نظرة في اقتصاديات المسرح / * زهير عبد الكريم
مجلة الفنون المسرحية
مُفتَتَحٌ
إنَّ المُطوِّرين/ات في فنون المسرح ظلُّوا يختبرون عددًا من التنظيم المسرحي، بصيغٍ مختلفة ومتعددة، إلى أن توافقوا بالإجماع على نمط المهرجانات، بوصفها وسيلة تذهب بالمسرح والمسرحيين والمسرحيات إلى تطوير جوهر العملية المسرحية في البناء والاشتغال.
وقد أسهم تنظيم تلك المهرجانات في إعادة التفكير المسرحي العربي خصوصًا، وقدَّم المشتغلون والمشتغلات به تجاربَ مغايرة في العرض المسرحي والخطاب الفكري والنقدي، بل أسهم هذا التنظيم في رفع كفاءات مسرحية رفيعة ومهمة في المشهد العام عربيا، إلا أنَّ كلَّ هذا المنتوج والإسهام لم يساعد المسرحيين والمسرحيات في البقاء على خشبات المسارح كثيرًا؛ وذلك لأن الإنتاج المسرحي يتطلب جهدًا إنسانيًا كبيرًا ذا طابعٍ (جسدي + روحي)، وتعد التمارين الجسدية في مرحلةٍ ما صعبة على المشتغلين والمشتغلات.
بل إن التفكير العقلي في عملية الإنتاج الإبداعي ينخر في الروح بمشقة على البعض، وإن اتفق الجميع على أنَّ المسرح أبو الفنون، إلا أن الفنون الأخرى المتاخمة له أو الخارجة من رحمه، أصبحت تتخذ أشكالًا أخرى تعينها على هذا العناء، ووفرت لها مناخات آمنة للإنتاج الإبداعي المتصل باقتصاديات العملية الفنية، جعلت هذه الأشكال الأخرى - غير المسرح - تكتسب كثيرًا من الخصائص، وتستطيع كسب طاقة مختلفة ومتجددة تساعد في ديناميكية العملية الإبداعية، بل خلقت وأسست له فضاءات وشركات مفادها الحفاظ والتطور المستمر المرن، وهذا ما تحاول الورقة طرحه.
تحاول هذه الورقة الولوج إلى هذا الباب، من خلال مناقشة الأسباب والمساهمة في اقتراح واجتراح الحلول الممكنة، فاتحةً آفاقًا أرحب للحوار المثمر والبنَّاء في ملتقانا هذا الذي بين يديه معًا نفكر في عالم مسرحي ينبض بالحياة والإبداع وفي ثنايا الورقة ربما نجد شيئًا من ذلك.
مشكلة الورقة
منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي ظهرت دراسات تتناول فروعًا جديدة للاقتصاد، خاصةً بعد ما أُطلق على عصرنا هذا "عصر المعلومات"، فقد ظهر ما يُسمى بالاقتصاديات الثقافية أو اقتصاديات المعلومات، كما ظهر لاحقًا ما يُسمَّى باقتصاديات الفنون مع بداية الألفية الثانية.
ولكن لايزال الغموض يشكِّل السمةَ الغالبةَ لهذه المصطلحات لدى المشتغلين في الحقل الفني بصفة خاصة والحقل الثقافي بصفة عامة، فالاقتصاديات التقليدية كانت تقوم على الزراعة، ثم الصناعة، ثم الخدمات، ثم ما عُرف باقتصاد المعرفة أو اقتصاد المعلومات، وهذه الاقتصاديات كما هو معلوم تقوم على (مُنتج/ منتج/ مستفيد).
لذلك تتمثل مشكلة هذه الورقة في الإجابة على عدد من الأسئلة، وهي:
• هل الفنون المسرحية تعتبر منتج اقتصادي؟
• وهل هناك طلب على هذا المنتج خاصة في ظل وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل المعرفة والترفيه؟
وذلك في ظل اهتمام المشتغلين بتطوير فنونهم وتقديمها خلال مهرجانات دورية راتبة داخليًا وخارجيًا، إقليميًا ودوليًا.
