أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

السبت، 3 يونيو 2023

المونودراما أنسب الأشكال المسرحية للتعبير عن العبثية مسرحية "تذكرة مغترب".. أصداء للاغتراب وأزمات الواقع.

مجلة الفنون المسرحية


المونودراما أنسب الأشكال المسرحية للتعبير عن العبثية مسرحية "تذكرة مغترب".. أصداء للاغتراب وأزمات الواقع.

عبدالسلام إبراهيم - العرب 

ليس من السهل اقتحام عالم المونودراما، سواء للكاتب أو المخرج أو الممثل. وإذا بدأنا بالنص المكتوب فمن الصعب خلق نص متماسك من خلال شخص واحد قد يلتجئ إلى أداء شخصيات عديدة، شخص يتقمص شخصية محورية من خلالها تحدث التفرعات الدرامية وتتلاحق القضايا التي يود صاحب العمل طرحها. ولكن تبقى المونودراما من الفنون الأكثر تأثيرا نظرا إلى قدرتها على التأثير في المتلقي، تأثير يتجاوز التماهي رغم أنه يدخل أعماق النفس البشرية.

يبحث الكاتب المسرحي السعودي إبراهيم الحارثي في نصه المونودرامي “تذكرة مغترب، سيرة غيرية” عن فضاء مختلف يستطيع أن يستوعب قضية الاغتراب.

 يتمرد الحارثي منذ البداية على الفضاء التقليدي حتى يتسق ذلك التمرد مع فضاء يستوعب فيض المشاعر والأزمات النفسية التي تختلج في صدر شخصيته المونودرامية.

جاء التمرد في صدر المسرحية حتى يضع المتلقي في حالة الوعي التي يستطيع من خلالها المقارنة والتفكير والنقد. وبرغم البحث عن مكان جديد يقولب فيه المونودراما يطلب وضع تأثير مناسب يتسم بالرتابة، ربما لكي تناسب الحالة النفسية التي سوف تظهر عليها الشخصية المونودرامية، مدفوعا بعبء اغترابي يبوح باختلاجاته ونوازعه وارتباكاته. يستعير الحارثي سيرة شخصية “ممثل” ليبني عليها ويحملها دلائل متعددة.

الاغتراب البريختي

ب

تُعرّف السيرة الغيريّة بأنها أحد أنواع التعبير الأدبي، والتي تخص الحياة الشخصيّة لشخص ما، حيث يقوم المؤلّف بإعادة بناء حياة الشخص الذي يكتب عنه بتفاصيلها بناء على وجهة نظره الشخصيّة، بالطبع بالاعتماد على الدلائل الموجودة سواء أكانت مصورة، محكية أو مكتوبة.

 يستخدم الحارثي الشكل البريختي من أجل مناقشة قضية الاغتراب التي تناسبه من حيث القدرة على الطرح وانتظار التلقي. في نظرية المسرح الملحمي يقدم بريخت تأثير الاغتراب من خلال التقنيات التي تساهم في خلق مسافة بين المشاهد والمسرح وتمكن المشاهد من البقاء مراقبا.

استعار بريخت مصطلح “الاغتراب” من هيجل: لكي تُعرف، يجب إظهار المألوف والنظر إليه على أنه غير مألوف.

استخدم بريخت في ممارسته الإبداعية “تأثير الاغتراب”، أي أداة فنية، الغرض منها إظهار ظواهر الحياة من منظور غير عادي، وجعلها تنظر إليها بشكل مختلف، بالإضافة إلى تقييم نقدي لكل ما يحدث على المسرح.

ترك الحارثي مهمة اختيار الفضاء المسرحي للمخرج ويحبذ أن يخرج عن نطاق العلبة الإيطالي حتى يكون الممثل قريبا من المتلقي، وليناسب قضية الاغتراب من خلال الشخصية المونودرامية، مثلما اختار المخرج الألماني راينهارت خيمة سيرك ليقدم تحتها مسرحية إغريقية هي “أوديب ملكا” لسوفوكليس، إذ إن مكان السيرك يشبه المسرح المفتوح المدرج نصف الدائري الذي اعتمده الإغريق القدماء، واختار واجهة كاتدرائية ليقدم مسرحية “المعجزة” ذات الطابع الديني، لكنه لجأ إلى مسرح العلبة ليقدم مسرحية واقعية.

