كتاب " تجليات اللون في النص الدرامي " تأليف د. منصور نعمان
مجلة الفنون المسرحيةتجليات اللون في النص الدرامي
تأليف د. منصور نعمان
المقدمة
المسرح ثقافه فاعلة في الحياة
تثير الدراما عددا من التساؤلات والافكار والمضامين، وبذلك تشكل محورا من المحاور التي تضيء الحياة، سواء أكان النص الدرامي محاكيا للحياة أم لا، ولا يخفى عن اللبيب ان الدراما شكل من اشكال الأدب القديم الراسخ والمؤثر والمعني بالاتصال الجماهيري ومنذ نشأته الأولى، التي صاغت عوالم واحداث وحكايات واساطير ،لتتم تغذية المجتمعات وتكشف عن النواميس المتحكمة والافكار المتضاربة والالتماعات البشرية في اتخاذ موقف أو تحديد مفهوم ما .
ان حركية المسرح تتوقف بهذه الدرجة أو تلك على نوع الافكار والمضامين التي يتناولها ، بكلمة اخرى ، ان الرؤية الفكرية والجمالية المعبرة عن موقف فلسفي ، تكوّن التعبير الأكثر اثارة وتحكما في شكل ومضمون النص ، وبالوقت ذاته تعبر الافكار وتوالديتها وتفرعاتها وانثيالها ، ومهما كان صنف المسرحية : مأساة ، ملهاة ، مشجاه ، مهزلة ، فانه يبلور لنا بوضوح كبير موقفا من الحياة ، سواء اكانت المسرحية مبنية بناء دراميا محكما ام هشا تتطرق لموضوع وتعالجه بسطحية أو عمق ، فأنها تعطي تلك الصورة الحقيقة لطبيعة التفكير الابداعي ، وإلى نوع التسويفات المتعمدة والمصاغة بهذا الشكل أو ذاك ، ان االدراما_المسرح _فن القصدية العالية ،فن البحث عن الحقيقة ، أسوة بالفلسفة التي تبحث في جوانبها وتناولها وطروحاتها المختلفة عن العلل وعلاقة الانسان بالوجود .
ولاشك ان الدراما- المسرح- اكثر عمقا من الفلسفة ذاتها ، بوصفها تنهل من الفلسفة ارضيتها ، دوافعها ، تساؤلاتها ويضفي اليها الخاصية الجمالية ،ما يجعل وظيفة الفنان الدرامي وعمله أشد وقعا واكثر عمقا وتغلغلا ، وأروع تأثيرا ، ذلك لان الصياغة الفنية ، تكون تعبيرا عن نوع الافكار والتقنيات والاساليب التي يتبعها الفنان – ان كان مبدعا حقا – في الغوص لا في الوظائف التقليدية لتقنيات العرض وانما في اكتشاف الطرائق والاساليب المبتكرة والمؤثرة في التعبير عن الهواجس والمشاعر والاحاسيس والافكار الفنية اهمية كبيرة ، فالفكر الفلسفي يكون غير كاف ، ذلك ان فن الدراما، لا يكون فنا من غير شكل تعبيري ، مؤثر ، فاعل ، ليزيد من عملية التواصل والبحث الدؤوب لبلوغ الآخر ، الذي قد يكون بعيدا ، غريبا أو غير منتبه لما يجري حوله ، أي لفت الانتباه لما يحيط بالإنسان واعطاءه الفرصة السانحة لرؤية الاشياء والافكار من زاوية جديدة لزيادة الانتباه والمسألة قد تتعدى ذلك وتدخل في صلب المضامين ، والصيغ الاسلوبية المعتمدة في غي الفضاء الدرامي ، فقد يكون استخدام الحوار بأسلوب مختلف كما هو الحال في مسرح اللامعقول ، أو يعمد لتقديم صوره مليئة بالألوان وكأن صراعا لونيا بحدث في النص، أو يزيد من بناء الصور الحركية ويجعلها جوهر الدراما كما في نصوص البانتوميم ، او يسهم بجعل الحوار المتهشم ينوء بوظيفة التعبير عن حالات الانكسار والاضمحلال للشخصية التي ترزح تحت الضغوط وتفقد انسانيتها، فيتحول الحوار إلى حزمة من الصور الكولاجية تطفو في الفضاء الدرامي
وتأسيسا على ما تقدم ، فأن النص المسرحي ، ضاج بالحياة ، مليء بالعلامات والصياغات الاسلوبية ، وبهذا المعنى ، انما هو ثقافة ، ووجه من أوجه الحضارة ، وتعبير جمالي وفلسفي مصاغ بطريقة معبرة عن روح العصر ودرجة التغلغل الانساني للوجود ، وعمقه وفهمه لما يجري حوله ، وكلما توسعت دائرة الثقافة واتسعت رقعتها ، صار المسرح اكثر فاعلية ، بوصفه فاعلا في الحياة الثقافية ، واذا كانت الحياة تعتمد مبدأ الصراع ، فأن الصراع يشكل اسا ثابتا وجوهريا في الدراما ، صراع الافكار والابطال والمواقف والاحداث والاجواء والامكنة والازمنة ، مثلما هو صراع الالوان والكتل والاحجام والخطوط ، فالصراع يدخل حتى في التمفصلات مهما بلغت من . ان ثقافة المسرح بعمومه، وبأشكاله المختلفة ، تتخذ من الثقافة اساسا لها ومن الحياة مضمونا محركا ، ومن المعنى جوهرا للنفاذ إلى الآخر الذي يشكل في الديمومة الحياتية نبضا حيويا وايقاعا مثلما يشكل الوجه العميق لثقافة مجتمع من المجتمعات فلسفة وجمالا ، وسعة وشمولا ، قوة وتألقا.
وحينما نتطرق إلى العرض المسرحي لا يمكن ان ينهض بقوة ورشاقة من غير نص درامي، وان حركة المسرح منذ الاغريق وحتى يومنا لم تتخل عن النص –المؤلف-وهذا الأمر يعزز ما نذهب اليه باعتبار الدراما الأرضية التي ينطلق منها نص العرض، سواء أكن تجسيدا للنص أم اختلافا معه .
ويتضح في ضوء ما تقدم ،ان المسألة الجوهرية، ان الدراما تكون غنية وثرية ويمكن اكتشاف المغيب وغير المنتبه اليه سابقا، فالنص حياة مختزلة، تضاهي الحياة وتتفوق عليها ، لأنها تقطير لكل الارهاصات والأفكار والمشاعر وما ينتاب الانسان من انكسار وثورة. فعوالم النص المتنوعة بالأبطال –الارادات- والمواقف- الأفكار، والمفاهيم – الخطط- - تجعل النص الدرامي حزمة عوالم، وذلك لوحده يعيد انبجاس الحياة من جديد في الفكر والانسان والحاجة للبناء والتطوير وردم لحظات الخمول والكسل العقلي، وعلية فان الدراسات اللاحقة في الكتاب ما هي إلا نوافذ تتطلع إلى رؤى للدراما قد تتجاوزها إلى نظرية الدراما.
الفصل الأول: تجليات اللون في النص الدرامي
التمهيد:
يعد الأدب انعكاساً لمجمل حركة الحياة، والحياة متنوعة الألوان ، ولا يمكن أن يكون هناك لون واحد في الحياة، وإلا فقدت حيويتها وجمالها الآسر. لهذا تنوعت وسائل التعبير الإبداعية واختلفت، فالعمل الفني/الرسم ،كما يقول غويا ،هو " حياة مكثفة".( بهنسي ،د.ت،ص65) بوصف اللوحة تعكس الحياة والطبيعة بكل تموجات اللون وتداخله وتدرجه وتضاده. فاللون امتداد الخبرة الإدراكية لما يقع خارج الذات . وعليه فإن عملية التفاعل بين الإنسان والبيئة بوصفهما طرفين متفاعلين "فالإنسان هو نظام باحث عن المعلومات ومنظم لها ".( صالح،1982،ص19) . والمسألة هذه تقود إلى الكيفية التي يتم من خلالها إدراك البيئة الروحية والمادية العاجة بالألوان . إن الإنسان يستجيب للبيئة بكيفية إدراكها ،ما يعنى إضفاء المعنى على ألوان البيئة، لا كما هي ، بل كما تبدو للمدرك إليها. ما يشير إلى إضفاء المعنى المتولد عنها.(صالح،1982،ص21) ؛ لهذا فإن اللون يعد وجها من أوجه التعبير الجمالية، ما يساهم بأثارة الانتباه وتوجيهه وتأكيد حالة الإبداع الفنية لصياغة الحياة،
إن قدرة الالتقاط اللوني من الطبيعة وفضاءاتها المختلفة، يساعد باستنطاق قيمة اللون اللفظي في الأدب والإيجاز بالتعبير، بوصفه وسيلة للتعبير عن الحياة ، وبدرجات متفأوتة الصيغ ، ما يكثف الانتباه لغير المنتبه اليه.
وأثيرت إشكالية النص الإبداعي وتأويله في النقد المعاصر، بوصفه لا يقول حقيقته ،من هنا كان التأويل هو الباب الأكثر اتساعاً لفهم النص وما يخبئه ،فحقيقة النص تتخفى وتأويله يوسع من دائرة تدأوله، وبذلك تعمر النصوص ردحاً من الزمن بحسب القراءات الجديدة للنص ذاته، بما يساهم باكتشاف الحقيقة الغائبة وغير الملتقطة.
من هنا، كان فتح آفاق جديدة للنص عبر قراءة مشاكسه ومغايره، من أجل استجلاء معنى غيب قصراً ، أو لم يجر الالتفات إليه، وذلك يساهم بصياغة النص الإبداعي من جديد . وإذا كانت هذه المسألة المحيرة قد تمركزت في الأدب، فقد كان النص الدرامي أكثر استجابة من باقي الأنواع الأدبية، باعتباره مبنيا على مبدأ الصراع وعلى الجدال الحواري للأبطال من جانب، وعلى تقلبات الحدث الدرامي من جانب آخر.
وإن كان النص قد كتب ضمن حقبة زمنية غير الحقبة التي تعاد فيها قراءته من جديد، فإن ذلك يكون سبباً جوهريا لزيادة النبش في البنية الدرامية التي تشكل عمقاً ثأوياً فيه.
إن تعددية القراءة المتفحصة للنص، تعيد ترسيم بنيته من جديد فقراءتان" مختلفتان لواقعة واحدة تجعلان منها واقعتين متمايزتين".(طودوروف،1987،ص51).
وإذا كانت الدراما وجهاً من أوجه النشاط في الحياة وتعكس برهافة حس عالية القيم والأفكار والأبطال والظروف التاريخية والاجتماعية والنفسية، باعتبارها جزءاً من ثقافة مخاض النص ، فإنه في الوقت ذاته يعيد تنظيم روافد المرجعيات التي يستند عليها، ويصمم الفضاء الدرامي من زوايا أكثر جاذبية، وتكون أوقع تأثيراً وأشد ترابطاً واقترنا بالحياة ، والحياة الإبداعية للنص لما يحمله من معان، بوصفه كيانا جماليا – فكريا، يعيد الحياة بأفق أوسع ،ومن زوايا أكثر عمقاً ونفاذا ودقة.
لهذا فإن إشكالية اللون ودرجة تفاعله مع النص الدرامي تشكل موضوعا متسما بالغموض ، ومن أجل حلحلة غموضه واستيعاب حركة اللون وضع الباحث السؤال التالي:
كيف يتم توظيف اللون في النص الدرامي؟
هدف البحث: الكشف عن التنوع اللوني داخل نسيج النص الدرامي.
مصطلحات:
البنية
البنية: عرفت بأنها نسق من العلامات" المدركة وفقا لمبدأ الأولية المطلقة للكل على الأجزاء".(كيرزويل،1989:ص289). بينما يعرفها جيرار جينيت بأنها" تستشف أكثر مما تلمح ، ويبنيها التحليل بمقدار ما يكشفها".(عبدالكريم،1983:ص42) .بينما يحددء
وفي ضوء التعريفات السابقة، يمكن نحت التعريف الإجرائي التالي:
البنية نظام من العلاقات ،تشكل علامات قابلة للإدراك العقلي ، ويبنيها التحليل، وتكون بطبقتين : بنية السطح التي تتكون من مجموع العلاقات الداخلة بتركيب النص، وبنية عميقة تمثل الحركة الداخلية للبنية وتحمل جنينيا بنى متنوعة، ومنها البنية اللونية.
البنية اللونية العميقة: بنية من بنيات النص ملتصقة بالبنية العميقة وتشكل فضاءه ، ولها قابلية النمو والاستشراء لتسيد النص، وتدرك من خلال حركة البطل في ألفاظه وأفعاله وقراراته ومواقفه.
المبحث الأول: الكلمة والرمز اللوني
الكلمة جسد لصورة ملفوظة، تتضمن ألوانا متنوعة ، وتحمل في طياتها إشارات تعبر عن شيء آخر. والصورة تعد رمزا يحيل إلى شيء آخر ، وكل كلمة تحمل في جنباتها طاقة الإحالة إلى ما يقع خارجها. لهذا، فالكلمات / صور تحمل في جنباتها طاقة الحركة والإحالة إلى شيء آخر يقع خارجها، لهذا فأنها تتسم بالإيجاز والتكثيف ولها قدرة بالتعبير واستدراج المشاعر والأحاسيس والافكار، باعتبارها تجريدا لكل ما تقدم ، وتقطير حد تنويع المعنى الدلالي. من هنا كان للكلمة وظيفة إشارية لما تحمله من منطق دلالي يستنطق المعنى وينوعه ويجدده عبر سياق ترد فيه الكلمة ؛ فتشكل خطابا أدبيا يتشكل من "من مجموع البنيات اللفظية التي تعمل في كل عمل أدبي".(طودوروف،1987،ص18).
فالكلمة - رمز- مختزلة وموجزة ومكثفة وغنية بالاستعارة والمجاز، وإذا تجاورت الكلمات ، أصبحت الطاقة الإيحائية فيها أكثر كثافة عبر الصورة التي تنتجها؛ لهذا فالرمز في الكلمات يتحرك على وفق طاقة رص الكلمات في: تكرارها، أو تقابلها ،أو تدرجها (طودوروف،1987،ص 39) . تحمل صورتها المقترحة ضمن وسط لغوي، لكنها سرعان ما تشي بعالم آخر، إذ أن صورة الكلمة الوظيفية تتراجع أمام الصورة المنبثقة من السياق الجديد الذي وضعت فيه، ويتجلى ذلك عبر تزاحم الكلمات وتراصها وتفاعلها. من هنا نتفهم نمو الصورة وتنوع المدلول الذي توحي به أو تتبناه ضمن السياق فالكلمات تعبير عن العمق الثاوي فيها ،من أجل تكشف النقاب عن المعني الدلالي ، والمسألة هذه تتجاوز الكلمة بوظيفتها التداولية، لتذهب إلى الوظيفة الإيحائية النابعة من بلورة المعنى، والمعنى غير محدد، بل هو متوثب، فاعل، ويتكون نتيجة تراص الكلمات، فالكلمة قد تكون رمز لصورة أيقونية ضمن محيط اجتماعي يجري الاتفاق عليه، ما يمنحها طاقة تعبير مباشرة بوظيفة محددة، ولا تخرج عنها، لكن إن وضعت في سياق، جعلت من الكلمة معاني جديدة، بتغير سياقها المألوف وتدخلها ضمن سياق آخر جديد، يكسبها معنى مقترح أو غير متوقع. وبذلك، يكون النص الإبداعي غنياً، قابلاً لقراءات مختلفة وحاملاً لأفكار متنوعة، فالكلمات تعيد خلق الواقع، وإن اشتقت معناها الوظيفي من الواقع ؛ لأنه في حقيقته عملية انتقاء ويقول بارت بهذا الصدد" نبغي للأدب كذلك ،ان يشير إلى شيء مختلف عن محتواه".(بارت،2002،ص5)
لهذا فان المادة المأخوذة من الواقع والطبيعة انما تحمل أمرا آخر عند عودتها إلى الواقع من جديد، بعد سلسلة تنظيمه وتكثيف للمعنى.
لهذا فإن الصور الملتقطة من الكلمات تكتسب حقوق جديدة ، بوصفها تعبر بطريقة فنية وغنية بقيمتها الجمالية لتصبح أكثر رحابة من الارضية التي انطلقت التي تحملها ، فالأدب يوسع المدارك ويفتح أفقا جديدا لرؤية الحياة من زأوية أعمق وأوسع.
إن التساؤلات التي يثيرها اللون، باعتباره إشارة له مرجعيات، بالتالي يكون معبراً ضمن سياق اجتماعي، إلا أن المبدعين، جعلوا من اللون طريقاً أكثر اتساعاً لفهم أعمق لحركية الكلمة - اللون - عبر اتصال الكلمات وتزاحمها، بالتالي يتم إعادة تشكيل المعنى، بكلمة أدق، إعادة تشكيل الواقع، لهذا فإن الأدب والفن، وإن عكس الواقع، إلا أنه لا يعكس الحياة مثلما هي، بل يعيد تنظيمها من جديد على وفق نسق لغوي، يجعل فيها نظاماً تدرجياً - تصاعدياً أو تقابلينا بين الأطراف المتضادة.
وتكمن حيوية الكلمة بطاقتها الكبيرة بخلق صور قد تبدو غريبة ومدهشة وهي تعيد لملمة ما يجري بالنفس الإنسانية من نمنمة الأحاسيس وتجميع المشاعر، وبلورة صور فريدة تنغرس في الفكر الإنساني.
واللون بهذا المعنى يكون تكثيف للحياة في الدراما وإيجاز وتقطير، فالدراما حياة مكثفة، واللون واحدة من وسائل الاختزال، لأنه يحمل قدرة التأثير والتناغم والتنافر والتقابل في النص الدرامي ذاته.
إن حركية اللون، عالية في استقطاب الرموز القابعة في مرجعيات المتلقي التي تشكل خطابا غائرا في الأعماق - أو عبر التداول الوظيفي إلى اللون من خلال التوظيف اليومي له، أو عبر الإيحاء بمعان مستجدة كفيلة بتقديم خلاصاتها عن أفكار تنمو وتترعرع ، وتزدهر في النص الدرامي على وفق خطة المؤلف، فالأبطال سرعان ما يكشفون عن الخبيء الملتصق بأعماقهم ويشير إلى مستويات متعددة من المعاني، وما القراءات النقدية المختلفة ، وتنوع المناهج النقدية ، إلا وسائل لاكتشاف المعاني التي يتضمنها النص والعالقة به، وينتظر تأويلها.
إن النظم اللونية وتدرجها جزء لا يتجزأ من فاعلية النص الدرامي ذاته، الذي يشتغل فيه الأبطال والأحداث وتغيير مصائر الأبطال وما ينتابهم من خطر محدق، وخوف مرعب، ولحظات معدودة لالتقاط الأنفاس. لهذا فان النص يتشكل من طبقات ،بكلمة أدق من بنى متعددة، وواحدة منها البنية العميقة، التي يكون اللون ملتصقا بها وتتكشف فاعليته عبر عمليات التحكم
بصياغة الفعل الدرامي، فاللون فعل قد يسبق البطل أو يلحقه، وبكلا الحالتين يكون للون مكانته. ونشاطه المستمر في الفضاء الدرامي، فقد تشتبك ألوان عديدة لكنها تسفر عن استقرار لوني لاحقا عبر نمو السيادة اللونية ، وتكثيفها واستحواذها على البطل الذي يتشرنق اللون نفسه ، فيصطبغ البطل به ويكون علامة دالة عليه ،بل قد ينتشر اللون النفسي للبطل ويطغى على ألوان الابطال ؛ ليشكل جوا عاما يغلف الفضاء الدرامي برمته.
إن ترسانة البناء الدرامي وإن كانت تتوسل في أكثر من صيغة لرص البناء ذاته، فإنها تعتمد الاستعارة اللونية الضمنية أو التشبيه أو المجاز.
إن ذلك يساهم بتعزيز ما يمكن أن يحمله النص من رموز تتميز بالكثافة والحيوية وسرعة الانطلاق، لهذا يمكن رؤية العالم الدرامي في فضاء النص، فضاء لوني، وما الاشتباك بين الأبطال إلا شكل من أشكال التداخل اللوني الذي ينتصر فيه لون على لون آخر.
إن الرموز اللونية في الدراما يجري استنطاقها وكما ذهب كولرديج "إن في الإدراك البشري أشياء أكثر مما تقدمه الحواس"(بريت، 1979،ص47). وذلك يقود إلى فهم الرمز اللوني، في النص الدرامي ،باعتباره نقطة من نقاط ارتكاز التحليل من أجل فهم أعمق ودقة أكبر، من هنا فإن" الكثافة والاختزال والإيحاء الذي يخلقه ويقود إلى تأويلات تتصل به" (عاتي، 2016،ص9). فاللون وتنويعاته ودراجاته وتسيده الفضاء الدرامي ، انما هو شكل من أشكال البنى العميقة في النص الدرامي ،التي تسعى إلى البروز على السطح ، وتعلن عن نفسها متفردة أو مقتسمه تلك السيادة اللونية مع لون آ خر. وعليه فالصور اللونية التي تسعى إلى الظهور في أجسادها اللفظية لتعبر عن خزين لوني تطفو فيه الصور- الكلمات – في الحوار الدرامي ،بالتالي ستعكس رهافة الحس والقيمة الفنية بوصف الصورة تحمل رمزها اللوني.
المبحث الثاني : اللون والدلالة
إذا كان النص كما يذهب بارت "نسيج من الكلمات".(2007،ص44). فهذا يعني أن الكلمات حاملة ومحمولة للمعنى، ما يشير إلى دوال خارج النص بوصف النص، كما ذهبت (كرستيفا) بأنه "يفجر سطح اللغة"( خمري،2007،ص57). فالكلمات تعد أجسادا لها مدلولات خارج نطاقها. ويفهم من ذلك أن المعنى داخل النص، يشكل بنية "متعالية، وهي بنية لا تتحقق، إلا بتفاعل النص والقارئ".(محفوظ،،2014،ص170) ؛ لان القارئ يضفي المعنى على النص ،وأحيانا يتنوع المعنى الدلالي بقدر تنوع القارئ- المؤول- للنص ذاته.
وعليه، فإن الأدب عامة والدرامي خاصةً يقترن بالواقع ، لكن السؤال الجوهري الذي طرحه (طودوروف) وهو يتطرف إلى الرواية قائلاً بأنها "لا تحاكي الواقع وانما تبدعه".(سليمان،2007 ص88). إذ يعدها، ليست انعكاساً للواقع - يتسم بالفوتوغرافية، على الرغم من انبثاقها من الواقع - وهذه المسألة، هي ذاتها تعد إشكالية النص الدرامي، بوصفه يستقي من الواقع الكثير، لكنه يحاكي جوهره، وعمقه، وبيئته، وحركته، وكل ما خفي فيه. لهذا فإن الدراما تجتهد بامتصاص تلك الحركية العالية وأحياناً غير المرئية ويجري الانتباه لها وجرجرتها ، ووضعها في سياق درامي قابل لأن يصوغ واقعا آخر يتشكل عبر الصدمات الحادة ، والصراعات المستعرة، والمبارزات الحوارية. ذلك يساهم بانبجاس معان جديدة على وفق السياق الذي تكون عليه الكلمة.
وقد شدد طودوروف على تقنية الكتابة عبر قوله: "نحن نشيد أبنيتنا على نوع آخر من أنواع المنطق السببي، فنحن نبحث عن الأسباب والنتائج لحدث معين في مكان آخر ، وفي عناصر لا تشبه الحدث نفسه". (سليمان،2007 ص90) ، وفي الحياة ثمة متغير جمالي وفكري يجعل من الأدب قيمة ذات بعد نفسي واجتماعي، يزيد ويكثف المشاعر ويضغط باتجاه توليد المعنى الذي لا يتم الالتفات إليه في واقع الحياة، إنما يتأتى ذلك عبر الأدب ذاته. ومن ذلك تكون وظيفة الأدب هي الإشارة بمعنى أنه "يشير إلى شيء - مختلف عن محتواه" (بارت،2002 ،ص5)، من هنا تفتح بابا مشرعة للتأويل وصناعته، والدراما فن ذا طبيعية جمالية وفكرية متغلغلة في الوجدان والعقل، صانعة للجمال بأفق أكثر رحابة وعمقاً، لهذا لا يمكن أن يحدد الأدب الدرامي في الحقيقة. فالحقيقة الغنية والأدبية لبعدها السايكولوجي والاجتماعي تحدد مسار الإبداع وعليه، فإن "النص الأدبي لا يخضع لمعيار الحقيقة، وإنه ليس بصحيح أو مغلوط، لكنه تخيلي على وجه الدقة".(عياشي،2009،ص8).ويتجلى الخيال بصورة تتميز بالحركية العالية والدهشة، ما يحفز العقل ويدفع للانتباه، وبذلك يكون الأدب خيالا ، وهو جزء من تقنية كتابة الأدب عامة ، باعتبار الدراما تعيد تنظيم الواقع ، وبناء صورة فريدة لصياغة عالم النص وفضائه الذي يضم ويحشد كل طاقة فيه من أجل تعميق الحس الإنساني ؛ لهذا فإن "الفضاء الدرامي في جملته أنساق سيميائية."(الفضاء الدرامي، ص101) ، وإن تخطي الوصف مخالفة للواقع، وبالوقت ذاته كشفه وتعريته وجعله أكثر جمالاً.
إن الدلالات التي يحملها النص كما يحددها مارتن إسلن هي: أيقونة ،وإشارية ،ورمزية.(ابو الحسن،2006،ص32) ويلاحظ بانها تتسم بالتنوع والاختلاف وهذا ليس بتناقض بقدر ما يكون تفاعل حي لجعل لغة الدراما، شفافة ومعبرة وعميقة للغاية. وهذا التنوع يمنح النص قدرة الانفتاح بوصفه أثرا مفتوحا فالقراءة للنص تعني "أن نستنبط وأن نخمن وأن نستنتج انطلاقاً من النص سياقاً ممكناً" (ايكو،2013،ص10) .
إن دلالات النص غير محدودة، بل تتفتح كلياً أمام القراءات المختلفة، لأنها تدفعه لصناعة معنى جديد، قد يكون مغايراً كلياً لمعناه المألوف، أو ما يشير إليه، لهذا فإن "قدرة المؤول على صناعة المعنى لا اكتشافه، تعد مصدر حرية، ولابد من الاحتفاء بها لا إنكارها"(ارمسترونغ،2008،ص9). لهذا يدوم الأدب الدرامي، ولا تنفك الحاجة إليه، لأنه يحمل ضمنياً قدرات تفوق الحياة وإن انبثق منها، لأنه يعود من جديد إلى الحياة بطاقة مضافة، معبرة عن درجة البحث والتنقيب عن المعنى. فالتأويل للنصوص يكون "مفتوحاً على مستقبل دائم التقلب"(ارمسترونغ ،2008،ص7).
إن النص الدرامي، لغة مشفرة وتنضيدها بطريقة ما يساهم برؤية جديدة - قراءة - للنص، ما اهم بنقل النص من حالة الركود إلى الحركة، ومن السكون إلى الفعل الجمالي. إن تجليات تلك القراءات التي تبدو مختلفة وغير متفقة مع معنى النص، إنما تعيد إنتاجه على وفق المتغيرات التي تعج الحياة بها. من هنا يمكن القول إن النصوص: "تبقى حية، حين تكون هناك قراءات جديدة لا تخطر ببال المؤلف"(ارمسترونغ،2008،ص7).
إن درجة الوعي الفكري والنقدي والجمالي تدفع بصياغة تأويل ما يساعد باستنطاق النص ولملمته على وفق منظور المؤول، ويحدث ذلك مثلما يقول (بيرس): "لا معنى بدون تأويل"(بوزيد،2008،ص7).وكلما فهم النص على وفق منهج تأويلي، خلقت صورة جديدة للنص، لهذا فإن النصوص الدرامية تبقى حيّة، قابلة لقراءات متنوعة وقد تكون مصطرعة، لكنها لا تفقد أرضية انطلاقها من النص الذي يدفع إلى معانٍ جديدة، ضمن منظور القراءات المختلفة للمؤولين للنص.
المبحث الثالث: تحليل العينة
تم اختيار عينة قصدية من ثلاثة نصوص مع مراعاة اختلاف المكان والزمان وعدد الفصول في كل نص منها وهي: رتشارد الثالث لمؤلفها (وليم شكسبير) والمكونة من خمسة فصول و122 صفحة من القطع المتوسط وكذلك النصان التاليان :
إيولف الصغير لمؤلفها (هنريك ابسن) المكونة من فصلين ، وعدد صفحاتها 127. أما نص عندما غاب القمر لمؤلفه (جون ميلنجتون سنج )ومن فصل واحد، وعدد صفحاته 16 .
أداة البحث: ما أسفر عنه الإطار النظري. الملاحظة.
طريقة البحث: تم الاعتماد على المنهج التحليلي الوصفي.
تحليل عينة البحث: سيتم تحليل العينة على وفق المحأور التالية:
التوصيف اللوني:
يشكل التوصيف اللوني للمؤلف الدرامي، جزءاً لا يتجزأ ، من عملية تحقيق إشارات لطبيعة البيئة المكانية والجغرافية والزمن، وفضلاً عن ذلك إشارات لطبيعة الشخصيات وما يمكن أن تنهض به من أفعال، باعتبار اللون ينضم بقوة إلى الأبطال من جانب ، ويحقق جَوّهم وما يؤول إليه الحدث من جانب آخر، ففي نص عندما غاب القمر، يصف المؤلف سينوغرافيا المكان: نار، ونافذة، وستارة (سنج،ص223).
وهي إشارات تتضمن رموزاً أبعد من وظيفتها المألوفة، بوصفها إشارات أيقونية محضة: فالنار - نور، والنافذة - فضاء خارجي، والستارة - إظلام. وهذه المسألة يكشف عنها توتر البطلة التي تصفها الخادمة قائلة: "كانت في حالة توتر"(ص223).
