قراءة في (زَيْزَفْ) عادل البطُوسِى / د. فاضل الكعبي ـ العراق
مجلة الفنون المسرحيةهذه هي القراءة السابعة في المونودراما الشعرية (زَيْزَفْ) للشاعر المسرحي (عادل البطوسى) بعد ست قراءات أخريات للمبدعات الفُضليات : أ.د جميلة أزقاي / الجزائر ـ أ.د وطفاء حمادي / لبنان ـ أ.د سحر عيسى / السعودية ـ أ.د شاهيناز أبو ضيف / مصر ـ أ.د أحلام عبدالرحيم / مصر ـ والفنانة القديرة سعاد خليل سيدة المسرح الليبي
ــ ترى ماذا يعني أن ترهن قلمك، تجربتك، خيالك، تفكيرك، تأملاتك، إبداعك، كتاباتك، هوسك، هاجسك، وهمّك الإبداعي والحياتي لقضية واحدة، مؤطَّرة بإطار كائن إنساني موغل بالحب والانتماء المفرط، والمفرط جداً، جداً، حدّ المبالغة عند النظر إليه للوهلة الأولى، قبل الدخول إلى عتباته، والتعطّر بعبق ما يحيطك، ويأسرك بما فيه من عطر آسرٍ أخّاذ لا تقوى على صده، والتخلص من شباكه الأرق من النسمات العذبات المنعشات والمؤلمات في آن، حتى تجد نفسك وحواسك كلها تخطو وتتقدم وتتوغّل في عوالم هذه العتبات بقوة، حيث تلقي وتتلقى ما يلقيه إليك من حيثيات خطبه وخطابه الذي يشدّك، ويأخذك شيئاً فشيئاً إلى متونه العجائبية الغرائبية في تركيبات حروفه وكلماته وصوره الشعرية والسردية والدرامية التي تتلبّس لباس كائن حي بطاقته، بروحه، بإحساسه، بسلوكه، بوعيه، وبما فيه من طاقات ومكنونات لا تحصى إلا عند كائن مغاير بوعيه وتفكيره ولغته وصناعته ..!!
عند ذلك لا تجد نفسك إلا وأنت واقع تحت تأثير ساحر مؤغل بسحر واقعة الواقع وصياغتها بمهارة لا تخرج عن خيال ساحر يتلبّس كل ما في الجمال من لذَّة وشجنٍ ودهش !.. منتوجها في نصٍّ باذخ بالمعنى وسحر التلقي، هذا الذي يعلّمك كيف هو التلقي الحقيقي لنصٍ لا يمكن الفكاك منه إلا بالجري وراء أثره وتأثيره بكل العتبات والقسمات والمثابات التي تجول فيها جولاً حتى تجد أحاسيسك وقد أصبحت جزءً لا يتجزّأ مما أنت فيه من عوالمٍ مصاغة بدهشة وألم وإحساس مكلوم لا يقوى على التخلّص مما تلبَّسه من روح ومعنى ووجود لكائن غادر الوجود المادي غير أنه حاضر بوجوده المعنوي، الحسي، الافتراضي، المتخيل، الذي تلبّسه هذا الساحر، الذي خرج علينا بهيئة كاتب، شاعر، مسرحي، هذا الذي لم يخرج علينا بخروجه هذا كما هو الحال بهيئة ما يكون عليه خروج الكتّاب، الشعراء، المسرحيين، التقليدي، المألوف في الكتابة والانجاز، فكان أكثر وقعاً مما أوقعنا فيه غيره من التلقّي وفي التلقي الساحر هذا الذي تلقّيناه مما كتب، وعبّر، وصاغ، وأخرجه إلينا بهيئة نصٍّ شعري ينتمي لصنف (المونودراما) المنتمي لغة، وإحساسا، وروحاً، وموضوعاً، وثيمة تتلبّس هيئة امرأة بوجودها وروحها، وأيَّة امرأة ؟!!.. هذه التي استحضر روحها، واستحضر دلالتها، ومعناها، وحتى صوتها بتقنية الصدى في روح المُستَحضر، هذا الساحر، الكاتب، الشاعر، المسرحي، هذا الكائن الإنساني بكونه الفيسيولوجي والسايكلوجي والسوسيولوجي بكل تكويناته وملهماته في الكتابة والتفكير وحتى في دلالات ما يظهره في سيميولوجية معناه الإنساني الذي سخَّر هوسه ودلالاته لتلك المرأة التي أصبحت قدره وقدّرها حق قدرها وأكثر بكثير من كل تقدير يقدّر في قدرٍ إنسان منفتح على كل الصفات والتوصيفات، وأكثرها قيمة ومهابة وسموَّاً أن جعلها مقدسة في روحه، في إحساسه، في عقله، في تفكيره، فانتقلت هذه القدسية – سحراً وعفوياً – من ذاته الكاتبة إلى ذوات المتلقين من قرّاء ما كتب ويكتب عن هذه المرأة المقدسة، الذي سمّاها وسمى بسميّة تسميته لها بـ (زَيْزَفْ) حتى جعل كل من يقرأ له عن (زَيْزَفْ) يقرأ بقدسية، وينظر بقدسية، ويتلقى بقدسية، لهذه المرأة (الغائبة / الحاضرة) ترى مّن تكون (زَيْزَفْ) هذا المرأة، التي يصرُّ هذا الساحر، الكاتب، الشاعر، المسرحي على استحضارها من الماضي إلى الحاضر، والإصرار على حضورها في أنفاس وإحساس وتأمّل الحاضر والآتي، ليس في حاضره، وفي كينونته، وذاته فحسب، بل هو يسعى ويجاهد إلى استحضارها واستحضار وجودها بدلالاته ومعناه، في حاضر، وفي كينونة، وفي ذات قارئه المتلقي لما يكتب، وهو بذلك يسعى ويصر على إحياء ذكراها وتذكرها طوال الزمن بكل تفاصيل الوقت من الدقائق، والساعات، والأيام، والسنوات، فيقنعنا بحياتها رغم موتها، وبحضورها رغم غيابها؟ فهل نحن معنيون بما يعنيه هو؟!
