حينما ينتصر العرض والجمهور معاً مسرحية ( فاطمة ) أنموذجاً
مجلة الفنون المسرحية
عدي المختار / كاتب ومخرج مسرحي
فقدت كل اشكال الفرجة المسرحية جمهورها تباعاً لأن المشتغلين فيه ( اي المختصين + الطارئين عليه ) شطروه الى نصفين ، مسرح نخبة ومسرح تجاري ، الاول عاش عزلة كبرى وبات جمهوره من النخبة والمسرحيين انفسهم ومضى يدور حول نفسه ، والثاني ينتعش هنا وهناك وجمهوره من السذج الذين يرتادوه من اجل الضحك والاسفاف لا اكثر ، إلا مسرح ( التشابيه والتعزية ) ظل على مدى قرون يحافظ على زخم جمهوره الذي كان يرتاده من كل حب وصوب من فرط رغبة بمعرفة الحقيقة دون رتوش ومطيبات الحداثة المفرطة.
• المسرح للناس
حينما تحضر أي عرض مسرحي يقام في محافظة كربلاء المقدسة تندهش مما تراه من زخم جماهيري فاعل، فهنا لا يحضر احدهم بمفرده بل العائلة كلها تأتي معه وكأنهم على موعد مع عرض سينمائي مثلما في السبعينات , فهم هنا يعدون هذه العروض بديلاً ناجعاً عن مسرح (النخبة والتجاري )،ومعادلاً صائب لمسرح التغريب او مسرح التطريب .
هذا السلوك المجتمعي المسرحي في محافظة كربلاء المقدسة لم يأتي اعتباطاً بل جاء بجهود كبيرة ومضنية افتتحتها العتبة العباسية المقدسة بخمس مهرجانات مسرحية بعيد عام ٢٠٠٣ , واستمرت بها فيما بعد العتبة الحسينية المقدسة عبر مهرجان الحسيني الصغير لمسرح الطفل ومهرجانات وعروض شعبة المسرح المعاصر .
فهنا في كربلاء تتجلى عبارة ( المسرح للناس ) بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، فما قدم على خشبات المسرح في كربلاء المقدسة برعاية كريمة من العتبتين المقدستين منذ ٢٠٠٣ وحتى الآن كان يُجنى ثمارهُ سلوكاً مجتمعياً ورُقياً معرفياً وصدى راجع ملموس .
• رسالة العرض
من هذا الفهم ( المسرح للناس ) جاء العرض الأخير لمسرحية ( فاطمة ) الذي قدمته شعبة المسرح المعاصر في العتبة الحسينية المقدسة على هامش مهرجان كوثر العصمة الثقافي الدولي الثالث في قاعة البيت الثقافي على مدى يومين بحضور جماهيري معتاد في كربلاء المقدسة وحدها دون غيرها من المحافظات الاخرى ، فعرض (فاطمة ) كان عرضاً مسرحياً جماهيرياً بإمتياز ، وكيف لا وهو يطرح قلب المعنى وجدواه الذي يقف خلف أسمائنا ، واهم تلك الاسماء اسم سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام ) للغوص في غمار معادلة كيف هُن , وما يجب عليهن كفواطم تختمن بهذا الاسم المبارك في زمن شره في الانحلال ، وأكثرها خطورة ما يحيط بالأسرة من مخاطر تريد حرفها عن مسارها المعتاد ، وتدنس الفطرة السليمة لدى المرأة تحديداً ، كونها حجر الزاوية لبناء الاسرة والمجتمع , لذا كانت اهداف العمل ( تربوية واسلامية ) نحن بأمس الحاجة لها اليوم اكثر من أي وقت مضى .
• صناع العرض
في عرض ( فاطمة ) حاول مؤلف العمل الكاتب (محمود احمد) ان يحفر بين ثنايا المعنى لتقديم مضامين واهداف سقطت سهواً من البعض ، ونجح في رسم مسارات /الانتباه /والتنبيه /والتوجيه/ بشكل مباشر دون ادغام او تأويل لما طرحه من مضامين في خطابه المسرحي.
فيما اجتهد مخرج العمل الفنان ( جاسم كردله ) في تقديم رؤية اخراجية لملمت شتات المضامين التي اكتنزت النص ومضى فيها بمسار موازي لمسارات النص الأفقية ، وباشتغال انتصر للمدرسة الكلاسيكية كثيراً .
أما البيئة السينوغرافية فكانت تضج حيوية وبهجة استمدت خيوطها اللونية المشعة من الخيوط الفضية لمعنى نص يحمل اسم ( فاطمة ) لهذا ابدع كثيرا الفنان الشامل (صادق مكي) في رسم ملامح العرض ببساطة سينوغرافيه عميقة المعنى.
لهذا لم يعني كثيراً شكل وقوالب الحداثة المسرحية التي يجب ان يرتديها العرض لدى صُناعه ، بقدر همهم الأكبر في ضرورة ايصال رسالة العرض التي يجب ان تصل للعائلة وهذا الجيل ، وقد وصلت بوضوح تام دون اطناب او تغريب ، ذلك لان هذا النوع من العروض المسرحية التي تستهدف جمهور العامة لا يحتمل أي اشتغال مسرحي نخبوي لاسيما وانه عرض نسائي بإمتياز .
• نجماتُ العرض
كعادتها جسدت الفنانة ( وداد هاشم ) دور الجدة بأداء متقن انسجم فيه الصوت مع الإيقاع الداخلي والفعل المسرحي الجسدي لتكون جدة حقيقية اداءً واحساساً ، كما انها نجحت في استفزاز ذاكرتنا وحنيننا من خلال استحضارها لشخصية جداتنا جميعاً .
فيما انعكست حيوية الأداء ورزانته للفنانة ( آيات الخطيب) على العرض الذي أضاف الأداء المتفرد لها زخماً كبيراً لمفردات العمل ، وجنبه الترهل او السكون والرتابة , كان الأداء الصوتي والكارزما عاملان مهمان في رسم ملامح الشخصية التي ادتها وابدعت فيها بشكل كبير .
أما اداء الطفلة (زينب الحوراء) لشخصية فاطمة في مرحلة الطفولة ، كان متفرداً هو الاخر وأشار الى مساحات مهمة لقدراتها الادائية التي ستمضي بها مستقبلا لتكون واحدة من اهم فنانات المحافظة ، لأنها في هذا العمر وهي تحسن ضبط الإيقاع الداخلي للشخصية بأحساس عالي وايمان كبير بالشخصية التي تؤديها .*
ولعل العلامة الفارقة في هذا العرض هي الفنانة الشابة ( فاطمة فيصل) التي جسدت دور شخصية فاطمة في مرحلة الكبر ، اذ تميز اداءها بتقنية هارمونية تصاعدية ( صوتاً / احساساً / فعل حركي ) لتفصح وبشكل واضح وصريح عن قدراتها الادائية المهمة .
اما الممثلات الشابات اللواتي لعبن أدوار ثانوية في العرض وهن كل من (نور الهدى علي - فاطمة الخطيب - أديان علي) فلا يختلفن عن الاخريات في الأداء المسرحي المتقن ، بل بالعكس أداء كل واحدة منهن الغى مساحتهن الثانوية في العرض وجعلهن حاضرات بشكل رئيسي وقوي في كل مفاصل العرض المسرحي ، وهذا ما تاح الى اكتشاف مواهبهن الادائية بشكل جلي والتي تبشر بولادة مهمة لممثلات متمرسات سينعشن الخشبات المسرحية في كربلاء المقدسة بعد سنوات من غياب العنصر النسوي فيه او تواضع حضوره في الاعمال السابقة .
ومايميز فتيات وسيدات هذا العرض هو التنوع الادائي لكل واحدة منهن وتفرد كل واحدة منهن بشخصية ادائية مختلفة عن الأخرى منسجمة معها ، حتى شكلن لوحة جميلة في الأداء ,كما ان العرض لم يسجل اداءً صوتياً نشاز وهذا ما يحسب للذكاء المخرج في تحديد طبقات الصوت وتوحيده للعرض ككل كي لا يجرح الاذن بالنشاز ، فضلا تميزهن جميعاً بسلامة اللغة وحسن مخارج الحروف والركوز المنهجي الدرامي لكل الشخصيات على الخشبة .
• مكملات العرض
مما لا شك فيه فقد لعبت مكملات العرض دوراً مهماً في نجاح العرض كان في مقدمتها تنفيذ الاضاءة لــ ( مصطفى وهاب السلامي ) ، وتصميم المؤثرات الصوتية وتفيذها لــ (وسام عبد السلام) و(حسين كاظم) ، والديكور الذي كان من صنع ( ازهر الاسدي) ، واختيار الازياء والاكسسوارات لــ ( ابراهيم المسلماني _ كرار الكناني) ، وتصاميم الكرافيك والداتا شو لــ ( سيف الربيعي - علي علاء) ، والتصميم المرئي والطباعي لــ (محمود احمد) ، وإدارة الإنتاج لــ( علي كاظم - عباس ياسر ) ، والإدارة المسرحية لــ ( إياد الدراوشة - محمد العبودي) كلها كانت عوامل نجاح وفرت البيئة الحقيقية لمتطلبات العرض المسرحي المتكامل ليكون بهذا البهاء والالق .
• كلمة أخيرة
وسط مانمر به من انعدام الدعم والرعاية الفنية للأعمال الإبداعية في المحافظات ، وتقام مثل هكذا عروض فهذا يعني اننا نقف امام مؤسسة تعي دور الفن في بناء الفرد والمجتمع ، وهو ليس بغريب على العتبة الحسينية المقدسة اطلاقاً فهي السباقة دوماً في رعاية الانسان قبل العمران.
ولمجرد ان يقام أي فعل ابداعي مهما كان ومهما كان من يقف خلفه فلابد ان نباركه وندعمه ، لذا فكل الشكر الى شعبة المسرح المعاصر ومن خلفها الداعم والراعي لهذه الابداعات ألا وهي العتبة الحسينية المقدسة، كما وكل الشكر لجنود الظل الذين يقفون وراء هذه الاعمال ويجدون ويجتهدون لإقامتها ( منتظر الطويل – زيدون السلطان ).
0 التعليقات:
إرسال تعليق