بحثت بعض الفرق المسرحية في بعض الدول عن أماكن للمسرح بديلة وذلك للخروج على المألوف والأعراف السائدة.

مسرحية "تذكرة مغترب" تتميز بامتلاكها خصائص المونودراما الجيدة التي ترفع الوعي لدى المتلقي وتشركه في موضوعها

تسوقنا الشخصية المونودرامية “الممثل” إلى تعريف الاغتراب لكي نستطيع الوصول إلى الدلالات التي يحملها النص: الاغتراب الاجتماعي (Social alienation‏) هو حالة في العلاقات الاجتماعية تنعكس حسب درجة التفاعل أو التكامل الاجتماعي، والقيم، والأخلاق ودرجة المسافة أو العزلة الاجتماعية بين الأفراد، أو بين الفرد ومجموعة من الناس في مجتمع أو بيئة العمل. فهو مصطلح في علم الاجتماع وضع من قبل العديد من المنظرين الكلاسيكيين والمعاصرين.

من أهم السمات المميزة لتلك الشخصية المونودرامية هي الفردية والتركيز المنصب عليها، فبداية من تواجده وحده على خشبة المسرح مواجها الجمهور، يسرد حوارا لكنه التزم بملء المسرح وإقناع الجمهور بما يقدم.

وضع الحارثي شخصيته المونودرامية “الممثل” لتقدم نفسها في مجال المسرح وكأنه المكان الوحيد الذي يمكن أن يوجه من خلاله خطابه المسرحي.

يتحدث “الممثل” مباشرة للجمهور فينتقد تأخر وصول المخرج والممثل والمؤلف إذ لم يعد هناك عرض مسرحي، وأن ما سوف يؤديه الممثل سيكون ارتجالا. يعرض أيضا على الجمهور، إن رغب أن يغادر حتى يترك له حرية التصرف، ثم يعلن عن نفسه وكيف جاء برغم أن مجيئه صعب، ويتحول إلى ممثل بالمصادفة، ويؤكد أنه يعيش في الخيال هروبا من الواقع.

لذلك يتخيل الممثل أنه صاحب العرض المسرحي ويتحدث عن بداياته وعن أحلامه الأولى وكيف طوى الزمن سنواته وعانق العبث، إذ صار يتطاير مع الريح نظرا لخفة جسده الذي لم يحمل ما يمكن أن يثبت أقدامه على أرض الواقع. وبسبب ذلك بحث عن الغربة كملاذ آمن له ولتحقيق أحلامه، ثم يكشف عن الاغتراب وأسبابه والذي ينجم عن أكاذيب كبيرة، وفي الغربة يهاتف أمه ليبوح لها بمعاناته في الغربة ويظن أنها تشعر به.

التواصل المباشر

إبراهيم الحارثي يستخدم الشكل البريختي لمناقشة قضية الاغتراب إذ يناسبه من حيث القدرة على الطرح وانتظار التلقي
إبراهيم الحارثي يستخدم الشكل البريختي لمناقشة قضية الاغتراب إذ يناسبه من حيث القدرة على الطرح وانتظار التلقي

يقول بريخت “علمت أنك تريد الجلوس بهدوء في القاعة وإصدار حكمك على العالم، وكذلك اختبار معرفتك بالناس، والمراهنة على واحد منهم أو آخر على خشبة المسرح، أنت تقدر المشاركة في بعض المشاعر التي لا معنى لها، سواء كانت مبهجة أو الكآبة التي تجعل الحياة ممتعة. باختصار، يجب أن أتأكد من أن شهيتك تتقوى في مسرحي”.

في مسرحية الحارثي يراهن “الممثل” على وعي الجمهور ويوجه خطابه مباشرة ويشركه في أحلامه وانهيارها، ويسرد ماضيه بكل جرأة.