قطعاً : هذا السؤال باستفهاماته يعنينا، كما تعنينا الإجابة عنه بكثير من العناية..! وقد أصبحت هذه المرأة (المقَّدسة) التي أستحضرها وأحياها ساحرها المحب، العاشق، المكلوم، المتيّم، الكاتب، الشاعر، المسرحي، المهووس حد الإدمان وفوق الإدمان وأكثر منه بكثير التعلّق بهذه المرأة، فهذه المرأة هي (زَيْزَفْ) أمُّ الساحر، الكاتب، الشاعر، المسرحي، وهذا الكائن الموصوفُ بتلك الأوصاف، المهووس بتلك المرأة، هو عادل البطوسي، وهذا البطوسي الكاتب، الشاعر، المسرحي الخلّاق، البارع، المتميّز، يكتب عن أمه الراحلة بكل هذا الوفاء، وبكل هذا الزخم، وبكل هذا الوله، وبكل هذا الجمال، وبكل هذه الروعة، وهذا الهمّ، والألم، والشجن، فيجعلك بذلك تتحسَّس أحاسيسه، ومشاعره، وهمومه، وبكائياته، واستذكاراته بكل لوعة، وصدق، وغصة، ونسجاً وهي تتنفّس وتنطق على أديم الورق الذي يشدّك بكل تشويق ومتعة لما فيه لغة أخاذة، ومن صور شعرية غاية بالصدق والتجسيد، فتجد نفسك بذلك أمام عملاق في التعبير والسرد والإبداع، يسحرك، ويثيرك، ويدهشك، ويمتّعك أكثر وأكثر كلما توغَّلت في غابات كتابته العميقة هنا..!!
من هذا المنطلق أدرك تماماً عمق، وأهمية، ومسؤولية ما يكتب في القراءة النقدية، الفاحصة، والدقيقة في هذا الاتجاه، وهي – كما أرى – لابد أن تكون قراءة جمالية، موضوعية، تعمل على فك شيفرات النص وتضيء مكامنه الخفيه أمام القاريء، لكي يستلذّ هذا القاريء ويستمتع في تلقيه لهذا النص والتمعّن المعرفي واللغوي والجمالي لكل خواصه ومخرجاته ..
وانطلاقاً من هذا المعنى، وهذا المدرك، وجدت نفسي ومسؤوليتها الأخلاقية والفنية والنقدية والموضوعية، ومعها مستوى وحدود ذائقتي في التلقي، وقد أنطلقت هنا لتسير باتجاهين في مسار واحد، الاتجاهان هنا هما : اتجاه القاريء، أولاً، واتجاه الناقد، ثانياً، أما المسار الواحد هنا، فهو مسار التلقي، والانطلاق في هذا المسار بروح واحدة، وإحساس واحد، ورؤية واحدة، وبموضوعية واحدة، تمزج بين هوس القاريء اللبيب، وبحثه عن المتعة، والتشويق، والمعرفة، والإثارة، والدلالة، واللذة، والتلذذ في المقروء النصي، وبين روح الناقد ووظيفته الفنية، الثاقبة في مهابات ودلالات اشتغالاته الاستقصائية، والبيانية، والجمالية، والمعيارية، والمنهجية، والتذوّقية التي لا تبتعد عن مساحة القاريء اللبيب في مهاراته ومتطلباته القرائية الواجبة في الدخول إلى معترك المقروء، وتوضيح ما يجب من التوضيح، في الاستنتاج، وفي الاستدلال، وفي التبيان لبيان ما في مقروء الكتابة هنا أمام القاريء، وخصوصاً اصطياد ما يجد من اللآليء والدّرر في بحار النص وفي أعماقه المكنونة ..
