المكان هوية في مسرحية الحاكم بأمر الله
مجلة الفنون المسرحية
*أ.د. أماني فهيم
كتب السيد حافظ مسرحية "حلاوة زمان" والتي أطلق على أيضاً أسم "عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله" ، سرد فيها فترة حكم الحاكم بأمر الله ( ٩٨٥-١٠٢١م) ، مورداً فيها صفاته وصعوده من طفل صغير إلى حاكم يحكم القاهرة عاصمة مصر الفاطمية.
ولاشك أن الحاكم بأمر الله كان شخصية مميزة في التاريخ إذ أختلفت حوله آراء المؤرخين ما بين بطل تاريخي عبقري کما أشار محمد عبد الله عنان "عبقريته يجب أن تتبوأ في التاريخ مكانها الحق"(1)، وبين من أعتبره رمزاً لجنون الحاكم المستبد كما رآه المقريزي "جواداً ، سفاكاً للدماء، قتل عدد لا يحصى، وكانت سيرته من أعجب السير". (٢)
ولكن السيد حافظ في هذه المسرحية - تبنى وجهة النظر الأولى التي ترى في الحاكم بأمر الله حاكماً عادلاً وفقيهاً، شخصية درامية بها العديد من المتناقضات ولكنه بشكل عام حاكم اجتهد وحاول أن يصل للحقيقة حتى وإن لم يتحقق ذلك .
وهنا لا بد أن نؤكد أنه لا يمكن اعتبار الأعمال الأدبية بمثابة وثائق تاريخية يستقى منها الحقائق التاريخية لأن " المؤلف الدرامي الذي يتناول التاريخ إنما يتناول الإنسان في الواقع، فهو لا يكترث كثيراً لمعايير الصدق أو الكذب المألوفة ، بل ينصب اهتمامه على المعنى" (3).
إلى جانب أن تاريخ الحكام هو تاريخ غير متفق عليه، فبينما نجد بعض الآراء التي تمجد في حاكم، نجد البعض الآخر يدينه بشدة. ولهذا فإن العمل الفني هو عمل مستقل بذاته قد يلجأ المؤلف الدرامي إلى أن يستقي من التاريخ ملامحه، إلا أنه یوسم شخصیاته طبقاً للحبكة الدرامية، لا للوقائع التاريخية.
ولكن الملفت في هذه المسرحية هو العنوان الذي أعطاه المؤلف للمسرحية وهو "عاشق القاهرة " وکان المؤلف يشير من البداية العلاقة إلى الحميمية بين بطل المسرحية والمكان، تلك العلاقة التي - ربما - رأى فيها المؤلف العامل الرئيس في تكوين شخصية الحاكم بأمر الله .
فالمكان في المسرحية لم يكن مجرد موقع جغرافي تدور رحاه الأحداث، بل كان عنصراً أساسياً في تشكيل هوية البطل، عنصراً تم توظيفه درامياً بشكل يجعل من الصعوبة فصل البطل عن المكان، وهو ما يؤكد " ن توظيف المكان في الفن المسرحي له عدة معاني ودلالات، وذلك لما يحمله المكان من تجارب إنسانية ومفردات هندسية، و فيزيائية تساعد المبدع المسرحي وتعطيه مساحة للتعبير عن رؤيته الفنية والجمالية، ونجد بإنه كلما تعددت القيم المرتبطة بعنصر المكان في الفن المسرحي تعددت القيم والمعانى الجميلة والفكرية والفنية" (4)
إنها القاهرة عاصمة مصر التي أمر المعز لدين الله الفاطمي القائد جوهر الصقلي "وتبني مدينة تسمى القاهرة لتقهر الدنيا" (5)
وبالفعل أهتم جوهر الصقلي بمعالم القاهرة، مما جعلها منبراً وكعبة تحج إليها الناس من كل مكان "يأتى إليها المريدون من برقة وطرابلس وأفريقيا والشام وصقلية والحرمين الشريفين واليمن، إنها عاصمة كل هذه المدن" (6) .
ومن هذا ملأت القاهرة عقل وفؤاد الحاكم بأمر الله منذ أتى طفلاً في عمر الثانية عشر "سأذهب وأصعد إلى سور القلعة لأشاهد معشوقتي القاهرة من هناك " (٧) .
لقد جاء إلى مصر وهو يعرف تاريخها وقدرها، ربما من أسرته الذين اهتموا كثيراً بمعالم القاهرة كي تكون عاصمة لدولتهم، فذاب عشقاً فيها وفي معالمها وخصوصيتها، تلك الخصوصية التي أرتبطت بواقع جغرافية داخل مصر، وهو ما إليها المؤلف من خلال تنقل الحاكم بأمر الله داخل المدينة مثل القلعة وأمبابة والمقطم ، وربما بنى الحاكم بأمر الله حبه للقاهرة إستناداً لما قاله المؤرخون عنها مثل ابن خالدون الذي جاء على لسانه في المسرحية "رأيت حاضرة الدنيا وبستان العالم ومحشر الأمم، ومدرج الذر !!! من البشر وأيوان الإسلام وكرسي الملك، تلوح في القصور والدواوين وتزهو الخوانق والمدارس والكواكب بأفاقها وتضئ البدور والكواكب من علمائها ورزقت بشاطئ بحر النيل وهو مثل الجنة" (8) .
لقد أضفي الكاتب حيوية على المكان بذكر تفاصيله الدقيقة والتي ترتبط بعدة دلالات ثقافية وحضارية، فالحاكم يهوى الصعود إلى القلعة المرتبطة بالشموخ والحماية والعزة، حيث وفرت أسوارها المنيعة الحماية ضد أي اعتداء وكانت مقراً لحكم مصر منذ عهد السلطان الكامل بن العادل الذي أتم بناءها بعد أن قام السلطان صلاح الدين الأيوبي بتشييدها فوق جبل المقطم .
واستماعاً لنصيحة أخته ست الملك - عندما يتولى الحكم التي أشارت له "استمع للأدباء والشعراء والكتاب مع الحكماء فهم عقل الأمة" (9) ، فيقرر الحاكم بأمر الله أن "يروح على دار الحكمة ، يسمع الأدباء والشعراء والعلماء والحكماء" .
أنه الأرث الثقافي للقاهرة والتي عاش فيها الحاكم بأمر الله منذ صغره وتعاطاه بحب وإقدام، مما جعلها تشكل وعيه وفكره "الحاكم مننا مصري لأنه اتولد هنا وأحنا اللى ربيناه وأحنا اللي عرفناه وهو عارفنا" (10)
لقد عرف الحاكم بأمر الله قدر ومقام القاهرة بين الدول وتباهى بانتسابه لها، بانتسابه لمدينة تعد مقصداً لكل القامات " الأمراء ، الأدباء ، الحكماء ، الشعراء . قاهرتي عاصمة الدنيا يا ست الملك " (11) ، وأقام بين سکانها ، رافضاً الإقامة في القصور التي تعزله عن الشعب وتاریخه وثقافته "أنا عايز أجى هنا وأقعد هنا في أمبابة وسط الناس" (١٢) .
أننا نشعر أن المؤلف - في حقيقة الأمر - يسعى لمدح شخصية مصر التي أضفت روحها وثقافتها على شخصية الحاكم ، والذي كان يدين لها بالفضل في تكوين شخصيته وثقافته ، ولهذا حدث تفاعل ما بين الحاكم والقاهرة ، التي اعترف بفضلها وقرر أن يرد لها الجميل "أني قررت منح أساتذة دار الحكمة أساتذة الرياضة والأطباء، لكل مفكر ألف دينار في الشهر، وأن نشتري له الكتب التي يريدها، وكل طالب علم يبحث عن فكرة ما أو أمر ما نزيده مالاً حتى يكمل بحثه" (۱۳)
ويحاول أن يحمي خير مصر "بس ازاى أخزن الميه سبع سنين وازاي أستفيد من مية النيل في المشاريع الثانية" (١٤) .
كما يسعى لتحويل القاهرة إلى "مدينتي الجميلة القاهرة مكرسة بالقمح" (15) .
كما قرر أن يقيم "في كل حارة مائدة أمام كل بيت من بيوت الأعيان تسمى مائدة الرحمن" (١٦) ، وحباً في شعب مصر يقرر أن "تفتح في هذا الدكان ديوان للمظاليم ، نسمع صوت الناس اللي ما بيوصلش للقصور، كل الناس " (١٧) .
أنها العلاقة المتبادلة التي نشأت بين الحاكم وتفاصيل المكان، تلك التفاصيل التي تحمل إرثاً ثقافياً وحضارياً ودينياً التي شكلت وعيه، والتي قدرها الحاكم - بدوره - وحاول أن يرد لها الجميل، حتى وإن تجاوزت أفكاره الحدود ومالت للشطط إلا أنه يأبى أن يموت إلا وفمه ملئ بذكر محبوبته "وداعاً حبيبتي القاهرة" (18) .
هوامش
(1) عبد المنعم ماجد : الحاكم بأمر الله الخليفة المفترى عليه - القاهرة – الأنجلو – 1982.
(2) تقي الدين أحمد علي المقريزي : الخطط المقريزية - الجزء ٣- تحقيق محمد زينهم - مديحة الشرقاوى - القاهرة - مكتبة مدبولي - ١٩٩٨ - ص ٢5٠.
(۳) محمد عناني : الشعر والتاريخ في المسرح - القاهرة - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1999 - ص 109.
(4) فتحية الزاوي، أمينة بوطولة : جماليات توظيف المكان في الفن المسرحي - الجزائر - جامعة صالح بونیدر – 1/6/2021.
(5) السيد حافظ : حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله – القاهرة- مركز الدلتا للطباعه - ۱۹۹۳ – ص 6.
(6) المرجع السابق : ص 31.
(7) المرجع السابق : ص 11.
(8) المرجع السابق : ص 9.
(9) المرجع السابق : ص 15.
(10) المرجع السابق : ص 32.
(11) المرجع السابق : ص 50.
(12) المرجع السابق : ص 27.
(13) المرجع السابق : ص 102.
(14) المرجع السابق : ص 110.
(15) المرجع السابق : ص 68.
(16) المرجع السابق : ص 92.
(17) المرجع السابق : ص 27.
(18) المرجع السابق : ص 115.
*أستاذ النقد والدراما بكلية الآداب - جامعة حلوان - قسم علوم المسرح
0 التعليقات:
إرسال تعليق