ويلاحظ اقتران التوصيف المكاني، لوضع البطلة النفسي. فإرشادات المؤلف تقترن بالأبطال. وفي زأوية أخرى من النص نفسه تصف البطلة بريدي، الرجل الميت وهم عم البطل كولم قائلة: "وعمك المسكين يرقد في هدوء وعيناه مغمضتان ، حتى لتظن أنه رجل عجوز نائم" (ص224).ووصف الرجل الميت، يقترن بالتوصيف اللوني للموت الذي يعود إلى ستارة النافذة، والنار . إنها إشارات لوضع بطل ميت، والحقيقة إنه استعاره نبهة لوضع الأبطال الأحياء ولكنهم أموات.
أما في نص إيولف الصغير، فيتجلى التناقض اللوني عبر ملاحظات المؤلف وهو يصف المنظر، فقد ذكر: الحديقة، والتلال، والغابات البعيدة، وحدد الوقت صباحاً، مثلما أبرز بعض سمات الأبطال اللونية واصفاً أحدهما بالشقراء المرتدية ثوباً للصباح زاهي الألوان، أما البطلة الثانية: فهيفاء الطول سوداء الشعر.
إن الصورة اللونية، بين مفردات المكان وسمات البطلتين، تكشف عن تناقض سيقع لاحقاً بين وضع الأبطال داخل فضاء: الحديقة، والتلال، والغابات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تناقض في سمات لونية لِكلا البطلتين. وهذا الاختلاف، تأكيد مضاف، لقضية ما، ويلاحظ بأنها ستتجمع لاحقا وتشكل محور النص ، وتناقض في الموقف الدرامي.
ولهذا فإن البطلة ريتا تستشعر غيبة زوجها، واصفة المكان المحيط بها، الذي امتص مشاعرها قائلة: "كان يبدو المكان في غيابه فارغاً، ومقفراً! أوه، كنت أحس وكأن المنزل قد خيم عليه الحزن".(ص ص22-23).
إن مشاعر الحزن التي انطلقت من إشارات المؤلف لطبوغرافيا المكان، سرعان ما تغلغلت بمشاعر البطلة وكذلك الزوج الذي كان غائبا برحلة إلى للتلال. إن الوحدة سرعان ما اقترنت بالغابة والتلال - إنه لون الابتعاد عن الحياة الاجتماعية - السوية. واصطباغ المحيط البيئي للبطلة بالحزن الشفيف. وهناك أكثر من إشارة داخل النص للشعور بالانحسار الذاتي ؛ لتضييق عبر توصيف الأبطال بعضهم للبعض الآخر، فها هي ريتا تصف زوجها العائد من رحلته الطويلة، إذ تنتبه بأنه منذ "ساعة أو أكثر في حجرته مع إيولف الصغير".( ص24). والحجرة تعد تضييقا للفضاء الشاسع ، وتحديدا له بالمقارنة مع اتساع الفضاء الخارجي.
إن التدرج من السعة إلى التضييق، إشارات مرمزة إلى تغلغل فكرة البطل تدريجياً في عالمه ، وسيطرت عليه. بكلمة أخرى ،استحواذ ذاتي داخل البطل الذي تمركزت في أعماقه الحياة الخارجية وتحولت إلى كثافة بالمشاعر، ما يساهم بتعميق رؤية العالم من زأوية ذاتية محضة. وبمعنى تأويلي بأن اللون قد تحول من الانفتاح إلى القتامة، من ألوان الفرح إلى الحزن.
التضاد اللوني:
في نص (عندما غاب القمر) تصف البطلة بريدي قائلة: "انتظر حتى ترى فضيلتك، كيف رتبت الحجرة الخلفية بالأزهار الجميلة والشموع البيضاء والمفارش الفخمة على السرير".
( ص224)هذه الصورة اللونية المتوزعة للأثاث تبدو صورة عادية، إلا أنها تتحول إلى تضاد لوني حالما تستمر البطلة ذاتها واصفة ما تراه إذ تقول: "وعمك المسكين يرقد في هدوء وعيناه مغمضتان حتى لتظن أنه رجل عجوز نائم".(ص224).
هاهُنا صراع لوني، فجثمان العم المسجى على السرير وقد فارق الحياة، تقابله: الأزهار الجميلة والشموع البيضاء. والتضاد اللوني الذي يتضح بلون الأزهار والشموع يقابله بالضد منه الموت، هو اللون الأسود عبر إغماضه العينين دلالة الانقطاع التام عن الحياة ، وعليه فقد تجلى التضاد بين قطع الاثاث والأدوات والإنسان ،وهو بحالة مختلفة لونية.
وفي زأوية في النص ذاته يشير البطل أولمز إلى المتغير، فيقول: "لا أحد خارج نفسي".( ،ص44)، وهذه الجملة، إشارة إلى لونين، أحدهما موضوعي أما الآخر فهو ذاتي، وكلاهما غير منسجمين معاً. تضاد لوني رمادي، غير محدد، لكنه يعلن عن عدم الاتفاق.
وهذه النغمة اللونية تتكرر في ثنايا نص أبسن إذ يقول أولمز: "لم أستطع أن أقهر نفسي وأصل إلى درجة إنكار الذات".( ص49).
إن الشفرة اللونية المتناقضة بين حالة الحياة والموت، هي التي ستقرر ما سيؤول إليه الأبطال من قرارات لتشكل خياراتهم، وفي الوقت ذاته، حياتهم. واقترنت المسألة بعودة إيلين إلى حبيبها كولم بعد قلق وتذبذب بالموافقة:
إيلين: (بصوت منخفض)، كولم لقد رجعت إليك.
كولم: إن جمال روحك هو الذي أطلق سراحك.(ص238).
إن النفس الإنسانية مليئة بالتناقضات وأحياناً بالقرارات الصائبة وغير الصائبة، فالبطلة في الوقت الذي تحب كولم، تنفر منه. لكنها أخيراً قررت العودة إليه. ويبدو أن الصراع الداخلي، ونقاء روحها الذي أشار إليه كولم ، كان الدافع الحقيقي لها، فجمال الروح، هو اتساق الأفكار والمشاعر، وبالمعنى نفسه، اتساق لوني لروح البطلة.
أما في نص (رتشارد الثالث)، فيتكشف الصراع اللوني إذ يقول دوف جلوستر:
"الآن قد أحالت شمس يورك شتاء أحزاننا إلى صيف رائع وثوى في صدر المحيط العميق كل ما جثم على بيتنا من سحب"(شكسبير، ص137).
لقد وردت مفردات هي: الشمس، الصيف، والمحيط، والسحب، الشتاء، تضاهي خمسة ألوان، وهي رموز للطبيعة التي انسكبت عليها مشاعر البطل فغذتها ببعد نفسي، لهذا فإن الشمس - لون التفتح بالضد من الظلام - بل إن ذكرها يستدعي الظلمة. والشتاء استدعاء إلى الصيف. والسحب، التي تندر بالمطر، تحولت إلى معنى جديد حين اقترنت بالبيت. وعليه فإن الرموز اللونية المتناقضة، استقدمت المعنى المرموز إليه، الموحى به. وفي زأوية أخرى يقول جلوستر فيه وهو يلقي بخطاب النصر:
"اخالس النظر إلى ظلي في ضوء الشمس وأتغنى بخلقتي الشائبة فلأكن إذن شريراً! ما دمت لا أصلح للحب"(ص139).
إن الثنائية المتضادة بين الظل باللون الأسود ، يستدعي هيئة جلوستر، بهذا المعنى فإن الظل قرين هيئة جلوستر مثلما هو قرين للظل، وتحديدا حينما تتم مقرنة البطل بما يحيطه، أي إن ما يضمره يتضاد بشدة مع محيطه البيئي، ما يزيد ويكثف اللون النفسي للبطل عبر شدة سطوع التضاد اللوني. ما يشكل بنية لونية تقع ضمنياً في ثنائية التضاد. وتأكد ذلك حينما شدد جلوستر وهو يخاطب هيستنجر الذي خرج من السجن تواً قائلاً: "مرحباً بك في هذا الجو الطلق. كيف كان احتمال سيدي اللورد في السجن"(ص145). فالجو الطلق - رمز للحرية، على العكس تماماً من السجن، الذي زح فيه العديد نتيجة المؤامرة على العرش، لهذا فإن الجو الطلق، والمرح والتناغم، باختصار، إنه لون الحياة. بينما السجن الذي عانى منه البطل ، فهو رمز للإذلال والانحسار والتداعي والقهر.
يلاحظ، أن الطبيعية صارت امتداد إلى دواخل الأبطال وتعبر عن الحالة اللونية لوجودهم. وبهذا الصدد يقول هيستنجر بعد سماعه نبأ بأن البطل كلارنس قد أدخل للسجن فيقول: "لشد ما آسف أن يحبس النسر. وتترك الحدات وضعاف الصقور، لتتقنص كيف تشاء"(ص145).
لقد أتخذ التشبيه من الطيور رمزاً لونياً. فالنسر = القوة والمجالدة. أما الصقور فإنها لا تطال النسور ولا تقارن بقوتها وبأسها.
إن الطبيعة وما تزخر فيه من كائنات، تحولت إلى تشبيه للأبطال، وأوضاعهم الذاتية، وألوانهم التي شكلت بنية مضمرة.
وفي جانب آخر، ظهر في النص ذاته، السمأوي والأرضي، بوصفهما مكانين متناقضين عبر الجدال الحواري ، وتراشق الاتهامات بين جلوستر وآن التي تنظر إلى زوجها الميت وتتهم جلوستر بقتله.
"آن: إنه في الجنة التي لن تدخلها.
جلوستر: فليشكرني إذن، فقد أعنته وأرسلته إلى هناك لأني رأيته أصلح للسماء منه إلى الأرض.
آن: أما أنت فلا تصلح إلا للجحيم.
جلوستر: بل أصلح لمكان آخر إذا أذنت أن أسميه.
آن: سجن مظلم."(ص ص 154-155).
لقد توزع التضاد اللوني بين لوني الجنة والجحيم، وبذلك ظهر التضاد بين مكانين سماويين من جهة، ومكان أرضي حيث يقف عليه كِلا البطلين وما يقع خارج الطبيعة - الميتافيزيقي. إن ذلك حمل مستويين لونيين أحدهما أرضي وآخر سماوي، وبذلك اتسعت رقعت التضاد والتقابل اللوني بما يجعل فضاء اللون ذا بعدٍ ديني باقتران الأرضي بالسماوي.
واتسع التشبيه بالحوار حيث قالت:
"آن : فليغش الليل البهيم نهارك، وليطمس الموت حياتك.
جلوستر: لا تستنزلي اللعنات على نفسك، أيتها المخلوقة الجميلة، فأنت النهار والليل كلاهما".(ص156).
إن التراشق اللفظي، في جوهره تراشق لوني فالليل والموت سيان عند آن، بينما جلوستر يوصم آن بأنها لون النهار والليل معاً. لقد تحول اللون إلى خاصية في داخل البطل، ويعد شكلا من أشكال وجودهم ، وبرزت السيادة اللونية في التقاطع اللوني.
وفي حوار جلوستر دميم الخلقة، لكنه وجد نفسه يستحق أكثر مما كان يزدريها فيقول: "فلتشرقي أيتها الشمس الجميلة"(ص165). وفي مشهد آخر، يصف كلارنس أحد قاتليه، بأن يكون رحيماً فيجيبه القاتل الأول ساخراً: "رحيم كرحمة الثلج إذ يسقط أيام الحصاد".(ص202). يظهر التضاد اللوني عبر الاستعارة من الطبيعة ليعبر عن مشاعر الابطال. يلاحظ هناك لونان: الثلج البلوري - الأبيض - والحصاد بلونه الأصفر. وكلا اللونين يشكلان تضاداً في درجة الحرارة، إلا أن مزجهما معاً بصورة فنية، جعل من تركيبهما المختلط على الرغم من حالة التضاد بينهما، للتعبير عن السخرية المرة. وحين يعلم كلارنس من قاتله الثاني أن جلوستر هو من دبر مؤامرة قتله، فيجيب القاتل الثاني: "أجل، فهذا ما يفعله حين يخلصك من رق الحياة فتنطلق إلى سعادة السماء"(ص203).
ويلاحظ أن الرق هو عبودية، بكلمة أخرى، لا أمل ولا مستقبل فيها. لهذا، فإنها شبيه بالظلام. المتراخي والممتد بينهما ،ويقابل الرق سعادة السماء، التي عرفت بمعناها الأيقوني الفضاء الواسع، واللون المفتوح. وبذلك كان التضاد اللوني بين السواد - الظلمة، والبياض - السماء ، تعبيرا متداخلا عن معان أ خرى ترتقي بالمدلول الأيقوني إلى الرمزي.
أما في نص (إيولف الصغير) فظهر التضاد اللوني ضمن نطاق مواصفات الشخصية البطلة. إذ يشدد المؤلف في ملاحظاته على بعض خصائص الجسد فيصفه: ضئيل الجسم، رقيق ، لكن عينيه تشعان بالذكاء.(ص20) وتتكرر المسألة ذاتها مشدداً على بريق عينيّ إيولف ، وحدة العينين في بريقهما.(ص32) ، وبذلك شكل تضاداً لونياً بين مواصفات البطل وما يحيطه من بيئة تتسم بالركود.
بمعنى أن التضاد حمل تضادا بين اللون الحار والبارد وينسحب ذلك على معنى الموت.
فالبريت، يعطي إحساساً باللون الحار. أما الركود فإنه يشيع عدم الحركة فالركود بهذا المعنى اقترن بالموت – اللون الأسود - وبذلك تشكل التضاد اللوني عبر البطل والبيئة المحيطة به.
لون الشخصية:
في نص (عندما غاب القمر) وأثناء تيه كولم بالوصول إلى البيت في الضيعة، يلتقي صدفة بامرأة مسنة، لتدله على الطريق وترشده للوصول إلى البيت. فيصفها قائلا:
"بريدي/ أظن أنها امرأة ضخمة طويلة ، تلبس شالاً أسودا وحول وجهها شعر أسود.
كولم/ إذن تعرفين من هي؟.
بريدي/ إنها ماري كستلو.
كولم/ متسولة".(ص226)
يلاحظ أن المرأة توصم بأنها فاقدة لرجاجة عقلها، فالشال والشعر أسودان ، وهي صبغة لونية تعكس وضعها النفسي كما سيتضح ذلك لاحقاً.
اللون الأسود هو اللون الطاغي ،نتيجة لفسخ خطبتها وبإرادتها ، بعد اختلاف نشب مع خطيبها ففسخت خطبتها وتركته، فأزمت وضعها النفسي ؛ ما دفعها للعزلة وتدريجيا فقدت رجاجة عقلها وعاشت فاقدة الوعي. إنها تحيا في ظلام - سواد - مخيلتها قد اصطبغت باللون الأسود، والشال والشعر الأسودان، إشارة لما يعتريها داخلياً. بينما عكست إيلين لونها وكشفت عن قائلة: "كنت لتوي أفكر في التغيير الكبير الذي طرأ منذ أن وصلت هنا لثلاثة شهور خلت ، حيث كان ضوء القمر يسطع على الثلج في كل مكان".(ص229).
ويجدر الانتباه إلى لون الثلج - الأبيض - وضوء القمر المنعكس على الثلج. وبذلك عكس ذبذبة لونية لمشاعر البطلة، هذه الصورة اللونية المتمأوجة، كشفت عن لون البطل الداخلي الذي ينكشف تدريجياً ويبلغ ثباته اللوني في نهاية النص، فبعد أن كانت البطلة تنفر ممن تحبه في البدء، تحولت في نهاية النص إذ تعود إليه بإرادتها، وبذلك اكتسبت الشخصية لونها الخاص. بينما شخصية ماري التي فسخت خطبتها من عم كولم الذي صُدم وحبس نفسه باختياره. ( ص229)، فإن الظلمة النفسية الداخلية للبطل ،انتشرت واستحوذت عليه عبر العزلة والانطواء على النفس ما جعل حياته تصطبغ باللون القاتم المقترن برؤيته السودأوية لما يحيطه فكانت الغشاوة السوداء، بمثابة الرداء النفسي الذي يكلل البطل. وعليه فإن اللون الأسود له الأولوية في عالمي العم كولم وماري.
ومات العم كولم وهو على هذا الوضع، بينما لون شخصية ماري التي فقدت رجاجة عقلها، بمعنى انزوائها داخل الحياة في أضيق رقعة هي ذاتها، ما يعادل الظلام – وإيلين هو اللون الأسود. وهذا الأمر يشدد عليه المؤلف أبسن، ليخلق صراعاً لونياً يتحرك بهدوء، ويشكل بنية عميقة، لهذا يقول كولم عن إيلين: "إن هذه المرأة بتهربها من مشاعرها ورغبتها قد ارتكبت خطأ، وجلبت الشقاء على عمي ونفسها" (ص230). لهذا يقرر كولم الذي يقف مواجهاً إيلين قائلاً: "حتى أجعلك تقررين بكامل وعيك إذا ما كنت ستلبين نداء الحياة، أم ستكررين حكاية المرأة المجنونة وعمي"(ص232). والجدير بالتنويه أن هناك بنيتين لونيتين تسيدتا فضاء النص. بنية السطح ممثلة: بالعم كولم وماري. أما كولم وإيلين فهما بنية لونية عميقة .
أما في نص رتشارد الثالث، فقد تجلى لون الشخصية البطل جلوستر الذي قاد المؤامرات والقتل والاغتيالات حتى توج ملكا ، وأراد ان يكمل اغتيالاته بقتل ولديّ أخيه إدوادر، لكنه ينتبه إلى وضعه مفكراً قائلاً: "ولكني انغمست الآن في الدماء، ولابد أن تدفع الخطيئة إلى الخطيئة، ولا مكان لدموع الرحمة في عيني"( ص297) . إن البطل يرى لون الدم ولا يستطيع خلاصاً منه، بل ولا يطلب ذلك، بل يؤكد أن مسار حياته، قد انغمس بالقتل - الدم - فصار لونه الذي يعرفه به، لون الدم. وهذا ما أكدته الدوقة في مواجهة مع جلوستر قائلة: "إنك سفاح محب للدماء، وبالدماء ستكون خاتمتك".(ص317). لهذا كان الدم –اللون الأحمر- هو لون الشخصية واللون الطاغي في الجو المكون لفضاء النص.
إن لون الشخصية البطلة، جاء امتدادا تدريجيا لصراعات البطل من جهة وما يضمره من مشاعر وافكار من جهة أخرى. واللون نتيجة تجمع وامتصاص لكل المواقف والحوار وحالات الانكسار والانتصار، بكلمة أخرى ، إن لون البطل كان تكثيفا لحزمة الألوان المحيطة بالبطل، ما يجعله اللون الأكثر بروزا في فضاء النص ويتميز بالسيادة اللونية.
الاستعارة اللونية:
اتسعت الاستعارة متخذة من ألوان الطبيعية منطلقاً لها، فأحد المواطنين يقول: "حين تسقط الأوراق القوية، فإن نذيراً بالشتاء. وحين تغرب الشمس فمن ذا الذي لا يترقب الليل؟".( ص225) فالسحب / لون أبيض. أما المعاطف / لون غامق. وتساقط الأوراق يعلن عن خريف. إذاً فإن الألوان هي: الأبيض، والأسود، والأصفر. وقد انعكست ألوان الطبيعية وشكلت باقة متنوعة مختلفة، والقصد منها بلورة صورة الحكم السياسي الذي اعتمد على المؤامرة والاغتيالات. وفي زأوية أخرى من النص نفسه، استدرجت طبيعية الكائنات من حيث مواصفاتها المعروفة وانعكست باعتبارها استعارة لغوية - لونية. فالدوقة تقول:
"فلقد أمسك النمر بالظبي الوديع، ويبدأ الطغيان الصلف يمد سلطانه على العرش البريء الضعيف، مرحباً أيها الدمار، أيّها الدماء، أيّها المذابح".(ص229).
والجدير بالتنويه أن استدعاء الكائنات الحيوانية واتخاذها مطية لجعل لون الدم طاغيا، بعد أن اتخذت من النمر والظبي وسيلتين لبروز لون الدم. وتستمر الدوقة واصفة الوضع السياسي والأحداث وهي تشهد نهش الحياة السوية فتقول: "وإذا بهم يحارب بعضهم بعضاً. فالأخ عدو أخيه. والدم عدو الدم".(ص230).
وهناك استعارات لونية مأخوذة من فصول السنة فها هو جلوستر يقول: "إن الصيف القصير يسبقه في العادة ربيع مبكر".(ص 237).
أما في نص (إيولف الصغير) فان البطل أولمز يصف الطبيعة "حيث الوحدة كاملة، وحيث رأيت الشمس في شروقها تلمع فوق قم الجبال". (ص49)، ها هنا تقترن ألوان الطبيعة بلون النفس، حيث يقول البطل أيضاً: "فإن السعادة عندما تزور الإنسان مرة ، خليقة أن تكون كفيضان النبع".(ص53).
ويلاحظ أن الطبيعة انعكست في حوار أبطال أبسن، وشكلت إيغالا في رؤيتهم للعالم المحيط، سواء أكانت بيئة طبيعية أم بيئة اجتماعية. وبذلك يستعير صورا من خارج الذات لإحداث المقارنة بينها، بالتالي تعكس ألوانا مأخوذة من الطبيعة وتعود إليها بعد أن اكتسبت معاني جديدة.
المبحث الرابع: النتائج ومناقشتها
1- السيادة اللونية:
ظهرت حزمة من الألوان في عينة النصوص كافة ، سواء أكانت ألوانا يدرجها المؤلف ، أم مستعارة من الطبيعة أم تلك التي يتم تركيبها ضمن حوار الأبطال، وذلك يكشف عن سيادة لونية ضمنية في النصوص الدرامية . ففي نص (ريتشارد الثالث ) تبلورت سيادة اللون الأحمر وانتشاره في فضاء النص الذي صار ينضح باللون الأحمر. أما في نص (إيولف الصغير) فقد كانت السيادة اللونية، إلى الظلام – اللون الأسود - الذي شكل مستنقعاً لكل الأبطال بدءاً من إيولف إلى الأب والأم. كان الموت هو المحور الاساس ،على الرغم من التناقض الحاد بين الطبيعية والأبطال. إلا أن السيادة اللونية كانت تتقدم تدريجياً حتى يسود اللون الأسود، ويغذي الفضاء الدرامي.
أما في نص (عندما غاب القمر) فقد خيم الإظلام - الموت - أمام اللون الأبيض. وقد ظهر توازٍ لسيادة لونين. الأسود والأبيض ما يعادل ثنائية الحياة والموت، السعادة والحزن هذه الثنائيات ولدت كِلا اللونين فاقتسمتا السيادة اللونية.
2- اللون النفسي
إن إشارات الألوان المتعددة والمختلفة، تجتمع أحياناً لتشكل لوناً ذاتياً، هو اللون النفسي للأبطال. وانعكس اللون النفسي عن طريق المحيط البيئي للأبطال، عبر تحديد المؤلف للألوان التي يؤثث من خلالها المكان، فتتشكل سينوغرافيا محيطة بهم. أو من خلال قطع الأزياء التي يرتدونها ، أو لون الشعر ، أو سيمياء سحنة بعض الأبطال كما في نص (عندما غاب القمر) ، فالبطلة شعثاء الشعر الأسود ، وتضع شالاً أسود على رأسها أيضا. إن اختيار لون محدد لزي الأبطال، يكون استجابة للإيقاع الذاتي والعقد النفسية التي تتمحور في دواخل الأبطال، وتشكل إشارة من المؤلف إلى خاصية اللون الأكثر قربا وجإذبية لأبطاله، وذلك يدعم مسألة تنامي اللون عند الأبطال ليشكل فعله بالحدث من جهة أو صناعة البطل للحدث من جهة أخرى، وذلك يكون متوائما ومنسجما مع اللون النفسي للبطل ذاته. وينمو اللون النفسي تدريجياً كما عند البطل (ريتشارد الثالث) في النص الذي يحمل اسمه ؛ فالقتل والدسائس والمؤامرات تنمو تدريجياً وتزداد مع تقدم الأحداث وتواليها المستمر، وتخلف الدم وراءها بعد كل فعل، وبذلك فإن لون الدم وإن كانت له السيادة، فإنه يشكل اللون النفسي للبطل الذي فَقد رؤية العالم المحيط به، إلا باللون الاحمر الدامي، وتجلى ذلك عبر نمو درجة اللون الاحمر وزيادة كثافته التي تكشف عن درجة كثافته داخل البطل، ولا يستطيع خلاصاً منها حتى يبلغ لحظة الموت مدمىً بالدم - اللون الأحمر.
3- التنوع اللوني
إن التنوع اللوني يشكل الجو المدرك ذهنيا في الفضاء الدرامي، عبر ما يورده المؤلف من ارشادات يحدد فيها الألوان، والمكان، وقطع الاثاث، كما يتم تحدد الوقت، فضلاً عن أزياء الأبطال والصورة التي يكونون عليها ، وتجلى ذلك في نص (عندما غاب القمر) في نص (إيولف الصغير) المواصفات التي حددها المؤلف للبطل إيولف غير المواصفات التي أطلقها على البطلة آستيا
،وأولمرز وغيرهما من الأبطال الآخرين .
إن اختلاف مواصفات الشخصيات وما يكمن وراءه ، يحدد المؤلف طبيعة الجو العام، وإن لم تظهر السيادة اللونية في البدء، بل عبر تشكيل الفضاء الدرامي وتنوعه المكاني والزماني وجريان الحدث، فضلاً عن تنوع طبيعية الأبطال وأبعادهم المختلفة.
وكذا الحال في نص (رتشارد الثالث) التي كانت فيه إشارات غير تفصيلية للوسط البيئي، إلا أن الحوار اللفظي، يكشف تدريجياً هذا الاختلاف اللوني ويحدد طبيعية الأبطال.
4- نهاية الحدث
ظهر أن نهاية الحدث الدرامي ترتبط تدريجياً باللون الذي ينسج داخل الفضاء الدرامي، فنهاية (ريتشارد الثالث) اقترنت بسيادة لون الدم - القتل - تدريجياً. حتى استشرت في النص وشكلت علاقة صميمة بالقتل بكل تنويعاته: الغدر، والدسيسة، والمؤامرة. إلا أن النتيجة واحدة هي: إراقة الدماء باستمرار فتولِّد اقتراناً بين لون الدم - الأحمر - والنهاية المأسأوية في نص (رتشارد الثالث).
أما في نص (عندما غاب القمر) فإن هيمنة أجواء الموت مهدت لمحأولة خرق هذا التابو(Tapu)عبر حيوات البطلين وهذا الأمر، شكل اقتراناً بين نهاية معلنه للبطلين، من خلال الإشارة للعم كولم الميت، - اللون الأسود، الذي لم يدفن وبقي مسجى على السرير، والإشارة الأخرى المتعلقة بطبيعة الحياة المحيطة بالبطلين والمتمثل باللون الابيض الذي يصطرع مع فكرة الموت- اللون الأسود.
إن ثنائية الحياة والموت الأسود والأبيض - هي ثنائية قائمة فعلاً، فالعم كولم ميت، أما كِلا البطلين: كولم وبريدي، فإنهما حيان، والمسألة هذه أَحيت الصراع ونمته، واصطفت إلى جانب البطلين، باقتران النهاية ولقاء الحبيبين على الرغم من هيمنه الموت - اللون الأسود - إزاء الحياة - اللون الأبيض.
أما في نص (إيولف الصغير) فإن النهاية التي خيمت على الأحداث، دليل آخر لاقتران فكرة الموت - اللون الأسود - الذي نما تدريجياً واستفحل ، وبالتالي ارتبطت النهاية بالزحف التدريجي للون الأسود ،الذي خيم على فضاء النص وصاغ الإحساس به، بالتالي انتهى الحدث على وفق هذا البناء اللوني.
5- البنية اللونية:
ظهر هناك أكثر من بنية تتجاذب النصوص الدرامية، فهناك بنية عامة للنصوص كافة عبر البداية غير المسبوقة والنهاية المحتمة ضمن الظروف، ففي (ريتشارد الثالث) كانت البداية التي شكلت كارثة بطموحه المفرط باعتلاء العرش ،التي انطلاق منها الحدث ،وكل خطط رتشارد بعمليات القتل والمؤامرة والدسيسة كانت من اجل ارضاء طموحه، ما جعل منه قاتلا لأقرب الناس اليه، وينتهي الحدث بفشله وفقدانه لكل شيء بعد أن ضرج عرشه بالدماء التي سفكها، وينتهي به المطاف مقتولا. أما في نص (إيولف الصغير)، فقد كانت البداية عودة البطل وعزوفه عن الاستمرار باستكمال كتابته وتوقفه . أما في نص (عندما غاب القمر) موت العم كولم وانطلاق الحدث بعده وصولاً إلى نهاية.
هذه البنية الدرامية المشتركة للنصوص كافة. أما البنية العميقة فقد تحركت عبر عدم قبول ريتشارد لما يحيطه فاستجمع قواه ليشكل قوة لحركة تقتحم، فبنية الشخصية حركت الحدث أما البنية اللونية، فإنها تتجمع تدريجياً وتلتحق بالبنية العميقة ، ويطغى عليها لون محدداً ولا تكتمل الكثافة اللونية إلا عبر الاصطدام اللوني الحاد بين تقدم لون - الدم - واكتساح الحياة، وجعلها مصطبغة به.
وهذه المسألة، شدد عليه المؤلف ضمنياً عبر الحوار، وقد علق اللون بمفاصل اللفظ واقترن به فأصبح معبراً عنه. لقد تجلت البنية اللونية العميقة بوضوح في نص (عندما غاب القمر) ؛ فهناك لونان يتزاحمان على السيادة، وهذه الثنائية اللونية شكلت توازناً يزيد من عمق الثنائية ومفهومها ، وبالتالي تعمق البنية اللونية عبر حركة التجإذب والانفلات في آن واحد، وتوزعت باقتران اللون ببعد ميتافيزيقي تارة وبالطبيعية تارة أخرى. إن ذلك توسيع للبنية اللونية التي التصقت بالنص وأن لم تتكشف بوضوح كاف، بل إنها قابلة للإدراك الذهني.
الاستنتاجات:
1-تكون السيادة اللونية بلون محدد في الفضاء الدرامي، وقد تكون السيادة بلونين محددين
2- يقترن اللون في الفضاء الدرامي، باللون النفسي للبطل.