يستنكر “الممثل” ما قاله له صديقه بأن يتزوج وحسب أن فكرة الزواج كانت قصيرة إذ لم تؤثر فيه كثيرا، ويعدد خساراته في الغربة وفداحتها إذ إن شعور الاغتراب تعاظم لديه. في اللحظة التالية تتجسد المعاناة الحقيقية التي يستشرف فيها المستقبل وما يحمله من أوجاع وآلام وانكسارات، وما يمكن أن يصادف من أعداء حقيقيين ووهميين يصنعهم خياله المريض.

حينما يطالع الممثل الصحيفة يصادف خبرا عن أمسية شعرية ويتكرر الخبر وكأنه خيالات متكررة، وخبرا عن عرض مسرحي وآخر عن افتتاح صالة فنون تشكيلية، وأخبارا أخرى مختلفة، ثم يلامس الأزمة التي يعيشها وهي أخبار عن المغتربين الذين ازداد عددهم وخبر عن عودة المغتربين، ثم يسقط على الأرض وكأن ذلك الخبر أثر بشكل مباشر على ضيقه، تتجلى معاناته في رفضه للعودة وهو يمثل قطاعا عريضا من المغتربين الذين خرجوا من أوطانهم هروبا من ظروفهم القاسية، وحينما يفكرون في العودة نظرا إلى حنينهم يرفض ضميرهم الحي ذلك ويفضل الاغتراب بأزماته النفسية عن الواقع الصعب بأزماته الواقعية.

"تذكرة مغترب" تمكنت الشخصية المونودرامية فيها من التواصل مع المتلقي عبر مناقشته وتوجيه الحديث له مباشرة

كتب تشيخوف نصه الشهير “مضار التبغ” ووصفه بالمونولوج في فصل واحد، وكتب الفرنسي جان كوكتو نصه “الصوت الإنساني”، وكتب يوجين أونيل نصا مونودراميا بعنوان “قبل الإفطار” ترجمه كاتب السطور، بينما كتب صمويل بيكيت “شريط كراب الأخير” والذي اعتنى بالمونودراما ووجدها أنسب الأشكال المسرحية للتعبير عن العبثية والتي تقوم على عزلة الفرد واستحالة التواصل الاجتماعي.

يقول الممثل: قطعت العديد من تذاكر السفر، لاحظوا تذاكر السفر، من المفترض أن يكون اسمها تذاكر عودة، لأنني أعود وملء وجهي نافذة تطل على الأسى.

نستشف أن “الممثل” يرفض في داخله العودة وإن عاد سوف يكون بلا ذاكرة، سوف تتلاشى كل ذكرياته مع ماضيه المؤلم، وأن إحساس الاغتراب الذي يلازمه سوف يؤثر أيضا على المحيطين به وربما يشعرون بالاغتراب أيضا.

تتجلى بعد ذلك أزمة المسرح إذ يستهلها بغياب الممثلين وذهابهم إلى أمكان أخرى ربما لتغيير نشاطهم وتخليهم عن المسرح لأنه لا يعطيهم نفقات الحياة، حينما صرخ أحد الممثلين “المسرح ما يأكل عيش”، ثم يناقش مشكلات المسرح الداخلية بدءا من المؤلف الذي لا يعرف قدرات الممثلين ويكتب عن أحلامهم وقدراتهم التمثيلية والمخرج الذي يأتي بالمصادفة ثم يظن أن الحياة لا يكون لها معنى بدونه كمخرج.

مصير "الممثل" الذي يعاني من الاغتراب، ومحاولة الخلاص في المسرحية، أصبح مرهونا برأي الجمهور الذي يوجه له حديثه

يقول بريخت “يجب أن ينشأ الاتصال بين الممثل والمشاهد على أساس مختلف عن الاقتراح. كان يجب تحرير المشاهد من التنويم المغناطيسي، وتجب إزالة عبء التحول الكامل إلى الشخصية التي يصورها من الممثل. كان من الضروري تقديم مسافة ما من الشخصية التي يصورها في مسرحية الممثل. كان على الممثل أن يحصل على فرصة لانتقاده. جنبا إلى جنب مع السلوك المعطى للشخصية، كان من الضروري إظهار إمكانية السلوك الآخر، وبالتالي جعل الاختيار ممكنا، وبالتالي النقد”.

في نص “تذكرة مغترب” تمكنت الشخصية المونودرامية من التواصل مع المتلقي من خلال مناقشته وتوجيه حديثه له مباشرة، كما ترك له فرصة النقد من خلال تحريضه على البقاء في منطقة الوعي.

الممثل: أنا حققت المعادلة الأصعب، ووجدت لنفسي مكانا الآن، بل أنتم حملتم لي فرص الذهاب، أو ربما العودة، أو ربما الرحيل.

أصبح مصير “الممثل” مرهونا برأي الجمهور الذي يوجه له حديثه، إذ أنه استطاع أن يتعرف على قدراته ولو رأى الجمهور أن يسافر فسوف يفعل وكذلك صار بيده العودة أو الرحيل، خصوصا أن هذا الفعل جاء في منتصف العمر، وتنتهي المونودراما بالأحلام والقدرة على تحقيقها.

رفع الوعي

المونودراما تعتمد على الممثل
المونودراما تعتمد على الممثل

نستطيع تحديد ملامح الشخصية المونودرامية في نص “تذكرة مغترب” من خلال العزلة، فمن الحوار الأحادى إلى العزلة، فهو وحده على خشبة تكاد تبتلعه بداخلها، فالتجسيد يصبح شخصيا وذاتيا مع هذه النفس القائمة على خشبة المسرح. فكل ما يحدث من جانب واحد فقط. بالإضافة إلى عدم القدرة على الفعل لأنه قائم من جانب واحد، جعل التركيز على ماضيه بما يرويه من حدث وإيضا الحلم المنكسر أو الحلم بما يريد أن يفعل.

الصراع النفسي من أهم سمات مونودراما “تذكرة مغترب” لأن الحدث المتصاعد يكون من خلاله فقط، يجادل ذاته، لذا كان الصراع داخليا نفسيا. انصب اهتمام شخصية “الممثل” بالخلاص الفردي على الخلاص الجماعي، لهذا غرق في الذات متناسيا المحيط الواقعي. تعرض “الممثل” لهمه الخاص دون الالتفات إلى المجتمع وحينما نظر إلى المجتمع رآه من منظوره الذاتي.

تبدو العتبة الأولى لنص “تذكرة مغترب” غامضة وكأنها اعتمدت الغموض مذهبا حتى تتلاءم مع ما جاء به المتن، ولترفع من وعي المتلقي منذ البداية، وتوحي أيضا بأننا أمام شخصية مونودرامية تحمل في جعبتها الاغتراب في عالم مرتبك وكذلك دلالة اللفظ على العتبة.

من حيث الناحية التركيبية تعرب كلمة تذكرة خبرا مرفوعا لمبتدأ محذوف تقديره تلك وتعرب كلمة مغترب مضافا إليه، ثم نطالع العتبة الثانية وهي العتبة البصرية “الغلاف” تظهر فيه الشخصية المونودرامية في خضم ألوان متعددة وكأنها غارقة فيها لتعبر عن حالة الضياع وفي نفس الوقت تبدو الألون مهيمنة بسطوتها اللونية المتعددة، والتي جاءت في شكل موجات لونية عالية توشك أن تغمر الشخصية التي تبدو منكسرة.

نلحظ أن هناك علاقة دلالية بين العنوان والغلاف وأنهما يستطيعان تقديم قدر ما من الغموض الذي يكتنف المتن الذي سوف يتولى فضح تلك العلاقة.

تتميز مونودراما “تذكرة مغترب” لإبراهيم الحارثي بامتلاكها خصائص المونودراما الجيدة التي ترفع الوعي لدى المتلقي وتشركه في موضوعها “الاغتراب” الذي تتجلى ملامحه فيها بشكل تام.

استطاع الحارثي أن يقدم لنا الحالة النفسية لشخصيته المونودرامية وعالمها الخاص وعزلتها عن المجتمع ونزوعها إلى الاغتراب، لأنه الفضاء المناسب للعزلة التي فرضتها على نفسها وساهم المجتمع المرتبك في خلقها وتكوينها والدفع بها في دوامات الحياة.

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption