتنا صدفة ،فأردتَ أن تصلح ما أفسدتَ...لكن لا أريد منك شفقة ..لا أريد شفقة ..أتفهم؟؟
العالم
      لا ليست شفقة...إنّك تعرفين جيدا أحاسيسي نحوك (شيء من صمت) أضف إلى ذلك أنكما أنت والطفل ستلعبان دورا حياتيا لا بالنسبة لي فقط وإنما لكل سكان هذه المدينة..
رانية
    وكيف ذلك؟؟
العالم
 لقد انقدحت في ذهني حتى قبل مجيئك والرضيع  فكرة هامة وجريئة..
رانية
      وماهي ؟
العالم
      ستكونان جزءا من مشروع الإنقاذ.
رانية (بفضول أكبر)
       مشروع الانقاذ.؟
العالم
     مشروع الرحيل إلى واحة الفرات التي حدثني عنها الشاعر قبل مجيئك بقليل...،ثم إنني توصلتُ نظريا إلى اكتشاف مصل  يُمكّن من القضاء على الداء المستشري في مدينتنا.. صنّعته بكميات ضئيلة وجرّبته في هذا المخبر على الفئران وكانت النتائج مشجّعة إلى حدّ  .. وحقنته للبعابع وانتظرُ التأثيرات قبل أن أصنّعه بكميات كبيرة.
سنفرّ بليل أنا وأنت والشاعر والبعابع.
الشاعر
     آه...نسيت ُ أن أقول لكِ إنّه يريد أن يكون نوح الأصوات  بعد أن أُتِمّ صنع هذه السفينة..
رانية(في استغراب أكبر)
     نوح الأصوات..؟
العالم
      لم لا..؟ أحمل في فلكي ما به يبقى الإنسان إنسانا...صوتا رافضا، وبراءة، ومصلا  أحقنه بعد تطويره للبعابع
  ..وزوجة فتية مني ومنها يتناسل إنسان ما بعد الطوفان(ثم كالحالم)  سنفرّ من هذه الزريبة ونُرسي فلكنا في الصحراء ...نستحمّ بذرّات الرمل المغسولة بالشمس، ونؤثّث بما بقي من أصواتٍ عالما أجمل...ونستعيدُ أبجدية الكلام  نحفرها بالمسامير على ألواح الطين..
رانية
     هراء.. هراء ما تقول...أنت لم تعد قصي الذي أعرفُ...لقد ألغيتَ العقل وأصبحت شاعرا تنحت مدنا من أحلام وتفرز سرابا وضبابية...ولعلّ شاعرك المجنون هذا هو الذي غواك وأتلف عقلك.
العالم
     الحلم المجنون يصبح ضرورة إذا تعذرت سبل الخلاص...بل هو الخلاص عينُه إذا ما سندته إرادة متحفّزة  يستحيل معها واقعا...
الشاعر(جادّا هذه المرة وفي يقين مثير)
    نحن منحوتون يا سيدتي من ذات المادة التي قُدّ منها الحلم...وإذا تبخّر تبخرنا ..ولا بدّ له أن يستمرّ حتى نكون..
رانية
       كفاكما فلسفة عرجاء ..لقد ولّى زمن النبوءات والأحلام وجاء عصر حرب النجوم وحرب الجينات...أفيقا من وثير القول وجابها الحقيقة...(ثم متجهة بالكلام إلى زوجها ) قل لي هل تستطيع بمصلك الذي ذكرت أن تقضي نهائيا على هذا الوباء؟
العالم
      ممكن ذلك .
رانية
      الإمكان لا يفيد في ما نحن فيه...هل تجزم في ما تقول؟.
العالم
    علميّا من السّابق لأوانه القطعُ في ذلك  ..لقد حقنتُ البعابع ولكن النتيجة النهائية لن تظهر إلا بعد شهر تقريبا.
رانية
   ولربما تكون عكسية .
العالم
    جائز، ولكن لا بدّ من الأمل
رانية
      وإن خاب؟
الشاعر
      هناك الطفل سنراهن على براءته.
العالم
     نعم منه ننطلق...نُعلّمه الأصوات والكلام ونُحصّنه بالرفض فيكون بداية النسل الجديد ..
رانية
      هذا كلام لا معنى له ...تحصّنه بالرفض و تُراهن على براءته؟ أو نسيتَ أنه ابن النسخة ولربما يكون موبوءا هو الآخر؟
العالم
     لماذا تكسّرين مجاديفي كلّها؟ ثم.. فلنفرض أننا فشلنا فهنالك أنا وأنتِ...ومنا ينهض النسل الجديد..
رانية
     أنا لن أذهب معك..
العالم
      لا...لا بل  ستذهبين...لن أتخلّى عنك هذه المرة..
