فعل.الانتظار وحالات الانتظار في الرؤية الاحتفالية ،ـ 95/ د.عبد الكريم برشيد
مجلة الفنون المسرحية
فعل.الانتظار وحالات الانتظار في الرؤية الاحتفالية ،ـ 95
فاتحة الكلام
يقول الاحتفالي، المفكر المشاء، لا شيء پقلڨني ويتعبني ويزعجني اكثر من الانتظار، والذي هو والذي هو عندي شيء يشبه الاحتظار، ذلك الاحتضار الذي هو منطقة وسطى بين الحياة والموت، وبين الحضور و الغياب، وبين الصحو والسكر، وبين الوجود و العدم، والذي هو ( الفعل) الذي ليس فعلا، والذي قد يكون درجة بين الفعل و.اللافعل، وكذلك هو الانتظار، انه حضور نعم، ولكن بدرجة غياب او تغييب او غيبوبة، ومن الغريب المريب ان تجد طائرا له أجنحة ولا يطير، وان تجد مشاء بقدمين وساقين ولا يمشي، ويؤلمني ان اجد نفسي، في حالات كثيرة، جالسا او واقفا في صالة الانتظار، ودائما في نفس هذا المكان الواقف، ومع نفس هذا الزمان الذي لا يتوقف ابدا، والذي يمشي بسرعة جنونية ولا ينتظر احدا، وكيف يستقيم ان أظل ساكنا وساكتا و جامدا، وكل العالم من حولي يتحرك وينطق ويمشي، وعندما انظر الى الساعة التي في يدي، اجد انها تدور.. تدور هي وانا واقف ..وهذا لا يصح، وفي سياق الدراجات الهوائية هناك سباق اسمه ( السباق ضد الساعة) وفيه لا يمكن ان تسابق اي احد اخر من المتسابقين، ولكن فقط تسابق الساعة
والكاتب المسرحي الايرلندي صمويل بيكيت انتظر غودو، ولم يلتفت إلى الساعة، ولقد تعتبر أن ( فعل) الانتظار قدر محتوم، في حين انه مجرد اختيار خاطئ، و اظن ان بيكيت، من خلال شخصيتبه، استراجون وفلازيمير، مازال لحد الآن ينتظر، ولقد جعل كل العالم ينتظر معه ذلك الذي لا نعرف إلا اسمه، ولكن غودو هذا لم يات، وقد يكون اتى من غير ان يشعر به اي احد، اما الاحتفالي فهو لا ينتظر، وهو يقول مع الأغنية المغربية
( إلى ما جاني انا نميشي له) اما ان نبقى نحن امام شجرة ميتة، في مكان ميت، وفي زمان ميت، وان لا نفعل شيئا، سوى ان نقتل الوقت، وان يقتلنا الوقت، فذلك هو العبث بعينه، واعتقد ان المسرح المغربي قد عاش على الانتظار .. انتظار المخلص الذي لا يأتي، ونفس الشيء عشناه في السياسة، وانتظرنا الزعيم الملهم، وانتظرنا المعجزات السحرية في زمن العلم والعمل
من ينتظر، من يكون؟ ومن تنتظره من قد يكون؟
أما ذلك الذي يمكن ان ينتظره المنتظرون اليوم، وفي غير زمن المعجزات هذا، فمن تراه يمكن ان يكون؟
هل هو المهدي المنتظر؟ ام ان الأمر يتعلق بنهاية التاريخ وانتظار اليوم الأخير في الوجود وفي الحياة الحياة، وان تقوم القيامة، وان يظهر الدجال، كما في المعتقد الشعبي؟
ام إن الأمر يتعلق بانتظار (سيدنا قدر) كما كتب اخونا السي محمد قاوتي في مسرحيته التي تحمل نفس العنوان، والتي لامس فيها الوجدان الشعبي فكريا وجماليا، والتي تقاطع فيها مسرحيا مع المخيال الشعبي المغربي
وهل يتعلق بالانتظار الأيديولوجي، كما تمثل ذلك في مسرحية (في انتظار ليفتي) او (في انتظار اليسار) للكاتب المسرحي الأمريكي كليفورد اوديتس 1935 ولقد شكلت النبوءة المسرحية اليسارية بداية لكتابات اخرى مختلفة في المسرح البروليتاري في امريكا، ولكن فعل ذلك الانتظار، وبالنسبة لهذا الكاتب اليساري، سينقلب مائة وثمانين درجة، عندما سيتم طرده من الحزب الشيوعي، مما يؤكد ان الحلم الأيديولوجي لا مستقبل له في حياة الإبداع وفي حياة المبدعين الصادقين والحقيقيين، والذين لا يحق لهم ان يبيعوا الوهم للقراء وللمتفرجبن المفترضين
وهل يتعلق الأمر بانتظار مسرح مغربي وعربي اخر ممكن الوجود؟ مسرح يفترض التجريبيون انه سوف ياتي غدا او بعد غد او في يوم من الأيام، والتي قد تاتي فعلا، والتي قد لا تاتي..
وفي مثل هذا الانتظار، يغيب المسرحي المنتظر، ولا يحضر إلا شبح من ننتظره، اي ذلك الآخر القادم من وراء الأنهار و البحار، والذي يمكنه وحده ان يجدد لنا فكرنا، وان يجدد لنا مسرحنا، وان يجدد لنا حياتنا، وان يجدز لنا ادابنا و فنوننا، وان يكون علينا بعد ذلك هو ان نترجم فقط، وان نقتبس فقط، وان نختلس، وان نسمي هذا اللافعل فعلا، وان نقول هو التجديد وهو التجريب
لحظة الانتظار لحظة ميتة
وهذا الذي نسميه الغد، لا يمكن ان ياتي اليوم، ولكن نتوقع انه سوف ياتي غدا، ولكن الغد لا يمكن ان ياتي، وحتما ان ياتي، لأنه الغائب والغياب، او انه هو الغيب، وهو عندما (ياتي) او نتخيل انه قد اتى، فإنه لا يمكن ان يكون اسمه غدا، ولكن يكون اسمه اليوم، اما عندما يمضي هذا اليوم، فإنه لابد ان يتحول الى مجرد صور متحركة في الذاكرة، وان يصبح اسمه هو .. الأمس..
ومن المفارقات الغريبة و العجيبة ان الكاتب المسرحي الكبير أوجين يونسكو، والذي امن بعبثية الكلام، و بعجز اللغة عن التواصل، قد اقنعنا، و بالكلام وحده فقط، بانه لا جدوى من الكلام.. حلل و ناقش .. وهذا هو العبث بكل تأكيد، أي ان تكفر باللغة، وان تخاطب الناس باللغة مع ذلك ..
و لحظة الانتظار، هي بالتاكيد لحظة ميتة او شبه ميتة، وفيها تصبح كثير من الأجساد مڨيدة بلا قيد، وتصبح سجينة بلا سجن وبخصوص كل العبيد الذين تكبلهم قيود الساعة يقول لهم مولانا جلال الدين الرومي :
(مزق القيد تحرر يا فتى
كم ستبقى مرهقا حتى متى؟)
اما عمر الخيام، فانه يقول في احدى رباعياته:
(غد بظهر الغيب واليوم لي
وكم پخيب الظن في المقبل)
وانت الكائن الحي لك الساعة التي انت فيها فقط، وان خسرتها خسرت حياتك، اما الآتي فقد يكون حلما، او يكون وهما، او يكون سرابا في صحراء الأيام والأعوام، اما الماضي فهو حياة منتهية الصلاحية، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي يؤكد على النحن الإنسانية، وعلى الآن الزمنية، وعلى الهنا المكانية، وخارج هذا الهنا وهذا الآن، فإنه لا وجود لحياة والحيوية في الفراغ في الفراغ المطلق
والحياة سفر، هكذا يقول الاحتفالي، ومن يحيا حياة حقيقية يسافر، في الزمان وفي المكان، ويمكن ان بسفارة في ذاته ونفسه وعقبه و روحه ايضا، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي يطرح على نفسه السؤال التالي:
ــ ما الصحيح في التعبير التاليين، ان نقول نحن والسفر، ام ان نقول نحن السفر؟
وهل هذا العمر، بكل ايامه و لياليه، وبكل لحظاته وساعاته، إلا سفر باتجاه الأجمل و الأكمل والأصدق ، والسعيد السعيد في هذه الحياة هو من يعرف انه مسافر، ويعرف وجهته في السفر، ويعرف مع من يسافر، ويعرف الى اين يسافر، ويعرف لماذا يسافر، وفي الاحتفالية مسرحية عنوانها ( يا مسافر وحدك)
نحن نسافر لنحيا حياة حقيقية، ونحن نحيا حياتنا الحقيقية في السفر ومن خلال السفر ، ومن اجل ان نكتشف المناطق المجهولة في نفوسنا وفي عقولنا وفي ذاكرتنا وفي علمنا الداخلية والبرانية
انتظار رحمة الله وانتظار العاشقين
ويقول لك الاحتفالي، ان كنت لا تحب ان تنتظر، فإن عليك ان تبادر، وان تبدا بان تفكر، وان يكون تفكيرك بصور وليس بحروف وكلمات و عبارات فقط، وان نختار طريقك، وان تختار مصيرك، وان تختار حياتك، وان تختار معركتك، من اجل ان تكون انت هو انت..
وهذا هو ما فعله الاحتفالي، عندما شعر بانه في حاجة إلى مسرح اخر، فكان ان فكر، وتامل واقع وتاريخ هذا المسرح الكائن، والذي يجعل انه تاريخ احتفالي في جوهره الحقيقي، والذي كان بحاجة فقط إلى لمسة سحرية، وكان بحاجة إلى تحيين، وكان بحاجة إلى تقوير، وكان بحاجة إلى تنوير فكري، وهذا ما فعله الاحتفاليون ابتداءا من 1976
ولكن، ماذا كان يمكن ان يكون رد فعلنا، لو ان هذا (الغودو) الافتراضي قد جاء فعلا في يوم يوم من الأيام، وانه قد جاء بغير الوجه الذي تصورنا، وجاءنا بعكس ما ما انتظرناه و توقعناه؟ هل نقول فيه نفس ما قاله المثل العربي( تسمع بالمعيدي خير من ان تراه)؟
ومن ننتظره لا يمكن ان يكون شخصية عادية، كما أنه لا يمكن ان ياتي من هذا قشور هذا الواقع، ولكن من روحه و جوهره، والمطلوب منه ان ياتي من عالم سحري، ومن عالم فوق طبيعي و ماورائي، كما لا يمكن ان ياتي من مكان قريب، ويبقى السؤال، وهذا الذي تنتظره، هل له فعلا وجود في الوجود، ام إنه فقط حلم حالمين ووهم واهمين وامل محرومين؟
هل هو المهدي المنتظر، او هو غودو الذي هو تصغير غود god، وهل غياب هذا الغودو، او عدم وجوده يمكن ان يجرد هذا الوجود من معناه، وأن تصبح هذه الحياة عبثا، وان يكون حضورنا فقط قتلا للوقت، وذلك في انتظار الذي لا يمكن ان يأتي
انتظار ماذا؟ انتظار رحمة الله، او انتظار الخلاص او انتظار من يمكن ان يفسر هذا الوجود ومن يعطيه معنى؟
وعادة، وفي حالة الانتظار، فإن الزمن يصبح ثقيلا و بطيئا، ويصبح كل ما نفعله نعيده، ويصبح كل ما نقوله هو نفسه الذي نعيد قوله .. ويصبح وجودنا اليومي قائما على التكرار وعلى الاجترار
ومن يمكن ان ننتظر؟ اذا كان من ننتظره هو الله،، وهو رحمة الله، وكان الله في قلبك ( ايها المشتكي وما بك داء) وكان الله قريبا منك وانت لا تدري؟
وذلك الحكواتي نور الدين في احتفالية (الحكواتي الأخير) هو الذي نجده في نفس المسرحية يكلم شابا في حلقته، شاب جاء إلى الحلقة في انتظار موعد مع الحبيبة يقول له الحكواتي الشعبي ( وانت.. ( مكلما شخصا وهميا اخر) ها .. ها .. انت في كامل اناقتك وابهتك، هكذا تكون (الشياكة) يا اخي وإلا فلا (شياكة) ( ولا هم يحزنون) شاب وسيم يفيض صحة وعافية، زادك الله من نعمائه.. آه وآه.. والشباب يا صاحبي يغري بارتكاب العشق، والعشق جنون، والجنون فنون. والفنون لو تدري، ملح الدنيا وملح الكون..رايتك يا ولدي لا ترحم ساعتك التي بيدك، فانت لا تنقطع عن النظر إليها..انك على موعد، اليس كذلك؟ ومن كان على موعد مثلك فإنه لايمكن إلا ان يكون واقفا على الجمر ..كان الله في عونك وفي عون كل العشاق، ابق معي، و اجلس بجانبي، وتاكد بان الوقت سيمر سريعا..لن تخسر إلا وقد حلت الساعة الموعودة، ولكنه ـ مع ذلك ـ لابد ان اخبرك من شيء، احذر جيدا ان يسرقك حديثي، و يفوت عليك الموعد، انتبه، إن الكلام غدار، والوقت سيف بتار ..)
مما يدل على ان انتظار رحمة الله، وانتظار العاشقين الصادقين، هما وحدها الحقيقية، وكل ما عداهما باطل ..








0 التعليقات:
إرسال تعليق