هدف الورقة
تحاول هذه الورقة طرح رؤية للاستفادة مما يقدمه الفنانون المسرحيون العرب في المهرجانات المسرحية، خاصة الأعمال التي تنال أرفع الدرجات والجوائز، في تسويقها بوصفها منتجًا اقتصاديًا معرفيًا وفكريًا وجماليًا ذا جودةٍ عاليةٍ بشهادةٍ أكاديميةٍ تُماثلُ شهادةَ الأيزو في المنتجات الاقتصادية.
فرضية الورقة
تفترض الورقة بأن العروض المسرحية التي يتم عرضها في المهرجانات منتج معرفي فكري وجمالي تكتب شهادة وفاته يوم ميلاده.
فالعروض التي تُقدَّم في المهرجانات المحلية والعالمية، خاصةً الحاصلة على الجوائز، تنتهي بانتهاء الفعاليات؛ كما أنها لا تصل إلى المجتمعات العربية ولا يتم عرضها مرةً أخرى إلا نادرًا وفي قطاعات ضيقة وصفوية.
تعريفات إجرائية
تشير العديد من المراجع المتخصصة في علم الاقتصاد إلى أنه «العلم الذي يهتم بكيفية تحسين الحياة المادية للإنسان والمجتمع».
وكذلك هو: «يعتبر أحد العلوم الاجتماعية الذي يدرس كيفية توظيف الموارد الاقتصادية من أجل إنتاج السلع والخدمات التي تحقق رفاهية أفراد المجتمع».
وأيضًا هو: «العلم الذي يبحث في كيفية ثراء الأمة ونمو ثروته».
كما أنه هو: «العلم الذي يهتم بكيفية تحسين الحياة المادية للإنسان والمجتمع».
من ذلك يمكننا القول: إن الاقتصاد هو العلم الذي يهتم بتحسين حياة الإنسان المادية ونمو ثروته، من خلال استخدام موارده وإمكانيات البشرية والمادية والمعرفة والجمالية.
وبذلك يصبح مفهوم اقتصاديات المسرح هو: «الاهتمام بتحسين حياة الفنانين المسرحيين المادية واعتماداته كونه منتجًا معرفيًا وفكريًا وجماليًا قابلًا للتسويق».
يُعدُّ الفنُّ من أهم الصناعات الثقيلة والمهمة في الألفية الثانية؛ وبذلك يمكن أن نُدخله في باب الاقتصاد الصناعي، أما إذا تعاملنا معه في إطار إنتاج المعرفة والمعلومات، فبذلك يمكن أن يُدخلنا من باب اقتصاديات المعلومات التي قطعت شوطًا كبيرًا خلال العقدين الماضيين من الألفية الثانية.
وقد أشار عددٌ من الخبراء في مجال فن المسرح إلى أنَّ المسرحَ لم يعدْ يؤدي دور الترفيه فقط، وإنما يذهب إلى مناطق التربية والهندسة الثقافية، وإنتاج المعلومات.
وبالنظر إلى واقعنا المسرحي نلاحظ أنَّ العملية المسرحية ماتزال متعثرةً في الاتصال بالفضاءات الأخرى في العملية الإبداعية المتصلة باقتصاديات الإنتاج التي تجعل الاستمرار ممكنًا، ويفضي بالمشتغلين إلى طرق آمنة في فرص الخلق الإبداعي وتحويل ذلك إلى صناعة تدخل سوق العرض والطلب؛ لتستطيع المنافسة وتفي بحاجات المسرحيين الإنسانية والإبداعية.