وهكذا وجدتني انطلق بهذا المنطلق، وأنحو بهذا المنحى، حين كلفني صديقي الأحب، ورفيق دربي في الكتابة ومخلوقاتها، الكاتب الشاعر المسرحي المبدع والمتميز الأستاذ عادل البطوسي بكتابة مقدمة لمونودراماه الشعرية البارعة والمتميزة في كتابه الفائق الجمال هذا الموسوم بسمة الأم (زَيْزَفْ) وحقيقة كنت فخوراً غاية الفخر، ومستمتعاً غاية الاستماع وأنا أقرأ هذا العمل بالوظيفتين الأساسيتين، وظيفة القاريء، ووظيفة الناقد، وفي الحالتين أنا أمام عمل أدبي، شعري، مونودرامي، ساحر في لغته، وفي موضوعه، وفي صياغته، وفي تصويره وفي تجسيداته، وفي وقعه، وفي إيقاعه المؤثر والباذخ الأثر والتأثير في حواس المتلقي، وفي ما يترك من معانٍ وتأثيراتٍ لا يمكن نكرانها في روح التلقي ..
(زَيْزَفْ) نص البطوسي هذا، يجب أن يقرأ بأكثر من قراءة، وينظر إليه بأكثر من منظور، ويؤخذ به على أكثر من دالة ومدلول، على أن يؤخذ به ويعتمد كقيمة من القيم الإنسانية والموضوعية والأخلاقية والأدبية، فهو على مستوى القيمة الإنسانية ودلالاتها، لابدَّ أن يؤخذ ويقتدى به كقدوة ما بعدها قدوة في الوفاء الإنساني الفائق وفوق العادة، يرتبط مع ذلك من الناحية الأخلاقية والدينية والعاطفية التي تتأطر بأطرها الإنسانية الخالصة، قيمة وقمة البر الواضح والواجب الذي يجب من الإبن تجاه والدته، تلك الأم التي تكمن الجنة تحت قدميها، فكيف بالبطوسي هذا الابن، الشاعر، الكاتب، الذي أفرط، وبالغ في إفراطه ولا يزال يفرط في الوفاء، وفي البرِّ بأمه ولأمه، إلى الحدّ الذي ما عاد يفكّر ويكتب إلا لها، وقد صار كطفل تائه من دون أمه، وهي حقيقة عبر عنها بكل صدق ووضوح هنا، حين كتب لها في الإهداء المؤثّر والبليغ للغاية مخاطباً إيَّاها بالقول :
( إليكِ يا أمّي ..
فبعدك صرت كالقلعة المكشوفة للريح ،
كالخيمة التي اقتلعت العاصفة أوتادها ..
كطفل تائهٍ ضاع من بين يديه :
كيف يحيا ، دونك – يا عُمر العمر .. بقية عمري . )
أي وفاء هذا !!..
وأكثر من ذلك يبهرنا البطوسي بشدة أكبر حين يعبّر عن كبر الوفاء وعظمته بهذه الصورة الشعرية الأخاذة وهو يقول :
(لكنّي يا أمّي
أحيا دونك بحدادٍ أبدي
يسكنني حدّ الموت بدون عزاء)
ويواصل في مكان آخر وخزنا وإدهاشنا في آن واحد بلغته الشعرية وصورها الأخاذة المؤثرة، حين يصرّح بكل صدق :
( لا أحد سيشعر مثلي
بعذاب الفقد
وأيّ فقيدة )
ويواصل :
( لاشيء سيجدي،
ما أصعب أن أبقى وحدي،
أن أفقد أمّي ووليَّة أمري )
وأكثر من ذلك وأكثر، وأكثر حين يجعلنا نتحسس لوعته، وأثر الفقد في روحه وفي احساسه، وآلام ذلك وغصته الباقية في أعماقه، لا تبرح ولا تخفّ، وكأننا حين نقرأ ونتلقى نستشعرها بكل ما فيها وما تترك في النفس وفي الاحساس، فنشعر بوخزها ووقعها في أنفاسنا وفي أنفسنا وفي أحاسيسنا، فيجعل كل من فينا ممن فقد أمه، وأنا منهم، نستذكر ونتحسس معاني الفقد ودلالاته بكل مهابة ولوعة وغصة، ويزيدنا من ذلك الكثير الذي يدفعنا إلى التعاطف، والتماهي، وتحسس الفقد بدرجة عالية من الأثر والتأثر، بل ويجعلنا نستشعر طفولتنا أمام الأم رغم كبرنا وتجاوزنا مراحل الطفولة، وما نقوى على تجاوزها والشعور بغير شعور الطفولة، والإحساس بغير إحساس الطفولة، ونحن نقف أمام مهابة الأم وقدسيتها العالية النبيلة كل النبل في حياتنا، مثلما جسدها البطوسي هنا تجسيداً خلاقاً يستنطق حتى الساكن والحجر إذا ما سمع صوته الشجي الباذخ في حزنه وفي رجائه وهو يناجي أمه بهذه المناجاة :
( يا أمّي .. ارحمي إبنك ... وارجعي )
الله عليك يا أيها الإبن الوفي البار، المجنون حدّ الحب والبر في جنون حبه وولهه وعشقه وهو يناجي أمه هكذا ويطلب منها العودة إليه ..!!
هكذا هو الإبن البار، والعاشق، الكاتب الموهوب البارع ، الشاعر الخلاق المبدع المتميز، والطفل الحنون، الباكي، الذي لا يريد أن يكبر وهو أمام أمه وعوالمه، هذا الطفل الخائف، المفرط بإحساس الفقد ولوعته ..
ماذا عسايَ أن أكتب عن هذا الطفل المولع، المكلوم، الصادق؟ وماذا عسايَ أن أقدّمه للقاريء، وهو الآن بهذا الكبر ككاتب، وشاعر، خلاق ومبدع، وصانع ماهر لمعاني الجودة والحسن في التعبير والصياغة والصنعة في الإبداع، هذا المبدع الوديع الرائع، الذي لا يريد أن يغادر هواجس أمه وعوالم فقدها التي تدور في روحه وتفكيره وإحساسه مدار الحياة ونبضها ..
الصديق المبدع البارع عادل البطوسي في نصه الأثير والمؤثر (زَيْزَفْ) يعطي درساً مهماً وبليغاً عن عظمة الأم وقيمتها، ودلالاتها، وأهمية الوفاء والبر بها، وما تشكّله الأم من دلالة ومعطى ومعنى في حياتنا، وهو بذلك قد عبّر بكل براعة وبلاغة عن قيمة الأم، وقد وأوصل رسالة مهمة وبليغة للغاية للجميع، وخصوصاً لأولئك الذين يجحدون الأم ولا يولونها ما تستحق من الإهتمام والرعاية والبر الذي يوجب على الجميع بكل الأحوال، فالجنة تحت أقدامها حقاً ..
إنَّ ما كتبه البطوسي هنا عن الأم في (زَيْزَفْ) هذه المونودراما الشعرية الباذخة بجمال صنعتها ودلالتها وأسلوبها، وغير هذا الكتاب ما كتبه عن أمه الراحلة رحمها الله، في أكثر من نص وديوان وكتاب يضاف إلى جملة إبداعاته الخلاقة والمتميزة، مثل (رحيل السيدة الورد ـ موناليزا الشرق) وغيثرهما، يكفيه أن تدخله الجنة ببركات أمه وبرها، الذي تميز به وتفوّق على كثير من المبدعين ممن كتب وفاء واستذكاراً عن الأم ..
هنا في هذه المقدمة لا يسع المجال للنظر بسعة ومنهجية دقيقة إلى هذا النص الخلاق وماهيته الفنية والإبداعية وحرفيته الشعرية والعروضية والموضوعية والجمالية، فهذا الأمر يحتاج إلى دراسة معمقة وطويلة تأخذ بكل مظاهر النص وماهيته إلى الحد الذي يذهب إلى تشريح النص وتفكيكه من نواح متعددة وإعادة بنائه واستنطاقه مجدداً، الأمر الذي يدعوني بكل موضوعية وأهمية إلى دعوة الدارسين والباحثين والنقاد وخصوصاً منهم طلبة الدراسات العليا إلى قراءة هذا النص قراءة علمية متعمقة والبحث في خصائصه الموضوعية والفنية من كل النواحي فهو يستحق أكثر من دراسة ودراسة، مثلما يستحق أن يطبع ويوزع على نطاق واسع للغاية وبآلاف النسخ في عشرات الطبعات ليصل إلى مساحة واسعة من قرّاء العربية في كل مكان، فهو لبراعته الفنية واللغوية والشعرية في السبك وفي التعبير وفي التجسيد وفي البناء وفي الأسلوب يستحق كل هذا الإهتمام والإحتفاء بكل جدارة ..
ختاماً أبارك لصديقي المبدع المتميز والبارع الكاتب والشاعر عادل البطوسي هذا العمل الخلاق، وآمل بكتابتي السريعة هنا بهذا التقديم أن أكون قد مهّدت الطريق أمام المتلقي للدخول المناسب إلى عوالم (زَيْزَفْ) متمنيا للجميع قراءة ممتعة وممشوقة لهذا العمل الرائع والمتميز ...
0 التعليقات:
إرسال تعليق