3- ينمو اللون النفسي تدريجيا، ويقترن ذلك بكل فعل ينهض به الأبطال سواء وقع عليهم الحدث أم ساهموا بصناعته.
4- يرتبط بناء الحدث باللون الذي يشكل بنية عميقة مذابة في مفاصل الحدث والحوار اللفظي
المصادر والمراجع:
أرمسترونغ، بول. ب (2008) القراءات المتصارعة – التنوع والمصداقية في التأويل، تر وتقديم فلاح رحيم : بيروت، دار الكتاب الجديدة المتحدة.
ايكو، امبرطو (2013)الأثر المفتوح، تر عبدالرحمن بو علي، اللاذقية: دار الحوار.
ابو الحسن،هاني(2006) سيميولوجيا المسرح بين النص والعرض،الاسكندرية: دار الوفا لدنيا الطباعة والنشر.
بارت، رولان (2002) الكتابة بدرجة الصفر، تر د.محمد نديم خشقه ،المدينة: مركز الاناء الحضري.
بريت، ر.ل (1979) التصور والخيال، ترعبد الواحد لؤلؤة، بغداد: دار الرشيد للنشر.
بوزيد، بومدين (2008) الفهم والنص، دراسة في المنهج التأويلي عند شليرماخر وديلتاي: د.مدينه: منشورات الاختلاف.
بهنسي، عفيف(د.ت) علم الجمال عند أبي حيان التوحيدي ومسائل في الفن، بغداد: وزارة الإعلام.
تودوروف، سفيتان(2002) تر عبود كاسوحة، دمشق: منشورات وزارة الثقافة.
خمري، د.حسين (2007)نظرية النص- من بنية المعنى إلى سيميائية الدال، بيروت: دار الاختلاف.
سليمان،سوزان روبين ،وانجي كروسمان(2007) القاريء في النص- مقالات في الجمهور والتأويل، تر حسن ناظم،وعلي حاكم صالح،د. مدينة: دار الكتاب الجديد المتحدة.
صالح، قاسم حسن(1982) سايكولوجية إدراك اللون والشكل، بغداد: وزارة الإعلام.
طودوروف، تزفيطان (1987) الشعرية، تر شكري المبخوت ورجاء بن سلامه، المغرب: دار توبقال للنشر.
عبدالكريم، حسين (1983) عصر البنيوية، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
عاتي، حسن كريم (2015) الرمز في الخطاب الأدبي، بغداد: الروسم للصحافة والنشر والتوزيع.
عياشي، د. منذر (2009) الاسلوبية وتحليل الخطاب، دمشق: دار آية.
كيرزويل، أديث (1985) عصر البنيوية، تر جابر عصفور، بغداد دار :آفاق عربية.
محفوظ،،د. عبد اللطيف(2014) اليات إنتاج النص نحو تصور سيميائي، دمشق: للدراسات والنشر.
مطر، أميرة حلمي (1976) مقدمة في علم الجمال، القاهرة: دار الثقافة للنشر.
اليوسف، أكرم(2010)الفضاء الدرامي بين الفضاء الاجتماعي والاقتصاد الدرامي ،دمشق: دار مؤسسة ارسلان.
النصوص الدرامية:
ابسن، هنريك (1963) إيولف الصغير، تر محمود سامي أحمد، مراجعة د. عبدالحميد يونس، من روائع المسرح العالمي 42،القاهرة:المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر.
سنج، جون ميلنجتون (1977) عندما غاب القمر، تر د. أحمد السيد النادي، مراجعة د. عبدالله عبدالحافظ متولي، تقديم ت .ر .هن ، من المسرح العالمي ،الكويت :وزارة الإعلام.
شكسبير، وليم (1968) رتشارد الثالث، تر بدر الدين الديب، مراجعة د. حسن محمود وابراهيم خورشيد، المجلد الثالث، القاهرة: دار المعارف المصرية.
الفصل الثاني : البعد التشكيلي- الكولاج في الدراما
التمهيد:
أسهمت الحروب بإشاعة روح الاغتراب بعد أن أحس الإنسان بالخراب والتدمير في مختلف ضروب الحياة ، ورؤيته للبشاعة وما آلت إليه الحياة من تغيير في القيم وانعطاف في التفكير وتدمير للبنى الاقتصادية ،مما ولد الشك بالحضارة الإنسانية .وكانت دافعا قويا للفنان أن يبحث عن وسائل فنية ، يستطيع من خلالها أن يعبر عما يشعر به من برم وعدم رضا، انعكس ذلك بالحركات الفنية التي شكلت محور استجابة للفنان ومنها الحركة الدادائية التي تعد شكلا من أشكال الرفض الاجتماعي والفكري والجمالي، وعليه فقد أكد الدادائيون ؛الذين انطلقوا من مدينة زيوريخ ؛رؤيتهم المتعلقة " بأن العالم لا يمكن التعرف عليه واعتراكه، سوى في إطار فقدان الثقة واغتراب كل الامور ".(جيبهاردت،فولكر،2005.ص170).لهذا كان لجوؤهم إلى المهملات والكسور والنواقص ،باعتبارها صيغة في التعبير الفني ، فقد قاموا بتركيب قطع موجودة في الحياة اليومية ، واجتهدوا بلملمتها وتركيبها بطريقة ما؛ لتثير الدهشة ،وتطرح تساؤلا في الحياة يتعلق بوضع الإنسان ذاته. إن ذلك أسهم برؤية العالم والحياة بطريقة غير تقليدية وتسترعي الانتباه . (جيبهاردت،فولكر،2005.ص170). وكانت الدادائية تقترب من الحياة، مما ساعد على انتشارها في الشعر والادب ،إذ يتحكم اللامنطق في التعبير الفني ، مما وفر خزينا مضافا إلى رؤية العالم من جديد وبزأوية عُدت جديدة ،بوصفها حركة فنية تعتمد البحث والابتكار ،وفي الوقت ذاته " تهز كل الممارسات التقليدية للفن ، وتتحدى القيم الاجتماعية السائدة ".(بسيوني ،د. محمود،2005.ص 141). فقد اجتهد بعض الفنانين بالتلاعب حتى في اللوحات المعروفة بقصد "إبراز السخرية ،كما عمل مارسيل دو شامب إلى وضع شاربين ولحية على نسخة جيوكاندا".(مولر، جوزيف اميل،1988.ص 127).لقد أطلق خيال الفنان في الممارسة الفنية مما جعله متحديا جماليا، وعدت عمليات الهدم ،بناء على وفق منظورهم الذي اقترب من فن الكولاج وتراكيبه المتنوعة للصور والخامات، وأرضية لخيال الفنان في مجمل العمليات التي يقوم بها من تقطيع ولصق، وإعادة تركيب من جديد ،بحيث تعطي شكلا جديدا ،وقد يكون غريبا ومدهشا من مواد بسيطة: خشب ،قصاصات ورق جرائد، صور فوتوغرافية ،مواد إعلانية وغيرها.(جيبهارت،فولكر،2005، ص 170).
لقد انبثق فن الكولاج من رحم المتغيرات التاريخية والاجتماعية والنفسية ،إذ تعاظمت و تكالبت الحياة إلى حد دفع الفنانين في إحداث ثورة في اللوحة ،وما تتضمنه من موضوعات وأفكار، فقد تغيرت سكونيه اللوحة وطبيعة حركتها وخلقت انساقا غير معتادة ، كشفت عن المتغير في رؤية الفنان الكونية ؛ لهذا انسجم التعبير الفني الكولاجي مع تطلعات الفنان مع ذاته و كيف يرى العالم المحيط به؟ وماذا يريد أن يقول ؟.
إن فن الكولاج رسما ونحتا، شكل ثقبا في عالم المعرفة ، متسما بالتغيير ، فلم تعد الأشكال المألوفة كافية لإعلان رؤية الفنان الجمالية وأفكاره المتعارضة، بل ما عاد يؤمن بأن هذه الأشكال المألوفة ؛ قادرة على إيصال أفكاره المتسابقة مع الزمن ،وما يحدث فيها من تفكك العلاقات الاجتماعية ، وسخونة الوضع البشري ،لذا فإن الكولاج" فن مُدرَك ذهنيا، لا فن مدرك حسيا".(يأونيس،إلان،1990.ص176).
وفي ضوئه، صارت اللوحة عبارة عن أفكار جمالية، بعد تمزيق الشكل المتعارف عليه وإحالته إلى شكل آخر مختلف عن أصله .إن الكولاج يعد صدمة تستفز المعرفة، لتشكيل عالم متسع عبر سلسلة من المتغيرات التي يحدثها الفنان في صياغة عمله الفني عبر إبراز حالة: التناقض الحاد بين الجزء والكل .المألوف و اللامألوف . التناقض الحاد في اللوحة ، بين خلفية بلون و مركز لوني بلون آخر .تمزيق الشكل وإحالته إلى أجزاء متعددة ، و أحيانا متناثرة من أجل إثارة الأفكار .العلاقة بين حاضر وغائب ، أي استثمار الميتافيزيقي واستدراجه على الرغم من غيابه .دهشة الشكل بوصفه غير مسبوق وغير معروف ولم يتم تدأوله ، دهشة تساعد على الفهم وتكتشف المعنى ، من أجل جعل الأفكار ثورة احتجاج ضد الأنظمة و القوانين والأعراف المهيمنة على الإنسان .فالكولاج يعد تحديا لمفاهيم الحياة ، بمهارات تقنية وفنية وجمالية لإعادة صياغة الحياة وإنتاجها من جديد .والسؤال الذي يثير الانتباه : ما الذي أخذته الدراما من فن الكولاج ؟ ،وتحديدا أدب اللامعقول الذي عرف بتفكيكه بنية النص وهشاشة الشخصية ،ودهشة الصورة . إن الموضوع يعد غامضا ، ومن أجل تحديد الموضوع وضع السؤال التالي:
ما تقنية الكولاج في نصوص الدرامية؟
لقد تجلىت أهمية الدراسة بوصفها تتطرق إلى قضية شائكة بالكتابة الدرامية والمتعلقة بدرجة الأخذ من فن الكولاج وتوظيف الصيغ الكولاجية في الفن التشكيلي - في تركيب النص الدرامي وبنيته ،ويعد ذلك إضافة معرفية بفن الكتابة الدرامية
هدف الدراسة : يرمي البحث لتحقيق الهدف الآتي :
ما صيغ الكولاج المتبعة في تركيب النص الدرامي ؟
مصطلحات الدراسة :
الكولاج: collage
إن مصطلح "كولاج من الفعل الفرنسي كولرcoller يلصق ،وفي إلانجليزية يمكن استخدام الكلمة كفعل وتعني تثبيــت ورق أو أشــياء علــى سطــح ثنائــي الأبعاد".(السباعي،د.هويدا،2008.ص129). والتعريف التشكيلي ،يعني تقطيع الشيء إلى أجزاء مختلفة ولصقها من جديد ، وبعد ذلك يظهر ذلك الشيء مختلفا عن الأصل .
التعريف الاجرائي للكولاج الدرامي: عملية تحويل يرتئيها المؤلف الدرامي لصور الواقع عبر تقنية الكتابة من خلال : التقطيع والتركيب والتداخل بين الأجزاء- الكلمة ،الجملة أو الكلمة ،الجست- لصياغة الصورة الأدبية المغايرة للمألوف، وتكون أكثر ثراء في التعبير الدرامي وأوقع أثرا، لتحفز على التفكير والتأويل .
المبحث الأول: البعد الانثروبولوجي للكولاج
1- البنية الذهنية:
تقترن اللغة بالبنية الذهنية ،وكلما تطورت اللغة نحو التنظيم والاتساع وتنسيق استخدام المفردات والضمائر كانت اللغة متطورة ،وبالتالي تعكس طريقة التفكير وما تتضمنه من قيم في إطار تطور اللغة نفسها ، لهذا فالبنية الذهنية لشعب من الشعوب قد لا تكون نتيجة خبرة ذلك الشعب وحده ،بل تكون نتيجة من نتائج التداخلات التي قطعها الشعب ضمن وضعه الثقافي والتاريخي ، والتي تجعل منه تركيبا منتميا للمقومات التي يستند عليها ( الحوراني يوسف ،1978.ص 15 وكذلك ص 87).وطريقة التفكير المهيمنة التي تفرض نمطا من التعايش مع الأفكار المتدأولة ، مما يعني ربطا بين عوالم مختلفة وأمكنة متباعدة وأمكنة مختلفة ،إلا أن العقل البشري يتقبلها بوصفها جزءا لا يتجزأ من محأور التفكير المهيمنة.
وقد هيمنت الفكرة الإلهية على الإنسان وعايشها في الحضارات الأولى فقد " افترض الفكر السومري ، أن في كل إنسان روحاً إلهية ، أو إلهاً شخصياً يرعى شؤونه : ( الحوراني ، 1978.ص154). ويعني ذلك ،اقتران المرئي بغير المرئي ، وتجلى ذلك في ما أسفرت عنه ثقافة تلك المجتمعات التي تطمح بزيادة قوتها وترسيخها لوجودها، ففي النحت دأب إنسان الحضارات العراقية القديمة إلى فن كولاج نحتي، وتجلى ذلك بوضوح كبير بمنحوتة (الثور المجنح) وكان فنان تلك الحقبة التاريخية يقصد التعبير عن مفاهيم متعددة تقلقه، مما دفعه للتعبير عن أفكاره بطريقة مختلفة ،إذ جعل من المنحوت عالما مكتظا من الأفكار والقيم .فالثور المجنح- برأس آدمي وجسد ثور وجنحي نسر- إن صورة الشكل البشري والحيواني تعد غريبة بالمقارنة مع الواقع ، إذ لا يوجد بشر أو حيوان على هذه الهيئة ،إلا أن البنية الذهنية لفنان تلك الحقبة التاريخية ،جمع أجزاء من الشكل البشري والحيواني وهي : رأس بشري ،جسد حيواني، جنحا الطائر . فالمنحوتة العملاقة جاءت تعبيرا عن سيادة الإنسان وتسيّده لما يحيطه ، وكأنه موقف بصيغة جمالية يؤكد وجود الإنسان القادر على إعادة صياغة الوجود البشري ،من خلال مفرداته ، ويلاحظ ،أن المنطق الكولاجي بلورة فكرة مغايرة لكل الخصائص المرجعية الثلاثة التي تم استقاء المنحوتة منها .إن عقل الفنان كوّن المعنى الآخر المراد إبرازه وتشكيله جماليا ، وبذاك تمت فلسفة الأشكال التي عبر من خلالها على القصد المتخفي في الشكل الكولاجي النحتي.
وفي ملحمة كلكامش السومرية ،كان الإلهي والإنساني يشكلان معا وجود البطل كلكامش، والأمر ذاته مع أنكيدوا الذي تحول إلى إنسان بفعل معاشرته للمرأة التي حولته إلى كائن بشري .إن التداخل بين الإلهي والإنساني ،يعد كولاجا يجمع الجزء بالكل ،المرئي بغير المرئي. لقد اقترن الإلهي بالإنساني في الفكر القديم وشكل حضوا فاعلا ،فعندما" تخطط للمستقبل يكون إلهك إلهك ،ولما لا تخطط للمستقبل لا يكون إلهك إلهك ".( الحوراني ، 1978.ص154).وإذا عد الإنسان جزءا ،فإن الآلهة تعد كونا، وبذلك يكون الارتباط بين الجزء والكل ارتباطا متماسكا "، فالتجربة تنتقل من الأجزاء إلى كل ،والتعامل مع الأجزاء على أنها أساسية في نظام الوجود وفي نظام المعرفة ".(جيمس ، وليم ،1969.ص 111).
وتأسيسا على ما تقدم ، فإن الجزء يشكل محورا مؤثرا بصياغة العلاقة مع الكل –الكونية- على المستوى العقائدي، وبالمعنى نفسه في بناء الصورة الكولاجية في النص الدرامي. بوصف" الأجزاء في التجربة الإنسانية هي المدركات الحسية ،تتحول إلى كليات بإضافتنا التصورية " لها.(جيمس ، وليم ،1969.ص 111).لهذا فإن حرية الصورة الكولاجية في التعبير الأدبي تكون" نتيجة الإخضاع لما تقتضيه مطالبنا الجمالية".(سانتيانا،د.ت .ص186) ولهذا ينبغي أن لا تفهم الصورة باعتبارها انعكاسا حرفيا للحياة ،لأن عملية التحوير والتغيير والتلاعب بالصورة يمنحها القوة في التعبير وإيغالا باستجلاب المعنى ،فالصورة في موسوعة برستون" إعادة خلق إحساس أو شعور في العقل يتم بوساطة إدراك مادي".(1988،ص22). لهذا فإن الأجزاء التي تدخل طرفا في الحوار: الكلمة، الصوت ، الجست وغيرها تستشري في الكل وتشكل محورا مؤثرا وبهذا الصدد يقول جيمس :"فالتجربة تنتقل من الأجزاء إلى الكل، وتتعامل الأجزاء على أنها أساسية في نظام الوجود ونظام المعرفة" .( جيمس ، وليم ،1969.ص111) . ونظام الصورة الكولاجية أيضا.
2- القناع :
يعد جزءا تنكريا مرتبطا بالحياة الإنسانية عندما كان يمارس الإنسان طقوسه السحرية الدينية ، فقد كان القناع بألوانه المتعددة ، صورة للطابع الإنساني في لحظات يكتنفها الغموض والخوف ، أو الترجي .
إن القناع ، شكل من أشكال اللحمة بين أفراد مجتمع ما بمثابة التوحيد الكامل لكل خصائصهم النفسية والاجتماعية والثقافية . إن وضع الأصباغ الملونة والريش ،يعني جعل الكل في وحدة نفسية واحدة ، و إن تحركت الأجساد ، فإن الوحدة تكون كاملة بين الأطراف كافة .
وهناك أسباب أخرى تتعلق بعمق ارتباطهم بما يقع خارج الطبيعة ، إنه بمثابة بحث طفولي عن استرضاء لعالم غير مرئي ، لكنه يشكل قوة ذات تأثير كبير، باستخدام الأصباغ على الوجه ،وكأنه يرسم قناعا ،وهذا الأمر يقود إلى مسألة أكثر حيوية هي مخاطبة غير المرئي المتمثل بالظواهر الطبيعة ، و اكتساب قدر آخر من. الطاقة الكامنة من تلك القوى المغيبة عن الحضور ، لكنها ماثلة في عقل لتلك المجتمعات. ههنا يخاطب غير المرئي بصيغ مختلفة عما يألفه البشر وهذا الأمر يسهم بتأكيد الوقع على المحتفلين المقنعين فيمنحهم تأثيرا يتغلغل تدريجيا مع الحركة والصوت ؛ فتزداد الطاقة وكأنها امتصت قوتها من اللامرئي ،فالقناع يعد طريقة تم ابتكارها ليتقمص مرتدي القناع أو من رسم على وجهه قناعا من أجل أن يتلبس روح الطوطم الذي يعد " الأب لأول للعشيرة، ومن ثم الروح الجامعة لها، الذي يرسل لها الوحي، وإذا كان خطرا ،يعرف أبناءه ويصونهم .من أجل ذلك يخضع أبناء الطوطم لالتزام المقدس".(فرويد،سيموند،1983.ص ص23-24). فتتوحد الانفعالات ، و تكون طاقة الشعور الجمعي واحدة ، و بذلك يكون من السهل ، أن يؤدوا حركاتهم التي يستعدون من خلالها؛ لأداء الفعل السحري الجماعي .إن" ارتداء القناع يعيد ضبط الحواس، ويعدل وسائل إرسال واستقبال المعلومات".(نعيم ،اقبال،2005،ص69).مما يوحدهم دونما تمايز ، ويلغي بطبيعة الحال ، خاصية التفرد الخاصة بكل منهم ،فشكل القناع واحد باختلاف الأجساد ، التي تؤدي فعلا حركيا واحدا .فضلا عن الأصوات التي غالبا ما تكون همهمات أو صرخات منسجمة مع إيقاع الجسد ، فإن ذلك سيشكل كُلآ لا يقبل التجزئة بين الأطراف الثلاثة : القناع ، الجسد ، الصوت، هو تداخل كولاجي طقسي بين: جسد وصوت بشري ، وقناع مصنع .
إن الثقافة الاجتماعية للقناع انبثقت في مرحلة الطفولة الاجتماعية ،وكانت تسعى بصورة دائبة لتحقيق فاعلية أعلى وأرقى وتنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد ، و كأنها تتوحد معا في ارتباط ميتافيزيقي ، إن الروح الجماعية تتوحد. وبخلقهم للوهم ،فإنهم يشعرون بسيطرتهم على الواقع.".( تومس،جورج،1975،ص21)
وإذا كان القناع الشكل الأكثر التصاقا بهم ، فإن ذلك يعطي مؤشرا آخر ، يؤكد أن هذه المجتمعات بسيطة التركيب ،وثقافتها أسوة بلغتها محدودة الأفق، التي تفتقر إلى شبكة لغوية معقدة، يزيد من ارتباطهم بقوى خارج المحسوسات من جانب ، واندماجها الكلي مع بعضها الآخر من جانب آخر.
ويفهم مما تقدم، أن الأقنعة تعبير عن روح الوحدة داخل تلك المجتمعات التي تعبر بدقة عن شكل من أشكال الوعي الجمعي بالوحدة والاتساق .من هنا كان القناع يشكل مركزا داخل تلك المجتمعات وحاملا لثقافتها عبر الممارسات ،وحثها على التوحد والدفاع المشترك عنوانا لتطلعاتها، فالقناع له وظيفة اجتماعية تتلخص بتوحيد الكل ، إلا أن الطقوس والشعائر التي تمارس ، ترتقي بهذه الوظيفة وتمنحها بعدا ميتافيزيقيا، تشكل ،إغواء غير المرئي واستدراجه إلى جنبهم من خلال محاكاة الميتافيزيقي، لهذا فإن القناع يعد جزءا لا يتجزأ من استحضار رمز آخر غير محسوس ، لكن الإشارة اليه مستمرة توحي بوجوده الفعلي ،ويمكن ملاحظة وظيفتين للقناع هما: الاجتماعية التي تشكل الأفكار المتسيدة في الحياة .والميتافيزيقي ، لترسيخ الطمأنينة في نفوس أفراد المجتمع.
إن البعد الإنثروبولوجي الثقافي للقناع شكل ترسانة قوية ، بعمليات الممارسات الطقسية السحرية والدينية وصار القناع المرسوم على الوجه بمثابة الطاقة السحرية التي يستمد الفرد طاقته المحفزة والفاعلة و القوية لا من طاقة جسده حسب ، بل من كل الأجساد المتراصة المؤدية حركاتها الموحدة وبالإيقاع المتصاعد ذاته ،وكأنهم يخاطبون تلك القوى غير المرئية التي يناشدونها و يجتهدون بتلبس روحها لتمنحهم القوة والطاقة اللازمة.
كان القناع خطابا جمعيا، تشترك فيه :الأقنعة، الأجساد، الأصوات والتهاليل والهمهمات والصرخات. إنها مناشدة جماعية لاستقدام غير المرئي ، و كلما ازدادت حركات المتعبدين في طقسهم السحري التنكري؛ صار مثول غير المرئي أكثر قرباً وأجل حضوراً .وخلاصة القول : إن الطقوس والشعائر ،ابتكار بشري لدرء الأخطار عن الجماعات الطقسية.
3-التابو:
لقد شكل التابو تقاليد ثقافية في المجتمعات ،وعمق شكل الوعي المسموح وغير المسموح به أسوه بالبعد الأخلاقي في الديانات السمأوية . إن مجتمعات ما قبل التاريخ ، حددت محورا تدور حوله أي محأولة اكتشاف للمركز ضمن الطبيعة التي يخشون مظاهرها بقوة وما بعد الطبيعة .لهذا فإن فكرة المركز والمحيط ،فكرة في جوهرها تعميق لمفهوم التابو.
ورئيس القبيلة أو المجتمع أو رجل الدين ،الذي لا يختلف عنهم بل العكس هو واحد منهم يشاركهم ذات الهموم التي يعيشونها ،لكنه ليس مركز الكون. من هنا كان للطوطم بعد كوني، وصفة يقترن بها بغير المرئي وإن كان الطوطم مرئيا، لذا يتم استرضاؤه بتقديم النذور، بوصفه مركز المجتمع وإطار بنيتهم الذهنية .إن إيجاد رمز لغير المرئي ، و إضفاء صفة المركز على كيانه دلالة على عظم التفكير البشري في تلك اللحظة التاريخية، وبالتالي تَشكلَ عقد بين الإنسان والقوى غير المرئية ، ففتح طريقا تدأوليا بين ما يسأورهم من أفكار وتساؤلات حول الكون ،ومن يجيب ويدافع عنهم .إن ذلك يكشف وجود ثقافة اجتماعية تسهم بتدعيم وترسيخ البناء التطوري لها ،وتقترن بشكل من أشكال الوعي المرتبط بطقوس واحتفالات مختلفة بكل محافل الحياة ، في حالات الانتشاء أو الحروب لأنها حفزت عمليات الدفاع ووحدتهم في الوقت ذاته ،مما عمق رؤيتهم، ووحد شعورهم القوى بالعداء لكل ما يقع خارج إطار مجتمعهم . فالاندماج داخل المجتمع وليس خارجه وهم يؤلفون نظما مغلقة ( الزيدي ،د.قيس،1986،ص 59)، فالحياة هنا وليست هناك ، وقد استمر هذا الأمر حتى بعد أن تقدمت الحياة ، وأنشأت تلك المجتمعات قرى ما قبل التاريخ .ولتسهيل مهمة الدفاع عن القرى من جانب ، ولمعرفة الحركة ورؤية ما يقع خارج القرية من جانب آخر كانت تحاط بسور دائري . إن حدة الاصطدام بين المجتمعات آنذاك ، ولدت المخأوف من الغرباء وفي الوقت ذاته زادتهم حرصا على مجتمعهم . إن ثقافة الأجداد كانت متنوعة بين : الاندماج الكلي داخل المجتمع و العداء السافر لما يقع خارجه ،وهذا التنظيم يعد عمقا كولاجيا في ثقافتهم .
4-التابو و السياق :
يشكل التابو سلطة الحضور، صعب الخرق ويتطلب المواءمة معه. فالمحظورات تشكل تقاطعا متوازيا مع الحياة ، والحياة قائمة ضمن التابو المتعدد الذي يحدد الحياة وطبيعتها؛ لهذا فإن التابو ، الأفعال المحظورة والمحرمة ،والمساس بها فعلا أو لفظا، يشكل لعنة باعتباره مقدسا، لذا ينبغي الحفاظ على هالة القدسية .والمساس بالتابو يسبب لعنة بسبب عقائدي (الشربيني،لطفي،2001.ص369). لهذا فإن التابو يحمل صفتين هما التقديس والتدنيس بوصفه خطرا ، يتطلب تفهم خاصيته ذات الوجهين .(فرويد ،سيجموند ،1983.ص 41)..
، فقد يكون التابو / آلهة ،تتقاطع رغباتها مع البشر تقاطعا يبلغ حد السفه والسخرية المرة ، يشكل مصدر من مصادر الجذور الكولاجية ، إلا أن سياق التابو في تغير مستمر، فالمحظورات
متعددة ومتنوعة ومختلفة بحسب المجتمعات وتطورها .وإذا كانت ذات طابع سحري وديني في السابق ،فإنها وبفعل حالة التطور والتنوع والاشتباك الحياتي ،تعدد التابو وتوزع بصيغ قوانين وأعراف وتقاليد ونظم اجتماعية وأخلاقية وسياسية. من هنا كان الكولاج على تماس مع التابو برفضه ضمن سياق المستجدات في الحياة ،وما يحدث فيها من تطور للمحظورات التي شكلت عقدا في حياة الإنسان .
فالكولاج، لهذا يبرم من التابو ويدفع به باتجاه طريق عد مسدودا ، وكل المحظورات تعد مادة للمؤلف الدرامي، ليوظفها على وفق خياله ويمنحها صورة كولاجية مضغوطة ومشحونة بالرموز عبر تقنية الكتابة من خلال : شخصيات و أحداث و مواقف و صور– أفكار– .إن رؤية المؤلف الكونية كانت دافعا مهما للإحساس بالضغوط المتزايدة للوضع البشري و ازدراء وجوده ، شكلت قلقا متعاظما في تفكيره في ظل أنظمة قهرية مستبدة وجاثمة على البشر. تدفع الفنان للتفكير بهذا العالم والمجتمعات عرضة للقهر، من هنا تكون إثارة التساؤلات حول وجودها الفعلي في الحياة ، والشكل الكولاجي يطرح السؤال:
كيف يبقى العالم ساكناً بثقافته و معارفه من غير إثارة التساؤلات؟.
إن الزأوية التي يطل من خلالها المؤلف لرؤية للعالم ؛ ستحدد مسار الصورة الكولاجية في النص الدرامي ، فإذا كان التابو ثابتا في العقل المرجعي للإنسان ، و يهز المؤلف بقوة ،سيشكل دافعا لأن يعيد المؤلف تشكيل التابو وبصورة مغايرة ، ليكتسب معناه الجديد والمختلف عن السائد والمألوف، لما اعتاد المرء في معرفته السابقة ، بالتالي سيؤثر في بناء الكولاج للنص. وهذا التجديد والبناء المغاير لبنية الصورة الكولاجية ، يدفع لبناء معرفي جديد ، يعتمد الحدس الذهني ، الذي يتشكل عبر نمنة الصورة الكولاجية ، في تركيبها المستفزة لما يدرك في واستنطاقه لقراءات مختلفة . إن ذلك يعد اكتشافا لهذا العالم. وإذا كانت لغة النص الدرامي هي بناء شكل له تأثير بخلق ذائقة جمالية متفردة ، فإن اللغة أوسع من الحوار ، واللغة تضم الثقافة بكلمة أخرى " إن اللغة حصيلة الثقافة ، فاللغة التي يتكلمها جماعة من الجماعات هي انعكاس لمجموع ثقافة تلك الجماعة " ( الحوراني ، يوسف ،1978. ص40 ) . وعليه فإن السياق يحدد اتجاه المعنى على الرغم من إمكانية تأويله باتجاه آخر.
المبحث الثاني:الصورة الفنية للكولاج
1-الشكل الكولاجي :
إن التلاعب في صورة الشكل ، يعني تقطيعه ثم إعادة لصقه وبالتالي يكون النص الأدبي في شكل جديد .والدراما تأخذ من الفنون المجأورة و منها الفن التشكيلي: الرسم و النحت، فالشكل الكولاجي هو شكل مأخوذ من أشكال واضحة المعالم ،ومعرفة يعاد تشكيلها من جديد ، بحيث تشير أجزاء منها إلى الشيء المأخوذة منه ، ولكن الشكل الكولاجي ، يختلف عن الشكل الأصلي له ، لأنه تجميع أجزاء أو قطع ويتم تركيبها بصيغة مختلفة عن أصلها ، فيولد معنى جديد. إن الشكل الكولاجي ، تجميع تركيبي لكل ما يؤخذ ،لذا فإن الأجزاء المأخوذة من مصادر مختلفة وزجها بعالم متخيل ، يحمل في ثناياه طاقة للتعبير عن هذا العالم ، إذ لم يعد ( التابو ) بكاف للتعبير عما يشعره الفنان و يدركه ، إنه بحاجة لخرقه واكتشاف المناطق المعمية فيه ،من خلال استدراجه و رصه بعالم مختلف ، لا ينتمي إلى الوسط الذي اقتلع منه .إن ذلك يحدث صدمة بمعرفتنا ، كأن يكون :نصا دراميا أو قطعة موسيقيه ، أو تمثالا ، أو صورة ، أو أي شيء .والصدمة تكون بإعادة تشكيل صورة فنية تعد جديدة وكاملة الحقوق ، من الأجزاء والقطع . إن الصورة الكولاجية تنحو باتجاه التوسع و النمو والانتشار إنها تستفز معرفتنا و مرجعيتنا ،وتقلق إيماننا بالمألوف . وذلك يتحقق من خلال المجاز باختلافه يشكل انتماء إلى الصورة الفنية البارعة التي يشكلها المؤلف في نصه " تساعد الصورة الفنية على إعادة صنع العالم ،فالصورة الأدبية موجهة لا إلى ابصارنا فقط، بل إلى جميع حواسنا.(كوجينوف،ف،ف،وق.د.سكفوزينوف،1993 .ص420). ومن الطبيعي ، أن الصورة الكولاجية في حال تكرارها باستمرار أو اتخاذها لصور كولاجية جديدة ، إنما تشكل و الحالة هذه رموزا في ثنايا النص ، ترتبط كليا ببنيته دون أن تحدث خللاً أو شرخاً فيه .
إن إدراك الصورة الكولاجية جماليا بحاجة إلى خيال ، فالصورة الكولاجية قابلة للنمو والاتساع وبالتالي تعميقها لما تشير إليه من رمز، يمنحها عمقا وتأثيرا في النفس الإنسانية . إن الخيال ،يساعد على توسيع الفهم، فضلا عن تحفيزه الجمالي بتوسيع المعنى ودرجته.
فالكولاج صورة ، لكنها صورة متعددة الاتجاهات ، أشبه بالمقولات الفلسفية المتحركة بأكثر من اتجاه ، ففي" الأدب يجري تكوين الصورة بمساعدة الألفاظ". (كوجينوف،ف،ف وق.د سكفوزنيكوف، ق.د،1993.ص419).ولهذا فإن إدراك الصورة الكولاجية في النص -لا باعتباره صورة حيه فقط وإنما تدرك إدراكاً عقلياً ولهذا فإن " استعمال مصطلح الصورة على أساس أنها اللفظة الوحيدة الممكنة لتشمل كل أنواع التشبيه " (برنستون،1988. ، ص 22 – 23 ) .ولا يمكن أن يفهم الكولاج داخل بناء معمار الشكل الفني للنص الدرامي إلا على أساس أنه جزء من اللغة، و يكون فاعل الحضور لتعميق مفهوم اللغة ذاتها لتشكيل صورة مجازية تثرى النص و تشير إلى المتغير ، و ترفض التابو ،والكولاج بهذا المعنى يقرن باللغة و"المزيد من الدقة ، فإنها تنمو من خلال الاستعارة " (برنستون،1988.، ص 23 ) وبذلك تتشكل صورة الكولاج بوصفها رموزا، يشدد عليها المؤلف بقوة من أجل خلق نوع من الاستجابة ، و يقرن الكولاج بالحياة و ما يقع خارج نصه ، إن ذلك يعد اقترانا بين الوجود والعدم ، الصيغة كولاجية.
إن الكولاج ، الذي يتشكل جزئيا في النص ، إنما يشكل تجربة حسية ملموسة مدركة وهذه الأجزاء الكولاجية تنتمي إلى النص أسوة بالتجربة الإنسانية " فالأجزاء في التجربة الإنسانية هي المدركات الحسية ، تتحول إلى كليات بإضافاتنا " ( 367 – جيمس ، وليم ، 1996،ص 111 ) ، لهذا فإن وجود كولاج مهما كان جزئيا ، وقد يكون غير منتبه إليه ، إنما يعطى بالقيمة الفنية لأنه يكون الأساس في حال التكهن بتجارب جديدة .وإذا كان نص اللامعقول ، يستجدي من اللغة طاقتها الثقافية ببناء الشكل الذي يبدو مفككا ، ممزقا ، فإنه يعود ثانية إلى اللغة التي يرى فيها أنها ممزقة ، وإلى قوانين محقت الحياة بقسوة كبيرة ، بهذا المعنى فإن اللغة في نصوص اللامعقول ، تستحضر ثقافات متداخلة ، لتعبر عن الإنسان ، الذي يحيا بين مقدس و مدنس ، بين حياتي وكوني ، بين جزء و كل ."فالكل يأخذ معناه من الجزء".(بوزيد،بومدين،2008.ص119).لهذا يتغير المعنى عبر نوع العلاقة بين الطرفين" فمعنى كلمة أو جملة أو عبارة يتوقف على البناء المنطقي، والتحرك ذهابا وإيابا بين الجزء والكل حتى يكون لنا فهم متماسك في ذاته".( بوزيد،بومدين،2008.ص119).
لهذا فإن الصيغ الكولاجية المتعددة في بناء النص و حركته ، إنما هي تساؤلات في الفكر ، و تدفع لبناء تصورات مستجدة وباستمرار عن الحياة وما يعتمل داخل سريرة الإنسان .والكولاج يستقي صورته الأدبية من خلال الغروتسك المعتمد على المبالغة ،إذ يشتغل المؤلف ببناء الصورة الأدبية عبر سلسلة الصور الغروتسكية التي تعد واحدة من صيغ الكولاج وتوظيفه.
2- الكولاج في النص الدرامي :
إن الصيغ الكولاجية في النص تكون من حيث: تركيبه، وصوره، وسياقه، للكشف عن خصائص جديدة ، لا في النص حسب، بل ما يقع خارجه، وبهذا المعنى فإن الكولاج يشكل حزمة من الرموز التي تشير إلى ما يقع خارجه، بالتالي سيتعدد المعنى ويتنوع بوصفه مثيرا يستدعي تنوعا في الاستجابة. إن ذلك يطلق خيال المؤلف ويجعل النص مفترق طريق ، بين ما يتم استقاؤه من الحياة من صور وما يبثه النص من صور كولاجية .
ومثلما يأخذ الكولاج منطلقاته من صور الواقع والبيئة والمفاهيم والقوانين المتسيدة ، فإنه يعيد تشكيل تلك الصور بصيغة كولاجية ، بقصد خلق ترددات لذلك الواقع أو تلك البيئة أو المفاهيم المتجذرة وكأنه يعيد إنتاجها من جديد على وفق شكل فني يكون متسما :بالتنافر أو التناقض أو الاختلاف ، وفي الوقت ذاته يسعى إلى المواءمة والالتصاق بالواقع - الحياة- إنها رؤية ضمنية داخل الكولاج ذاته ،فهو يسعي إلى الانفصال من جهة والالتصاق من جهة أخرى ، ويشكل الكولاج قيمته الجمالية بتلك الذبذبة بين القطبين. داخل النص بعملية التقاطع والتداخل بين البطل وما يحيطه ، تقاطع لا هوادة فيه ،إلا أنه يخلق نوعا من التقابل بينهما ، بين البطل والآخرين أو الظروف المحيطة بالأبطال، مما يوسع بناء الصورة الكولاجية ويمنحها دفقا من المعاني. إن إبداع الصورة الكولاجية ، التي تشكل مراكز أو بؤرا في جسد النص الدرامي ، إنما هي لحظة ابتكرها عقل المؤلف ، ليعيدنا من جديد لكيفية رؤيته للكون والعالم والحياة ،عبر تقنية الكتابة الدرامية ، لهذا فهو يستنطق منظور البطل المختلف ، ويحمله دفق الأفكار وتنويعاتها، وهذا الأمر يزيد من حدة التناقض بين البطل وما يحيطه ، إنها لحظة تشرئب ببلاغتها لتصبح كونية أكثر من كونها حياتيه .
وتكمن طاقة النص ،لكونه يستحوذ على القارئ، و هذا الأمر لا يتحقق من غير عمليات معقدة تجري داخل عقل المؤلف وهو يحيل العالم المتخيل إلى عالم من الصور والألفاظ والمواقف ، ما يجعل النص حيويا وخلاقا في اكتساب تلك العوالم المتعددة ، كاملة الحقوق في دفاعها واستماتتها من أجل إثبات وجودها ، وخير من يعبر عن ذلك ، الشخصيات المتواجدة في الحدث الدرامي والساعية للتعبير عن ذاتها أو للكشف عما يجول في أعماقها وقد يتخذ التعبير مسالك متعددة ومختلفة ويدخل الكولاج بصيغة المختلفة في شكل بناء النص ،ليكتسب مشروعية المتخيل الأدبي- الجمالي - ومن الصعوبة بمكان تصور عالم خيالي ، دون عمليات مترابطة بهذا المستوى الدقيق النشط من الفاعلية العالية ، وعليه فإن الكولاج يدخل في صميم الشكل الفني للنص ، ويتح فرصة كبيرة لإيجاد معالم مغايرة وأشكال تزيد من طاقة النص ، وخلق حيوية متجددة . ففي نص( أوديب ملكا؟) لمؤلفها سوفوكليس، برزت مشاكسة الآلهة للبطل حدا دفعته للانهيار والسقوط، بدءا من النبوءة وانتهاء بتحوله من ملك إلى شحاذ. إن صورتي البطل، كولاجية الشكل، فضلا عن دخول الآلهة طرفا بتحطيم أوديب، وبذلك تجلى البعد الإنثروبولجي في تركيب السياق.
أما نص( الضفادع ) لمؤلفه ارستوفإنيس فقد استخدم السخرية اللإذعة و النقد الاجتماعي للحياة اليونانية بصورة ساخر ، كاريكوتوريا مضحك ، يمثل الصراع بين اسخيلوس و يوربيدس ، في إياهما يستحق لقب الشاعر الخالد ، ( 395 – الجويلي ، الطيب ، ص : 17216 ) إن طبيعة السخرية ، كون ارستوفإنيس ذهب إلى عالم الأموات وهذا المكان لا يصله احد إلا بعد المفارقة من الحياة ، لكن قدحات المؤلف ،جعلت منه يستقطب أمكنة بعيدة ، يوتوبيه ويدخل شاعرين لهما من القوة و العظمة و يقحمها بمساجلات كلامية مضحكة .
ويلاحظ السخرية المرة غير المتوقعة التي تعد جزءا غروتسكيا اعتمده المؤلف ليشكل مستوى من مستويات الكولاج ، بين مكانين هما : الموت والحياة .
أما شكسبير فإن نصوصه حافلة بالكولاج ،ومنها نص (هاملت)،إذ يظهر الشبح طرفا في الحدث وتطوره وتفعيله، والشبح يراه هاملت لكن أمه لا تراه ،وكانه بذلك يعيد للطقوس السحرية جذوتها. إن كولاجية صور هاملت ، غير المرئي ، يكون مرئيا لبعض الأبطال، مما يحدث متغيرا في طريقة التفكير واستقبال موضوع الشبح. وفي نص( يوليوس قيصر)، يكون الحلم بمثابة النبوءة، التي تقرع ناقوس الخطر. إن حدة الفصل بين الحلم واليقظة من جهة وتداخلها ضمن نسيج النص من جهة أخرى ،إنما يعكس صورة كولاجية تمتد ببعدها الإنثروبولوجي. وفي نص آخر لشكسبير" حلم ليلة صيف، يستبدل شكسبير برأس (بوتوم) رأس حمار، وهو يشير إلينا، هل هذا حمار بجسم رجل أم رجل برأس حمار ؟".(نعيم أقبال،2005.ص87).ويلاحظ تداخل الإنساني والحيواني بالشكل، مما يحفز على الانتباه عبر الصيغة الكولاجية التي يتبناه المؤلف.
وقد يكون لمنظور البطل الذاتي كما في نصوص التعبيرية التي تشدد على رؤية البطل الذاتية لما يقع خارجه ، كما في " القرد الكثيف الشعر " لمؤلفها (يوجين أونيل؟)، فالبطل يانك سرعان ما ينظر لمن يحيطه وإذا به يراهم من وجهة نظره الذاتية بصورة حيوانات ، فاقدين لإنسانيتهم وبذلك يتعزز الجانب الكولاجي ببناء الصورة الذاتية ، إن اترابط بين الحيواني والإنساني ، يحدثُ مفارقة كولاجية بين ما يحسه البطل وما هو عليه الواقع الموضوعي .وهذه صورة كولاجية. إن غرس صوت غريب ، داخل صورة درامية ، يعني تعميق تلك الصورة ، كما هو حال مسرحية تشيخوف ( الأخوات الثلاثة ) لمؤلفها تيشخوف ،فعندما يسمع وقع ضربات الفؤوس على سيقان الأشجار تتكون الصورة السمعية المرتبطة كولاجياً بالصورة الدرامية ، لأنهما معا يشكلان لمحة واحدة وتشكيلا واحدا وتشفيرا للعلامة. إن الصورة الكولاجية قرنت الداخل بالخارج وتأثيره الطاغي على البطلات. فالتقطع بينهما يسهم ببناء الصورة الكولاجية .أما (برشت) الذي يجعل من الموسيقى عكس أجواء الموقف ، بمعنى عدم وجود الوحدة في شكل العرض وفي الوقت ذاته تتحقق تلك الوحدة من خلال التنافر .إن الشكل الكولاجي في تركيب النص الدرامي وصورته سواء أكان مندمجا في عناصره أم متنافرا ،فإنه يسعى إلى إماطة اللثام عن فاعلية الموقف الدرامي ، ففي كلا الحالتين يكون الشكل هو العمق الفني لعمليات الكولاج ذاتها .والجدير بالانتباه، أن الكولاجية تشتغل في التراكيب اللغوية لبنية النص ذاته، ويأخذ مساحة جديدة في تركيب العالم الدرامي وتشكيل حياة جديدة في المتخيل الدرامي ، لذا فإن التركيب الكولاجي من: الكلمات ، والجمل ، والعبارات ، تسهم بدرجة كبيرة بفاعلية الكولاج ذاته . إن مهارة المؤلف تتجلى في كيفية اكتشافه للعالم والتعبير عنه ، إن ذلك يمنحه مساحة مضافة لخلق صورة ، قد تكون مجزأة أو متشظية أو مغايرة وتحمل في جنباتها الاختلاف ، لكنها صورة ماهرة في توصيف الاختلاف بين عالمين متشابهين ومختلفين وهما : العالم الدرامي والحياتي ، فالأول يستند إلى الحياة ومعطياتها وصورها وألوانها ، لكنه يختلف عنها في الكيفية – بمعنى الرؤية الاستراتيجية التي يمتلكها المؤلف ، الرؤية المعمقة للعالم ، والمكتشفة والمغايرة التي تعيد ترتيب الحياة جماليا واكتشاف المناطق الأكثر جاذبية وحيوية فيها. إن جمال النص الدرامي – يتحقق عبر المتغيرات في الإطار اللغوي للنص الذي يسفر عن شكل يتخذ سياقه من خلال الصور ،فكل "علاقة بين كلمتين أو أكثر مشتركتي الحضور، يمكن أن تصبح صورة".(تودوروف،تزفيطان،1987.ص31).إن غنى الكلمات في تنوعها ومرونتها في التعبير عن مختلف الخلجات الداخلية ،فضلا عن صيغ التركيب الذي يصوغ وجهة الكلمات باتجاه الكشف عن المعني، من هنا يكون للتنسيق الذي يجتهد المؤلف ببلورته ؛يسهم بإنشاء الصورة "فإذا كانت العلاقة بين كلمتين علاقات تماثل ،ففي ذلك صورة هي التكرار ،وإذا كانت علاقة تقابل ففي ذلك أيضا صورة هي نقيضة ".( تودوروف،تزفيطان،1987.ص39).
وزأوية النظر التي يطل من خلالها الأبطال للعالم ، تشكل صورة أخرى معبرة عن : كيف تتكون تلك الصورة ؟ وماذا يراد من ورائها ،؟.إن ذلك يساعد في التعبير عن عمق تلك الرؤية ،الذي يتحقق من خلال التركيب اللغوي ، فالكلمات صور ،ولصق الكلمات وتتابعها يوسع من إدراك الصورة ، إلا أن المؤلف ، يجد أحياناً المسوغات التي تفرض عليه تركيب الصورة على وفق رؤيته الكونية للعالم والحياة ، مما يحدو إلى دفعه لاختيار المختلف من الكلمات ، بمعنى تركيب صورة تحمل الاختلاف جنينا في العبارة ذاتها ، وهذا يعطي صورة مركزه ومكثفة وواضحة .كيف يرى المؤلف العالم ؟ والزأوية التي يتلقى من خلالها ذلك العالم ! و طبيعة استراتيجية الشخصية الدرامية ذاتها .
إن التراكيب اللغوية للنص تكشف الفاعلية النشطة للكولاج ، يعطي معنى أكثر انفتاحا للصورة الدرامية .بشكلها المتسم بالغرائبية ،نتيجة حالة التذبذب بين أجزاء النص ومحأوره والرموز التي يبثها. وفي ضوء ما تقدم ، يمكن الالتفات إلى حقيقة اشتغال المؤلف على المنطق الكولاجي ، بوصفه وسيلة من وسائل القطع و اللصق ،وبالتالي تكوين شكل أكثر تعبيرا عما يريد المؤلف الوصول إليه ،فتقطيع الصورة وتجزئتها وتوزعها وتشظيتها ،يدفع للتفكير بوصفها صورة ذهنية، لا بوصفها انعكاسا لصورة حياتية. والصورة الأدبية البارعة لا تكون بتنضيد الكلمات تباعا ، لتوضيح معنى وإنما العكس ، فإن الصورة الكولاجية ،إنما تقترح شكلا لتعبر عن معنى، أو تثير سؤال من خلال: التقطيع ، التداخل في الأفكار ،الصمت أو إطلاق صوت ، أو ضحكة أو جيست نفسي .إن تركيب تلك الصورة الفعلية المجزأة -وإن بدت متقطعة مهشمة - تكون صورة للفعل و تكوين للشكل المنبثق من خلخلة الصورة الأصل وتركيبها من جديد .
المبحث الثالث: تحليل العينة
تم اختيار عينة قصدية وهي :
1-نص مسرحية المستأجر الجديد ،لمؤلفها يوجين يونسكو.
2- نص مسرحية في انتظار كودوت ،لمؤلفها صوئيل بيكيت.
لمكانة النصين من جهة وإلى اختلاف كلا المؤلفين من حيث صيغ التعبير الفني في الصورة الأدبية ، والكيفية التي يتم من خلالها نسج بنية النص كولاجيا ، من جهة أخرى.
1:المستأجر الجديد.
يورد المؤلف ملاحظة مفادها: قبل البدء ،الأداء يكون واقعيا جدا وكذلك الديكور والأثاث الذي ينقل إلى الحجرة ، وبعد ذلك يضفي الإيقاع الذي يلحظ بالكاد جو الطقوس أو الشعائر على الأداء الواقعي في المشهد الأخير. وفي ضوئه ،فإن المؤلف يتقصد إظهار صورة كولاجية يكون الإيقاع طرفا بتشكيلها ، ومثلما يتدخل الأداء التمثيلي الواقعي في المشهد الأول؛ تكون المشاهد الأخرى قد خرقت الواقعية حتى حالة التشيؤ التي يتحول فيها السيد من إنسان إلى قطعة من قطع الأثاث .
تحليل الصيغ الكولاجية:
1-الربط بين المستأجر القديم واللحظة الحاضرة ، إذ تَذكر الحارسة :عمل المستأجر القديم وزوجــــته ،وكيف يعتمدان عليها بشراء البقالة أو تنظيف ، وتصفه بأنه لم يكن عصبياً ، فضلا عن تفاصيل أخرى متعــــددة تلصقها لصقاً بالمستأجر الجديد .(يونسكو.1951 .ص16-17 )(*)
2- ملاحظة يوردها يونسكو:" السيد يضغط قبعته فتغوص خفيفاً على رأسه ".( ص18) .ويلاحظ أن الأدوات تناط بها وظائف أخرى ،إنها تشكل الشخصية وكأن المؤلف أراد أن يعيد تنظيم شكل المستأجر، الذي يبدو أن ملامحه قد اختلفت بعد أن غاصت القبعة على رأسه .وبذلك يتم التلاعب بصورة الرجلالذي بدت فيه القبعة قناعا للرأس.
3- تذكر: الحارسة المستأجرين : الرجل والمرأة، وكيف كان يضربها وكيف وجهت الزوجة إليه لفظ: يا زبال . وتستطرد الحارسة " فلا يجب أن نذكرهما بالسوء ، إنما أشبه بالأموات ".(ص20).والجدير بالملاحظة أن الحارسة ذكرت صورتين : الأولى :صورة لزوجته ضرب الزوج لزوجته ،أما الصورة الثانية :فقد وصفتهما بالأموات ، وهما ليسا أموتاً بل انتقلا للسكن في مكان آخر. ويفهم من ذلك أن الصيغة الكولاجية بنيت على أساسين هما :الماضي – بصورته ،والمستقبل بمجهوليته . فهما قد ماتا من وجهة نظر الحارسة لمجرد تركهما البيت والانتقال إلى بيت آخر .وبذلك يظهر الكولاج في تركيب الصورة بين الماضي والمستقبل
3- يحدث الكولاج بين ملاحظة يذكرها المؤلف هي:" دقات المطارق تشتد وكذلك الضوضاء الآتية من خلفيات المسرح .المستأجر الجديد يمتعض و الحارسة تصيح في اتجاه
الصورة.تبلوره الملاحظة صورة الضجيج بين ما يقع في الخارج و ما يحدث بالداخل- صورة كولاجية بين الخارج والداخل وإقحام الخارج وزحفه إلى الداخل . لتشكيل العالم المتخيل حداً تبلغ به الضوضاء المتصاعدة حدة :" الحارسة : كفى ضوضاء . لم يعد أحدنا يستطيع سماع الآخر "( ص 26).
4- ما إن يمد السيد النقود إلى الحارسة ترفض بقوة وتقول : " أنا لا أريد نقودك ".(ص28). ويورد المؤلف ملاحظه أخرى" تأخذ النقود و تضعها في جيب مئزرها " (ص 28) .هذه صورة كولاجية ، بطابع غروتسكي ، إنها صورة ساخرة للوضع الإنساني فرفض الحارسة للمال لا يعني أنها لا تقبل بالمال ،ان رفضها مجرد كلام ، أما يدها فقد سحبت المال ودسته في جيب مئزرها .الصورة ساخرة من العلاقات والأفكار التي تحملها الحراسة ،والتناقضات الحادة في السلوك البشري.
5- تورد الحارسة الكثير من الصور القريبة و البعيدة ؛ وتدخلها في حوارها، فهي متزوجة من رجلين ، الأول: تركها و لا تٌعرف شيئاً عنه ،أما الثاني فهو مريض بالسل وعاطل عن 6- الضوضاء والموسيقى العمل . وهناك ساكنو البناية ، مفتش الشرطة ، كل هذه التفاصيل تدخل تدريجياً في شكل النص وحواره، وبالتالي قام المؤلف بتوزيع الصور المتعددة ، فضلاً عن الصور المستجدة عبر استمرارية النص ذاته .
7-الخفة والثقل: حين يحمل الناقلان زهرية صغيرة يظهران ترنحهما وتعثرهما للإيحاء بثقلها ،حين يزداد نقل الأثاث ثقلا وحجما ، يظهر الناقلان للأثاث خفة وسرعة. إن التناقض بين الصورتين ؛ يؤسس لصوره كولاجية تثير السخرية ، مثلما يثير الانتباه .
يورد المؤلف ملاحظة يحدد فيها الضوضاء الخافتة للمطارق وغيرها الآتية من الخارج تحولت تدريجيا إلى أنغام موسيقية ( ص41).إن ضربات المطارق التي تتحول تدريجيا إلى موسيقى تدخل طرفا داخل المشهد الدرامي ،إنه يقرن صورتين متناقضتين يتولد معنى مغاير لكليهما ،مشيرا إلى أن الضجيج ، بوصفه جزءا لا يتجزأ من الحياة .وما اعتياد الناس على الضجيج وقبولهم له باعتباره موسيقى. إنما يؤسس إلى معنى تسيد الفوضى في الحياة وتسلطها باعتبارها نظاما صارما. والواضح انها صورة كولاجيه لكونها تحمل النقيضين في انشاء الصورة، وفي آن واحد.
8-التشيؤ البشري :تزداد وتيرة نقل قطع الأثاث ؛حتى امتلأ المكان به، وصار من الصعب إيجاد مساحة لقطع الأثاث المتبقية؛ إلا أن المستأجر يشير للناقلين أن يضعا قطع الأثاث المتنوع من :مذياع عاطل ، دلو ، ساعة ،لوحات ، سلالم ، برافانات .وتزداد قطع الأثاث وكأنها تنمو وتتكاثر وقد ملأت فضاء الشقة والسلالم وطرق المرور والفناء وعطلت الأثاث حركة المرور ،حتى الأنفاق سدت . إلا أن السيد وجد مكانا على مقعد وجلس عليه من غير أن نراه ،لكن يسمع صوته .إن حالة الاختناق الذي وسم بها المستأجر كانت نتيجة من نتائج التشظي لقطع الأثاث النامية والمستولية على الحياة وكأنها تزحف من الخارج إلى الداخل ، وعطلت ديمومه الحياة وسدت الطرقات والممرات ،وبالتالي خنقت الصوت البشري الذي بدا مترنحا من خلالها .إنها صورة كولاجية لخنوع الإنسان للحاجات- الأثاث – وتظهر سيطرة المفردات التي ينبغي أن تكون وسائل لرفاهية الإنسان ،وإذا بها تتحول إلى وسائل متحكمة في حياته .هكذا تحولت الصورة الكولاجية بين الإنسان و الأشياء وتشيؤ الإنسان بكل عمليات التحول التي مر بها الإنسان ،فأضحى عاجزا غير قادر على تأكيد وجوده، فلم تعد هناك حياة ، إلا المؤلف.(ص54).إن اختفاء السيد ، الذي شـــــكل علامة الاضمحلال في عالم التيه ، عالم يشي بالموت ، لهذ ، فإن الصورة الكولاجية قرنت قطع الأثاث بالإنسان وإجبار الإنسان على اختفاء ، وفرض حالة الصمت أمام إلية الحياة ذاتها. صورة كولاجية معبرة عن الوضع الهش ، فالمستأجر ضاع بين قطع الأثاث التي أخفته عن الوجود ، إذ تم الاستحواذ عليه . لقد فقد الإنسان وجوده الفعلي .
يلاحظ درجة التناقض بين ثنائية الإنسان والوجود ،فأضحى الوجود قائما بغير ضرورة ملحة لوجود الإنسان ، بالتالي فقد الإنسان وجوده الفعلي أمام التحشيد والضغط وطغيان الأثاث الذي شكل رمزا دلاليا لحالة السيطرة والاستحواذ والضياع.
عينة 2 : في انتظار كودوت
إن إشارات المؤلف لتشكيل فضاء النص ، كانت مختصرة وواضحة بدءا من الفضاء الشاسع - العراء- المحاط بشجرة مساءً . إن هذا التوزيع على بساطته يعد عمقا لبناء الصورة الكونية ، تلك التي تشكل معان متعددة :العراء والمساء و الشجرة . علامات موزعة في فضاء يمتص الوجود للأشياء . و بالتالي فهي صورة كولاجيه لوحدة الشجرة في عراء ومساء . ويصوغ المؤلف بذلك عالما كولاجيا لا وجود للإنسان فيه، لكن الشجرة ووجودها يستدعي حضوره ، والعراء يقابل زحمه المدينة . لقد وضعنا المؤلف في ثنائية للصورة الكولاجية التي سرعان ما استدعت صورا أخرى ، صور الوضع البشري المنفي داخل منفاه والمكسور داخل مراجل الطحن الأبدي ، وسط ضجة الانفراج .
هذه الصورة الكولاجية المنبثقة من المكان المتخيل لعالم الأبطال ، إنما يشير المؤلف فيها إلى ما ستؤول إليه أوضاع الأبطال و الضربات الموجهة إليهم ،والانسحاق الذي يعيشون تحت وطأته . إنه عالم التشيؤ ،عالم الموتى الأحياء ، عالم يعج بكل شيء ، إلا بالوجود البشري الحر والنقي . فالمساء إشارة لظلال الوجود ، و الشجرة الجرداء إشارة على نزع الحياة من المخلوقات و الأشياء . والعراء ، هو بمثابة عري الإنسان أمام الحقائق المدمرة والمثيرة والمحبطة والمقزمة لوجوده .
ويجدر الانتباه، إلى بداية النص التي شكلها المؤلف، صورة كولاجية كونية، سرعان ما ستستشري في مفاصل النص عبر ترداد للصورة الكولاجية الكونية إلى صور كولاجية ضمنية تشكل تقطيع و استدعاء وتضمين للمعنى الأول ،التي خرق بها المؤلف السائد و المألوف ، ليستدعي حياة أخرى ، بكلمة أخرى ،استدعاء غير المرئي ، ذلك أفق التوقعات الذي نسج ضمن دلالات وشفرات وعلامات الحوار والحركة والحدث الذي يدور داخل نفسه ،وكأنه الدائرة قد استولت عليه ، بل انقضت عليه داخل الانتظار .
و إذا افترض إن الرموز اللفظية بمثابة لون ، فإن الصمت يعد وفق هذه الفرضية لون آخر . وإذا كان الحوار هو التواصل الانساني ، فإن الصمت يعد قطيعة له . و على وفق ما تقدم ، فإن الكولاج يقع بين الرموز اللفظية من جانب، و الصمت من جانب آخر.
إن ذلك يعد مستوى آخر من الكولاج في تقنية كتابة النص التي أخذت مساحة واسعة في تركيب النص ذاته ، فالصمت فعل غير منطوق يشكل نصا آخر داخل النص، متداخلا بين استمرارية الملفوظ ، يمكن أن تؤول باعتبار الصمت فضاء غير محدد المعنى ، يبحث عن معناه ،وإن حركة الرموز اللفظية تصطدم حينا مع الصمت لتشكله، فيحدث صراع بينهما . إنه بمثابة توازي المتناقضين بين الرموز اللفظية والصمت فيشكل وجودهما معا صورا كولاجيه مستمرة على طوال شكل النص الدرامي لهذا فإن هذه التقنية توازي الحضور والغياب ، والحياة والموت، إنه كولاج قابل للتأويل في أكثر من زأوية .وفي ضوء ما تقدم سيتم التطرق إلى الصور الكولاجية في النص وهي :
1- القطع و تجزئته:
يدخل القطع عنصرا اساسيا في بنية الحوار وإعادة تشكيل الصورة بحيث تبدو مغايرة لأصلها وان كانت منبثقة منها. إن قطع الحوار وفقدان استمراريته في الفكرة الواحدة أو الموضوع ، يعني تجزئة الحوار ، فيتشكل من خلاله صور غير متوقعة ، صور تتسم بالغرائبية أو الحلمية ، صور تتسم بقفز على التسلسل المنطقي لها ، لكنها في الوقت ذاته تنشئ صورا مغايرة. إن الصورة الفنية البارعة لا تكون بتنضيد الكلمات تباعا لاحتوائها على صورة لتوضيح معنى ،وإنما العكس ، فإن الشكل الكولاجي للصورة المقترحة يكوّن صورة للبشرية . ومن المؤكد أن الشخصية البطلة تكون طرفا حيويا بتركيب الصورة الكولاجية، وتتظافر عناصر عدة بتكوينها :الأفكار ، الشخصية ،الصمت ،التقطيع ،تقنية الكتابة البارعة للمؤلف في بناء الحوار أو إطلاق صوت ، أو ضحكة ،أو رقصة ، أو غناء وكما في الحوار الآتي:"فلاديمير أن تعامل رجلاً .. ( يشير إلى لكي ) .. على هذا النحو .. إنني اعتقد .. كلا .. إنسان .. انها فضيحة"(بيكيت 1970.ص 32).(*) إنها صياغة الحوار وتقطيعه ، وعدم إتمامه ، يشكل مجموعة صور تتراكب مع بعضها فقد خلق صورة كولاجية متنافرة الأطراف ، صورة متشتتة ، لا تضم مركزاً لتنبثق الصورة . وبالتالي كل مجازات الكلمة تندرج مع مجازات كلمة بالتجأور ، لتصوغ مستوى آخر من مستويات بناء الصورة الكولاجية .
2-الاختفاء الظهور :
" فلادمير : إنني سعيد برؤيتك مرة ثانية . لقد ظننت أنك اختفيت إلى الأبد ".( ص6). تكشف صورة الاختفاء ومعأودة الظهور،أكثر الصور الكولاجية تكرارا ، وتتحول من ظهور إلى اختفاء وظهور مادي إلى رمزي بدلإلات متغيرة . فكلا البطلين رازحان تحت وطأة الانتظار الذي سيتحول بدوره من صوره ملموسة للبطلين المثقلين إلى صورة ذات بعد رمزي متعدد التأويلات . إن الكولاجية هاهنا مزجت الخفي بالظاهر ،وكأن التقاطع بين العالمين تقاطع لوني قابل للإدراك الدلالي .
3-ال هنا و ال هناك :
في واحدة من مقاطع حوار يقول : " لو لم أكن هنا . أين يمكن أن أكون ؟ ".( ص7) .وههنا تتبلور ملامح الهنا والهناك ببعدها الميتافيزيقي المتسم بالمجهولية . و الهنا يشكل عذاباً أرضياً . إنه مستوى كولاجي آخر بين الأرض و السماء ، بين الرغبة بالحياة والتطلع إلى أمكنة فردوسيه ، بالتالي فإن الهنا مدرك حسي أما الهناك فمدرك ميتافيزيقي ، وفي ضوء التعارض بين عالمين: المدرك الحسي والميتافيزيقي تتجلى الصورة الكولاجية .
يشكل محور الأرض والسماء ، نقطة جذب في النص وكأنهما قطبا الجذب والانقلاب ، فالكل يتطلع إلى السماء يتفحصها . يجتهد بإيجاد معنى لهذه المتغيرات . فيشكل الوصف السردي للون السماء الشاحب و المضيء . صورة كولاجية إذ يتم لملمة الصورة بين الأربعة المتطلعين للسماء و كأنهم يمنون أنفسهم بالارتحال إليها .(ص ص44-45).و الغريب في هذه الصورة الكولاجية . الكل يتحرك ميتافيزيقيا بوزو ولكي فلاديمير واستراجون . هذه صورة تجمع السيد والعبد والقوى والضعيف . الغبي والبائس ، المشرد الجائع والسيد .إنها صورة كولاجية بمعناها الثري ، المعبر عن لحظة من لحظات البشرية المضيئة ، بصيص أمل ، يصعب إمساكه . و كأنها لحظة لا تتكرر ، فكل شيء عُدّ متوقفاً ، إلا من لحظة ضعف البشرية ، الباحثة عن إنسانيتها في ظل حياة تبحث عن المعنى في وجودها، وكأنه اللامعنى.
4- الكون و الإنسان :
بعد دخول الغلام يتطلع استرجون إلى السماء وقد أصبح الوقت ليلاً ، فيظهر القمر في المؤخرة و يصعد إلى السماء ولا يتحرك .
" فلاديمير : ماذا تفعل؟.
استرجون : شاحب من أثر الإرهاق.
فلاديمير : هه؟
استراجون : من صعود السماء و التحديق إلى أمثالنا " .(ص65). هذه الصورة الكولاجية ، الغنية بالرموز والدلالات ،بمعنى اقتران الكوني بالبشري ، صورة تشير إلى الميتافيزيقيا التي يبحث الإنسان فيها عن معنى لوجوده في ظل رؤيته العميقة إلى نفسه الخأوية . وكان الكون قد أرهق تماما من البشرية التي تزيد من لوثة الحياة . هذه من اللحظات التي تستذكر ، وكأنما يستعيدان الذاكرة ،ولا يكتفي البطل ، بل يقول : لقد مات ودفن كل هذا بمعنى أن كل شيء في طريقه إلى الموت والدفن . فالحياة مستمرة والموت نقطة المفارقة .الكولاجية ،هنا ، بين الماضي واللحظة الحاضر . بين صورتين :محأولة انتحار استراجون ، و إنكار فلاديمير له . صورة المشطور شطرين بين المعرفة الهائلة والجهل المطبق . صورة كولاجية فزعة ، خربه ، مدمرة ، حطمتها آليات الحياة والأنظمة التي تهشم الرؤوس . وتجلى ذلك بصورة مدهشة عن طريق القبعة التي توضع على رأس لكي . قبعة التفكير .
يقـــــول بوز إن لكي : "لا يستطيع أن يفكر بدون قبعته "( ص51 ). لهذا فإن خطاب لكي الطويل ينطلق بعد أن توضع القبعة على رأسه . وكأن قبعات التفكير شكل من أشكال الأقنعة التي تذهب بعيداً في عملية مخاطبة اللامرئي بعد محي التعبيرات كاملة أو توحيد خاصية الوجه . لهذا ، فإن القبعة تعبير عن استدراج اللامرئي و جعله مرئياً.
وفي ضوئه ، ماذا يعني تكرار حركة تبادل القبعات . إنها لعبة،تثير الانتباه تقدم سخرية ، تقرن بقبعة لكي الذي قال حواره الطويل المليء بالأشياء البعيدة و القريبة ، إنه غوص بعوالم لم تفتح بعد، إنها تجربة الإنسانية بكل مرارتها وجزعها وخوفها ، وهذا الصوت حين ينطلق يكون هادراً .
ما الذي حدث بالتكرار؟ أليس هو بناء صورة؟ صورة بين الطرفين ، ولعبة القبعات هي لعبة التبادل وصولاً إلى تثبيت القبعة.
" فلاديمير : هل تناسبني ؟
استراجون : من أين لي أن اعرف ؟ " (ص ص90-91). وعليه فإن بناء الصورة الكولاجية المتحركة بعملية الانتقال بين الطرفين تزيد من التوتر وتثير الانتباه و تتحول من قبعة؟؟؟للتفكير ، إلى قبعة للصدمة الثقافية ، والوعي الثقافي وبالتالي يتبلور مستوى آخر من الصورة الكولاجية ، صورة الدلالات المتعددة التي يمكن اشتقاقها من أدوات بسيطة تتحول إلى شفرة دينية وسياسية وفكرية واجتماعية القبعات تختزل الصورة الكولاجية ، وهي في حالة عدم الاستقرار و الثبات ؛لتحيلنا إلى الهزيمة الأكبر التي منيت البشرية بها منذ بدايتها وهي تضع قبعات التفكير، بوصفه العلاج السحري لكل ما مر به الإنسان .
5-القلق والتشتت:
في لحظة تنبجس محنة القلق وما ينتاب فلاديمير حين يقول:" كيف أعبر عن نفسي ؟ أشعر بالراحة وفي نفس الوقت .. ( يبحث عن الكلمة المناسبة ) .. أحس بالفزع "( ص8) .
الأزمة الروحية للبطل ،وتأزمه وعدم قدرته في التعبير عن خلجات نفسه ؛ تضعه في تيه داخلي من جهة و تيه خارجي من جهة أخرى ، فالراحة تعني السعادة ، لكن يقابلها خوف حد الفزع فما من صورة راسخة للسعادة ، إلا و يشطرها الفزع و يفتتها وبالتالي تكونت صور كولاجية عبرتقابل: السعادة و الفزع .
6- مستوى السخرية اللاذعة :
" فلادمير : لنفترض أننا ندمنا .
استراجون : ندمنا على ماذا ؟.
فلادمير : أوه ( يفكر ) ليس علينا أن نخوض في التفاصيل.
استراجون : على إننا ولدنا .
فلادمير : ( ينفجر فلادمير ضاحكاً من صميم قلبه )" .(ص9) الضحكة الساخرة . الندم . الحياة . التفكير . الولادة . كلمات قليلة بمعاني متعددة بوضع مأزوم ، بشعور ملازمة الخطيئة البشرية التي ليس فها حل ما ولن يكون ، تلك صورة كولاجية كبيرة تشكل لطخات لوحة ودادائية . و تنتمي للصورة الكولاجية الأولى .
7- الزمن :
" استراجون : و إذا لم يأت .
فلادمير : سوف نحضر إلى هنا في الغد .
استراجون : ثم بعد غد .
فلادمير : ربما .
استراجون :
فلادمير : المسألة هي ...".( ص13) إن مفهوم الزمن الكولاجي ، مفهوم يتداخل فيه الماضي بالحاضر بالمستقبل . فالغد صورة لليوم ، صورة تتكرر بالانتظار ، هاهنا مستنقع الزمن المتكور ، و بذلك تتشكل صورة متسقة كولاجيا من الزمن الذي يغيب فيه الفصل بين الماضي و الحاضر والغد.
8- فقدان الذاكرة :
التساؤلات حول مجيئهما- استرجون وفلاديمير- بالأمس ، و فقدان التذكر ،يشكل محور القطيعة مع الذاكرة ، بكلمة أخرى ، شيخوخة المعنى وهرم الأفكار ، فهما حاضران وغير حاضرين ، ينتظران داخل الانتظار و الزمن فيه متكور شيئا بعد شيء(ص14).بذلك صارت الصورة الكولاجية ، مفعمة بالانزياحات بين ثقل اللحظة و فقدان الجذر . بذلك تفقد الذاكرة طاقتها، مثلما تفقد المستقبل ، ان ربط الذكرة بين الماضي والمستقبل ، يعد صورة كولاجية لعالم محطم ، مفتت . ممزق . متهرئ . حيث فقد استراجون الذاكرة و نسي زيارة بوزو بالأمس ونسي لكي ، لكنه يتذكر العظمة التي تلقفها من بوزو "استراجون : و أنت تقول إن هذا كله قد حدث بالأمس " (ص74 ).
إن الذاكرة حين تفقد أو تفتقد ، يعني قطع الصلة بالماضي الذي يعد الوجود الحالي امتدادا تلقائيا له ، بهذا الصورة الذي بدا فيها استراجون ذاهلا ، إنما هو تعبير عن حالة غير سوية صورة الفزع و الفراغ و قطع صلة الماضي، والصورة الكولاجية بين عالمين :الحاضر المدرك حسيا والماضي المفقود لكنه يشكل حضورا على الرغم من غيابه.
9- التصادم الحتمي :
"استراجون / ( ببرودة ) افكر في بعض الأحيان ، فيما لو كان من الأفضل لنا أن ننفصل عن بعضنا .
فلاديمير / إنك لن تذهب بعيداً."(ص16). يشي هذا الحوار بالطابع الجبري للالتصاق ، وكأنهما مشدودين بحبل واحد لا يمكن أن يبتعدا عن بعضهما ، صورة الرغبة بالابتعاد و البقاء وكأنما منفيان معاً داخل عملية الانتظار التي تمثل بعدا نفسياً آخر وبذلك ، فإن الكولاجية ، تتخذ صيغة أخرى ،بين التعبير عن رغبة قائمة بالابتعاد و الهرب بعيداً ومع ذلك لا يمكن تحقيقها .إنه بمثابة الوصل الذي يجرجر البطل إلى الطبيعة ، وله توق ميتافيزيقي والوقت ذاته .انها جبرية لافكاك منها، ولايمكن ازاحتها ، المفارقة الكولاجية هي الرغبة العارمة بالانفصال وعدم القدرة على الفعل، انها صورة الترابط الكولاجي بين الأجزاء المتنافرة على الرغم منها
10-هامش الحضور والغياب :
"استراجون / (يمضغ ) لقد وجهت اليك سؤلاً ....
فلادمير / آه ...
استراجون/ هل أجبت ؟".(ص22).
الكلمة لا تعني الكلمة ، والسؤال لا يعني السؤال ، تغريب الكلمة ضمن منطق السؤال . فغياب السؤال عن الحضور ، تأكيد على حضوره ، وهو جزء من تقنية الكتابة لدى بيكيت . الحضور والغياب ، ليتشكل عالم كولاجي .ويظهرأن فلاديمير لا يطيق وجود بوزو الذي قال : " أنتما تعرفإن على أي حال من أعني ، ذلك الذي يمسك بمستقبلكما بين يديه .. ( صمت ) مستقبلكما القريب على الأقل " .(ص34)و ذلك التحديد الذي أطلقه بوزو ، بكونه حدد مسك جودو لمستقبلهما البعيد و القريب ، وهذا يعني ارتباط الحاضر بتلك الصور المتعددة في ثنايا النص ، تشكل نمنمة كولاجية لصور متعددة و مختلفة ذات خاصية في ارتداد للصورة الكولاجية المؤسسة للنص في بدايته .ومثلما ظهر الانتماء الزمني جبرياً مع أزمنة مختلفة . ويتجلى قدرة الغائب بالإمساك بالمستقبل ،بوصفهما جزء يدور بفلك الكٌل الذي لا يعرف لكنه شكل مفهوم الحضور في داخل البطلين
11-الصدفة والجبرية:
بوزو يشير إلى وضع لكي المربوط بحبل قائلا " بوزو : كان من الممكن بمنتهى السهولة أن يتبادل كل منا مكان الآخر . لو لم تشأ الصدفة عكس ذلك ".( ص37) . عبثية الحياة و ما يجري فيها . تصنع نظاما و تخلخلا آخر ، فالصدفة جعلت من بوزو سيداً وذاتها جعلت من لكي عبدا . صورة كولاجية بين صورتين لسيد وعبد ، لقوة وضعف ، لعملاق وقزم . جمعتها الصدفة حسب ، بينما فلاديمير واستراجون فهما محكومان بالجبرية المتغلغلة بينهما ، فلا خلاص من تلك العلاقة التي أسست رغم أنفهما ولا فرار . يلاحظ ههنا تنوع الصور ، بمستوى الصدفة والجبرية ، وكلاهما يشكلان صيغة من صيغ الكولاج .ويمكن ملاحظة الحوار الآتي :
" فلاديمير / مازال بإمكاننا أن ننفصل ، إذا كنت تعتقد أن هذا من الأفضل
استراجون / لقد فاتت الفرصة إلان " (ص67) . يــــلاحظ أنها صورة متكررة ، فقد سبق أن قيلت ، لكن كولاجيتها تتجلى بقلب الطرفين ، ففي النص ذكرت هذه الفكرة ، لكن من كان يطالب بالانفصال هو استراجون . أما ههنا فالمطالب هو فلاديمير ، و بذلك تجلت الصورة الكولاجية بقلب البطل و بذلك جعل منها كــــولاجاً حاملاً للبطل و محمولا بالصورة التي يظهر عليها ." استراجون : لا تلمسني .. لا تسألني .. لا تكلمني .. امكث معي ".(ص 70).
كلمات قليلة متباعدة ، متنوعة ، و بينها عدد من النقط ، لنملأها . إنها صورة كولاجية للابتعاد و الاقتراب ، وغالبا ما تكرر هذا التناقض الحاد بين الكلمات في حواريهما : فكل نقيض يستدعي نقيضه ، و بالتالي تتراكب الكلمات لتشكل الصورة الكولاجية .و حين يسأل ( استراجون فلاديمير الذي يجيب : " لقد افتقدتك .. وفي نفس الوقت كنت سعيدا .. أليس هذا شيئا غريبا " ص71 ، تكشف الصورة الكولاجية عن الحزن والسعادة بوصفهما متعارضين ، لكنهما يشكلا بهذا التعارض صورة تضاف إلى الصورة الكلية المبنية في جوهرها على التفتت والتحلل وفقدان الاتصال . صورة كٌلية تؤسس لكل الصيغ الكولاجية في ثنايا الحوار والحركة والصراخ والتهريج والجستات التي يطلقها الابطال في ثنايا حركتهم.
12- المعرفة و الجهل :
( لكي )الذي يلقي خطابا طويلا و يثير قلق الآخرين الذين كانوا يستمعون إليه لدرجه أنهم هجموا عليه لإسكاته . لكي الذليل ، العبد ، المربوط بحبل والخاضع لسيده بوزو ، هذا الجهل المفرط يقابله معرفة عميقة بالجذور الإنسانية والدينية والميتافيزيقية وصولا إلى معرفة في الطبيعة والنسبية . ( ص ص 52-53).إن الخطاب الطويل ، هو خطاب البشرية التي دفعت ثمنه آلاف السنين من التطور والبناء لمقارعة الطبيعة . شكلت صورة كولاجية للإنسان ذاته ،بوصفه جزءا من كُلية الوجود.
13- اللا أدرية :
حين يتم فلاديمير استجواب استراجون والتشديد على تذكيره بأنه كان بالأمس بالمكان نفسه.
" فلاديمير : أين حذاؤك ؟.
استراجون : لابد أنني ألقيته في مكان بعيد.
فلاديمير : لماذا ؟ "
استراجون : "( مستفزا ) لست ادري . لماذا لا ادري ؟ : (ص83) . الجملة الأخيرة لاستراجون تكشف عن عمق متفلسف واضح في الحياة . فإن يدري المرء وإن كان لا يدري ، فإنها توقعه بورطة كبيرة . وحين يدري ويعيد صياغة الجملة ، لماذا لا ادري . ؟ إنما يوجه السؤال إلى نفسه ، إنه يكشف ذاته التي أضحت مهمشة ، ممزقة ، مفتتة ، يعاني من الطحن والاستلاب . هذه الصورة المتعارضة حاملة لوقود المعرفة ، بوضع الجملة بصيغة سؤال ، إنما هو سؤال موجه إلى الوضع ، والوضع مركب بين عوالم متعددة . هنا بالداخل وهناك بالخارج هي تعبير عن علاقة ما يقع بين الذات و الميتافيزيقيا ، في داخل الذات وخارجها الكوني . هذه الأجواء الغريبة والعجيبة ، تتداخل في حوار بين البطلين وكأنهما يعيدان إلينا أجواء غرائبية ، تدهش ، تصدم وتستفز وعيانا وتثير انتباهنا ، صورة كولاجية مفككة البناء ، إلا أنها تنتظم؛ لتشكل رسوخ الأفكار ووضع الإنسان المجدول بين انغراسه داخل الطبيعية ،ومحأولته الإفلات خارجها إلى ما فوقها .
14-اليقين الديني وجودو:
"استراجون / إنني متعب ( فترة صمت ) هي بنا نصلّي .
فلاديمير / لا استطيع.
استراجون / لماذا ؟.
فلاديمير / إننا في انتظار جودو .".(ص ص 84-85). ما المتعارض بين اليقين الديني وجودو .ان كان جودو لايمثل بعدا دينيا، فلماذا يؤسس حضورا في حوار فلاديمير؟. ألم يكن جودو هو الآخر مغيبا عن الحضور ،الا يشي ذلك بان العقيدة الدينية لكليهما قد اهتزت.جودو ، صورة غائبة عن الحضور، وترداد اسمه يكبر من صورته وينوعها ويجعلها مختلفة التأويل ، وبالتالي ، فإن الصورة الكولاجية تنتمي إلى حالة التشظي وعدم اليقين ، وسرية المعرفة ، إن كانت معرفة فعلاً . وجودو صورة زلقة متنوعة تستدعي أمراً آخراً ، والآخر يستدعي آخر وهكذا ، إنه تكرار لمعان مستجدة وليس لمعنى ثابت أو لمفهوم واحد ، اذ يقترن جودو بالانتظار في مكان محايد لا يعرف له بداية أو نهاية . صورة جودو اشبه بالطوطم وأكثر رمزية منه .وعليه فان فكرة المركز- جودو- تمتلك التعارض الافقي مع العقيدة الدينية من وجهة نظر فلاديمير، وفي الوقت ذاته تتخذ من التعارض الخط العمودي وكلا الخطين الافقي و العمودي يشكلان رمزا دينيا للصليب .وهذه الخطوط تشكل صورة كولاجية ببعدها العقائدي والجمالي.
15- مستوى الحكمة و الجنون :
" / استراجون / ( بحكمة ) كلنا نولد مجانين . و البعض يبقى كذلك " .(ص103 ).
ثنائية الحكمة و الجنون ، صورة كولاجية تتطرق إلى مفهومين ، وهي تستدرج العالم المحيط ، و جملة " البعض يبقى كذلك " تثير دلالاتها إلى طبيعة التفكير المجتمعي الصارم الذي يعد الحكمة ضررا ينبغي استئصاله . هنا الصورة الكولاجية ذات طابع مفهومي وهذه المسألة تشكل مستوى من صيغ الكولاج . وشخصية لاكي العبد،يظهر بغتة فيلسوفا وعالما وعارفا. وهو العبد المربوط بحبل .صورة كولاجية بين علم واسع وحرية مكبلة
16- صيغة التنوع :
بوزو ، بعد فقدانه بصره ، صارت أسئلة فلاديمير تعذبه ، و يقول : بوزو : ( مخاطبا فجأة ) ألم تنته من تعذيبي بأسئلتك اللعينة عن الزمن ؟ هذا شيء مقيت . متى ! متى ! في يوم ما ، إلا يكفيك هذا ، يوم ما يشبه أي يوم آخر ، في يوم من الأيام أصبحت أبكم ، في يوم ما فقدت ، في يوم ما ستفقد السمع ، في يوم ما ولدنا ، وفي يوم من الأيام سوف نموت ، نفسي الدقيقة و الثانية ، ألا يكفي هذا ؟ (ص117). بوزو المتعملق والمتسلط ،بعد أن فقد بصره ، صار فيلسوفا ، يتعكز على موتيفات الحياة ذاتها . لهذا فهو يختزل حركة الحياة برمتها وحياة البشرية معا ، بأن يجمع الصدفة والمتناقضات معا ، فالبشرية قد تفقد قدرتها وتتعطل حياتها ، من هنا جاء استقطاب الصور المتنوعة والمختلفة من هنا وهناك لتشكل صورة كولاجية تتسم بالغرائبية والاكتظاظ ، حد الانفجار . صورة تتسم باختزال رعب الوجود في الوجود ذاته ، صوره تلملم أطراف الأقدار والأحزان والفقدان وتجعل منها كولاجا ملونا مترعا بالعذاب ، متشظي الأماكن ، متنوع الأزمنة ، ومختلف في كل شيء ، إلا بصورة الألم الذي شكلها وانغرس مثل وتد شاخص بأرض جرداء .
17- الحلم و اليقظة :
"استراجون نائم يوقظه فلاديمير.
استراجون : لماذا لا تدعني أنام .
فلاديمير : أحسست بالوحدة .
استراجون : كنت احلم أنني سعيد ".(ص 117) الصورة الكولاجية المرتبطة بين قطبي الحلم و اليقظة الوحدة والانتماء،فهما بطلان لا يفترقان ، و إن افترقا أحس احدهما بالوحدة . و الآخر يجد في الحلم سعادته فأي تناقض و تعارض بين الوحدة والانتماء ، و الحلم و اليقظة . فحياتنا صارت كولاجا بين حلم بين جنبات اللأوعي و يقظة بوعي بؤسنا صورة كولاجية للتعارضات القائمة في الوجود .
18- الشعور بالاغتراب :
بعد أن غادر بوزو و لكي :" فلاديمير : هل غلبني النوم ، بينما الآخرون يعانون، المهم ، ترى ، هل أنا نائم ؟ غدا ، عندما استيقظ ، أو أظن أني مستيقظ ، ماذا أقول ؟ عن اليوم ؟ هل أقول لان الفترة التي قضيتها مع استراجون ، صديقي ، في هذا المكان ، حتى جاء الليل ، قد انقضت في انتظار جودو ؟ ربما . و لكن أي قسط من الحقيقة في كل هذا ؟ ".( ص 119) . هنا ، الكولاج المتشتت ، المتشكل الديكارتي ، إن عدم اليقين من كل فعل ، إنما هو فعل عدم الانتماء ، وما من حقيقة واضحة ماثلة للعيان فكل الحقائق تنتظر حسما ، و حسمها هو جودو الذي يٌنتظر . إن فعل الانتظار قسري ، مفروغ منه ، ولكن ما حقيقته تلك الصورة الكولاجية المتنوعة الأطراف؟
ويلاحظ بان الصورة الكولاجية تختبئ بالتشكل القائم والتشكل المنبسط . إنها صوره تغيب الحقيقة ليبرز الوهم وتغيب الوهم لتبرز الحقيقة ،وبكلتا الحالتين ، تنبجس الصورة الكولاجيه المتشتتة ، الباحثة عن مركز وسط دوامة الانفلات . لا جديد إن قلنا أن الفصل الثاني ترداد للفصل الأول إلا أن ميزته ، تجلت من خلال التكرار صار متنوعاً أكثر من الفصل الأول ، و إن حالات استدراج الموضوعات الفلسفية صارت أكثر إشراقاً و تبلوراً ، وظهر بوزو العائد من جديد صار كفيفا ،وهذا تغير جديد في نسق الصورة الكولاجية ، وإن فلاديمير صار أكثر إشراقاً من ذي قبل . أن التكرار ، صار له طعم إنساني أكبر من ذي قبل .
المبحث الرابع: النتائج ومناقشتها .
ظهر إن كلا النصين يقدمان منهجين فنيين مختلفين فيونسكو يعمد على ملأ المكان وزج أكثر قدر ممكن من القطع الديكورية والأثاث التي تشكل ضغطاَ على البطل ، وبذلك يزيد من حدة الأمكنة المحايدة ، مجهولة الملامح ، ويبدو فيها البطلان ضائعين ، مشردين ، وكأنهما مهرجان في عالم متيبس .فالصورة الكولاجية تبرز حالة التقاطع بين الإنسان وما يحيطه :
1- كانت الثرثرة وجرجرة الصورة الكولاجية عن طريق الحوار لدرجة تتعدد الصورة ونموها وتغيرها بسرعة نتيجة مجأورتها للصور المحيطة بها. فقد ازدحمت صورة الماضي البعيد والقريب مع اللحظة الحاضرة وبذلك رُكّب كولاج بين الماضي و الحاضر .كما في عينة 1
2-شكلت العلاقة بين الجزء والكل محورا اساسيا في كلا العينتين، واتخذ الكلُ صيغا تأويلية بأبعاد متعددة: الماضي، الميتافيزيقي ،الروحي، الإنساني
3-كان الصمت لغة لتعددية المعنى ، وتكرار الصمت ، شكل مساحة كولاجية بالمقارنة بالحوار اللفظي ، وبدا صراع بين الصمت و الحوار و كأنهما يشكلان معاً لغة النص ، كما في عينة 2 . فكان الصمت جزءا لا يتجزأ من بناء الصورة الكولاجية .
4-برزت التعارضات الحادة داخل حوار العينة (1) بين البطلين ( السيد والخادمة ) تعارض يستمر دونما توقف ، وبالتالي دفع لبلورة صورة كولاجية للتعارضات داخل كلا الشخصيتين وكأنها صورة تنمو وتتطور تدريجيا. بينما جاءت التعارضات بين الابطال الاربعة في العينة 2،متسمة بالوضوح منذ البدء، وكلما تقدم الحدث ازدادت الصور تفككا وتشتتا تدريجيا ،مما نوع الصورالكولاجية.
5-ضعف الشخصيات كان أساسياً بوصفه يسلط الضوء على نمنمة الوضع البشري المزري في كلا العينتين. وكلما تقدم الحدث في النص ازدادت الصورة الكولاجية تعقيدا وفي كلا العينتين، عبر البناء الغروتسكي المعتمد على التناقض الحاد والتنافر حد التقاطع.
6-بلورت البداية ، نقطة لجرجرة باقي الصور ، فالعينة (1) كانت الشقة فارغة وتدريجياً امتلأت وغاص بداخلها البطل وهذه البداية تشير إلى طبيعية الكولاج المتنامي تدريجياً بحيث كلما تقدم الحدث ؛ ازدادت حدة الصورة الكولاجية الكلية التي أشار إليها المؤلف في بداية نصه، وهو جزء من نمو الصورة الكولاجية . لهذا فان ترداد الصورة الأولى التأسيسية كان من خلال تغيير الصورة بملئها بقطع الاثاث. أما العينة (2) فقد كانت البداية منظرا فقيرا : شجرة ، وطريق عارٍ بحيث بدا المكان المقفر شاسعاً ، والبطلان غائصان به . وكانت البداية هي الصورة الأولى الكولاجية بين القطع التي يتكون منها المنظر، سرعان ما اصطفت إلى جانبها ، صور الحوار المتقطع ، الشخصيتان الضائعتان في الانتظار و الملـــــــل ، والصمت المهيمن في علاقتهما ، كل هذه الصور الكولاجية كانت بمثابة ترداد للصـــورة الأولى المكانية ، بكلمة أخرى ، لقد كثفت صورة المنظر كل الصور الكولاجية الأخرى المنبثقة منها و شكلت انتماءً كولاجياً بها.
7- تكرار الحوار اللفظي والحركة التهريجية ، تعٌد صورة كولاجية انبثقت من الانتظار و استقدمت معاني تضم البشرية و أزمتها الإنسانية ، فالتكرار جزء من جمالية الصورة الكولاجية للشكل الدرامي ، الذي بدا مفككا فاقد للسببية والمركزية للحدث ، الا ان عمليات الضم والاستدراج ،شكلت قوة ضغط ولملمة للحدث وبناء حزمة الصور الكولاجية المتعاقبة .فانفلات الحدث الظاهري يقابله عمليات لملمة ورص من الدخل ،لترسيخ موضوع الانتظار – الحدث- وبالتالي تشكيل صور لعوالم كولاجية منطلقة من عمليات التناقض غير الوضاح لبنية الحدث – بالانفلات والضم – وذلك ساعد في ترسيخ واستقدام الصور الكولاجية المتنوعة .
8-أسهم تعارض الحوار بين الأبطال إلى حالة قفز من المعنى التواصلي بينهما إلى معنى آخر قابل للتأويل ، وبهذه الصيغة تشكلت صيغة من صيغ الكولاج بين المعنى واستقدام معنى آخر .وبذلك تتشكل صور كولاجية متنوعة ومختلفة بحسب درجة استيعاب وفهم القارئ لها.مما يخلق تنوعا بحسب الجهد الذهني الذي يبذله كل قارئ للنص. والاختلاف يساهم برفد تأويلات مختلفة وقد تكون متناقضة ؛الا انها تغني النص وتساعد على استدامته .
9-ظهر البعد الانثروبولجي من خلال عملية البحث عن البطل جودو في عينة 2 الذي شكل امتداد لفكرة المركز الطوطمية . اما في عينة 1 كانت فكرة الطوطم بتفشي حالة الازدحام والافتقار إلى الطريق الموصل إلى المركز، وفي العينتين كان الطوطم صورة مغيبة اتخذت صيغة المفهوم ،بالتالي استجلبت حالة التنوع الكولاجي ببناء الصور.
10-ظهرت الجبرية بين الابطال لتكشف عن المفارقة بالوضع الانساني وفي الوقت ذاته تؤسس لبناء الصورة الكولاجية القابلة للتأول باتجاهات مختلفة.
11-اللادرية، شكل من أشكال المعرفة اليقينية والجهل في آن، ففي العينة 1 كان البطل ضائعا وتدريجيا يطمس وجوده. اما العينة 2 فكانت اللادرية واعية ويقبل البطل بوضعه. وفي كلتا الحالتين، كٌشف عن معنى يتعدى الأبطال، ويخاطب الجنس البشري بمعناه.
12-اشكالية الحضور والغياب، البعيد والقريب ،صورة كولاجيية تعدت الادراك الحسي إلى ايجاد المفهوم.،وكثيرا ما تكررت هذه الصيغة التي تجمع البعيد بالقريب ،أو الغائب الذي ندركه حضوره وتأثيره بيننا.كما في عينة 2 اذ كان جودو مهيمنا على الابطال على الرغم من عدم حضوره. أو كما في عينة 1 فالمستأجران القديمان كانا حاضرين، نتيجة ذكرهما باستمرار . وفي ضوئه، فان الصور الكولاجية تتغذى على التناقضات وتعيد انتاجها بما يجعل الصور في النص أكثر ثراء وتعبيرا عن الحاجات والافكار ونمنمة المشاعر الانسانية
إلاستنتاجات :
1-يظهر الكولاج في النص من نقطة الملاحظات التي يورد المؤلف داخل النص.
2-كانت الصورة الكولاجية المؤسسة للنص تستدعي الصورة البعيدة وتضمها إليها بقوة .
3-شكلّ اختلاف المنهج بين النصين في الكتابة إلى تغيير الصيغ الكولاجية التي يتبناها كلا المؤلفين .
4-اختلفت صيغة الكولاج في كيفية إدراج الحدث في إيقاعه البطيء وعبر التعارض والتوازي داخل الحوار .
5-يبرز الكولاج عبر تداخل الحوار اللفظي والصمت ، وعُدّ الصمت نصاً داخل النص ، فقد أستحوذ الصمت وكاد أن يبتلع الحوار.
6-يبدأ الكولاج من الصورة الأولى في النص وينتهي بالصورة الأخيرة ، وكل الصور الكولاجية تكون ترداداً للصور للصورة الكولاجية الأولى .سواء بنموها المتواصل أو تفككها المستمر.
7-كان الكولاج بناءً غروتسكياً داخل النص .
8-يشكل الجزء والكل بعدا كولاجيا.
10- يتداخل الميتافيزيقي بالحياتي ويشكل هيمنة الصورة الكولاجية
قائمة المصادر والمراجع:
كوجينوف ،ف ،ف وق .د سكفوز نيكوف.(1993) إضاءة تاريخية على قضايا أساسية : الصورة .المنهج. الطبع المتفرد- القسم الثاني، تر د. جميل نصيف التكريتي، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة .
السباعي ،د. هويدا.(2008)فنون ما بعد الحداثة في مصر والعالم ،القاهرة :الهيئة المصرية العامة للكتاب.
البسيوني ،د. محمود.(2002) الفن في القرن العشرين القاهرة :الهيئة المصرية العامة للكتاب.
بأوس ،ألان.(1990) الفن الأوربي الحديث ،تر فخري خليل ،مراجعة جبرا ابراهيم جبرا ، بغداد: دار المأمون للترجمة والنشر.
بوزيد، بومدين(2008).الفهم والنص –دراسة في المنهج التأويلي عند شلير ماخر وديلتاي ،د.مدينة:منشورات الاختلاف- الدار العربية للعلوم.
تودوروف ،تزفيطان.(1987) الشعرية، تر شكري المبخوت ورجاء بن سلامة ،المغرب: دار توبقال.
تومس ،جورج.(1975) إسخيلوس واثينا- دراسة الأصول الاجتماعية للدراما ،تر صالح جواد الكاظم، بغداد وزارة الإعلام.
جيمس ،وليم .(1969)بعض مشكلات الفلسفة ،تر د. محمد فتحي الشنطي،ط2،بيروت : دار الطلبة العرب.
جيبهاردت ،فولكر.(2005)في تاريخ الفن إلالماني ،ترعلا عادل، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة .
الحوراني، يوسف.(1978) البنية الذهنية الحضارية في الشرق المتوسطي الآسيوي القديم ، بيروت، دار النهار للنشر.
فرويد ،سيجموند (1983)الطوطم والتابو ،تربوعلي ياسين ،اللإذقية :دار الحوار للنشر والتوزيع.
النوري ،د .قيس.( 1986 ) ما إلانثربولوجيا ،بغداد :دار الحرية للطباعة.
نعيم ،اقبال.(2005) الجروتسك في العروض المسرحية ،الشارقة :دائرة الثقافة والإعلام.
النصوص الدرامية-المسرحية- والملحمية التي تم الإشارة إليها في متن البحث:
أرستوفإنيس .(2012) الضفادع، تر وتقديم د. عبد المعطي شعرأوي، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب
بيكيت ،صمويل.(1970) مسرح العبث- في انتظار جودو ،تر د. فايز اسكندر ،القاهرة :الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر.
تشيخوف، انطوان.(2006) إيفانوف ومسرحات أخرى،تر ليندامنصور،لبنان : دار ومكتبة الهلال.
سوفوكليس.(1985) من الأدب التمثيلي اليوناني- أوديب ملكا،ط2،تر طه حسين ،بيروت: دار العلم للملاين.
شكسبير، وليم.(1986)هاملت ،تر جبرا ابراهيم جبرا ، بغداد: دار الحرية للطباعة.
يوجين ،أونيل.(1981)الغوريلا، تر د. عبدالله عبد الحافظ، الكويت: وزارة الإعلام.
يونسكو، يوجين(1975) من الأعمال المختارة –المستأجر الجديد. اللوحة .الخرتيت ،تر وتقيم حماده ابراهيم ،مراجعه د. سيد عطيه ابو النجا ،الكويت: وزارة الإعلام.
مجهول المؤلف(1971) ملحمة كلكامش،ط2،تر طه باقر ،بغداد: مطابع الحرية.
المجلات:
موسوعة برنستون للشعر.(1988)الصورة الفنية ،مجلة الثقافة الاجنبية
الفصل الثالث :السينوغرافيا في تركيب النص الدرامي
المقدمة:
شهدت نهاية العقد الثاني في القرن العشرين انتشاراً واسعاً لمصطلح السينوغرافيا، مع أن البدايات الحقيقية للسينوغرافيا رافقت نشأة المسرح عند الإغريق والرومان، وصولاً إلى المسرح الكنسي، واستمر في عصر النهضة وإلى يومنا. واستخدام مصطلح السينوغرافيا بطرائق مختلفة، وانصبت جميعاً في العرض المسرحي، ولم يتم الالتفات إلى بنية السينوغرافيا الجنينية في النص المسرحي ذاته. وقد أطلع الباحث على العديد من الدراسات التي تنأولت السينوغرافيا وكانت جميعها تتطرق اليه بوصفه عرض مسرحي، ولم يجر تنأول الموضوع ضمن النص المسرحي المكتوب، وهو في حقيقته نصان ظاهران على الورق. الأول يتشكل من الحوار الذي يصممه المؤلف الذي يشكل جدلاً حوارياً عارماً بين الشخصيات، والنص الآخر الذي يضعه المؤلف بين هلالين والذي يطلق عليه الإرشادات أو التوجيهات التي يحددها الكاتب المسرحي (أسعد.1980. ص65)، من وصف للمنظر والوقت أو حركات الأبطال وانفعالاتهم، أو ما يومئ به، وكل ما لا يلفظ يدخله الكاتب المسرحي بين هلالين داخل متن النص المسرحي.
وتجدر الإشارة إلى أن طبقة النص الثاني تكمل طبقة النص الأول، ويكون الوصف دافعاً لحركية الحدث والتعجيل في الفضاء الدرامي، من خلال توصيفه بين هلالين، وقد يتعدى ذلك من خلال تحديد نوع الموسيقى والمؤثرات الصوتية، أو القوالب الصوتية التي تأتي من خارج الفضاء الدرامي، إلا أنها تقترن به، وتذوب كلياً فيه، ما يشكل صورة كلية لكل العناصر الداخلية والخارجية، معنية بتكوين وبلورة الصورة الدرامية.
إن كل ما يتلفظ به أبطال الدراما في النص، يدخل طرفاً بتشكيل طبقة النص الأول، وكل ما يشار إليه ضمن الإرشادات التي يدرجها المؤلف، تشكل عمقاً لطبقة النص الأولى، إلا أن الطبقة الثانية في النص، تذوب وتتغلغل في الطبقة الأولى للنص، بالتالي تتشكل وحدة متفاعله، يصعب فكها، نتيجة التداخل والذوبان بين ما يلفظ وما يشكل إشارات إرشادية تدعم وترسخ وتعمق الفضاء الدرامي وسيرورة الأحداث.
لقد شكلت إرشادات المؤلف حيزاً في النصوص الدرامية الحديثة، والمعاصرة، على الرغم من أن فرصة عروض تلك النصوص كانت أكبر من سابقاتها في العصور السابقة، إلا أن نشر النصوص ساهم بدرجة كبيرة للعناية بطبقة النص الثانية، هذا على الرغم من كون الباحثين والدارسين المعاصرين، قد حددوا عناصر النص الأساسية وهي: الفكرة، والحبكة، والشخصية، والحوار، والجو النفسي العام (نعمان،1998ص63) وقد التفت بعض الباحثين إلى العناصر التكميلية وهي: المنظر، والوقت، والأزياء، والموسيقى والمؤثرات الصوتية، والمكياج، والشعر المستعار؟ وهذه العناصر موجودة في الأصل داخل النص وتشكل طبقته الثانية، بوصف النص نصين، ويشير المؤلف عبر الإرشادات إلى تفاصيل قد يتم توظيفها لاحقاً في العرض. والمسألة الجوهرية أنها موجودة في النص ذاته، غير أن درجة تفاعلها وحركتها لم تعرف بعد؛ لهذا يعد الموضوع غامضا، ومن أجل تبديد غموضه، حدد السؤال التالي للبحث: "كيف تشتغل السينوغرافيا في تقنية كتابة النص المسرحي؟
هدف الدراسة :الكشف عن الصيغ الأسلوبية في تقنية سينوغرافيا النص
المصطلحات:
عرفت السينوغرافيا تعريفات متعددة منها: "فن تنسيق الفضاء والتحكم في شكله بغرض تحقيق أهداف العرض المسرحي أو الغنائي، أو الرقص الذي يشكل إطاره الذي تجري فيه الأحداث". (فون،1993، ص7). وهناك تعريف آخر يشدد على العلاقة بين السينوغرافيا والجمهور بوصفه" الفضاء الذي يتواجد فيه الجمهور مع الممثلين أثناء العرض". (المسعودي،2001، ص87). إن كلا التعرفين يتنأولان السينوغرافيا في العرض، بينما البحث الحالي يجتهد بالتطرق إلى السينوغرافيا داخل النص، وفي ضوئه سيتم تحديد التعريف الإجرائي.
السينوغرافيا النصية: هي سينوغرافيا نابعة من النص، وتدرك من خلال العلاقات المتشابكة في الفضاء الدرامي وتفاعله بين طبقة النص الأولى وهي ما يدرك عقلياً في النص من: فكرة، وحبكة، وشخصيات، وحوار. أما طبقة النص الثانية: فهي كل ما يورده المؤلف بين هلالين سواء قبل بدء الأحداث، مثل وصف المكان والزمان، أو يتخلل الحوار ليصف الانفعالات والانتقالات، أو يصف الصيغة التي ينتهي بها النص. وبذلك فإن الطبقة الثانية، تشكل وعاء لطبقة النص الأولى وتكون معبرة عنه ومتداخلة معه.
المبحث الأول: المنظومة اللفظية
ليس بغريب أن يحمل النص المسرحي في طياته العديد من الإشارات للتقنيات التي تشكل الطبقة الثانية في النص، وأحياناً قد لا يكتفي بالإشارة إليها ضمن الإرشادات بل يدرجها ضمن حوار الأبطال، وأحياناً قد تكون عنواناً للنص المسرحي، وبذلك يشكل الكاتب عتبة نصه المسرحي مثل: (ظلام في الظهيرة) لمؤلفها (سيدني كنجسلي)، وقد يكون العنوان إشارة لمكان أو زمان، أو لاسم البطل مثل: (عطيل) لمؤلفها (شكسبير).
وحينما يؤسس الكاتب نصه المسرحي، فإنه يستدرج عوالم خياله الذي ينشئ عالما مزدحما ضاجا غنيا بالتفاصيل؛ لذا تكون صورة النص في خيالة كاملة الحقوق، كلية المعنى، وبذلك يشكل العالم الخيالي واضعا إياه على الورق، بوصفه جسدا لفظيا، يتقصد من خلاله التنويه عن العالم الواقعي، مشددا في رؤاه المتسعة على أكثر الموضوعات حيوية واقترانا بحياة الناس. إن عوالم النص تتسم بالغنى والتنوع، وما يثري النص ليس الحوار حسب، بل العناصر التقنية المرافقة لأنها تساهم ببلورة سينوغرافيا النص، عبر التلاحم والتداخل والذوبان بينها وبين العناصر الدرامية الأخرى: فكرة، وحبكة، وشخصية، وحوار، وجو نفسي عام. (نعمان،1999، ص63)، والكاتب يلملم نصه، مثلما يلملم العناصر السينوغرافيا الداخلة بتركيبه، بعد أن يهيئ الأبطال والحدث، إنه يقوم بعملية تداخل وذوبان بين العناصر الدرامية والتقنيات الموظفة، وقد تكون الكيفية في التوظيف سببا لاختلافه عن الكتاب الآخرين وميزة يتفرد بها عنهم، وبذلك فإن صياغة نص مسرحي تعتمد مسألتين: التقنيات التي تشكل جذباً للأبطال، والتقنية التي يعتمدها الكاتب بالكيفية التي يجعل العالم المتخيل، غنياً ومليئاً وله قدرة التأثير الفعلي على المتلقي.
لهذا، فإن الحوار وهو منظومة لفظية، قابلة لتعددية المعنى، لكن الطبقة الثانية في النص المسرحي تجتهد بتحديد المعنى، لهذا فإن الإرشادات - تعليمات - لكيفية فهم حركة البطل وعلاقاته وأفكاره، والأهداف التي يسعى إليها، ويستميت من أجل بلوغها ومشاعره وتوجهاته.
وقد يعتمد التقنيات التي يتم تحديدها ضمن بداية النص، إلا أنه لا يكتفي بذلك، بل يستمر بإدراج التعليمات الضمنية، لهذا فقد يدرج إرشادا لبعض الأبطال يقول فيه: ساخراً، أو مقاطعاً، أو مرتعباً...الخ والمسألة هذه تزيد من زخم الصورة، صورة البطل والصورة الدرامية؛ لهذا، فإن الحوار -المنظومة اللفظية- تقترن بقوة مع الإرشادات، وزيادة على ذلك، تضاف للحوار علامات الترقيم من تعجب، أو استفهام، ونقطة، ونقطتان، وثلاث نقاط، وفاصلة، وفاصلة منقوطة.
إن رسم العلامات في حوار الأبطال، هو تشكيل للمعنى، فعلامة التعجب غير علامة الاستفهام، ووظيفة النقطة تختلف في معناها عن الفاصلة، وهكذا، فإن لكل علامة من العلامات حضوراً في سينوغرافيا النص الذي يتشكل من حزمة من العلامات المختلفة.
الجدال الحواري:
يعتمد النص المسرحي على الحوار عامة، عدا الاستثناءات القليلة التي تعتمد فيها بعض النصوص على الحركة، أو الصورة، أو البانتوميم (مدرسة المتفرج، د.ت، ص16) ماعدا ذلك، فإن النص المسرحي هو نص يعتمد على النظام اللغوي منذ نشأته ولم يزل؛ لهذا فإن الجدال الحواري كان بمثابة الشكل المعروف، وعُرف به النص المسرحي، ومن المؤكد ثمة اختلاف بين الكتاب باختيار نوعية الحوار وأسلوب اللغة وطبيعتها، وتختلف من كاتب إلى آخر، فقد يكون النص شعرياً أو نثرياً أو يدمج بين الأثنين، لكن يبقى الجدال الحوار، هو عملية كشف مستمر لذات البطل من خلال الحدث الدرامي، وبذلك يتشكل تدريجياً العالم المتخيل، ذلك إن الكاتب يحول دبيب في ذهنه -لا يراه غيره- ويحيله إلى عالم مدون، عالم يمكن إدراكه على الورق، وبذلك يكون الكاتب قد أحيل إلى عالم لا نراه، لكنه بفعل كتابته، أصبح من الممكن إدراك ذلك العالم. وعليه، فإن الحوار حامل ومحمول لكل الأبطال الذين يرتبطون بحدث ويشكلون أطرافاً مجتمعة أو مختلفة، فالحوار يؤجج الصراع بين الأطراف، فكلمة واحد، قد تشعل حرباً بين الأبطال لا تتوقف، بل تستعر، وجملة واحدة، وأحياناً كلمة واحدة، تقلب الحدث والأبطال رأساً على عقب كما فعل الرسول بكشف حقيقة أوديب في نص (أوديب ملكاً) لمؤلفها (سوفوكليس)، أو كما كشفت إيميليا زوجة ياجو، في نص(عطيل) أن ياجو أخذ المنديل وبالتالي وضع خطة لاتهام دزدمونة بالخيانة، ما يؤدي إلى قتل دزدمونة وإلى قتله هو الآخر. إن خاصية البطل هي أنه مستميت، يسعى إلى حتفه أو يختار حتفه دفاعاً عما يؤمن به، ولذلك فإن الحوار يتسم بالقوة والضغط، والرص والدفع والتعجيل المستمر، وعليه يكون الحوار كشفا لأكثر سمات البطل تأثيراً وفاعلية، من أجل تأجيج الحدث ودفعه إلى النهاية بأقصى سرعة. والحوار في جوهره نقد للأبطال مثلما هو كشف لأبعاد الأبطال: النفسية، والاجتماعية، والطبيعية، والإنثربولوجية، فقد يكون للبطل امتدادا إنثربولوجي، يبثه الكاتب في الحوار. وأحيانا يضع البطل خطته، لهذا تظهر خطة البطل وخطة بطل منأوئ، وبذلك يحدث الاحتكاك والاحتدام. كما في نص (هاملت) فكلوديوس يضع خطة للتخلص نهائيا من هاملت وذلك بالتآمر على قتله وبالمقابل يضع هاملت المنأوئ له خطة أخرى للنيل من قاتل أبيه بعد انكشف أمر كلوديوس بوصفه قاتلا. فالحوار منظومة لفظية، غنية، معبرة، قادرة على إيصال الأفكار المعلنة والمضمرة، فالحوار يبرزها، وقد يحمل الحوار إلى جوار ما تقدم، التقنيات القريبة للبطل في حركته ضمن الحيز وانتقالاته: المنظر، الوقت، الأزياء، الموسيقى والمؤثرات، الماكياج القناع. فضلا عن الأدوات التي يستخدمها الأبطال، مثل السيف في (هاملت) أو المنديل في (عطيل)، لهذا تدخل الكثير من التقنيات التي يتضمنها الحوار، ذلك لأن غنى الحوار، يتأتى من ترابط المنظومة اللفظية مع التقنيات التي تشكل الحدث والتعبير عن أشد اللحظات الدرامية.
الحوار الجانبي:
في الحوار الجانبي يكشف فيه البطل وجهة نظره التي لا يريد من يقف أمامه أو إلى جواره من الأبطال الآخرين، أن يسمعها أو يعرفها، أو يعلم بها، إما خوفا أو احتيالا أو سخرية أو تعرية تامة له. وتبقى خاصية الحوار الجانبي، أنه يعلن عن كل ما يحبه ويستميت من أجل تحقيقه، ويدافع حَدّ الاقتتال دفاعاً عنه. وللحوار الجانبي وظيفة المدارة بين المعلن وغير المعلن من الأفكار والمشاعر والمواقف، وبذلك يتجنب البطل فيه الاشتباك الحواري مع الأبطال، لهذا يُعد إعلانا ضمنيا للبطل، بأنه يقف بالضد مما يعلنه جهرا في الجدال الحواري مع الأبطال الآخرين، لذا فإنه يتضمن تكذيبا للبطل المقابل، ذلك ما يجعل الحوار الجانبي يتسم بالحيوية. وقد وسع (برشت) من الحوار الجانبي، إذ جعل حواره بشقين، كأن يقف البطل أمام نفسه، فتارة يكون بهذا الجانب وأخرى بالجانب المضاد له، وبذلك فإن الحوار الجانبي تحول تحولاً مبهراً على يد (برشت) حين صار غربلة للبطل، لمواقفه، وأفكاره، وسلوكه، وبهذا المعنى، أصبح اتخاذ موقف مما يجري أمرا لابد منه، ويتضح ذلك في نصوصه الأخيرة مثل مسرحية (السيد بونتيلا وتابعه ماتي) التي أرسى فيها نظرية المسرح الملحمي الذي استند إلى نقطتين جوهريتين هما : التغريب والملحمية، على العكس من النصوص التي سبقت (برشت) فقد ظل الحوار الجانبي يتضمن التعليق على الجدال الحواري، وكأنه انسلاخ مؤقت عن مجرى الجدال الحواري وعودة سريعة إليه، فهو انسلاخ جزئي، سرعان ما يعود المتفوه بالحوار الجانبي إلى ما كان عليه، وبهذا فإن برشت اشتغل على حركة تقنية الحوار وتدفقه عبر تقطيع مجرى الحوار المتفاعل بين بطلين، وبالتالي الحدث إلى ما يشبه حالة تسكين الحوار وتهدئة بارعة من أجل إيقاظ المتلقي من لحظات الاندماج والانسياق بالحوار، وهي بمثابة علامة تعجب غير معلنة، لكنها تنبه لخطب ما، بصورة فنية وجمالية وفكرية محنكة.
الحوار الداخلي:
يعد الحوار الداخلي قفزة خارج سياق الحوار ودوافعه، لحظة ما يختارها الكاتب المسرحي للارتقاء بالبطل، بوصفها لحظة غير متوقعه حين تشتبك العلاقات، ويضغط على البطل بقوة من نواحي عدة، وكأنه يفقد صلته وتواصله مع العالم المحيط به؛ لهذا يلجأ إلى عالم خيالي يتوحد فيه مع ذاته، بعالم منعزل ومنفصم عن العالم الخارجي، عالم ذاتي محض يتحصن به البطل بإرادته الذاتية التي يحس بأنها شطرت إلى شطرين، فأصبحت ذاته أكبر من كونها ذات البطل المألوف، وإنما ذات أخرى عائمة فوق ركام من الخرائب والضياع، فالتماعات الأفكار، ودمج المحسوس بغير المحسوس، والواطئ بالعالي، والقريب بالبعيد، واليومي بالسرمدي، تشكل لحظة الانعتاق من أسر الواقع البيئي، فراراً إلى عالم خفي لا يراه إلا البطل نفسه، فيكشف ما يحسه، ويتدفق بحواره معلناً عن رفضه وبرمه وعجزه عن المواءمة مع العالم الخارجي الذي يشكل ضغطا عليه. وما الحوار الداخلي إلا شكل من أشكال الدفاع عن النفس، بعد أن وجد البطل نفسه ضائعاً، مفتتتا، خاويا، وحين يختلي بنفسه، فإنه يعتصر الأفكار ويعيد تنضيدها على وفق عالمه، الضاج والصارخ والبرم من كل ما يحيط به، ويشكل سلسلة متعاقبة من العقبات التي يعجز عن خرقها، فإنه يعيد التوازن بعد اختلاله من أجل أن يصمد ويواجه القوى المناوئة له، بل إن الحوار الداخلي جاء نتيجة لصدمات لمتعاقبة، شكلت محوراً يلجأ فيه البطل للعودة إلى أعماق نفسه، طارحاً التساؤلات التي لا يجد جواباً لها، والأفكار التي تلهبه، والمشاعر التي تطوقه وتخنقه ولا يستطيع فكاكاً منها ولا إعلانها.
لهذا فإن الحوار الداخلي هو شكل من أشكال خيبات البطل، بعد أن صرعته قوة ما قد تكون ميتافيزيقية، أو اجتماعية، أو نفسية، إلا أنها تمثلت بالصد والقوة حتى خارت قوى البطل الذي وجد نفسه ممزقاً تائهاً، ولحظة الحوار الداخلي هي عودة إلى الذات الحقيقية للبطل بعد أن دجنت ذاته الاجتماعية كما في هاملت وهو يقول "أكون أو لا أكون"، أو في عطيل وهو يخاطب الشمعة "وأنت يا وزير النور، "أو أوفيليا وهي تفقد رجاحة عقلها، فيتحول هذيانها إلى شكل من أشكال الحوار الداخلي، بعد أن فقدت الحبيب بقتله لأبيها، فلم تحتمل الوضعية الجديدة التي قلبت كيانها وتحول حبيبها إلى قاتل لأبيها.
إن ازدحام الأحاسيس تدريجيا، وتحولها إلى سيطرة تبتلى به البطلة، وكأنها تساق إلى العزلة والوحدة والضياع وفقدان الأمل والتوازن، يجعل من هذيان كلماتها مفاتيح لدهاليز النفس المثقلة والمحبطة والمبتلاة بالألم الموجوع، والباحثة عن طريق للخلاص، لكن ما عاد هناك من ضوء في نهاية النقق، بعد أن فقدت أوفيليا استقرارها، لهذا جٌنت فماتت غريقة، لقد سحبها اليأس وجرها إلى الموت. ويلاحظ أن الحوار بوظائفه المعروفة يكشف الشخصية وأبعادها، وأهم سماتها، وطرائقها بالتفكير والتعبير، ودرجة وعمق أحاسيسها ومشاعرها وانتمائها الديني والقومي والإنساني، فضلاً عن أنه يكشف أبعادها النفسية والاجتماعية والطبيعية، وبذلك فإن الحوار يقدم أهم صفات الأبطال وسماتهم الجوهرية المعنية بتنمية الحدث وتغذيته؛ لهذا فإن مهمة الكاتب المسرحي، اختيار سمات شخصيات بطلة قادرة على حمل الحدث وتطويره، وتعجل بالأحداث؛ لهذا فالبطل يستدعي وجود بطل آخر منأوئ له، يدفع إلى لحظات اختيار، وتلك تقود إلى اصطراع حتمي بين الأبطال. إن الحوار يحمل البطل ويزج به في اشتباكات مستمرة، ويدفع الكاتب بالأبطال للمقارعة إزاء العقبات واجتيازها، ما يعني بروزاً لأكثر سماتها أهمية وتجلياً، بما يخدم بلوغ النهاية. ومن الطبيعي أن يضفي ذلك رونقاً على بناء صورتين الأولى: للأبطال بما هم عليه وما سيؤولون إليه، أما الصورة الأخرى، فهي صورة النص، وتتشكل من خلال جميع صور الأبطال، وما يحدث لهم من خطوب وتحولات تفرضها حيوية الحدث ومجراه الجارف.
المبحث الثاني: منظومة الإرشادات
1- شكل النص المسرحي:
يقترن شكل النص الذي يكون عليه بالسينوغرافيا النصية. وعملية تنضيد النص المسرحي من حيث شكله الفني، هي عملية توزيع الحدث ضمن وحدات محددة قد يطلق عليها فصول، ولكل فصل عدد من المشاهد. وأحياناً يستخدم تنضيد آخر للنصوص المسرحية كأن تكون ثلاثية كما تجلى ذلك عند سوفوكليس في ثلاثيته المعروفة (أوديب ملكاً، ألكترا، أوديب في كولون)، وهذا التوزيع ليس الأخير، فلكل كاتب الحرية بأنشاء عالمه المتخيل، إذ يتجلى فيه مواقفه ورؤيته التي يطل من خلالها على العالم، ولهذا فإن شكل النص الدرامي يكون أكثر تأثيراً وأوقع لدى المتلقي. وعلى مَرّ العصور كان هناك اختلاف بتشكيل الفصول الخمسة للنص المسرحي، وهو ما أعتمده شكسبير؛ لهذا فإن نسيج النص وتشكله الفني والجمالي أتسع أكثر من ذي قبل في سريان الحدث، إذ أخذ ينمو ويتطور بصورة تدريجية، ما ساعد على ظهور عدد غير قليل من الشخصيات البطلة، وانفتاح على الحدث، وبالمقابل أصبح الإيغال بالبطل أكثر اتساعاً. فالكلاسيكية فيها استقرار الشكل نتيجة لاستقرار وتجذر العقل الفلسفي، بينما العصر الشكسبيري اتسم بتفتح العقل الإنساني الذي يرى العالم بمنظور الاكتشافات العلمية في عصر النهضة، أو التعبيرية التي برم فيها الإنسان من حالة التفكك والتمزق. لقد انعكس الفكر في بنية الحدث وتنوع المشاهد المتسارعة، نتيجة الحروب الطاحنة في حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها (نعمان،2019،ص ص238-241). إن الشكل الذي يبدو عليه النص، يشير بطرف خفي إلى الحياة وما يدور فيها، وازداد الشكل الفني للنص المسرحي تمزقاً على يد كتاب نصوص اللامعقول الذين حطموا العديد من اشتراطات النص الأرسطي، بل بالعكس كان ديدنهم هو عدم الإيمان بثبات الشكل، وانعكس هذا المفهوم على الشكل الفني لبناء النص، فالتفتت والتشظي في تركيب النص، في جوهره تعبير جمالي وفكري للقيم المتسيدة والطاحنة لوجود الإنسان. وعليه، فشكل النص المسرحي يقترن ببعد فلسفي من جانب، والكيفية التي تكون عليها السينوغرافيا المتبعة ضمن النص، بكلمة أخرى، إن الكاتب يصوغ أسلوبا تقنيا تشكل رؤيته التي ينظم التقنيات بصيغة يجعلها معبرة عن موقفه الفكري والجمالي.
2- المنظر والوقت:
غالبية النصوص المسرحية، تورد إرشاداً بين هلالين في بدء النص، وفيه يتم تحديد المنظر/المكان الذي يشكل الوسط البيئي للأبطال ولمسار الحدث الدرامي، سواء أكان قصراً، أم قاعةً، أم قارعة طريق، أم قبوا، أم شارعا، أم غرفة. وتكمن أهمية هذا التحديد، باعتبار أن هناك علاقة جوهرية بين البطل والمحيط البيئي، بوصف البطل يدور في هذا الحيز، وفضلاً عن ذلك فإن علاقته تحدد البعد النفسي والاجتماعي، فضلاً عن العصر، وتوحي بما يمكن أن يكون عليه الحدث. إن خيال الكاتب وعمق تخيله، يساهم بتشكيل العالم الدرامي الذي يكون في حقيقته عوالم درامية متعددة في جسد النص. من هنا نتفهم طبيعة اختلاف إرشادات تحديد المنظر لمختلف الكتاب، ذلك إن رؤية الكاتب تعتمد على ما يورده في المنظر؛ لأنه يشكل العالم المتخيل، ففي المسرح الإغريقي هناك إشارات طفيفة للإرشادات، كما هو حال المسرح الشكسبيري الذي قد يكتفي بكلمة مكتوبة، غرفة، قاعة. ويعود إلى سعة تنوع المناظر في نصوصه. بينما هناك كتاب دراميون يوردون تفاصيل لإشباع الصورة القابلة للإدراك. فنصوص (إبسن) تعتمد التفاصيل التي يوردها في بدء النص ويتم تحديد الوقت: صباحاً، ليلاً. وهكذا يتم تحديد المحيط البيئي للأبطال. وفي نصوص التعبيرية التي ركزت على الاختزال وسرعة الانتقال بالمشاهد المتعددة المتعاقبة، وبذلك يدخل الإيقاع ضمن بنية التحولات في النص ففي (الإمبراطور جونز) لمؤلفها (أونيل) تتحرك المناظر بسرعة وتختفي، مثلما يكون الوقت مقترناً بالتحولات النفسية، لهذا فإن المنظر والوقت يخضع إلى رهافة مشاعر الأبطال، بوصف أن الذات تنعكس على ما يقع خارجها. وبذلك فإن نسيج النص يعتمد على وحدة الانسجام بين عناصر السينوغرافيا الداخلة بتكوينه. وقد يحدد الكاتب الوقت الذي يجري فيه الحدث، كما يفعل العديد من الكتاب للتهيئة للحدث واستمراريته، وكما يفعل كتاب النصوص الواقعية والطبيعية لإضفاء الصدق الفني، بينما تلجأ النصوص التعبيرية إلى توظيف الوقت جماليا ونفسيا، بكلمة أخرى يكون الوقت ضمن رؤية الكاتب للعوالم التي يخوضها البطل التعبيري. والمسألة ذاتها في أدب اللامعقول، فقد تعمد في جعل المنظر قوة ضاغطة، قوية، تدفع الأبطال إلى الانفلات من المنظر لأنه يشكل شخصية ثابتة متجذره راسخة لا تقبل الزحزحة أو التفتت. وبذلك فإن المنظر على بساطته، يكون منطقه: عارية، وشجرة ،ومساء، كما في نص (في انتظار جودو) لمؤلفه (بيكيت)، فقد حدد علاقات قابلة للتأويل. ومن المؤكد، إن حركة الأبطال تقترن بتحديد المنظر والوقت، فالكاتب الدرامي. لا يكتفي بتحديدهما من خلال بداية نصه حسب، بل يؤسس على ذلك في المشاهد المتلاحقة، ليشكل سلسلة متصلة مع بعضها الآخر، تقترن بالتحولات السارية في داخل البطل، وهو في حالة اصطراع مستمر.
3- الموسيقى والمؤثرات الصوتية:
من أجل جعل الصورة الجمالية أكثر اكتمالاً، فإن الكاتب المسرحي يلجأ إلى تضمين إرشاداته المتعلقة بالموسيقى والمؤثرات الصوتية، وقد وظفت الموسيقى منذ بداية المسرح، وأشار إليها أرسطو ضمن العناصر الستة للمأساة، فالأغنية هي تنغيم موسيقي، وبذلك فإن الموسيقى كانت ملازمة للكتاب المسرحيين، ففي الموسيقى والغناء وظائف درامية؛ لهذا عدها أرسطو ضمن العناصر الستة للمأساة (أرسطو،1973ص19). فالموسيقى تهيئ للحدث أو تتماشى مع الحدث، أو قد تستبق وقوعه، ف"الموسيقى هي التعبير عن أعماق الحياة". (البيضاني، 2012، ص36) لبلورة الصورة الدرامية المتخيلة، التي تتطلب لملمة أجزاء متعددة ومبعثرة ورصها معا، لتحشيد قوة أكبر في التأثير. فالموسيقى قد تهيئ لحدث كما هو حال نصوص شكسبير مثل: (يوليوس قيصر، مكبث) وغيرها، عندما تدور المعارك، فهناك أبواق وطبول تقرع وقد يحدد كاتب مسرحي، ضمن الإرشادات مقترحا نوعاً من أنواع الموسيقى.
إن خيال الكاتب الذي يرى الصورة الكلية للمشهد ويريد أن يجعله مؤثراً ومتغلغلاً في عقل المتلقي/القارئ، ومغذياً لمشاعره، فإنه يرتأي وضع الموسيقى، باعتبارها تختزل مشاعر وأفكارا قد لا يستطيع البطل البوح بها. وقد تستخدم الموسيقى بالضد من طبيعية المشهد، كما كان برشت يتقصد ذلك، لأنه لا يريد أن تحدث عملية الاندماج بين خطاب النص وخطاب المتلقي، فنظريته أسست على التغريب والملحمية، وهو بذلك يريد شدا عقليا ومراجعة نقدية وتفكيرا لا يتوقف، لهذا فإن وظيفة الموسيقى عند برشت باتت مختلفة، وهو بهذه الحالة يهيئ لسينوغرافيا نصية مختلفة عمن سبقهم، لأنه يتقصد الاشتباك بين: فضاء النص وفضاء المتلقي/القارئ.
أما المؤثرات الصوتية، فإن النصوص المسرحية لا تخلو منها، كدوي قنبلة وأزيز طائره، وهدير ماء، وهسيس الحقول، وغيرها من المؤثرات التي يضمنها الكاتب نصه ليزيد من سينوغرافيا النص، ويجعله قابلا للإدراك، لهذا فإن صفقة باب في نهاية نص (بيت الدمية) لمؤلفها (إبسن) كان لها أثر أكبر من كونها صفقة باب عادية، بل جعل منها رمزا، فالبطلة (نورا) أعلنت تخليها عن حياة مليئة بالفشل والخداع والإحباط، إلى حياة أخرى أكثر أمناً ووضوحاً وإنسانية. وبذلك فإن انقلاب البطلة يقرن بصفقة الباب. وفي مسرحية (قطة على سطح صفيح ساخن) لمؤلفها (تنسي وليامز)، ينتهي الخلافات بين الزوجين بطلي النص، بالصلح، ويشير المؤلف تطفأ الأنوار ويسمع صرير سرير الزوجين. وهذا المؤثر الصوتي اختزل الصراع بين الزوجين، والنهاية أكدت على تصالحهما عبر تلاحم جسديهما.
وقد يكون المؤثر الصوتي غير واضح، ولا يشير إليه الكاتب علانية كما في نص (كلهم أبنائي) لمؤلفها (آرثر ميللر) فالحدث والحوار وصراع الأبطال، كله يشير إلى الحرب، وكان أزيز الطائرات والانفجارات حاضرة في حوارهم، بل إن الحوار جاء ترداداً لتلك الأصوات المزمجرة في الحرب؛ لهذا فإن كل كلمة كانت وجهاً من أوجه تلك المؤثرات الصوتية التي لم يشر إليها الكاتب علانية في نصه، إلا أن قدرة المتلقي باستشفاف المؤثرات الصوتية التي كانت بمثابة أس للحوار. وفي نص (بستان أشجار الكرز) للكاتب نفسه، يوظف المؤلف طرقات الفأس لقطع الأشجار من خارج المنظر، ليعطى دلالة على أن المتغيرات قائمة، وأن القلع حتمي لهذه الحياة الساكنة والبائسة. ويلاحظ أن الموسيقى والمؤثرات تدخل طرفاً بإغناء السينوغرافيا النصية. وما تنوع توظيف هذه العناصر، واختلاف الكتاب المسرحيين، ألا دليل على عمق رؤية الكاتب، ودرجة وعيه الجمالي، وإدراكه الفلسفي ليصوغ فضاءً درامياً.
4- الأزياء والماكياج والقناع:
تعد الأزياء شفرة من شفرات النص، ويوظفها الكاتب لبعد نفسي واجتماعي وتاريخي وأنثروبولوجي، لهذا فإنها تقرن بالأبطال من جهة والحدث الدرامي من جهة أخرى.
وللأزياء وظائف تعزيز الحالة الشعورية وإبرازها بصورة أكثر دقة، فقد تكون أزياء الأبطال منسجمة، أو تتسم بالتناقض فيما بينهم، كما هو حال هاملت الذي ارتدى الأزياء السوداء، بينما ارتدت أمه -ومن في القصر- الأزياء المبهجة، وهذا التضاد اللوني في الزي يعكس حالة التنافر والتناقض بين عالمين، ويشير بطرق خفية لصراع قادم لا محالة. ومثلما يظهر هاملت الأب بصورة شبح مدجج بالسلاح، وكان ذلك إيذاناً بحرب ضروس لا تستثني أحداً. وفي الملك لير تكون الأسمال البالية التي يرتديها البطل، بقصد التمويه أو التنكر للتخفي والاختباء، كي لا يتعرف عليه أحد.
ويدخل الماكياج طرفاً بالتعبير عن الشخصية وأبعادها، بما يساعد على بلورة تصور ما عنها: عمرها، جنسها، وقوميتها. فضلا عما يساهم ببناء الحدث. وقد يوظف الماكياج في التعبير الدرامي، بصورة مميزة وفريدة، ما يكسب الماكياج وصفه كعلامة، ففي نص (الطابعان على الآلة الكاتبة)، كان خروج أحد البطلين للحظة، وعودته من جديد تكون ملامح وجهه قد تغيرت، كأن سنينا قد مضت، وبذلك فإن سينوغرافيا النص، اعتمدت على الماكياج بالتعبير عن حالة التكرار والملل وعدم حدوث شيء. إن التلاعب بالزي والماكياج يكون بمثابة بعد درامي داخل النص، ولهذا فإن البطل في نص (الغوريلا) عندما تقترب البطلة ميليدر من الفرن اللاهب، فإن ملامح وجه يانك تتغير، ويتحول إلى شكل مرعب، شكل استفز ميليدر، فأغمي عليها. فالماكياج جاء نتيجة الأنساق المجأورة، فغيرت ملامح الوجه. وقد يكون القناع واضحاً في التمويه، ففي التراجيديا اليونانية يُوحد القناع الوجه الإنساني، أي يمثل فقدانا لأي خاصية متفردة (إلياس، وحنان،2006، ص356). وكما فعل روميو، والذي وضع قناعاً ليراقص جوليت - ابنة أسرة كابوليت العدوة لأسرته، ووقع كل منهما بحب الآخر. وقد تقوم الأقنعة بتغيير ملامح الوجه بإرادة البطل، وكأنه يرسم صورة مغايره لإيماءات الوجه، وكأنه قد وضع قناعاً ليغير شخصيته، وهذا الأمر يحدث في كثير من النصوص عندما تتغير المواقف، كما حدث مع هاملت حينما واجه أوفيليا، صارخاً بوجهها بعد أن علم بإنها تتقصى أخباره لتعلم أباها، الذي بدوره ينقلها إلى كلوديوس، وفي لحظة المواجهة تحول هاملت من عاشق لأوفيليا إلى جلاد لها، مما أفزعها. إن الأزياء والماكياج والأقنعة، شفرات متعددة الأوجه ومختلفة التوظيف، وتساهم بتعميق وظيفة السينوغرافيا بوصفها تقنيات تدعم تقنية النص وتركيبه.
5- الحركة:
تعد الحركة مبدأ من مبادئ الحياة، وفي النص المسرحي، باعتبارها تعبر عن رؤية الكاتب، فيدرجها ضمن الإرشادات المتعددة التي تشكل طبقة النص الثانية، فالصورة الدرامية قد لا تبدو واضحة إن لم يعط الكاتب تفاصيل حركة البطل في الذهاب والإياب، والخروج والدخول، وأحياناً بالحركة الوصفية للأبطال، كأن يصفق أو يجلس أو يقفز وغيرها من الحركات أو الإيماءات المتنوعة. ففي نص (عطيل) لمؤلفه (شكسبير)، يبدأ ياجو ببث سمومه مشيرا إلى سيده عطيل بأن دزدمونة على علاقة بصديقه، ما يوحي بثبات خيانتها مع كاسيو، فإن انفعال عطيل وتأجج مشاعره الحادة، يدفعه للركوع ليؤدي قسم الانتقام منها، ونتيجة لمؤازرة ياجو له، يركع ياجو أيضا مساندا روح الانتقام عند سيده، فتدخل الحركة في نطاق الصورة إجمالاً، لتكون معبرة عن طبيعة البطل، وبم يفكر؟ وما هي رغبته؟ ذلك إن سعي الأبطال للتعبير عن أنفسهم هو ما يشغل الكاتب المسرحي. ففي نص (قصة حديقة الحيوان) يشير الكاتب (ألبي) إلى دخول جيري، بينما بيتر جالس على المقعد في الحديقة، إلا أن جيري يجلس عنوة إلى جوار بيتر ويزحزحه شيئاً فشيئا، وتتكرر الحركة ما يجعل بيتر متوتراً، معترضاً وساخطاً. إن الحركة على بساطتها شكلت علاقة فكرية، فالحركة والمقعد واندفاع جيري ودفاع بيتر عن أحقيته بالجلوس على المقعد، جعلت من المقعد علامة رمزية لمدلول أكبر من كونه مقعدا، وتدريجياً يتحول معنى النص المسرحي، إلى علاقة كلا البطلين بالمقعد وما يمثل لكليهما، والسيطرة على المقعد، تعني سيطرة على ما يغذي الحياة. لقد تحول إلى معنى السلطة التي تفرض وجودها بالقوة، ومن يجلس عليه، يكون قادراً على أن يتحكم بالعالم.
وفي نص (الخرتيت) لمؤلفه (يونسكو)، يظهر البطل مطارداً من قبل مجموعة بشرية نتيجة اختلافه معهم، وبذلك فإنه لا يريد أن يدجن ويصبح أسوة بالقطيع، ويرفض أن يكون خرتيتاً مثل البقية، حركة المطاردة يشير إليها الكاتب ليعبر بوساطة الحركة عن المعنى، فالحركة السريعة والاندفاع الشديد - المطاردة - تكون جزءاً لا يتجزأ من الصورة الدرامية، وأحياناً تكون الحركة تعبير عن أبعاد البطل وحالته النفسية.
وتأخذ الحركة مداها باكتمال الصورة الدرامية للأبطال والنص عامةً، فتنوع الحركة واختلافها يساهمان بتعميق سينوغرافيا النص، ففي نص (الكراسي) للكاتب (يونسكو)، نجد أن خيال البطلين يوحي بعدد من الكراسي كما يتخيلان، ولهذا فإن حركتهما كانت ضمن الازدحام، ولغط الضيوف فأصبحت حركتهما صعبة، وفي نص (إميديه) للكاتب نفسه، فإن حركة نمو الجثة المستمر، كان سببا باستحواذ الجثة للمكان، بحيث يدفع كِلا الزوجين - البطلين - لقذف جسديهما من الشباك.
لهذا تعد الحركة طرفاً بإعادة تكوين الصورة الجمالية وعمقها الفكري ودلالاتها التي تغني المعنى وتحركه أيضاً، بوصف الحركة صيغة تلاحم بين الأبطال من جهة والعالم المحيط بهم من جهة أخرى.
6- الصمت:
قد يكون الصمت الذي يشير إليه الكاتب، انتظاماً لما لا تقوله الشخصية البطلة، فما لا يقال، يكون مداه محصوراً بلحظة الصمت التي تجتاح الحوار أحياناً، وقد يكون الصمت قراراً غير معلن، وقد يقترن الصمت بحركة الجسد داخل نفس البطل، وما يلمّ به من انفعال ذاتي، وأحيانا قبل أن يشن البطل حربه على البطل المنأوئ، فالصمت يحمل في طياته حزمة من علامات الاستفهام، والتعجب، لهذا يعد الصمت سؤالاً لم يطرح علانية، ودهشة لم يتم الإعلان عنها، وقد يكون الصمت خوفاً مما يمكن أن يلاقيه البطل إن هو جهر برأيه وحدد موقفه، لذلك يكون الصمت ملاذاً أكثر أمناً من الإعلان عن الموقف، من أجل أن يدرأ البطل عن نفسه عواقب يتوقعها وخيمة، مثلما تلقت (كورديليا) عقابها في نص (الملك لير) حينما جهرت علانية بموقفها مما قاله أبوها الملك، فجاء رده حاسماً قوياً مجلجلاً. وبذلك فإن الصمت يعد ضمن ضرورات الحفاظ على النفس وعدم مواجهة العقبات التي قد تشل الحياة، لهذا يمثل "الصمت استجابة إما لرد فعل أو لنمط من التفكير، وغالبا ما يمثل البعد الداخلي للشخصية "(البيضاني، 2012، ص38). وقد تكون لحظة عدم المواجهة بين البطلين كما هو حال عطيل ودزدمونه في نص (عطيل) لمؤلفه (شكسبير) وهو يتهيآ لخنقها، فالزوجة مسجاه على سريرها نائمة ومن المؤكد أنها لم تدخل بحوار معه وهو يتقدم صوبها، فصمتها يعد صمتا جماليا، بينما حواره الداخلي كان مواجها بعناية كبيرة إلى دزدمونه التي يعشقها، وينوي قتلها بهدوء. إن الصمت الجمالي هو المساحة المتاحة للتعبير بين بطلين أو أكثر، فعطيل يبوح بغير المباح، وهي لا تصغي اليه قطعاً لكنها موجودة مسجاه على السرير، وبالتالي، فإن الحوار بينهما مقطوع تماماً، هذه المفارقة في تقنية كتابة النص، تشكل عمق تقنية توظيف السينوغرافيا في النص.
وقد يكون الصمت لعدم المعرفة، كما هو حال (نورا) في نص (بيت الدمية) التي بقيت صامتة طوال حياتها مع زوجها، صمت لا يلغي التواصل الاجتماعي، إنه صمت عدم إدراك حقيقة ما يجري حولها، ولم تهتم كيف ينظر إليها زوجها، كما هو حال (نورا). فالصمت جهل بالحقيقة، والقبول بالأوضاع كما هي، لكن ما إن عرفت وضعها وجهلها المطبق، حتى أعلنت موقفها، بعد أن تجلت حقيقة زوجها الذي بدا مرأوغا، وكل كلمة تطلقها بمثابة ردٍ على سلسلة الموقف الصامتة التي مرت بها، وكأنها توجه ضربة قاسمة لتاريخها المشترك لحياة زوجية فككتها نورا بعد أن وعت حقيقة نفسها، والأصح حقيقة زوجها.
وقد يكون الصمت اللحظة التي يطلب فيها تغيير الموضوع إلى موضوع آخر مختلف، فقد لا يستطيع البطل مجاراة الإصغاء إلى البطل المناوئ ولا حتى الاشتباك معه، لهذا فإن الصمت إعلان عن طلب تغير سدة الموضوع ووجهته، وكان بذلك إعلانا عن نفور داخلي، يشكل دبيباً بين المتحاورين. إن تقلبات أوجاع الأبطال واختلاف أهدافهم وسجاياهم، تساهم فعلياً بتشكيل العلاقة السينوغرافيا داخل حركة النص وبالتالي صورته. وقد يكون الصمت بمثابة القطيعة بين الأبطال، فلا تواصل أو أتصال بينهم، وبذلك يكون الصمت بمثابة المستنقع الآسن الذي يسحب بهجة الحياة وحيوتها إلى الركود. فالصمت الذي يكتسح حوار الأبطال ويتسيد الفضاء الدرامي، ويشكل سؤالاً غير معلن عن جدوى الحوار في الحياة ذاتها، سؤال في الوجود وعلاقة الأبطال بكل مستويات الوجود الدنيوي والميتافيزيقي.
وقد تكون الثرثرة وعدم التوقف والاستمرار باجترار الموضوعات صمت من نوع آخر، صمت يحمل رداء الثرثرة فليس هناك ما يقال، لكن البطلة تستمر بإطلاق أفكارها المتكررة وموضوعاتها المتعددة لا في موضوع واحد، بل موضوعات عدة. كما في نص (المستأجر الجديد)، فالحارسة تثرثر ولا تتوقف، بإعطاء ملاحظاتها وإعلان آرائها ومواقفها، وبذلك فإن العالم المحيط بها يكون امتدادا لثرثرتها، فالمنظومة اللفظية تفقد معناها وتتحول إلى قالب صوتي حسب، فيدخل طرفا في سينوغرافيا النص، وعليه، فإن هذا النوع من الثرثرة يعد شكلا من أشكال الصمت، ويقع في باب الصمت الجمالي، بوصفه مبنيا على علاقة غير مسببة، لكنها تحيل إلى عوالم أخرى، وتتخذ من الصمت دلالته ومن الشكل الفني تعبيرا، لهذا فإن سينوغرافيا النص تبنى على صيغ صمت متنوعة ومختلفة، سواء أكانت متقاربة أم خاضعة للقيمة الجمالية بالتعبير عن شدة الصمت وإيغاله في الحياة، وكيفية تبني الكتاب له.
7- السينوغرافيا الغائبة:
قد يبدو غريباً أن يكون عنصر سينوغرافي، على الرغم من عدم تواجده ضمن النص بصورة واضحة، طرفاً بتشكيل الفضاء الدرامي، ويتضح ذلك من خلال نصوص عدة. ففي نص (أوديب ملكاً)، تبقى الآلهة البعيدة والمنتقمة للبطل أوديب وذريته، تمثل سطوة وتفرداً وسحقاً لكل ما يمت صلة بأوديب حَدّ سحقه سحقاً. وفي (الكترا) للمؤلف ذاته. كان البطل الحقيقي هي الحرب المدوية والطاحنة بين الأخوين وتنتهي بمقتلهما، ويأتي قتل الكترا تردادا لهذه الحرب ويتبع ذلك موت أبطال آخرين (نعمان،2019،ص123). وفي النصوص المعاصرة، مثل (الدب) لمؤلفها (تشيخوف)، فإن الأرملة حزينة على زوجها المتوفى مع علمها بأنه كان يخونها مع نساء أُخريات، مع ذلك فهي تدافع عنه وتصد هجمات البطل المواجه لها. فهي بقيت أسيرة غيابه وارتأت أن تحيا وحيدة متجنبة كل مباهج الحياة، كل ذلك كان طمعاً بأن توصف بأنها المخلصة الوفية لزوجها المتوفى، وتلك مفارقة. فالقوانين الاجتماعية والأعراف كانت بمثابة البطل الذي يدخل بكل التفاصيل حياة الارملة. وفي نص (في انتظار جودو)، كان (جودو) البطل هو المهيمن على الرغم من كونه غائباً، فكل فعل ينهض به البطلان (أفلاديمير واستراجون) كان ترداداً للبطل الغائب، وكل حركة وحوار وتشظٍ بالحوار، هو نتيجة عدم مجيء جودو واستمرار غيابه. لقد بقيا معلقين بالبطل (جودو) وكأنه يمسك بهما على الرغم من عدم وجوده. وبذلك، فإن غياب البطل - شكل بعداً سينوغرافياً للنص.
المبحث الثالث: تحليل العينة
تم اختيار نص مسرحي للكاتب العراقي محي الدين زه نكه نه بعنوان(لمن الزهور؟) وعدد صفحاته (32) من القطع المتوسط، وشخصياته سبعة، ثلاث نساء وأربعة رجال، ومجمل الحدث تنهض به شخصيتان هما: الأم والابن.
سيتم التحليل على وفق ما اسفر عنه الإطار النظري وعلى النحو التالي:
1- ان عنوان النص المطروح بصيغة سؤال (لمن الزهور؟) فإن الكاتب ينوه ضمنا بأن الزهور قدمت إلى شخص لا يستحقها، لكن من هو الشخص؟ هذا سؤال آخر سيشغل بال القارئ، فيدفع للمتابعة لمعرفة الجواب.
والنص بفصل واحد ومنظر ووقت واحد، ويجري الحدث باللحظة ذاتها التي يفتح به الستار، فزمن الحدث، هو ما يحدث الآن ولم يكن هناك أزمنة متغيرة ولا منظار متعدد، إلا الزمن الماضي الذي يهيمن على الأم والابن معاً، ماضٍ بكل ما يحمل من بؤس وألم للأم.
2- أم وابنها الشاب يصلان مكاناً قريباً من بناية شاهقة تتوسطها حديقة في الصباح الباكر، وأثناء انتظارهما لصبية يحبها الابن، يجتران الحوار، ويتذكران تفاصيل قريبة وبعيدة ومنها أن الأم كانت تخرج من البيت ولا تقبل أن تقول أين كانت تذهب، على الرغم من إثارة الابن لهذا السؤال أكثر من مرة سابقاً، وها هي ذي تنهاه عن ذكر السؤال القديم - الأمر الذي صادف مرور امرأتين، أحداهما تجنبت خوض حوار مع الأم، أما الثانية فقد دهشت وسبب ذلك، أن تهما لحقت بالأم بعد أن فقدت زوجها الذي أخلصت إليه، إلا أن الألسن تنأولتها باعتبارها - قد انساقت لأهوائها، وهذا الأمر يثير الريبة في سيرة الأم التي تتألم، وتجبر نفسها على مجاراة ابنها الذي راح يجمع الزهور بعيداً ليقدمها إلى حبيبته التي ستأتي كما يظن، إلا أن المفارقة كانت بخروج ثلاثة رجال من البناية الضخمة، فتشير الأم إلى ابنها الذي ذهب يجمع زهور النرجس من التلة المحاذية، فيتقدم الرجلان، يسحبانه ويجرانه عنوة، ويدخلانه البناية، والأم تشهد الأحداث دون أن تحرك ساكنا، في الوقت الذي أخذ الابن يطلق صرخات مؤلمة، وباقة النرجس التي جمعها تسقط من يده أثناء سحبه بالقوة.
وأشار الكاتب إلى الوقت صباحا، لكن الحوار وانفعالات الأم وقلقها جعل الإحساس بالوقت مختلفا، من هنا تم إشاعة الظلام، وسط النور، ما يخلق تقاطعاً لونياً بين ما يدرك، وما يحس به الابن. كما أن سعة المكان - البيئة المادية - استدعت أمكنة مغلقة. فالانفتاح والسعة لا تلغي استدعاء الأمكنة البعيدة المستقرة بذاكرة الأم، وبذلك، فإن السينوغرافيا سواء في الإطار اللفظي الذي ينطق به كِلا البطلين، أو في الإرشادات التي كانت توسع من أفق المنظر / الحديقة، الأشجار، الزهور، الحمائم، وحركة الابن وهو يطارد الحمام، لا يلغي قلق الأم، وإحساسها الكامل بالخوف وهي تداري وضعها، مثلما تداري وضع ابنها الذي تحأول أن تجذبه إلى عالم خيالي، كما الحال في ابتكارها لصبية تحب ابنها الذي لم يرها، ولم يتعرف على ملامحها لكنها تقنعه بتخيل صورة الصبية.
3- وأشار الكاتب ضمن الإرشاد بأن الأم في مطلع الأربعين أنيقة جذابة، قيادية، لها قدرة بإخفاء ما تضمر وكأنها تمرست على هذا السلوك لحماية نفسها، ولتحقق ما تريد. أما الأبن فهو في العشرين من عمره، بدين، لم يزل طفلا بسلوكه، متأثرا بأمه، وأحيانا ندرك ثمة خطبا في عقله. والجدير بالتنويه أن الكاتب لم يمنح البطلين أسماء، بل أطلق صفات بقصد التعميم من جانب، وإمكانية تأويل البطلين من جانب آخر بوصفهما فكرتين. وكذا الحال مع المرأتين والرجال الثلاثة فلم يطلق عليهم أسماء، بل حافظ على تواجدهم بوصفهم أفكارا اجتماعية وامتدادات سياسية..
4- أكد الكاتب على رؤية كلا البطلين للمكان. عندما يتحأور الابن مع أمه، يعجب كيف ترى المكان جميلاً فتقول واصفةً طبيعة السينوغرافيا وتقول: "انظر تأمل.. فثمة زهور ورياحين.. وأشجار عاليات باسقات. وعصافير تزقزق وطيور تغني تشدو بفرح ونشوة... ووو. شمس بشمس دافئة - تغمرنا بحنان والفة "(ص149). يلاحظ أن هذا الحوار وصفي لطبيعة السينوغرافيا داخل المنظر، فالحوار حمل تلك العناصر وأعاد انتشارها وعلى لسان الأم.
" (كما تخاطب نفسها) حقاً.. الصورة.. تخفف ألم الفراق أحياناً"(ص160).وقد وردت إرشادات عدة لتقوية الحوار، أو لإظهار كيف يكون معنى الحوار، وعلى سبيل التوضيح يورد الكاتب مع الحوار: برقة، بألم، ترنو إليه بحنان، وغير ذلك ما يدعم الحوار الملفوظ. في لحظة ود يداعب الابن خصلات شعر أمه وفي ذهنه، الصبية فتستفز الأم وتغضب وتصرخ:
"الأم: (تنتفض) لا (تدفعه عنها) لا شأن لك بشعري
الابن: (مصعوقاً) لماذا؟.. يا ماما.. ماذا جرى؟
الأم: لا تلمسه.. لا تلمس شعري.. أبداً
الابن: ماما.. إني.. إني (يعجز عن الكلام.. يتشبث بيدها.. يمسك أناملها) أنا..
الأم: (تجر يدها.. بانفعال) ولا.. أي جزء مني.. لا تلمسني".(ص ص 172-173)
هذا الانفعال غير المتوقع، لو قُرن بحوار المرأتين عن سيرتها، وارتبط بعلاقتها بالرجال الثلاثة، وإخفائها للحقيبة، وتسليمها ابنها للرجال. يشكل بعداً في ثنايا الأم، التي أحبت زوجها، لكنه غيب بالسجون ويحتمل أنه لن يرى النور، والأم حافظت على نفسها على مدى السنين، إلا أنها الآن تتعأون مع القتلة. كل ذلك شكّل جستا انفعاليا، وكأن الابن أخترق ما تحسه، لقد باعت الأم نفسها، لكنها لا تريد أن يدرك الابن هذه الحقيقة التي تعرفها هي عن نفسها. إن بنية السينوغرافيا، هي تنظيم جمالي وفكري، يساهم بلملمه أطراف العناصر، المرأة برداء أسود ووشاح أسود، تلقيه على الكرسي الأبيض لهذا جاءت، ما يشكل بعداً لونياً متناقضاً، وهذا يعمق البنية العميقة في السينوغرافيا، التي تشكلت تدريجياً من خلال الوقت الذي كان صباحاً، لكن فكرة الليل/ الظلام، كانت دائمة الحضور، وفكرة التمزيق الاجتماعي الذي حَلّ بالوطن نتيجة الحروب الطاحنة، أو نتيجة الوضع السياسي المهيمن بقوة على الحياة. ولا يخفى أن النص نشر عام 1985 وهذا يعني أن الكاتب شهد التحولات التي مرت بالعراق والسياسة والحروب التي عصفت به، فالعراق كان ضمن ظروف حرب الثماني سنوات، وهذا الأمر وحده، كان سبباً بعسكرة الحياة، ما جعل المرأة تسلم ابنها لجهة غير معلنة، لكنها كما يظهر جهة حكومية، أما باقة الزهور التي جمعها الابن من التلّة، فقد جمعها ليقدمها إلى الأم، ثم سُحب بقوه إلى داخل البناية، والتي هي إما سجن كبير، أو مصح عقلي، أو مركز اعتقال، فالكاتب لم يشر علانية إلى ذلك، لكن الأرجح أنها كانت معتقلا للشباب، وبهذا الصدد تقول الأم" ما الذي سيحل بي .وقد باتت حياتي أصعب من الموت.. أصعب من الموت.."(ص177). أما العلاقات الاجتماعية، التي مالت إلى الانسلاخ عن الطبيعة السوية لأبناء المجتمع، فإنها من نتائج الحرب التدميرية التي فككت بنية الحياة الاجتماعية وحطمت ركائزها المتينة.
إن فاعلية الإرشادات وحيويتها، تكمن في أنها تعمق إحساس الأم والابن، لهذا فإن لحظتا صمت سادتا حوار الأم، وهي لا تعرف بم تجيب ابنها من جهة، ولأن لها خطة لم تعلنها بالمساهمة بتسليمه والتخلص منه، يدل على أن الإرشادات تدعم المنظومة اللفظية، وهذا الأمر سرى في كل مفاصل النص، وقد حأول الكاتب أن يجعل من فكرة ضياع الأم، في متاهات الحياة ما يدفعها لتسليم الابن لرجال السلطة، بعد أن تعأونت مع السلطات وصارت جزءاً من ماكنة النظام.
5- يتشكل المنظر من بعض العناصر: واجهة بناية عالية مسدله الشبابيك المتعددة، وقد استولت على المنظر، وتشكل قوة ضغط للوهلة الأولى. وثانياً حديقة وزهور وحمائم وحوض ماء. ومقعد خشبي مطلي باللون الأبيض.
فعناصر المنظر هي: البناية، الحديقة، المقعد، تشكل موضوعات مختلفة، فالبناية تشكل ثقلاً ورسوخا، والحديقة انفتاحاً، والمقعد سؤالاً سرعان ما يتشكل عبر الحدث. إلا أن هناك عنصرا آخر مغيبا، يدخل طرفا في بناء سينوغرافيا النص ويكون قابلاً للتأويل وهو التلة، التي يمكن إدراكها عبر معطيات الحدث وحركة الأبطال، فالتلة محاذية للمنظر، وتصطف التلة مع المكان الملموس أيضاً. والتلة تشير إلى تضاريس الطبيعة في إقليم كردستان ذاتها، وهي إشارة لم يتجلّ معناها، إلا بعملية الربط بين العناصر المكانية الثلاثة وهي: البناية، الحديقة. المقعد، التي يكون لها الدور الأكبر بتكوين المعنى. وقد ورد في النص عدد من الإرشادات ضمنها الكاتب نصه؛ ليعمق الصلة بين عناصر المنظر والأبطال.
الوقت: فالنور يستدعي الظلام، ما يدفع الابن للقول: "ماما.. أنا.. أخاف الظلام"(ص168) ويستمر الابن مبيناً شدة خوفه من الظلام حيث يقول: "في الظلام ..لا يظلون أناساً.. مثلي.. ومثلك وإنما.. يتحولون إلى أشباح.. مخيفة.. عيونهم تقدح ناراً.. يشقون طريقهم بين أكداس البشر.. بسكاكين طويلة.. حادة"(ص168).
6 -تعددت الإرشادات داخل النص، وقد ركز الكاتب على الأم، بوصفها من تقود الابن، ومن تخطط لشيء ما، لهذا فإن الإرشاد الذي حدده بارتدائها رداءً أسود، ووصف جاذبيتها، ليحدد الكاتب، أنها امرأة أنيقة تملك حضوراً، لكن مصدرها، الأم والابن.. مستمرين في مرحهما.. وإطلاق الضحكات"(ص165) قبل أن تبدي إحدى المرأتين رأيها بالأم، يصف الكاتب المرأتين: "فالمرأة الأولى في أواسط العقد الثالث. هذا التوصيف الدقيق، كان يتناقض، مع سلوك البطلة، الذي لم ينكشف إلا في نهاية الحدث. فالإرشادات تركزت على برم، وقلق وانفعال وصراخ الأم أثناء الحوار.. وكل إرشاد إنما هو لتعميق الملفوظ أو للإشارة إلى أبعد من ذلك، كما هو حال الإرشاد الذي قال فيه "تسرع بإلقاء الشال على المقعد، تغطيه تماماً. بينما تخفي حقيبة الملابس بقدمها تحت المقعد"(ص148)... إن ظهور المرأتين اللتين "تستوقفهما ضحكات، تتطلعان بدهشة نحو ذات زينة وبهرجة. تطلي وجهها بكميات كبيرة من المساحيق. تلوك قطعة لبان. بطريقة عابثة، تتغطى بعباءة سوداء، وإذا تنفرج العباءة تكشف عن ملابسها التي لا تتسم بالحشمة"(ص165). وقد ركزت الإرشادات على : العمر. الماكياج. الملابس غير المحتشمة. والعباءة السوداء. لقد وظف الماكياج والأزياء ببعدهما الاجتماعي من أجل خلق حالة من التناقض، ما ستقوله المرأة الأولى بحق الأم. وبذلك فإن الإرشاد دخل طرفا ليس بتحقيق الجو العام حسب، بل... بنفي ما سيرد على لسان المرأة الأولى، وما ورد بالإرشاد هو:( تضع العباءة على جسدها ويظهر فستان فاضح غير محتشم (ص165). إن الإرشاد يكشف عن البعد الاجتماعي للشخصية المتحدثة والمتحدث عنها.
والتفكك والانسلاخ بين الناس نتيجة من نتائج الحرب التي تدور في زمن كتابة النص.
والتلويح عن تناقض في بناء الصورة الدرامية بين المرأة الأولى غير المحتشمة، وما يرد على لسانها من طعن بالأم. إن ذلك يدفع المرأة الثانية لأن تتألم على الأم فتقول متألمة:" اللهم.. غفرانك.. لعل الحاجة والعوز..آه . . ياشقية ..يا ..بائسة.. كان الله بعونك". (ص167). لقد كان حوار المرأتين تعميقا لصورة الأم، وكشفا تدريجيا، واستعدادا لتقبل انقلابها على ابنها في نهاية الحدث. إن وجهات النظر مختلفة بالأم؛ لهذا فإن ما تقصه المرأتان، حول انحراف الأم بعد صومعة عاشتها بالإخلاص لزوجها - في الأقل أمام الناس - ويظهر تحولها، بأنها ترفض أي سؤال من الابن يوجهه إليها مثل: أين تذهب وتتركه وحده، المسألة هذه تؤلمها، والسؤال ذاته، يعجل بسؤال آخر، لمن كانت تخلص وهي تتحمل شظف العيش، لزوج، غدرت به. وفي زأوية اخرى من النص واستخدم الإشارة في الإرشادات كان تقول الأم لأبنها:" صورتك.. هنا (تدق على قلبها) وهنا (تشير إلى رأسها) وأمام عينيّ أرى الدنيا من من خلالها".(ص161). لكن في الحقيقة، إن هذا الحب لم يستمر، ففي قرب نهاية النص سلمته للرجال الثلاثة وهو يصرخ، وإن بكت الأم وتعذبت، لكنها أرادت أن تتخلص منه فسلمته بإرادتها للرجال الثلاثة.
7- حينما تدخل الأم وتقترب من المقعد الأبيض "تسرع بإلقاء الشال على المقعد، تغطيه تماماً.. بينما تخفي حقيبة الملابس بقدمها تحت المقعد" (ص148). هذه الحركة التي أدتها الأم، وهي تتغافل عن ابنها، تؤكد ما تؤول إليه النهاية، والكاتب حدد موقف الأم من الوهلة الأولى. فالمرأوغة التي برعت بها الأم سنتلقى نتائجها لاحقا. وحركة الابن وهو يطارد الحمائم، التي عبرت عن طفولة، بينما حركة الرجال الثلاثة التي تميزت بالقوة والصرامة جاءت منسجمة مع سحب الابن بالقوة (ص177)، وحركة الابن المتسمة بالبراءة وهو يمسد خصلات شعر أمه. إن دوافع حركة الأبن جاءت منسجمة مع تطلعه للقاء الصبية التي لم ير منها إلا صورة وهمية صنعتها الأم، وقد ضمن الكاتب بإرشاداته الحركة التي تنهض بها -علامات اللغة الشخصيات كافة.
8- لم يشر الكاتب بإرشاداته إلى الصمت إلا مرتين، والملاحظ ظهر صمت من نوع آخر، صمت غير معلن جاء نتيجة الأحداث، وأبعاد شخصية الأم باتفاقها مع رجال السلطة-الرجال الثلاث- قرب نهاية النص، ظهر أنها كانت طيلة حوارها مع ابنها الذي امتد عبر(27) كانت تخفي بقوة ما تضمر لابنها، وكل ما دار، يعد من باب الثرثرة التي تشكل قوالب صوتية لا قيمه لها وحين يظهر الرجل "سيدتي.. جئنا من أجل.. ".(ص174) وبضجر وانزعاج تجيب الأم "لم أعد أدري خذوه..وكفوا عن تعذيبي" (ص 174). وتكون القطيعة الاجتماعية بين الأم والمرأتين اللتين تعرفانها، رفضت الأولى أن تحأورها المرأة الثانية وسحبتها إلى الموقف ذاته.
"الأولى: لا ..لا..تقتربي منها..
الثانية (بدهشة) لماذا؟
الأولى (تلوك قطعة لبان) إنها امرأة غير صالحة". (ص166).
وفي زأوية من حوار المرأتين والذي تشير فيها المرأة الأولى، إلى أن الأم "لتعمى عيني إن كنت أقول شيئا من عندي، الناس.. الناس.. يقولون.. ومنذ فترة ليست بالقصيرة. قد عادت إلى ..إلى ".(ص166). بينما المرأة الثانية تقول :"إلى..إلى. (تشير إلى مكان مجهول. بالم ونفور).(ص166)، ويظهر أن ذلك يشير بطرف خفي إلى العلاقات الاجتماعية التي قطعتها الحرب، فالقطيعة مع الأم جاءت بعد ارتمائها بأحضان السلطة.
9- لهذا كان الكاتب يستخدم النقطتين أثناء الحوار أو بعد الانتهاء، وكان شيئاً ما لم يقال، وعلينا استدراك ذلك. لهذا فقد اعتنى الكاتب بعلامات اللغة: الفاصلة، والنقطتين، وعلامة السؤال، والتعجب، ليشكل سينوغرافيا الحوار - في خضم لحظات الجدال الحواري بين الأم وابنها، أو بين المرأتين، أو بين الرجال الثلاثة والأم.
10- لقد برزت شخصية الصبية في حوار اللأم والابن وزج بها بالصورة الدرامية، وإن لم تحضر، كما وصف الابن الصبية التي لم تظهر أبداً إلا من خلال الحوار عنها، إذ يصفها الابن قائلاً: "الصبية الحلوة الجميلة.. ذات البشرة الوردية الرقيقة.. والشعر الناعم والقامة الرشيقة"(ص151)، وكلما تطرق الأبن في حواره للصبية، فإن الأم تزيد من شده اليها.
الأم - طبعاً.. طبعاً.. تسامحك
الابن - يعني.. يعني.. هي الأخرى.. تحبني.. تحبني مثلك؟
الأم - نعم.. نعم..
الابن - مع أنها لم ترني.. ولم أرها.. حتى الآن؟" (ص157). صنعت الأم صورة الصبية في نفس ابنها، لقد رسمتها ليزداد قناعة بوجودها، لهذا فهي تنسى، فالقلق قد سيطر عليها، قلق مزدوج، بين ما تريد فعله لأبنها، وما يريده :
"الابن - الصبية يا ماما.. الصبية الحلوة..
الأم - طبعاً.. طبعاً.. تسامحك
الابن - يعني.. يعني.. هي الأخرى.. تحبني.. تحبني مثلك؟
الأم - نعم.. نعم..
الابن - مع أنها لم ترني.. ولم أرها.. حتى الآن؟"(ص157). وتظهر إشكالية صورة الصبية، بوصفها من نسج خيال الأم، لتخلق من ابنها رجلاً محبوباً، لهذا، فحين يطلب منها الابن أن تعلمه أن يتخيل الصبية، تفز الأم، أما صورة الأب فقد تكررت على لسان الأم فتقول محتدمة: "كنت أحس أن نهاري تافه.. ليلي تافه.. حياتي كلها تافهة بلا معنى ولا طعم.. إذا يفارقني يوماً واحداً" (ص153). يلاحظ أن شخصيتي الصبية والأب، أخذتا بالظهور في الفضاء الدرامي، فلم يعد الحوار بين الأم وابنها منفرداً، بل دخلت كلتا الشخصيتين في حوارهما، من جهة وتصميم الحدث من جهة أخرى، وتدريجياً سيتم اكتشاف الخفي وغير المعلن فقد تكدست مشاعر النفور بداخلها ، بعد أن هيمنت الصبية والأب على كلا البطلين.
أما الأمكنة فقد تميزت بالسطوة في حوار الأم مستذكرة مكان اللقاء الأول مع زوجها "إنه مكان بغيض كريه.. يخنق الأنفاس.. تملأه العتمة"(ص154). ويلاحظ، أن الأمكنة البعيدة، تدخل طرفاً بما يحدث للأم، إنها تحس بالاختناق، والقلق، والخوف على الرغم من سعة فضاء المنظر وتنوعه، إلا أن الأم، أسيرة تلك الأماكن البعيدة التي وقعت تحت رحمتها، وصارت جزءاً من عفونة تملأ أنفاسها. إن السينوغرافيا النصية للمكان البعيد، صارت تجثو على روح الأم، وانغلاق تلك الأمكنة جعل من الأم مغلقة، مرتهنة، وضائعة؛ لهذا فإن أيّ ذكر لتلك الأمكنة، يعد استذكارا لتكبيل حريتها، بكلمة أخرى، موت حريتها التي فقدتها وتفتقدها، وصارت تجثو على روح الأم، فانغلاق تلك الأمكنة جعل من الأم مغلقة، مرتهنة، وضائعة؛ لهذا فإن أيّ ذكر لتلك الأمكنة، يعد استذكارا لتكبيل حريتها، بكلمة أخرى، موت حريتها التي فقدتها وتفتقدها، وهذا ما سيتم الكشف عنه لاحقاً، فضلا عن تحول آخر لم تعلنه الأم بوصفها انحرفت عن جادة الصواب، وقد لاكتها الألسن، بعد أن كانت مخلصة لزوجها الغائب، وكما هو معروف عنها منذ سنين، إلا أنها تحولت من غير أن تعلن ذلك، فصارت لها حياتها السرية الخاصة، التي تدافع عنها وهو ما يؤكد تخلصها من ابنها.
المبحث الرابع :النتائج ومناقشتها.
بعد إنجاز الدراسة ظهر عدد من النتائج وهي:
1- يشكل المنظر، نقطة انطلاق الكاتب بتصميم سينوغرافيا النص ويشكل البيئة الحاضنة للحدث والأبطال معاً، ويشكل علامة قابلة للقراءة المتنوعة، عبر عناصر المنظر المتعددة.
2- يقترن الوقت بالمنظر، في تنضيد شفرات، قابلة للقراءة، وأخرى تبقى غامضة، فالعمارة بستائرها الداكنة، صار لها معنى أكبر من كونها بناية من خلال خروج الشخصيات الثلاث منها، وبالتالي قرنت شخصية الأم بانتمائها لمن يعملون فيها.
3- إرشادات الكاتب لزي الأم، الزي الأسود كان تعبيرا عن طابع الحزن المتقاطع مع اللون الأبيض الذي كان عليه المقعد وبذلك ظهر التناقض اللوني بين زي الأم وشالها الأسود الملقى على الكرسي باللون الابيض، ما أتاح ظهور معنى آخر للكرسي.
4-اشتغل الصمت بوصفه تعبيرا عن تقلبات شخصية الأم العينة بين تأرجح الأفكار وتضارب المشاعر التي تنتابها، بين: حبها لابنها من جانب، ورغبتها بالتخلص منه من جانب آخر، لهذا كان الصمت ضمن سينوغرافيا.
5-ان خروج الابن مبتعدا عن المنظر/ المكان، كان دالاً لقضية الحرية المختنقة، وفيها إشارات سياسية لوضع كان مضطرباً في البلاد حينها، فإشارات النص باتجاه إقليم كردستان ولطبيعة جغرافية الإقليم، ما استدعى أن تدخل الاماكن المحاذية في سينوغرافيا النصية.
6- شكل النص دخل طرفاً بتشكيل سينوغرافية، لهذا جاء نمو الحدث مرتبطاً بالزمن، فما يحدث، يحدث الآن، وهو زمن الحدث، ولا يدخل الزمن الماضي، إلا ليعمق الوعي باللحظة الآنية التي يمر بها الأبطال.
7- تدفق صور الماضي في واستحواذها على مشاعر وأفكار كلا البطلتين، فالماضي المؤلم يطل على ما يجري، إنه شاهد وإن كانا البطل غائبا لكنه حاضر، فالبطل- غائب، عن الحياة، أو لا يعرف مصيره.
8- ظهر تفاعل كلا طبقتي النص في العينة، فالإرشادات تؤكد الحوار وأحياناً يكون الإرشاد مجرد إشارة لما سيحدث، فقد كان الإرشاد إشارة لمتغير تدركه الأم، ولا يدركه الابن، لهذا فإن إرشادا يدرجه الكاتب عن قلق الأم، وعصبتيها ونفورها حيناً، أكدته نهاية النص حين سلمت ابنها لرجال السلطة، ورغم رفض الابن أن يسحب بالقوة، إلا أن الأم قد أبرمت اتفاقا مع رجال السلطة، لقد كانت متفقة معهم لسحبه وأخذه بعيداً.
9- كانت الحركة على صيغتين وهما: حركة الحدث كما تجلى ذلك في العينة، فالحدث يجري، لكن المفاجأة تكون في نهاية النص، فقد كادت الأم أن تغير رأيها في اللحظة الأخيرة إلا أنها تراجعت، وتسمرت في مكانها، لا لتودع ابنها، بل لتودع نفسها، فقد فقدت إنسانيتها بصورة تامة. أما حركة الأبطال في الانتقال من موضوع إلى آخر، أو الجلوس والنهوض والمطاردة، فكانت منسجمة مع طابع الشخصية الدرامية، وتعبيرا جماليا، أما الأم فقد بقي التوجس يملأ نفسها وهي تجاري ابنها بالحوار، وانتظار الصبية التي يحبها وهي تخفي ما تضمر له من اتفاق مع الرجال الثلاثة، وسحبه إلى مكان آخر يكون فيه مصيره مجهولاً.
10- شكلت طبقتا النص تلاحماً فيما بينهما، واستخدم كلا الكاتبين علامات الترقيم بصورة تجعل المعنى أكثر وضوحاً.
الاستنتاجات: ظهرت بعض الاستنتاجات:
1- تقنية كتابة النصوص المسرحية تقرن طبقتي النص معاً، بحيث تعزز الواحدة الأخرى.
2- ارتبطت التقنيات في النص المسرحي، وشكلت صورته الدرامية.
3- ظهر أن بعض التقنيات تساهم بصورة فعلية بتكوين الحدث.
4- شكل النص، يشير إلى طبيعة المعالجة لسينوغرافيا النص.
5- الحركة على صيغتين هما في: الحدث الدرامي، وحركة الأبطال.
6- يشكل الماضي قوة مضافة لتعجيل ما يحدث الآن في سينوغرافيا النص.
7- السينوغرافيا الغائبة شكلت حضوراً فاعلاً وطغت على البطلين.
8- تنوعت السينوغرافيا النصية من تقنيات متعددة؛ ما صاغ تفاعلاً حياً بينها.
قائمة المصادر والمراجع:
الكتب:
ابن ياسر، د. عبد الواحد (2011) حياة التراجيديا- في فلسفة الجنس التراجيدي وشعريته، منشورات الاختلاف، الجزائر.
أوبر سفيلد، آن (د.ت) مدرسة المتفرج، تر د. حماده إبراهيم، مراجعة د. حمادة إبراهيم، أكاديمية الفنون، القاهرة.
أرسطوطاليس (1973) فن الشعر، تر عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت.
البيضاني، د.حكمت (2012) الصوت في السينما والتلفزيون، دار الخلود للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
نعمان، د. منصور (1999) فن كتابة الدراما للمسرح والاذاعة والتلفزيون، دار الكندي للنشر والتوزيع، اربد.
الياس، د. ماري ود. حنان قصاب حسن (2006) المعجم المسرحي- مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، ط 2، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت.
المجلات:
أسعد، سامية أحمد (1980) الدلالات المسرحية، مجلة عالم الفكر، المجلد العاشر، العدد الرابع، الكويت.
حسين، فلاح كاظم (2010) عناصر سينوغرافيا العرض، مجلة الأكاديمي، العدد 56، جامعة بغداد.
زيد، سالم سليمان (د.ت) السينوغرافيا بين لنظرية والتطبيق- مسرحية (نزهة) انموذجا، مجلة كلية الآداب، العدد95، بغداد.
الغيث، د. عبد الله حسن (2012) السينوغرافيا مفهوما ولغة مسرحية، مجلة العلوم والثقافة، المجلد 13، العدد1، جامعة السودان.
نعمان، د.منصور(2019) جذور التعبيرية في النصوص الشكسبيرية، المجلة الاردنية للفنون، مجلد 12،عدد 3،أربد.
فون، مارسيل فريد (1993) فن السينوغرافيا، مجلة السينوغرافيا اليوم،ترحمادة ابراهيم، مهرجان القاهرة التجريبي، وزارة الثقافة والفنون، القاهرة.
المسرحيات العراقية:
زه نكه نه، محي الدين (2011) لمن الزهور؟ ومسرحيات أخرى، دار الحوار اللاذقية.
المسرحيات الأجنبية:
أبسن، هنريك (2013) مسرحية بيت الدمية، تر سمير أحمد الشريف، وزارة الثقافة، بغداد.
أونيل، يوجين (1981) مسرحية الامبراطور جونز والغوريلا، تر د. عبدالله عبد الحافظ، د د.محمد إسماعيل الموافي، مراجعة د. طه محمود طه، العدد137، وزارة الاعلام، الكويت.
أولبي، إدوارد (1971)، مسرحية قصة حديقة الحيوان، تر علي شلش، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة.
أونسكو، يوجين (1975) مسرحية الخرتيت، تر وتقديم حماده إبراهيم، مراجعة سعيد عطية أبو النجا، وزارة الاعلام، الكويت.
تشيخوف، أنطوان (1967) مسرحية الدب، تر نجاتي صدقي، ط2، دار المعارف، القاهرة.
تشيخوف، أنطوان (2006) مسرحية بستان أشجار الكرز، تر لينا منصور، دار مكتبة الهلال، بيروت.
برخت، برتولد (د.ت) مسرحية السيد بونتيلا وتابعه ماتي، تر وتقديم د.عبد الغفار مكأوي، سلسلة مسرحيات عالمية 21، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة.
بيكيت، صمويل (1970) مسرحية في انتظار جودو، تر د.فايز اسكندر، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة.
جوركي، مكسيم (1971) مسرحية البرجوازيون، تر وتقديم أبو بكر يوسف، مراجعة ماهر عسل، الهيئة المصرية العامة، القاهرة.
رايس، المر (د.ت) مسرحية الحالمة، تر أسما حليم، مراجعة وتقديم كامل يوسف، سلسلة، روائع المسرح العالمي 57، الدار المصرية للتأليف والنشر، القاهرة.
سوفوكليس (د.ت) مسرحية: أوديب الملك، أوديب في كولون، ألكترا، ترجمة وتقديم د. علي حافظ، سلسلة من المسرح العالمي، وزارة الإعلام، الكويت.
شكسبير، وليم (1986) مسرحية عطيل، تر جبرا إبراهيم جبرا، دار المأمون، بغداد.
شكسبير، وليم (1986) مسرحية هاملت، تر جبرا إبراهيم جبرا، دار المأمون، بغداد.
شكسبير، وليم (1978) مسرحية الملك لير، ط2، تر جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.
شكسبير، وليم (1983) مسرحية روميو وجوليت، تر غازي جمال، مكتبة النهضة، بغداد.
شكسبير، وليم (د.ت) مسرحية مكبث، تر جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
شيرجال (1973) مسرحية الطابعان على الآلة الكاتبة، تر تماضر توفيق، تقديم د. على الراعي، مراجعة د. وداد حماد، سلسلة من المسرح العالمي، وزارة الإعلام، الكويت.
كنجلي، سيدني (د.ت) مسرحية ظلام الظهيرة، تر عبد الرحمن سامي، مكتبة مصر، القاهرة.
يونسكو، يوجين (1975) مسرحية المستأجر الجديد، اللوحة، الخرتيت، تر وتقديم حماده إبراهيم، مراجعة، وزارة الإعلام، الكويت.
0 التعليقات:
إرسال تعليق