ونحن بوصفنا مسرحيين لم نتعامل مع هذه المهنة، رغم احترافنا لها، على أنها صناعة شأنها أن تخدم صانعيها؛ للوصول لحياة كريمة خالية من العوز وتبعدنا عن خطوط الفقر؛ لذا ما أحوجنا إلى تفكير يذهب بنا إلى استخدامها صناعة من جانب وكإطار معرفي فكري جمالي منتج للمعلومات، ما دُمنا نمتلك القدرة لإنتاج منتج جيد يُتوَّج بالجوائز في المهرجانات التي تمثل شهادة الجودة العالية في سوق الإنتاج المسرحي.
ولا شك أن من خلال ممارستنا لهذه المهنة نستطيع أن نفعل ذلك، فالمسرح لايزال يعيش في عزلة عن جمهوره؛ وهذا ليس رأيي فحسب بل هذا ما أشارت إليه الدراسات والمقاربات مع صناعة السينما، فنجد أنَّ الفروقات بين المسرح والسينما وهما يُعَدَّان من الصناعات الثقافية الثقيلة والكبيرة، إلا أن السينما استطاعت أن تقفز بالمشتغلين/ات بها إلى بر الأمان الاقتصادي، بينما مازال المسرح والمسرحيون/ات يعانون الكثير من المصاعب.
التسويق المسرحي
التسويق المسرحي لهذا الفن الرائد للفنون منذ النشأة، ففكرة العرض والطلب كانت إحدى سمات التلقي وتمثِّل وثيقة اتفاق بين منتجي العرض والجمهور، وظللنا مرهونين بهذه النظرية إلى الآن ولم نتقدم بها إلى الأمام كثيرًا.
فخروج عرض مسرحي لصالات العرض يذهب بمُسمَّى غير الذي نشتهي بوصفنا مطورين للعملية المسرحية، ومع ذلك لم نقدم مقترحات أخرى تؤدي بنا إلى مناطق اقتصادية آمنة شأنها التكفل والاستثمار الذي يكون قانونًا يضع محاذير من شأنها خلق جمهور مسرحي نسعى إليه بوعي مسرحي متفق عليه بين المشتغلين والمشتغلات المطورين والمطورات له.
والتسويق لتلك العروض الفائزة من المهرجانات الدولية الراتبة والمتفق عليها يفتح فرصَ تلقٍّ، ويخلق جمهورًا مغايرًا بشروط جديدة ومتجددة مفادها الوعي والرقي ذات مضامين إنسانية تسعى للعدالة والحق والخير والجمال؛ بذلك نجد اتساع دائرة الانتشار الذي نعاني من عدمه ونخرج من فخ النخبة إلى الجماهيرية.
إن التفكير في قيام شركة مسرحية تختص بالأعمال الفائزة وتسويقها وإعادة تدويرها بين الدول، أمر ملح وضروري للغاية يفرضه علينا راهن العملية المسرحية نفسها متجليةً في وجود بضاعة مسرحية متقنة الإنتاج الفكري ذات رسالة مهمة ومتفق عليها من خبراء مسرحيين وخبيرات مسرحيات عبر المهرجانات المسرحية الراتبة، وذات ثقل أكاديمي يعتمد المنهج العلمي في الطرح والتناول.
على أن تكون تلك الشركة شراكة ذكية بين المثلث الهرمي الذي أوردته سابقًا بنسبة مُتفق عليها بين الثلاث جهات ومنتجي العرض بوصفها الأساس والهدف، وتمثل الضلع الرابع والمستفيد المباشر من تلك العملية، مستفيدين من فلسفة ونظريات الاقتصاد الحديثة، أي اقتصاديات الفنون وهي فرع من الاقتصاد الذي يدرس اقتصاديات الخلق والتوزيع واستهلاك الأعمال الفنية والأدبية والمنتجات الثقافية الإبداعية من الفنون مثل (الموسيقى والمسرح والرقص)، وهي تعدُّ صناعة ثقافية ثقيلة لا تقل بحال من الأحوال عن (السينما والبرامج التلفزيونية والموسيقى) التي تنتجها المؤسسات الثقافية.
يهتم الاقتصاد الثقافي بالفنون بمعنًى واسع؛ أي أن السلع من ناحية المحتوى الإبداعي، هي تلك التي تمتلك قيمة يحددها المحتوى الرمزي بدلًا عن الخصائص الفيزيائية، طبقًا للتفكير الاقتصادي في مجالات كثيرة.
تمتلك الأعمال الفنية والثقافية جودة محددة تميزها، في حين أن السلع الاقتصادية الأخرى مثل النفط الخام أو القمح عبارة عن سلع عامة وقابلة للتبادل فقد رأى الاقتصادي الكلاسيكي "آدم سميث" أنه من المستحيل تقييمها.
فيما لاحظ "ألفريد مارشال" أن الطلب على نوع معين من السلع الثقافية يُمكن أن يعتمد على استهلاكه؛ فكلما استمعت إلى نوع معين من الفنون، استطعت أن تكتشف وتطور قدرة هذا النوع أكثر، ولا تمتلك هذه السلع في إطارها الاقتصادي المنفعة الهامشية المتناقصة المعتادة.
فما زلنا نمارس عملنا المسرحي على هامش المفاهيم للنظريات الاقتصادية الثقافية، وهذا ما حاولت الورقة أن تعيد التفكير فيه بالمقاربات والمقارنات الاقتصادية بين المواد المنتجة، (فيزيائية) وفكرية، يمكن متابعة ذات الطرق المنهجية في السلوك العلمي والتطبيق، وسنكتشف طرقًا عديدة وابتكارات خلَّاقة تسهم في ضرورية الحياة المسرحية الملحة والجاذبة للعامة والمشتغلين.
إن مهمتنا كوننا مطورين ومنتجين للإرث المسرحي لا تقتصر على إنتاج المهرجانات والعروض المسرحية، بل تمتد لتصل إلى الحفاظ على هذا الإرث القديم قدم البشرية من الانقراض والانحسار المتدرج.
وبالنظر إلى جدول المهرجانات المسرحية الراتبة، من باب المثال وليس الحصر، نجد أيضًا لدينا مشكلة في مرجعيات المهرجانات الدولية الراتبة، فعدم وجود دليل موحد للمهرجانات يجعلنا نبتعد عن مفاهيم الاقتصاديات (تسويق – ترويج – إعلان) بطرق احترافية، ويجتهد كل مهرجان حسب ظروفه وإمكاناته.
نموذج لبعض المهرجانات الراتبة بالوطن العربي
الرقم اسم المهرجان رقم الدورة الدولة عدد العروض الفائزة راتب متقطع
1 مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي 30 جمهورية مصر 29 راتب
2 أيام قرطاج المسرحية 24 تونس 23 راتب
3 مهرجان المسرح الحر 18 الأردن 18 راتب
4 مهرجان المسرح العربي 14 متنقل 11
5 مهران الهيئة العربية للمسرح متنقل راتب
6 مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي 8 مصر 7 راتب
7 المهرجان الدولي (24 ساعة مسرح دون انقطاع) 21 تونس 20
إن قيام مفاهيم اقتصادية للمسرح ضرورة ملحه، وعاجلة التفكير، وتتطلب مِنَّا نحن المسرحيين والمشتغلين والمطورين أن نعمل عليها بسرعةٍ؛ لإدراكنا بما يمر به المسرح والمسرحيون من أزمات في الوطن العربي.
التوصيات
1. ضرورة قيام شركة قابضة بين (الهيئة الدولية للمسرح والهيئة العربية للمسرح واتحاد الفنانين العرب)؛ لإعادة تدوير المسرحيات الفائزة بالمهرجانات الدولية الراتبة.
2. إنشاء منصة رقمية متخصصة بالعروض المسرحية مثل: (Netflix، شاهد MBC)
3. تفعيل شركات ذكية بين الصناديق العربية للتنمية والهيئات المسرحية وإدارات المهرجانات الدولية الراتبة.
4. تشجيع رءوس أموال عربية للاستثمار المسرح
* زهير عبد الكريم صابر
مخرج وباحث
السودان
0 التعليقات:
إرسال تعليق