رانية(بمرارة شديدة)
      مستحيل...لقد أُصبتُ ونهشني الوحش وقد أتاني ذات ليلة... ومن يومها أصبحتُ أحس بأعراض قيء رهيب يكاد يقتلع أحشائي( ثم بصوت هدّه الإعياء) لقد همتُ على وجهي  بحثا عنك حتى أعطيك الطفل...إنه وليد النسخة...ولكنّه ابني( تضمه إلى صدرها في حُنُوّ بالغ)..وأخاف أن يسترجعه الوحش...أرجوك عِدني بأن تُحافظ عليه...إنه بريء...بريء من هذا المسخ.
العالم (مشفقا وبصوت يطغى عليه التأثر)
      وأنت أين ستذهبين ؟
رانية
      سأبقى في هذه الزريبة القذرة وأعمل على تفجيرها من الدّاخل وأتفجّر معها قبل أن أفقد صوتي...(ثمّ كالملسوع)  خذِ الطفل...هيا أسرعوا...أسرعوا وغادروا حالا ، فإنني أشمّ رائحته...أشم رائحتهم...إنّهم آتون...آتون إلى هنا..
 يُسمع ركض في الخارج، فوق الكهف ..يُبعبع المرضى مذعورين ..ثم فجأة تدلف وحوش مقنّعة من سرداب وتبدأ في تحطيم كل شيء؛ بعضُها يغير على البعابع والبعضُ الآخر يتحلق حول العالم ، يحاصره ثم يهجم عليه ويبدأ في نهشه في شبه غبش ... ثم تعمّ الظلمة الركح ويطغى حمّام من الأصوات  والصراخ والبعبعة والحشرجة...ويبدأ الهروب ..يُسرع الشاعر و قد أوقد مشعلا وهو يدفع البعابع وزوجة العالم في الدهليز ، يسلك ممرّا غير معروف أطلعه عليه العالِم من قبل...ولكن الزوجة تعود لتنقذ زوجها فتدفعها المسوخات المتوحشة قبل أن تُجهز عليه فتسقط...يسحبها الشاعر بعد أن التقطت الرضيع وهو يصرخ...يندفعان وراء البعابع داخل الممر الضيّق...موسيقى وإيقاعات ضوئية خاصة 
الشاعر
    من هنا...من هنا...وإياّكم أن تتيهوا فالأنفاق كثيرة...اتبعوني  ..أسرعوا...أسرعوا  قبل أن تلحق بنا الوحوش.
بعد جري طويل في العتمة المديدة تُضاء فوانيس الركح تدريجيا لتوحي بالخروج إلى فضاء بلقع...أضواء بلهاء خاوية وزخرف يوحي بالصحراء يطغى عليه إيقاع ذرات الرمل المتطايرة ولفح الشهيلي..
يلتفت الشاعر ،وقد تغيّرت ملابسه وهيأته في الظلمة؛ فأصبح كثّ الشعر، عظيم اللّحية، يلبس عباءة تتطايرُ أعطافُها مع هبات الرياح ويمسكُ عصا غليظة كما عصى الأنبياء...يلتفتُ وإذا به يفاجأ بزوجة العالم قد تحولت إلى بعبع...يحاول أن يأخذ منها الطفل فتجابهُه بأصوات مُخيفة، شرسة...ثم يهيم على وجهه في الصحراء يقود قطعانا كبيرة تثغو بطريقة بلهاء وعيون لا حياة فيها على إيقاع ريح السموم ..ويتقدم حافي القدمين في الرمال اللاهبة متوكئا على عصاه فتصطكّ في داخله أصوات مجهولة                 
أنا
        انشرخ الحلم وتبدّد سراب الواحة..
أنت
       أنظر...أنظر.. دودة جميلة   تتحرّك من تحت الرمال الذهبية...سوف أمسكها بالشص.
أنا
         والرمل يلفح الوجوه ويكوي الأرجل.
أنت
         الدودة تتحرّك...تتحرّك...لعلّها تريد أن تنبُت في العراء زهرةَ رملية..
أنا
        وسياطُ النار اللاهبة تسطّر خرائط التيه.
أنت
          هي ذي قد علقتْ بالشص...آه ما أروع حركتها...آي ..لقد طارت قطعةَ من برق ،وحلقت في الفضاء وتلاشت في بعيد البعيد.
أنا
          قلت لن ينبت شيء في الصحراء ولن يزهر إلا التيه...
                                                            (سراب وأصوات الشهيلي) 





        ستار



الأحد ،الواحد والعشرون من ماي 2017، على الساعة الواحدة  وخمس دقائق ظهرا.

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption