أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

‏إظهار الرسائل ذات التسميات المسرح العالمي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المسرح العالمي. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 23 يوليو 2017

العنف على المسرح.. ومؤثراته التدميرية للجمهور نفسياً وسلوكياً

مجلة الفنون المسرحية

العنف على المسرح.. ومؤثراته التدميرية للجمهور نفسياً وسلوكياً

ترجمة: عادل العامل 

في أحد المشاهد المسرحية السيئة الصيت في الدراما الحديثة، تقوم جماعة من الشبان في متنزهٍ لندني برجم طفل حتى الموت في عربته. و ما يبدأ كلعبٍ خشن يتصاعد إلى سادية مطلقة حتى تُرمى صخرة، لتنتهي صرخات الطفل الواهنة، كما يقول تشارلس مكنَلتي، الناقد المسرحي لصحيفة لوس أنجلس تايمس.  

لقد أثارت مسرحية إدوارد بوند " Saved " هذه غضباً عارماً حين قُدمت عامَ 1965على مسرح رويال كورت كعرض لنادٍ خاص. و بالرغم من أن المسرحية لم يكرر إحياؤها كثيراً، فإنها تُعد عملاً كلاسيكياً حديثاً، و ليس فقط لأنها كانت مفيدة لقلب قوانين رقابة المسرح البريطانية، وفقاً لتشارلز مكنلتي McNulty في عرضه هذا.
و ما تزال مسرحية " Saved " صادمةً حتى وفقاً لمعايير اليوم. فبوند، الذي أقر مرةً بأنه يكتب " عن العنف بنفس الطريقة الطبيعية التي تكتب بها جين أوستن عن الأخلاق "، يحيط بجريمة القتل بكل دقائقها السايكولوجية الموحشة. فعلى خلفية ريفية بالية، يُجعل تخلي المرأة الشابة المؤقت عن طفلها أمراً مقبولاً بشكلٍ يسبب القشعريرة، كما هي الحال مع سلوك الرجال الذين يعذّبون الأطفال من أجل التخلص من حيواتهم العديمة الهدف، كما تتضمنه المسرحية. ( و تدور المسرحية، باختصار شديد، حول امرأة شابة تحمل من صديق لصديقها المقيم معها، و تنجب طفلاً، و يتعرض الطفل وهو في عربته ذات يوم لتصرفات خشنة من أصحاب أمه وأبيه الذين يلطخونه ببرازه و يرمونه بالحجارة حتى الموت، من دون أن يهتم والداه جدياً لما يحصل له ). 
و بالرغم من رؤيتي المسرحية في إنتاج من إخراج روبرت وودرَف في عام 2001، فإنني لم أكن واثقاً إن كنت سأكون قادراً على تحمّل مشهد طفلٍ يُلطّخ ببرازه و يُخنق عارياً. و كنت قد نجوت بالكاد من مشهد سابق كان فيه طفلً يصرخ بشدة من دون أن يرد عليه أحد من أسرة لندنية كانت أعجز في بؤسها من أن تستجيب لصراخه.
و لكون العالم الحقيقي سخياً لدرجةٍ كافية حين يصير الأمر إلى التكرم بالعنف، فإني لا أبحث عنه في الدراما. وقد وجدتُ، إضافةً إلى هذا، أن من الأصعب عليّ في أواسط عمري أن أزيل اللطمات من المعاناة البدنية و الذهنية التي تستلزمها. ( المؤسف أن لاواقعية الشباب لا تستمر إلى الأبد ). مع هذا، كنت سأشعر بالتضامن مع أولئك الذين أيدوا " Saved " ضد أولئك الذين راحوا يدينونها باعتبارها فاحشة حين قُدّمت للمرة الأولى.  فما الخط الفاصل بين العنف المقبول و غير المقبول في الفن؟  إذا كانت الشناعة gruesomeness هي المعيار، فإن الكثير من الدراما اليعقوبية Jacobean (1) كان سيتم تحريمه، بما في ذلك مسرحية " الملك لير " لشكسبير، بمشهدها التصويري الذي تُقتلع فيه عينا غلوسِستر بلا رحمة. و قد يعتقد البعض بأنهم يستطيعون أن يحددوا الخلاعة بلمحة واحدة، لكن العنف يضع متطلبات أكثر حدّةً على حساسياتنا. فمشروعيته الفنية لا تعتمد على كمية الدم المراق أو عدد الأوصال التي تُقطع. فالمسألة هي المسوّغ لذلك. أو بتعبير آخر: كيفية تلاؤم الوحشية داخل رؤيةٍ أكبر للعمل المسرحي.
إن المهمة تلقى تحدياً بشكل فريد. فالعنف الزائف ( أي في الفن و الأدب ) أداة يمكن أن تصبح بسهولة سلاحاً غير مميَّز. إنه شكل من المعرفة ــ من هشاشة الجسد، من العدوان الذي يتوارى داخل قلوب البشر ــ لكنه يمكن أن يكون كذلك إغواءً هدّاماً، يغري الفنانين و جمهور المشاهدين باحتفاءٍ عدَمي بتدمير المعنى نفسه.
وفي مقال آخر لتشارلس مكنَلتي فإن الكتّاب المسرحيين المعاصرين، المتأثرين بهوليود أكثر مما بشكسبير و الإغريق، أصبحوا مرتاحين على نحوٍ متزايد لفصل العنف عن النزاع الذي في قلب العدالة المعقد، التحكيم في الخسارة غير المتكافئة. فالبنادق، و السكاكين، و الأسلحة الأخرى هي الآن في خطر أن تُصبح إضافياتٍ تجتذب الانتباه في تحولات القتل التي لا يمكن لثقافتنا الشعبية أن تحصل على ما يكفي منها و التي ربما هي التجلي الأنقى لمجتمع يضحي بتلاميذ المدارس أكثر مما بقوانين الأسلحة النارية المعدّلة (2) . 
و تتّسم كوميديات الكاتب المسرحي الأميركي مارتن مكدوناغ الموجعة بالمرح على نحو لا يمكن إنكاره، لكنها جزء من نزعة مقلقة تحتفي بالعمل الفني لأسلوبه أكثر مما لعقليته، و لفنيته أكثر مما لرؤيته الفنية. و يمكن القول إن ذلك المشهد في مسرحية تريسي ليتس (جو القاتل ) الذي يعتدي فيه جو جنسياً على امرأة منافقة بعصا القرع على الطبل هو مشهد يمكن أن يكون قد أثر على أسلاف الكاتب المسرحي الانكليز في القرن 17، لكن المسرح يكون على منحدر زلِق حين يحاول أن يتنافس مع التاكتيكات الرهيبة لصناعة الأفلام. 
إن المسرح فضاء مجازي في الأساس، فضاء يدعو إلى التحري النقدي. فالكلمات تتّسم بنفس الامتداد مع الصور، خلافاً لما في الفيلم، و تحديدات المسرح ذاتها تتيح فوائد فكرية.  
أما كوميديات الكاتب البريطاني هارولد بنتر عن التهديد بالخطر، التي تطرح الطبيعة الإقليمية territorial للبشر عاريةً بلغةٍ تكون حادةً كالمِدية، فإنها تتّسم بنوعية إيحائية تجذبني على مستوىً أعمق مما تفعله هزليات مكدوناغ  الكادمة، التي تصدمني بكونها أكثر أخذاً من أفلام كوينتين تارانتينو، الذي تسبق رغبته في الترفيه قدرته على التفكير. ( و كان الثناء على " جانغو محرّراً " بالنسبة لي واحداً من أكثر وقائع نهاية العام إثارةً ، خاصةً في التبرير المستقيم لعملٍ أضعف مصداقية وصفه التاريخي لوحشية الاستعباد بتعامله مع الموت العنيف كنكتة تكرارية على نحوٍ ممل من نكات الثقافة الشعبية pop-cultural. )
و قد يبدو هذا مفرطاً في الاحتشام، لكن لم تكن لدي أية مشكلة في تقييم مسرحية سارة كين " ملعون Blasted "، التي يجري فيها، ربما في محاولة للتفوق في العنف الوحشي على كلٍ من مسرحيتي الملك لير و Saved، أكل عينين و طفل في دراما رؤيوية apocalyptic (3)  تُشعل حرباً في مشهد غرفة فندق فاخر (4). لكنني أفكر عندئذٍ بأن من المهم ملاحظة نقطة الأفضلية لدى فنانة تجعل العنف موضوعاً لها. و كانت كين، التي سارت على هواها في سن 28 عاماً، تملأ المسرح بعذاب لا يُطاق. لكن الصور الكابوسية في مسرحياتها تسكنها بشكلٍ عميق المؤلفة، التي لم تخفق أبداً في تسجيل كلفة الرعب الانفعالية.
 عن: Los Angeles Times
* تشارلز مكنلتي McNulty هو الناقد المسرحي لصحيفة لوس أنجلس تايمس.
(1) هي الدراما التي عرفت في عهد الملك جيمس السادس (  1567ــ 1625 )، و اليعقوبية Jacobean مستمدة من Jacobus و هو الشكل اللاتيني للاسم الانكليزي جيمس.
(2) أي المجتمع الأميركي .
(3) نسبةً إلى سُفر الرؤيا.
(4) و هي مسرحية حافلة بالاغتصاب و الوحشية و الشذوذ  و تعتبر بالتالي فضيحة أخرى بعد مسرحية Saved لإدوارد بوند، من هذه الناحية، كما جاء في موسوعة ويكيبيديا.

----------------------------------------------------
المصدر : جريدة المدى 

الأربعاء، 19 يوليو 2017

"الفرسان الثلاثة" يجتاحون مسرح هارلم

الثلاثاء، 18 يوليو 2017

'الأصل' و'القبو' لتوماس برنارد على خشبة فرنسية

مجلة الفنون المسرحية

'الأصل' و'القبو' لتوماس برنارد على خشبة فرنسية


أبو بكر العيادي

انطلاقا من روايتين استهل بهما توماس برنارد مسيرته الأدبية، ليسرد طفولته في مدينة سالزبورغ، نسج الفرنسي كلود دوبَرفي بورتريه متعدد الأصوات، مزج فيه الواقع بالخيال، لينقل من خلاله صيحة إنذار كان أطلقها الكاتب النمساوي ضدّ غواية القومية والرداءة، في نص مسرحي بعنوان “البرد يزداد مع الصحو”، عرض مؤخرا على خشبة “الهضبة” بباريس.
غالبا ما ينعت النمساوي توماس برنارد (1931-1989) بالسوداوية ومعاداة الإنسان، برغم نزعته الإنسانية التي تتبدى في بعض أعماله ومواقفه، ولعل هذا ما حدا بالفرنسي كلود دوبَرفي، الذي سبق أن أخرج مسرحية “أشجار للقطع” للكاتب نفسه، أن يبرز ذلك الجانب المنسي من شخصية برنارد، ضمن عمل بعنوان “البرد يزداد مع الصحو” استوحى محتواه من عملين سرديّين هما “الأصل” و”القبو” كان الكاتب النمساوي بدأ بهما سلسلة بيوغرافية، واستوحى عنوانه من نص قصير عن الخرافات والحقيقة في القرن العشرين كان ألقاه عام 1965 بمناسبة فوزه بجائزة مدينة بريمن للأدب، وذكر فيه تلك الجملة.

ويرى النقاد أنهما على قدر من الأهمية من جهة وضعهما الإطار الذي نشأ فيه برنارد، أي مدينة سالزبورغ في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان حينئذ في سن الثالثة عشرة أرسله جده إلى مدرسة داخلية يشرف عليها ضابط نازيّ شرس يدعى غرونكرانز.

وفي تلك الإعدادية، استبدت به فكرة الانتحار، لشدة خوفه وعزلته، حيث كان يتعلم العزف على الكمان في خلوة لحفظ الأحذية، وحزنه لفراق جده، وهو أنارشيست، وفيلسوف غير امتثالي، يحب الطبيعة والرسم والموسيقى والكتب.

ولما دمر طيران الحلفاء المدرسة، ودمر معها كمانه، فرّ برنارد ليلوذ بـ”الاتجاه المعاكس”، كما يقول، أي الأحياء الشعبية التي تكرهها نخب سالزبورغ وبورجوازيوها ويعددون في ذمها النعوت، فعمل في بقالة داخل قبو بإحدى الضواحي الكادحة، ليعيش تلك التجربة كامتحان ضروري، وغرفة انتظار تفتح على الجحيم، هناك خالط بشرا أصلاء، عمالا متواضعين، وأرباب أسر، وفخر بوجوده بين فئات الشعب الكادحة. هناك اعترف لعَرفه بُودْلاها أنه “تعلم فن العيش داخل مجموعة”.

وعندما انتهت الحرب، عاد إلى تلك المدرسة الداخلية بعد أن أعيد بناؤها، وفوجئ برجل دين كاثوليكي على رأسها، وصليب يعوض صورة هتلر على الجدار، ما جعله يعلق قائلا “في النهاية كنا مسحوقين بين هتلر ويسوع بوصفنا نسخا من صورتيهما، جُعلت لتفسد عقول الشعب”.

والمسرحية التي عرضت مؤخرا على خشبة “الهضبة” الباريسي تأخذ من نصي برنارد، لا سيما “الأصل”، الإرهاصات الأولى لفكر متبرم، ليس من الحرب وحدها وإنما من الديانة أيضا، يقول في هذا الشأن “القومية الاشتراكية وكذلك الكاثوليكية هما من الأمراض المعدية، أمراض عقلية، ولا شيء عداها”، فما هما في نظره سوى رمزين يوهنان الفكر الذي هو بصدد التشكل، والملكة الذهنية لكي يفكر الإنسان بنفسه.

ومن حسن حظ برنارد أنه لم يصب بعدوى ذَينك المرضين، وهو الذي ما انفك يبيّن إلى أي حد يمكن أن تتحول النازية والكاثوليكية إلى آلتين جهنميتين لتدمير البشر، والذي أنقذه هو جده، “فيلسوفه الخاص”، ذلك الجد الذي أخذ عنه حرفة الكتابة، مثلما ورث عنه النقمة على الوضع القائم، بقيمه المتآكلة، وأعرافه البالية، لا سيما منذ أن التحق الفتى بذلك الحيّ البائس في الطرف الآخر من المدينة البورجوازية.

هذا الانتقال يركز عليه دوبَرفي ليرسم مسارا بين الاحتراق وبرد اليقين، وهو مسار جهد المخرج في تتبعه عبر أعمار برنارد المتعاقبة، ليقدم أربعة أنماط من الموسيقى المتمردة لذلك الذي يقبل بأن “يذرف دموع كامل جسده، شرط أن يغنم فرصةً لفحصِ نفسه”، لأن الموسيقى، كالأدب، كانت تحتل مكانة مركزية في بناء أسلوب برنارد، لا يتخذها كملاذ، بل كموقع مثالي للنظر إلى الشر وجها لوجه.

المسرحية بحث عن الهوية ومواجهة مبدئية في إطار كتابة متوترة، تدور حول نفسها، وتتقدم تحت صحو بارد لا تملك النفس إلاّ أن تقاومه، وهي أيضا كلمة رفض تتبدى على الركح، ويتجلى فيها دوبَرفي كاتب سيرة وهو يشهد من موقعه تنامي الهويات التي تسكن شخصية بطله، في فضاء منغلق على الدوام، قبل أن ينفتح للنور، وتتفكك ألواح الخشب الواقية كي ينفذ ضوء النهار.

أن يرسم المخرج باقتدار طيف علَمٍ على الخشبة، منذ طفولته إلى حياته كهلا بعد أن أصبح كاتبا، وأن يجعل آلامه الدفينة وانفعالاته وأفكاره تنبض بالحياة نبضا يكاد يُلمس، فذلك رهان استطاع أن ينهض به باقتدار كلود دوبَرفي في تكريمه لكاتبه المفضل النمساوي توماس برنارد، عبر أربعة أصوات ترجّع أصداء كتابته وفكره وتساؤلاته وتكراره المهووس وموسيقاه الحزينة.

--------------------------------------------------
المصدر : جريدة العرب 

الجمعة، 30 يونيو 2017

ميديا تقتل أولادها في باريس

مجلة الفنون المسرحية

ميديا تقتل أولادها في باريس


عرض هولندي يستعيد التراجيديا اليونانية ويصعق المشاهدين إذ يقدم المؤلف سايمون ستون حبكةً وسياقاً مختلفين عن النص الأصلي.

لا يمكن أن يتلاشى الحدث التراجيدي من الذاكرة، قد يختفي ويتراجع أمام الحياة اليوميّة وتغيّر الظروف، كما يمكن السعي لتفاديه بالهرب بعيداً أو نفي شخوصه، لكن لا يمكن حذفه أو إلغاء تأثيره، هو خطأ حيويّ وديناميكيّ في نظام العالم بحيث يسهم سوء تقدير بسيط باستعادته وتكراره، فالتراجيديا حدث يخلخل تماسك أيّ بنيّة، ولا يمكن العودة إلى ما قبلها، بوصفها شرخاً في التكوين الذريّ يضرب كلّ ما يمسّه، محافظةً على احتمال حضورها، لنغدو كأننا أمام حتمية تراجيديّة لا يمكن الفكاك منها.

تشهد خشبة مسرح الأوديون في العاصمة الفرنسيّة باريس العرض الهولندي ” ميديا” المقتبس عن نص اليوناني يوربيدس من إخراج وتأليف سايمون ستون، وفيه نشاهد احتمالات أخرى للتراجيديا الشهيرة، إذ يقدم لنا ستون حبكةً وسياقاً مختلفين عن النص الأصلي، فجايسون يصبح لوكاس وميديا تصبح آنا التي خرجت من المصحّ العقلي، وتلتقي لوكاس الذي منحها فرصة أخرى بعد ما فعلته، إذ يدعوها للقاء أطفالها والتعرف على زوجته الجديدة، لتبدأ بعدها آنا بحياكة خيوط لعبة جديدة لاستعادة زوجها وأولادها، فما نشاهده على الخشبة هو احتمال فشل مخططها الأوّل وعودتها من المنفى.

الخشبة أمامنا شديدة البياض مع شاشة تعرض ما تصوّره كاميرا محمولة تلتقط تفاصل أوجه الممثلين، هذه الكاميرا تحضر بوصفها تسجّيل يوميّات مصوّرة يقوم أطفال آنا بحفظها توثيقاً لحياتهم الجديدة بعد خروج والدتهم من المصحّ، لكنها تتيح للمشاهد رصد أدق التفاصيل في الأداء، وخصوصاً تقلّبات مزاج آنا أثناء سعيها لتعيد تشكيل الأسرة من جديد.

تغوي آنا زوجها السابق، مع ذلك يتركها مرة أخرى بوصف ما حدث بينهما مجرّد خطأ، حينها يبلغ التوتر أوجه بين الاثنين، إذ تتكرر الأحداث مرة أخرى كما حدث مع ميديا/آنا قبل المصحّ، إذ يقرر لوكاس تركها والسفر للصين، لتنفجر بوجهه صارخةً بأنها ضحت بكلّ شيء لأجله، ويردّ هو أنه لن ينسى محاولتها قتله بالسّم بالرغم من تبريراتها بأنها فقط أرادته أن يكون مريضاً، هنا تتقاطع ميديا مع آنا، فبدل أن تكون آنا ساحرة هي عالمة في الأدوية، وتجيد صناعة السموم التي يمكن لها أن تنسلّ ضمن تفاصيل الحياة اليوميّة بصورة خفيّة كما نرى لاحقاً حين تقوم آنا بالقتل.


فورة الغضب هذه تعيد تفعيل التراجيديا، إذ تقرر آنا الانتقام مرة أخرى، فلا يمكن للوكاس أن يتركها مرتين، حينها يبدأ غبار أسود أشبه بسمّ بالتساقط من أعلى الخشبة، وتدريجياً أثناء رسم آنا ملامح خطتها، تبدأ الكراهية/السواد بالطغيان على الأبيض وتلويث كل المتورطين فيما يحدث مع ميديا.

تقتُل آنا بشكل واع، هي امرأة تبحث عن انتقامها وعن جدوى لما خسرته، فالجرح القديم فيها إثر ما فعله زوجها لا يمكن أن يشفى، والقتل الذي تنفّذه بكل حرص يمكن اعتباره إعادة للتوازن الناتج عن اختلاط الدماء وانحلال سرير الزوجيّة، فلوكاس خان هذا السرير وذهب لامرأة أخرى، بل إن آنا تسأل لوكاس في أول حدث بينهما عن الجنس معها، وتقارنه بالجنس مع زوجته الجديدة الذي يصفه بأنه ليس الأسوأ وليس الأفضل، وهذا ما تستخدمه آنا لاستعادته، هي تستفز رجولته وتذكّره بسريرها وبعوالم شبقيّة لا يعيشها مع زوجته الجديدة، ما يجعل آنا هي المسيطرة بالرغم من أنها تبدو ضعيفة بل وخارجة من مصحّ، هذا السبب ذاته الذي يدفع لوكاس لمسامحتها ومحاولة إعادة روابط الصداقة معها.

خيانة لوكاس تخلخل التوازن ضمن بنية التراجيديا، لا بد من ضحية ليعود التوازن، لا مزيد من الاختلاط مع أنثى غريبة، فآنا/ميديا ترى القتل بوصفه خلاصاً وتطهيراً من الغريب الذين يحاول أن يأخذ مكانها، ذاك الذي لا يمتلك سلالة بعد، فزوجة لوكاس الجديدة لم تضحّ مثلها، هي لا تمتلك ما تخسره إلا حياتها التي تأخذها آنا قبل قتل الأطفال.

تختلف عناصر نص ستون عن تلك التي نراها في النص الأصلي، فأطفال ميديا أحياء، ذوو شخصيات وأسماء، كما أن لهم دورا في دفع الحبكة، إذ فضحوا نزوة آنا ولوكاس، بعكس النص الأصلي الذي يحضر فيه أطفال ميديا بوصفهم مجرد ضحايا أو احتمالات لذبائح مستقبليّة، ما يزيد من تأثر صدمة القتل ومقدار الدهشة التي تعلو أوجه المشاهدين أثناء أداء الممثلة ميريك هيبنك وهي تسرد لزوجها كيف قتلت زوجته وتفاصيل موتها، ثم كيف وضعت الأطفال أمام التلفاز، ثم أعطتهم حبوب منوّم ليموتوا وهم يسمعون صوتها هامسة لهم “ليلة سعيدة” لتحرق بعدها المنزل، إذ من الصعب على المشاهد تمالك نفسه أثناء مشاهدته الموت المُحكم الذي نفذته آنا بخفّة، تاركة لوكاس الذي ينهار أمام منزله الذي تلتهمه النيران دون أن ينبس بكلمة، وهو يشهد تلاشي كلّ ما يمتلكه أمام عينيه.

تأثير المشهد الأخير يتضح في التصفيق الذي استمر لأكثر من 15 دقيقة في الصالة، وكأن الجمهور يصفق مثبتاً أن ما يراه مجرد أداء وتمثيل، لا بد من ضربٍ شديد على اليدين لكسر كل حسّ بالإيهام، لتفادي سؤال قد يدور بعقل الكثيرين: هل يمكن للمأساة أن تتكرر مرة أخرى بيننا كما حدث على الخشبة؟

-----------------------------------------
المصدر : عمار المأمون - جريدة العرب

الخميس، 15 يونيو 2017

الأوكراني ترويتسكي يقحم المتفرج في تجربة مخيفة في 'بيت الكلاب'

مجلة الفنون المسرحية

الأوكراني ترويتسكي يقحم المتفرج في تجربة مخيفة في 'بيت الكلاب'

بوبكر العيادي

كيف يقارب الفن المسرحي واقعا مأزوما، يُسحق فيه الإنسان، ويُعامل معاملة تَسلب إنسانيته وتُرديه إلى درك وضيع؟ وكيف ينقل أحاسيس الفرد المضطهد في بلاده بأيدي بني قومه للمتفرج، ويحمله على مشاطرته معاناته؟ وأيّ شكل درامي يتخير؟ تلك رهانات مسرحية تجريبية مرعبة حاول المخرج الأوكراني فلاد ترويتسكي خوضها في “بيت الكلاب” التي عرضت مؤخرا في مسرح بلفور بباريس.
مسرحية “بيت الكلاب” من تأليف الشاعر والمسرحي كليم، الذي اعتاد التعامل مع فرقة “داخ” بكييف، وقد كتبها على مرحلتين: الأولى قبل اعتصام “ميدان” الذي قتل خلاله نحو مئة مواطن أوكراني، والثانية بعد فرار الرئيس المخلوع فكتور يانوكوفيتش.

وفيها يزاوج بين أسطورة أوديب ومعتقلات “الغولاغ” الرهيبة، لتصوير الحال التي يتردّى إليها الإنسان في الأنظمة الشمولية. هي رحلة في أشدّ عوالم المعتقلات الجماعية رعبا، جحيم يخضع فيه الإنسان للعنف ويتشبث بالبقاء والخوف يعتصر أمعاءه، موزعا بين أمل الانعتاق والخوف من موت بطيء.

وقد حرص المخرج الأوكراني فلاد ترويتسكي على المزج بين الأداء الركحي والكوريغرافيا والموسيقى، ليجسد تجربة جمالية، تقوم على عناصر اصطناعية، وهو أسلوب متجذر في الثقافة الأوكرانية.

يبدأ العرض بصعود المتفرجين مدارج حديدية ليتحلقوا في فضاء معتّم حول قفص من حديد، ينظرون من فوق إلى الممثلين وقد حشروا كالسباع في الميثولوجيا الرومانية، أو المعذبين في جحيم دانتي.

هذه الوضعية الفوقية تربك المتفرج، لأنها تقحمه رغما عنه في هيئة من يتلصص على غيره دون علمه، أو يتنصت عليه، وتثير في نفسه ضيقا غريبا، فما يتوصل لرؤيته ليس أكثر من اكتظاظ أجساد منهكة لرجال ونساء يتحركون بصعوبة وظهورهم محنية، وسط همهمة وأنين يقطعهما بين الحين والآخر زعيق صوت آمر لسجان يلوّح بمقمعة.

تكمن قوة المسرحية في إشراك المتفرج عبر الإعداد الركحي العنيف في عملية تأمل لا مفر منها لكل نفس تائقة إلى الحرية
مشهد يلهب مخيلة المتفرج ليتصور ما يجري في ما يحيل عليه ذلك الفضاء المغلق، ذي المساحة المحدودة، من عذاب وآلام لفئة ضعيفة خاضعة لإرادة القوي في الأنظمة التوتاليتارية.

أحيانا ينتأ إنشاد جماعي لأغان تقليدية تذكر بالجذور والأصول، وسط نشيدين سمجين يشيران إلى ثورة الأوكرانيين المجهضة، قبل أن يقبل المساجين على تحويل أرغفة تلقى إليهم لسدّ الرمق إلى ورود يفترشونها وينامون، كإشارة إلى ضحايا “ميدان”.

ويودّ المتفرج لحظتها لو يكتفي بهذا القدر. ولكنه يفاجأ بأن ثمة جزءا ثانيا يطالب فيه بتغيير موضعه الفوقي، الذي سوف يشغله الممثلون، إلى موضع تحتي، داخل القفص، ليعيش بدوره ما عاشه المساجين الذين سبقوه، في عملية تبادل أدوار مرعبة.

ويغص القفص المغلق بمتفرجين محنيي الهامة هم أيضا، يتحركون بصعوبة، ويسمعون في الظلمة أصواتا تأتيهم من فوق، وعويل نسوة، وأناشيد دينية لقساوسة يتبدّون في ومضات ضوء خاطفة وهم يرفعون ابتهالات لرب ما عاد يسمع ضراعة المتضرّعين. وكأن قدر المسحوقين عذاب وأنين قبل أن يموتوا ميتة الكلاب.

أحيانا ينتأ إنشاد جماعي لأغان تقليدية تذكر بالجذور والأصول، وسط نشيدين سمجين يشيران إلى ثورة الأوكرانيين المجهضة
في ذلك القفص الشبيه بالحفرة أو القبر الجماعي، ينتاب المتفرجين، وهم يسمعون البكاء والعويل، ويستشعرون مدى الألم الذي تبثه تلك الأناشيد الدينية الحزينة، نوع من التضامن مع مسلوبي الإرادة، ويدركون معنى أن يكون الإنسان حرا، وأن حريتهم التي ينعمون بها لا تصمد أمام القضبان التي يصطدمون بها، إذا ما ابتلوا بحكم جائر.

فيغوصون هم أيضا، رغما عنهم، في عالم المعتقلات، ليعيشوا من الداخل ما يسلط فيه من عنف، حيث لا يفتأ الكابو، حارس مساجين الأشغال الشاقة، يطرق القضبان بمقمعة من حديد وهو يزعق لترهيبهم وحملهم على طاعته والخضوع لأوامره، كأن يأكلوا في جفان وسخة وهم باركون على أربع.

أولئك المقموعون، رجالا ونساء، يذكرون لا محالة بشخوص فرلام شالاموف في “حكايات كوليما”، ولكنهم يذكرون أكثر بما ورد في “الذي لا يسمّى” لصامويل بيكيت، فما هم سوى “حيوانات وُلدت في قفص من حيوانات وُلدت وماتت في قفص من حيوانات وُلدت وماتت في قفص”، فالغولاغ حالة ذهنية بالدرجة الأولى، تسحق الإنسان وتفقده آدميته.

مشهد يلهب مخيلة المتفرج ليتصور ما يجري في ما يحيل عليه ذلك الفضاء المغلق، ذي المساحة المحدودة، من عذاب وآلام لفئة ضعيفة
ورغم ملمحها التجريبي تنهل مسرحية ترويتسكي من سوفوكليس قضية كونية تتجاوز إشكالية أوكرانيا لتشمل وضع الإنسان واضطهاده، وتدين من خلال ذلك كل منظومة قمعية، سياسية كانت أم دينية، وتطرح مسألة حرية الفرد.

مسرحية ملتزمة في شكل جديد تدفع المتفرج إلى الانخراط بدوره في ما تطرحه، ليكون شاهدا على تراجيديا قد يكون طرفا فيها إذا ما استسلم للمقادير تجرفه كيفما شاءت.

وقوة العرض لا تكمن فقط في فضح المأساة والتنديد بها، وإنما تكمن أيضا في إشراك المتفرج عبر ذلك الإعداد الركحي الجريء والعنيف في عملية تأمّل لا مفرّ منها لكل نفس تائقة إلى الحرية.
يقول ترويتسكي “هذا العرض هو طريقة لطرح السؤال التالي: من نحن وماذا نريد؟ لقد مررنا قبل تمرّد “ميدان” في مطلع العام 2014 بمرحلة “سوفيتية” حيث عمّ التواكل وانتظار المعونـة من الدولة، كطرف وحيد لحل مشكلاتنا.

اليوم نمر بمرحلة صعبة، ولكن بإحساس قوي بأن كل شيء مرهون بإرادتنا نحن، وأن أقدارنا بأيدينا لا بأيدي غيرنا. صحيح أنه أمر عسير، ولكنه محفزّ وباعث على الأمل”.

-----------------------------------

المصدر : جريدة العرب 

الأربعاء، 14 يونيو 2017

(أوسلو) مسرحية تستلهم عملية السلام في الشرق الأوسط تفوز بجائزة توني

مجلة الفنون المسرحية

(أوسلو) مسرحية تستلهم عملية السلام في الشرق الأوسط تفوز بجائزة توني 

نالت مسرحية (أوسلو) لمؤلفها جيه.تي روجرز المستوحاة من اتفاقيات السلام في الشرق الأوسط أرفع تكريم مسرحي بفوزها بجائزة توني لأفضل مسرحية في جوائز هذا العام في الحفل الذي أقيم في قاعة راديو سيتي في نيويورك.

وفاجأ مايكل أرونوف الجميع بفوزه بجائزة أفضل ممثل مساعد لدوره كمفاوض إسرائيلي في مسرحية (أوسلو) التي تناولت الأحداث التي دارت خلف كواليس اتفاقيات أوسلو للسلام في الشرق الأوسط عام 1993.
وأهدى روجرز مؤلف (أوسلو) الجائزة إلى «السيدات والسادة الذين يؤمنون بالديمقراطية ويؤمنون بالسلام والذين يستطيعون رؤية أعدائهم كبشر».
وتصدرت مسرحية (دير ايفان هانسن) قائمة الأعمال الفائزة وهي مسرحية غنائية استعراضية تتحدث عن مراهق يعاني اضطرابات في مدرسة ثانوية. وحصدت ست جوائز توني شملت أفضل ممثل في مسرحية غنائية استعراضية التي فاز بها بن بلات البالغ من العمر 23 عاماً عن دور البطولة فيما حصلت راتشيل باي جونز على جائزة أفضل ممثلة مساعدة عن دورها فيها. كما حصلت المسرحية على جائزة أفضل كتاب وأفضل موسيقى وأفضل توزيع موسيقي.
قدم حفل جوائز توني للمرة الأولى في مسيرته المهنية الممثل الأميركي كيفن سبيسي.
وكما كان متوقعاً على نطاق واسع فازت بيتي ميدلر بأول جائزة توني تنافسية في مشوارها كأفضل ممثلة عن دورها في المسرحية الغنائية الاستعراضية (هالو دوللي) التي فازت بأربع جوائز من بينها أفضل إعادة لمسرحية قديمة.
وقالت الممثلة البالغة من العمر 71 عاماً للصحفيين وهي تبكي من الفرح «هذا أكثر مما أستحق».
وفازت لوري ميتكاف بجائزة أفضل ممثلة في مسرحية عن دورها في الجزء الثاني من مسرحية (بيت الدمية) المأخوذة عن كلاسيكية هنريك إبسن.

السبت، 10 يونيو 2017

'فيغارو' بومارشيه صوت المنادين بالحرية والانعتاق

مجلة الفنون المسرحية

'فيغارو' بومارشيه صوت المنادين بالحرية والانعتاق

أبوبكر العيادي

‬مسرحية 'زواج فيغارو' تكشف الواقع المرير للطبقة العاملة وما أحدثته الثورة الفرنسية من تغييرات كبرى‮ ‬في‮ ‬مجتمع كان‮ ‬يسيطر عليه‮ '‬الملك‮'.

“زواج فيغارو” مسرحية من كلاسيكيات المسرح الفرنسي، استنكر لويس السادس عشر نقدها اللاذع للقيم السائدة واستهزاءها بالسلطة، لأنها كانت تساند الطبقة البورجوازية الصاعدة في دعوتها إلى الحرية والمساواة بين البشر، وعُدّت من الأعمال التي بشرت بالثورة الفرنسية، رغم أن أحداثها تدور خارج فرنسا.

“زواج فيغارو” لصاحبها بيير كارون دو بومارشيه (1732- 1799) ألفها عام 1778، ولما منع عرضها، أعاد كتابتها بتكثيف مرجعيتها الإسبانية، وراح يخوض حملة وينظم قراءات في بعض الصالونات، لكسب التأييد لهذه المسرحية التي تبدو كتتمة لـ”حلاق إشبيلية” أو “الاحتياط غير المجدي”.

لم تمض أعوام حتى نجح بومارشيه في مسعاه وعرضت المسرحية على خشبة مسرح الأوديون في 25 أبريل عام 1784، دون أن يتنازل بومارشيه عن نقده المبطن للسلطة، رغم ما بلغه من موقف الملك لويس السادس عشر منها ووصفه إياها بالعمل المقيت، ومن موقفه منه هو نفسه حيث قال “هذا الرجل يستهزئ بكل ما يمثل السلطة” مضيفا أنها لن تعرض أبدا.

لاقت المسرحية نجاحا غير مسبوق، وظلت تعرض طوال العام، بواقع سبعة وستين عرضا في السنة، قبل أن تترامى أصداؤها خارج فرنسا، ليس فقط لنبرة الحرية فيها، وإنما أيضا لحداثة مضمونها وجدة طرحها، حتى أن موزارت تلقفها وصاغ منها عام 1786 أوبرا بالعنوان نفسه عرضت أول مرة في فيينا. ثم تبعه أنطونيو سالييري في يونيو عام 1789، أي قبيل الثورة ببضعة أيام، وبذلك دخل الخادم فيغارو التاريخ.

المنافسة بين الكونت وفيغارو ترمز إلى صراع تاريخي بين منظومة قديمة تتشبث بامتيازات مجحفة، وعالم جديد يتقد حيوية
تقع المسرحية في خمسة فصول، بطلها فيغارو، الذي يحمل سمات المؤلف من حيث إقباله على الدنيا بنهم واستشرافه الآتي، مثلما يحمل سمات الخادم كما صوّرها موليير، ولكنه يختلف عنه في نزوعه إلى التمرّد، مطالبا بالمساواة مع سيّده الكونت ألمافيفا، في قطع سافر مع أعراف المجتمع وتقاليده. وهي دعوة مباشرة إلى ثورة على القيم السائدة وعلى من يرعاها سواء من السلطة أو من الكنيسة من أجل قيام مجتمع جديد، قوامه الحرية والعدل والمساواة.

فالمؤلف إذ يصوغ خطابه على لسان بطله، إنما يعبر عمّا يعتمل في المجتمع الفرنسي آنذاك من إرهاصات يقظة الوعي وتنامي طبقة صاعدة هي البورجوازية، وتوق الرعايا إلى الحرية، دون استثناء النساء.

ويأتي ذلك بأسلوب يغلب عليه المرح والحيوية، ويقوم فيه الضحك بدور حمّال أفكار جديدة، بعضها يخص حرية التعبير التي يقابلها الأمراء والملوك بالمصادرة، وبعضها الآخر يمسّ حرية الأفراد وحقهم في المساواة.

خلال عرضها الشهر الماضي بمسرح 104 بباريس، حافظ المخرج جان بول تريبو على ديكور معتدل استقاه من لوحات جان هونوري فراغونار (1632- 1706) ذات الجمالية الحالمة القريبة من التجريدية، حيث اللهو والمرح والهزل تتداعى وتلتقي في فورة مجنونة -ومنه العنوان الفرعي يوم جنون-، وحيث يقع الانتقال من مونولوغ فيغارو ذي النبرة الجدية الرصينة، إلى لعبة الغميضة أو الاستغمّاية كما في الفصل الأخير.

والمسرحية وإن مازجها اللهو والضحك فإن ما يسيطر عليها في أغلب فصولها، هو النقد اللاذع الذي ينهض به فيغارو لإدانة امتيازات النبلاء غير العادلة، وامتهانهم الطبقات الشعبية المستضعفة، وفضح “حق التفخيذ” لديهم، ذلك الحق الذي يتيح للكونت ألمافيفا ابتزاز الخادم سوزان، فيلوّح لها بمقايضة نفسها بالمال.

وفيغارو، بما له من نباهة ودهاء وخبرة حياتية، هو الأقدر على تجاوز انتمائه الطبقي، وقد نجح إريك هرسون مَكاريل في أداء ذلك المونولوغ الطويل، الذي شــكل لحظة درامية فريــدة في آثار المسرح العالمي، حــين يقف البطل وحيدا في العتمة، يــروي قــصة حــياته بلسان المفرد، ويســتعيد الماضي في صيغــة المضــارع، متوجّــها إلى الــجمهور.

تحوم المسرحية حول خادم تتجاذبه امرأتان: سوزان، الخادم اللعوب للكونتيسة، التي يريد أن يتزوّجها، وينافسه عليها الكونت، ومارسلين المربية التي تساومه بدين سابق للزواج منه. وتبدو المنافسة بين الكونت وفيغارو رمزا لصراع تاريخي أو سياسي بين منظومة قديمة منهكة تتشبث بامتيازات مجحفة، وعالم جديد واعد يتقد حيوية.

المسرحية منعت لمدة أربع سنوات خلال الاحتلال النازي لفرنسا، لأن نقدها الجريء يتوجّه بشكل مباشر إلى جمهور قد يتأثر بخطابها سريعا
العرض يتسم بالوضوح والأمانة، مثلما يتسم ديكوره بالانسجام والاقتصاد في تأثيث المشاهد، وتبقى ميزته الأساس تقديم شخوص ينتمون إلى تاريخ الأدب وتاريخ فرنسا، يجد المتفرج متعة في استحضارهم واستحضار زمن وجودهم.

أما ما يتعلق بمدى اعتبار بومارشيه مبشرا بقيام الثورة الفرنسية، فالمخرج جان بول تريبو له وجهة نظر أخرى إذ يقول “شخصيا، لا أتصور بومارشيه يجرّد قلمه ليعدّ للاستيلاء على قلعة الباستيل، بل إنه استغل عبقرية الكاتب المسرحي المرح الكامنة فيه لمساندة الطبقة البورجوازية الناشئة في المطالبة بالحرية في شتى المجالات”.

وهو ما لا يخالفه فيه بومارشيه نفسه، حيث كتب في مقدمة مسرحيته إنها ليست مسرحية ثورية، ولو أن المؤرخين رأوا في قوله ذاك تضليلا للرقابة حتى لا تمنع عرضها، لأنه يؤمن أن الكاتب ينبغي أن يكون جريئا.

والمعروف أن المسرحية منعت فيما بعد لمدة أربع سنوات خلال الاحتلال النازي لفرنسا، لأن نقدها الجريء يتوجّه بشكل مباشر إلى جمهور قد يتأثر بخطابها سريعا، فيثور على القوات الغازية.

------------------------------------------------
المصدر : جريدة العرب 

الخميس، 8 يونيو 2017

المسرح البودليري

مجلة الفنون المسرحية

المسرح البودليري

رولان بارت 


لا تكمنُ قيمة المسرح البودليري في محتواه الدرامي، بل في صفته المُتحوِّلة : وليس دور النقد هنا معالجة هذه المحاولات بُغية تشكيل صورة من خلالها عن مسرح مكتمل ؛ بالعكس إنما هو السعي للوقوف على موهبة الإخفاق.

طبعًا إنه بلا جدوى ؛- بل وكم سيكون ذلك فظيعًا لو قلنا أنه بمناسبة أحياء ذكرى بودلير- أن نأمل شيئا من هذه البذور،  فكما إنه ليس من الممكن التساؤل عن الدوافع الحقيقية التي شدَّت بودلير إلى مثل هذه الحال الإبداعية غير المنقوصة والتي لا تشبه في شيء جمالية "أزهار الشرِّ"؛ عرف جيدًا أن غير المكتمل خيار كما هو الأمر عند سارتر وعند كل كاتب، وإن تصوَّر مسرحًا من دون كتابته القبلية هو بودلير شكل له دلالته لما سوف ينتهي إليه العمل.
ثمَّة فكرة جوهرية يقوم عليها ذكاء المسرح البودليري ألا وهي : المسرحة؟ ما معنى المسرحة؟


هو المسرح ينقصه نص؛ وكثافة العلامات والأحاسيس التي يتم تشييدها على الركح من خلال دليل مكتوب ؛ هو هذا الإدراك الشعوري المسكون بالزخارف الحسية، الحركات، الأصوات، المسافات، المواد، الأضواء التي تغمر النص من تحت تدفق لغته البرانية.

طبعًا، لا بدّ أن تكون هذه المسرحة حاضرة منذ البذرة الأولى المكتوبة في العمل. ليس هناك مسرح عظيم بدون مسرحة مفترسة، كما الأمر عند إسخيليوس أو شكسبير أو بريشت. النص المكتوب مأخوذ مسبقًا بالأجساد والأشياء والموقف البراني، بما يجعل الفظ يتفجر موادًا. أما ما يلفت النظر في السيناريوهات الثلاث التي نعرفها لبودلير (ولن أولي أهمية لإيديوليس Ideolus عمل بالكاد يكون بودليريًا) هي سيناريوهات سردية بالأساس حيث حضور المسرحية حتى ولو كان افتراضيًا، ضعيف جدًا. من الضروري الحذر من الوقوع في فخاخ بعض الإشارات الساذجة لبودلير من نوع : "إخراج حيوي جدًا، متحرك جدًا، أبَّهة عسكرية ضخمة، ديكور ذو تأثير شعوري، تمثال فانتاستيكي، ملابس شعبية متنوعة، الخ ...".

هذا الهوس بكل ما هو إجرائي خارجي يتعمد ضربات متدافعة، كما لو أنه ندم متعجل، لا يعبر عن أي مسرحة معمَّقة، إنما هو في المقابل ذلك الانطباع البودليري في شموليته غريب عن المسرح ؛ فبودلير كعادته في مواضع أخرى ذكي جدًا، يبدِّل مفهومه في كل مرة حسب ما تتاح له الفرصة : الفكرة في الحانة الريفية لـ "السكير" ؛ المكان ؛ مادية الرايات أو الأزياء ؛ التصوُّر السطحي للأبهة العسكرية ... وعلى النقيض من ذلك لا شيء يُثبت فعلاً العجز أمام المسرح أثر من هذا التعامل الشمولي معه، الشبيه بالرومنطيقي والذي أقل ما يقال عنه غرائبي في رؤياه. ففي كل مرَّة يلمِّح فيها بودلير للإخراج، يؤكد إنه يراه بعفوية عيني المتفرج ؛ مكتملاً، غير قابل للتعديل، نظيفًا جدًا، مُهيَّأً يشبه أكلاً تم إعداده بشكل جيد، مستعرضًا كذبة مشتركة أسعفها الوقت لمحو آثار خدعتها. ولنأخذ مثالاً على ذلك "لون الجريمة" لقد كان ضروريا في الفصل الأخير من "السكير" وهو حقيقة نقدية وليس دراماتورجية.

لا يمكن أن يتأسس الإخراج في لحظته الأولى، إلا على تعددية الأشياء وأدبيتها مرفوقة بحلمها المزدوج، متوفرة على موهبة ذهنية روحية، كافية ؛ منتشرة بغاية تجميعها بشكل جيد وفي نفس الوقت تشتيتها.

إذًا، لا شيء يمكن أن يتعارض مع الدراماتوجيا أكثر من الحلم، ولأن بذور المسرح الحقيقي كانت دائمًا حركات تهتم بالأخذ والإبعاد : سريالية أشياء المسرح : حواسه وليست حلمية ذهنية. فحين يتحدث بودلير عن الإخراج، فذلك لا يعني بالضرورة إنه الأقرب الى المسرح الحسي. ربما أمكننا الحديث عن التعبير الجسماني الذي قد يُزعج الممثل، عن الإحساس، عن الاضطراب. فذلك هو ما ينتمي للمسرح الأصيل عند بودلير، الذي اقترح أن تؤدي دور ابن الدون جوان،  فتاة حيث لا يبدو البطل محاطًا بمجموعة من النسوة الجميلات المكلفات بمهن خدمية ؛ بينما تكشف زوجة السكير من خلال تعاملها مع جسدها عن ميل إلى الطاعة والهشاشة بما يجعلها عرضة للاغتصاب ثم للقتل. يشترط بودلير في الممثل، الدعارة (ففي النهاية كُلٌّ يتلذَّذ بشيء ما سواء في عرض مسرحي أو حفل راقص) لن يمكن الاحساس بـ "فينوسيتها" كما لو أنها سلوك طارئ، ديكوري (عكس الإخراج "المتحرك" عكس حرمات البوهيمين وأجواء الحانات الريفية) ولكنها ضرورية كما لو أنها تجل لشكل أوَّلي من أشكال الكون البودليري ألا وهو : المكر.

جسد الممثل مصطنع، غير أن ازدواجيته هذه أعمق من إزدواجية الديكورات المصنوعة أو ألأثاث المُركّب للمسرحية : التمويه، استعارات الحركات أو النبرات، جاهزية الأشياء للعرض؛ كل هذا احتيالي لكنه غير مزيف أو مختلق، بما يجعله يعزِّز ذلك التجاوز الشفاف ذي المذاق الشهي، الأساسي والذي يحدد بودلير من خلاله تأثير الفردوس المصطنع : يحمل الممثل في داخله الدقة العالية للعالم المتتالي، كما هوة الشأن في عوالم "الحشيش" حيث لا شيء مُبتكر، كل شيء موجود من خلال التطثُّف المتضاعف.

بإمكاننا ومن خلال ما تقدم، التكهن أن بودلير كان لديه ذلك الإحساس الحاد بالمسرحة، الأكثر سرية بل والأشد قلقًا ؛ تلك المسرحة التي تضع الممثل في قلب المعجزة المسرحية، وتحدده باعتباره مكانًا للتجسيد القصووي، حيث الجسد مزجوج، جسد حي أنتجه طبع مبتذل وهو في نفس الوقت جسد أنيق مصقول من خلال وظيفته كشيء مصطنع.

لاشيء آخر غير هذي المسرحة النافذة والتي ظلت مجرد إشارة محبوسة في المشاريع المسرحية لبودلير.

بينما هي تتدفق منهمرة في بقية أعماله ؛ هكذا عادة ما تحدث الأمور كما لو أن بودلير ضمَّن "المسرحة" في كل شيء عدا وتحديدًا أن تكون متواجدة في مشاريعه المسرحية. بيْد أن هذا التنامي الهامشي لمكونات جنس داخل أجناس أخرى : رواية، شعر، مسرح هي في الأصل لا تنتمي إليها وغير مهيأة لاحتضانها إنما هي صفة الابداع عمومًا.

المسرحة عند بودلير مدفوعة بنفس هذي القوة للإفلات ؛ تتفجر في كل مكان هناك حيث لا تكون مُنتظرة أولاً وخاصة في "الفراديس المصطنعة"، يصف فيها بودلير تحولاً حواسيًا من نفس كنه الإدراك الممسرح، بما أن الحقيقة وكيفما كانت عيب متأثرة بمغالاة حادة ؛ هي نفسها مثالية الأشياء ؛ ثانيًا في شعره حين يقوم بتجميع الأشياء في شكل إدراك إشعاعي للمادة متكدسة، متكثفة كما لو أنها على ركح ملتهب بالألوان والأضواء بالتمويهات موسومة هنا أو هناك بفخامة الاصطناعي بجميع أوصاف اللوحات التشكيلية وأخيرًا بفضاء مأهول بالأداء التيوقراطي للرسام بنفس الأسلوب في المسرح (سوف تتكاثر اللوحات في مسرحية "ماركيز هوزار الأول" ويبدو كما لو أن كل شيء فيها مصبوغ بأعمال Gros او Delacroix تمامًا كمسرحية "نهاية الدون جوان" أو مسرحية "السكير" اللتين بدتا شبيهتين بتمرينات صلب مخطط شعري أكثر منه تصميمًا مسرحيًا بأتم معنى الكلمة).

هكذا انتقلت المسرحية عند بودلير من عالمها المسرحي لتمتد في بقية أعماله عبر اتجاه معاكس لكن في نفس الوقت فاضح يصب عناصر فوق درامية في مشاريع هذه المسرحيات، بما يشير أن المسرح ينشغل في تدمير نفسه من خلال حركة إفلات وتسمم مزدوجة.

غير أن ما لم يتم إدراكه هو إن الأصناف الروائية تغزو السيناريو البودليري : "نهاية الدون جوان وعلى الأقل الشذرة التي تم إيصالها إلينا تنتهي بمزيج ستاندالي غريب ؟ فالدون جوان يتحدث شبيهًا بموسكا، في الكلمات القليلة التي يتبادلها الدون جوان مع خادمه يسيطر مناخ عام هو نفسه مناخ الحوار في الرواية أين يحافظ كلام الشخصيات على هذا التلميح وهذي الشفافية المهذبة التي عادة ما نعرف أن بودلير يكسو بها كل أشياء إبداعه. الأكيد أن الأمر يتعلق هنا بمسوَّدة أولى، ومن الممكن أن بودلير قد صبغ حواره بهذه الأدبية المطلقة على اعتبار إنها اللغة الأساسية للمسرح. غير إننا هنا بصد تحليل موهبة الإخفاق لا غير معنيين بافتراضية مشروع ما. على أن الشيء الدال في هذه المرحلة من المخاض هو أن السيناريو يتخذ صفة الأدبية مصقولاً بلا حلق ولا أمعاء. 


في كل مرة تتم فيها الإشارة للأزمنة والأمكنة فذلك إثبات على رعب المسرح، ذلك المسرح الذي يمكننا تخيله على الأقل في عصر بودلير. الفصل، المنظر هي وحدات يتخلص بودلير منها بكل سرعة، يتجاوزها دائمًا ويؤجل النظر فيها لوقت آخر حتى يستطيع من السيطرة عليها، فتارة يشعر أن هذا الفصل قصير جدًا وطورًا يراه طويلاً جدًا. ففي مسرحية "الماركيو هوزارالأول، الفصل الثالث" يستخدم الفلاش باك وهي تقنية لا تستعملها اليوم إلا السينما، وفي "نهاية الدون جوان" المكان متجول غير ثابت، هو عبارة على مسلك بين المدينة والريف فاقد الحس شبيه بالمسرح المجرد (فاوست). يتفجر عمومًا هذا النوع من المسرح من خلال بذرته الأولى، يتلولب كما لو أنه عنصر كيميائي في الموضع الخطأ، يتجزأ إلى لوحات (بالمعنى التصويري للكلمة) أو إلى حكايات. ذلك أن بودلير بخلاف رجل المسرح المختص عوض إن ينطلق من الركح يتخيَّل قصة سردية بأكملها. من وجهة نظر جينية ليس المسرح إلا هذا التكثيف الذي ينتج عن تخييل مداره مُعطى أولى دائمًا ما يكون ذا طابع حركي (لا طقسي عند إسخيليوس، إدارة ممثلين عند موليار) : هذا المسرح مُفكر فيه كما لو أنه تحوُّل ٌ قطعي، مفروض بحكم مبدأ الإبداع ذي الطابع الرمزي "ماركيز هوزار الأول" أو الطابع الوجودي "السكير".

ذات مرة قال بودلير :
"أعترف إنني لم أفكر إطلاقًا في الإخراج".

هذا شكل من السذاجة الذي لا يمكن أن يفصح عنه أقل دراماتورجي خبرة، وهو ما لا يعني إن سيناريوهات بودلير غريبة تمامًا عن جماليات العرض، لكن بالنظر إلى ما تنتمي إليه من عوالم تخييلية فليس ذلك هو المسرح، بل هي السينما التي بإمكانها أن تحقق نجاحها، ذلك إن السينما تعتمد على الرواية وليس على المسرح، الأماكن المتجولة والفلاش باك، غرائبية اللوحات، التفاوت الزمني في المقاطع، باختصار هذا الاضطراب في عرض السرد والذي يشهد به ما قبل المسرح عند بودلير، هذا بالضبط ما تحتاجه السينما لتخصيبها بشكل نقي تمامًا.

إذًا، ودون أي شك فـ "الماركيز هوزار الأول" هي سيناريو متكامل. وهو ما ليس في استطاعة ممثلي هذي الدراما غير المطلعين على التيبولجية الكلاسيكية في استعمالات السينما. 

ذلك أن الممثل في حقيقته هو نتاج شخصية روائية وليس حلمًا جسديًا (كما حدث لابن الدون جوان الذي لعبت دوره فتاة أو زوجة السكير التي هي موضوع سادية) لم يكن في حاجة على الإطلاق إلى عمق الخشبة ليكون فهو جزء من بنية شعورية أو اجتماعية لا صلة لها إطلاقًا بعلم التشكل، هو علامة سردية خالصة كما تستوجبه الرواية أو السينما. 

الذي يتبقى من المسرحة الحقيقية في مشاريع بودلير؟ لا شيء .. سوى ما يمكن اعتباره لجوءًا للمسرح، فكل شيء حدث كما لو أن مجرد نية كتابة شيء من الدراما أرضت شغف بودلير وأعفته من تغذية مشاريعه بمادة مسرحية حقيقية ممتدة عبر العمل، لكنها غير مقبولة في المواضع الوحيدة التي يمكن أن تزدهر فيها وتكتمل نهائيًا.

ذلك أن هذا المسرح الذي اعتقد بودلير لوهلة، أنه أمسك به فإنما عجَّل بمنحه الخطوط الأكثر وضوحا للإفلات منه مما أحدث بعد ذلك، بذاءة ما، تعددية ما (وهو أمر مستغرب نظرًا لأناقة بودلير الرفيعة) تبدو في الظاهر مجلوبة من الرغائب المنسوبة للعامة ؛ خداع (أوديوني) للوحات الضخمة (حرب، مرور إمبراطور، حفل في حانة ريفية، مُخيم للغجر، جريمة معقدة) كل ما يُحيل على جمالية اللفظ، مقطوعًا عن حوافزه الدرامية أو هو شكلية اللحظة المسرحية مُدرَكة من خلال تأثيراتها الأكثر تمجيدًا لحساسية البورجوزاية الصغرى.

وطالما المسرح هو بهذا الشكل، سوف يعمل بودلير من أجل تحصين المسرحة، فلديه شعور أن التحايل الجميل مهدد بالأسلوب الغوغائي ؛ لقد أخفاها (المسرحة) بعيدًا عن الركح، منحها لجوءا في عزلة أدبه، في أشعاره، في محاولاته النقدية، في صالوناته الأدبية. لم يبق من هذا المسرح التخييلي غير دعارة الممثل وشهوة الجمهور للأكاذيب (وليس المكر) وللإخراج المفخَّم للكلام. مُبتذل هذا المسرح ؛ غير أنه ابتذال متمزق في حدود إنه مراقب في تسييره، مبتور عن قصد من كل ما هو عمق شعري أو درامي ؛ مقطوع عن كل تخيًّل يمكن أن يحققه؛ مًصوِّرًا هذا الوضع المسرحي بكل دقة بنى بودلير مشاريعه وإخفاقاته إلى أن اكتمل هذاالقتل الخالص للأدب، ونعلم جيدًا أن هذا القتل كان ومنذ زمن مالارميه قلق الكاتب الحديث ومبرره. 

إذًا... وقد تخلَّت عن المسرح المسرحة فشرع يبحث له عن ملاذ في كل مكان، وإذا به يتحول إلى شكل اجتماعي وقح وهو ما سماه بودلير ذات يوم التذبذب كدلالة على ما نسميه اليوم الالتزام.

وفق هذي الحركة الخالصة (هي خالصة لأنها لا تعبر سوى عن نية وإن هذا المسرح البودليري لا يحيا إلا بوصفه مشروعًا) يلتحق بودلير مجددًا بهذي الاجتماعية على الصعيد الإبداعي بغاية تثبيتها ثم الإفلات منها وفق جدلية اختيار كان سارتر فقد توسع في تحليلها بشكل دقيق ونهائي.

تقديم دراما لـ "هوستين" مدير مسرح la Gaité كان تمش باعث للارتياح في نفس بودلير أفضل من تمجيد سانت بوف أو الطمع في الالتحاق بالأكاديمية أو انتظار وسام جوقة الشرف.

من هنا تمسُّنا مشاريع هذا المسرح بعمق. انها جزء من بودلير، من داخله، من هذه السلسلة المتعددة والتي من خلالها يتجدد نجاح "أزهارالشر" كفصل لا مزية للموهبة عليه أقصد الادب طبعًا.

كان لا بد من الجنرال Aupick Ancelle وكان لابد من تيوفيل غوتييه، سانت بوف، الأكاديمية والمسرح الأوديوني، كان لا بد من كل هذه المجاملات والتي هي في حقيقتها ملعونة، مهملة وبالكاد يمكن التفطن إليها. كان لا بد من كل هذا ليكتمل عمل بودلير لهذا كان الخيار مسؤولًا على اعتبار أنه قدر ذو شان.

سوف نحب "أزهار الشر" أقل إذا لم ندمج في قصة مبدعها هذي الهواية الفظيعة للفظاظة.


* هامش بقلم رولان بارت
• نعرف أن لبودلير 4 مشاريع مسرحية الأول ايديوليس أو (مانوال) موزون وغير مكتمل كتبه بودلير رسنة 1843 (حين كان عمره 22 سنة) بالتعاون مع إرنست برارون. بقية المشاريع الثلاثة الأخرى كانت سيناريوهات وهي (نهاية الدون جوان) لم يكن سوى بداية لفكرة و(الماركيز هوزار الأول) وهو عبارة عن دراما تاريخية كان بودلير يتحدث فيها عن دراما لأحد أبناء المهاجرين، وولفانغ دي كادول ممزق بين مبادئ الوسط الذي عاش فيه وطموحاته نحو الإمبراطور وأخيرًا "السكير" وهو العمل الأكثر بودليرية من الأعمال الأخرى، وهو حكاية جريمة، عامل سكير متكاسل يقتل زوجته ويرمي بها في بئر ثم يردم البئر بالحجارة.  وتعتبر دراما "السكير" توسعة للفكرة المُشار إليها في قصيدة "خمر المجرم" الواردة في "أزهار الشر". نُشرت هذه المشاريع المسرحية في طبعة كريبيه والبلياد والأعمال الكاملة لبودلير ونادي أفضل كتاب .


مقتطف من كتاب "كتابات حول المسرح" لرولان بارت.
المترجم: ترجمة عبد الوهاب الملوح

---------------------------------------------------
المصدر : ضفة ثالثة 


الاثنين، 5 يونيو 2017

نيكولا تريون يحول مقابلة صحافية إلى عمل مسرحي

مجلة الفنون المسرحية

نيكولا تريون يحول مقابلة صحافية إلى عمل مسرحي

أبو بكر العيادي

أيّا ما يكن الحوار الذي يُجرى مع علم من الأعلام، فهو في جوهره إخراج مسرحي، على حلبة تضع وجها لوجه شخصين لا يلتزمان قطعا بالموضوعية، سواء كان الحوار مجاملا على طريقتنا العربية، أو مشاكسا على الطريقة الأنكلوسكسونية، ومَن أجدرُ من نيكولا تريون لأخذنا إلى أجواء اللقاءات مع مشاهير هذا العالم، وهو الذي حاور عددا منهم، في عمل مسرحي عنوانه “حوار” يعرض الآن على خشبة مسرح “بلفيل” بالعاصمة الفرنسية بباريس.

“حوار” (بمعنى مقابلة صحافية) مسرحية صاغها نيكولا تريون، الصحافي بجريدة “لوموند” والمسؤول عن “مسرح الأفكار” و”مساجلات العالم” في مهرجان أفينيون، انطلاقا من حوارات شهيرة، لأعلام بارزين في دنيا السياسة والأدب والفن والمسرح، وحتى لأناس عاديين، ليقترح نظرات متقاطعة إلى مجريات عصرنا وتحولاته، وقد اختار الحوار، وهو الذي طالما مارسه بحرفية عالية، لأنه على حدّ قوله، “نقاش مخصوص، فريد من نوعه، لكونه موجها إلى جمهور من القراء أو المستمعين أو المشاهدين، حسب أداة الاتصال المستعملة”.

وتريون في مسرحية “حوار” التي تعرض حاليا بمسرح “بلفيل” الباريسي لا يستعمل تلك الحوارات كمادة توثيقية، بقدر ما يجلو منها موقفا من الحياة والنفس يُنتزع أحيانا رغم أنف المستجوَب، والغاية، في هذا العصر الذي يعمّه الهذر والثرثرة، إبراز حقائق ومقولات تقطع مع الابتذال والامتثالية.

فالحوار، منذ ابتكار الصحافة، عمّ العالم، واتخذ أشكالا تتراوح بين التواطؤ والمجاملة، وبين المشاكسة والاتهام، هذا التعدد هو ما أراد تريون تناوله، بالرجوع إلى لحظات مأثورة من حوارات كان أبطالها مارغريت دوراس، وبيير باولو بازوليني، وجيل دولوز، وميشيل فوكو، وإمانويل كارير، وكاترين دونوف، وحتى بعض مشاهير المحاورين في التلفزيون الفرنسي مثل تييري أرديسون، وبرنار بيفو، وفلورانس أوبنا، أو البيلورسية سفيتلانا إليكسيفيتش الفائزة بجائزة نوبل للآداب، دون أن يكون الأداء تقليدا لهذه الشخصية أو تلك، بل إعادة تركيب وبناء وخيال.

منذ ابتكار الصحافة اتخذ الحوار أشكالا تتراوح بين المجاملة والمشاكسة، وهو التعدد الذي أراد تريون إبرازه
ورغم بساطة الحوار الظاهرة، لا يدري المستجوِبُ والمستجوَبُ إلى أين سيقودهما، فهو حديث خاص بينهما، لا يقول فيه الطرفان حقّا ما يجول بخاطريهما في الغالب، إذ ثمة أشياء لا يجدر أن يُسأل عنها المرء، وأشياء أخرى لا يبوح بها إن سُئل، فقد يكون الجواب أحيانا مرهونا بمركز المستجوَب الاجتماعي، الذي لا يسمح له بأجوبة عفوية، لأنه قد يؤخذ بجريرة قوله.

كل ذلك صاغه تريون في شكل مسرحية فلسفية تدعو إلى التأمل والتفكير، ولكنه شفعه أيضا بمواقف هزلية، أو ساخرة، تعمدها أصحابها أو وردت عفو الخاطر، من الكذب المتعمد، والرهبة التي تجاوز الحد، إلى الأسئلة (أو الأجوبة) المثيرة أو المستفزة، من ذلك مثلا “من الذي كنت تفضل ألا تصادفه أبدا؟ أي سنّ تريد أن تبلغ؟ أي رجل سياسي يسرك خبر موته في حادث؟ هل تمزح حينما تكون وحدك؟ إذا فرضنا أنك لم تقتل أحدا في حياتك، فكيف تفسر أنك لم تقدر عليه؟ ماذا ينقصك كي تكون سعيدا؟ هل تستطيع على الأقل أن تصادق نفسَك؟”، وهي أسئلة مشوبة بالمرح والسخرية، ولكنها تعكس صورة عن العصر.

ولما كان الحوار تبادلا، فقد استعمل المخرج تقنية “ميكرو الرصيف” لسؤال المتفرجين “هل أنت سعيد (ة)؟”، قبل أن يبث على شاشة فوق الخشبة مقاطع من شريط مماثل أنجز في ستينات القرن الماضي يسأل فيه المخرج والإثنولوجي جان روش وعالم الاجتماع إدغار موران المارةَ عن رأيهم في السعادة.

وقبل أن نكتشف جوانب طريفة أو مقززة عن بعض الأعلام، كميشيل فوكو الذي كان يقبل الإجابة عن أسئلة “لوموند” شريطة ألا تذكر اسمه، أو المخرج السينمائي الشهير جان لوك غودار وهو يسأل مارغريت دوراس “نجب طفلا، ثم ماذا نفعل به؟”، ذلك أن المحاوِرين عادة ما يلاحقون الشخصيات المعروفة كي يرغموهم على الكشف عن أفكارهم الحقيقية، وليست تلك التي ينطقون بها للعموم.

توخى تريون إخراجا بسيطا ولكن ملائما وفعالا، استند فيه إلى ممثلين بارعين يتنقلان في ركح مقتصد الديكور، مع مزج ذكي بين المسرحة والأرشيف، لخدمة فن الأسئلة، ويشعر المتفرج بمقدار الجهد المبذول في البحث والتوثيق لإعداد عمل فرجوي، يدور في مرحلتين غير متكافئتين: الأولى تبادل فيه نوع من التواطؤ الخفيف بين نيكولا بوشار وجوديت هنري.

للإشارة بذكاء إلى مهارة الصحافيين وقدرتهم على انتزاع أجوبة لا يروم المستجوَبُ قولها، وذلك بالتوسل بألوان التأثير والانفعالات الإيجابية ومنح الطرف المقابل ثقة كي يرد بأريحية كما يرد على صديق. والثانية، وإن كانت عصية نوعا ما، تستوجب قدرا من الإنصات والتركيز، فهي تعطي الأولوية لأهمية الكلمات، والأسئلة والأجوبة، وأساليب الاتصال، حيث يقول تريون “من الحكمة اليوم، في عالم صارت الأمور فيه تجري على غير ما نشتهي، أن نخصص الوقت أحيانا كي نسأل أنفسنا بعمق”.

لقد أضحى الحوار في عصرنا عبورا إعلاميا ضروريا للسياسيين والفنانين والرياضيين، وبفضل المسرح، تحول هذا التمرين الأسلوبي إلى مادة تمثيل، وإمتاع، وتفكير، وبين إلقاء المستجوِب في حلبة الأسود أو إجلاسه في عيادة محلل نفساني، يبني فن المحاورة هنا فضاء يمكن للكلمة داخله أن تتحرر.

------------------------------------------
المصدر : جريدة العرب 


الانبهار بالتجريب في المسرح

مجلة الفنون المسرحية

الانبهار بالتجريب في المسرح

عواد علي 

التجريب أخذ منحى فنياً وفكريا. ثم ارتبطت حركة التجريب في المسرح بتطور العلوم الإنسانية وتأثيرها على مناهج قراءة المسرح.

ينبهر الكثير من المخرجين المسرحيين الجدد، أو الشبّان، في العالم العربي اليوم، بمصطلح “التجريب”، سواء كانوا يمتلكون القدرة والخبرة والثقافة التي تؤهلهم لخوض غمار التجريب، بمعناه الحقيقي، أو يفتقدون إليها. ويُعزى انبهارهم، في معظم الأحيان، إلى إحساس داخلي يغلفه الوهم بأن حضورهم المتميز في الوسط المسرحي، لا يتحقق إلاّ بتقديم تجارب إخراجية تتفوق على التجارب السائدة، من دون أن يكون لأغلبهم إسهام فعلي في هذه التجارب بما يكفي لاكتشاف مكامن الخلل فيها والتوق إلى التحرر من مواضعاتها ومظاهرها التقليدية. لذلك نادراً ما ينجح بعض هؤلاء المخرجين في صوغ عروض مسرحية ذات طابع تجريبي، تتسم بالابتكار والاجتهاد والمقاربة الخلاقة أو التأويلية للنص المسرحي، وهي من اشتراطات التجريب.

رافق التجريب المسرحي، من الناحية التاريخية، المسرح منذ نشأته في الحضارات القديمة؛ فالممثل اليوناني ثيسبس الذي طور الأناشيد إلى عرض مسرحي يشبه المونودراما كان مجرباً، وأسخيلوس الذي أضاف ممثلاً ثانياً وطور الفعل الدرامي كان مجرباً، وسوفوكليس الذي أضاف ممثلاً ثالثاً كان مجرباً لأنه عمّق عناصر البناء الدرامي ووسع آفاق العرض المسرحي.

وممثلو الكوميديا دي لارتي الايطاليين كانوا مجربين لأنهم أطلقوا للممثلين حرية الخلق والابتكار وقدموا أسلوباً جديداً في العرض الملهاوي. وكانت طريقة فرقة الدوق جورج الثاني المعروف بـ”طدوق ساكس مينينغن”، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، طريقة تجريبية في وقتها لأنها تجاوزت أحلام السابقين حينما حاولت البحث عن حلّ للتناقض بين المناظر المرسومة وحركة الممثل الحي داخلها، وألغت فكرة الممثل البطل أو النجم.

أما التجريب المسرحي، بمفهومه الحديث، فقد تكوّن في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وارتبط بمفهوم الحداثة بوصفها فعالية تقترن بالابتكار ونقض المألوف وكسر المسلمات وهدم الأنموذج على صعيد الرؤية والتقنية. وقد أكد برشت أن كل مسرح غير أرسطي هو مسرح تجريبي.

بيد أن المسرحي والشاعر الفرنسي ألفريد جاري كان أبرز مجرب مسرحي قبيل انتهاء القرن التاسع عشر بأربعة أعوام، حينما عرض مسرحية “الملك أوبو” في باريس، ذلك العرض الذي قال عنه أندريه جيد إنه “الشيء الخارق للعادة الذي لم ير المسرح مثله منذ وقت طويل”، ووصفه الشاعر والكاتب المسرحي الأيرلندي و. ب. ييتس بأنه “علامة أنهت مرحلة كاملة في الفن”. وكان هذا العرض بالفعل ثورة مسرحية كبيرة تمخضت عنها الاتجاهات التجريبية في المسرح العالمي كالتعبيرية والسريالية.

وإذا كان التجريب المسرحي في بدايته قد طال الشكل فإن سمته الأساسية في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي تجلت في محاولة الانفتاح بالمسرح على بقية الفنون، وفي خلق علاقة مختلفة مع المتلقين وتوسيع هامشه. بذلك أخذ التجريب منحى فنياً وفكريا. ثم ارتبطت حركة التجريب في المسرح بتطور العلوم الإنسانية وتأثيرها على مناهج قراءة المسرح.

من خلال متابعتي للمسرح العربي، مشاهدةً وقراءةً خلال ما يزيد عن ثلاثة عقود، أرى أن العروض التجريبية الناضجة للمخرجين العرب الشبان نادرة، وقد أنتجت في عدد محدود من البلدان العربية، وتجلت تجريبيتها في تقديم أشكال ورؤى وتقنيات أدائية جديدة في المسرح العربي يمكن إدراجها في سياق “الحساسية الجديدة”، وبخاصة تلك التجارب التي جرّدت النصوص التي اشتغلت عليها من مرجعياتها وأقصت مبدأ المماثلة وحاولت الاقتراب إلى صياغات تشكيلية بصرية للخطاب المسرحي وإطلاق العنان للتخييل الحر والانزياح عن الإطار المرجعي، إذا جاز لي استعارة هذا المصطلح من نقد الشعر، وإضفاء منحى تركيبي غامض على شبكة العلاقات بين الشخصيات بجعلها تتداخل بعضها مع بعض، بحيث يجد المتلقي نفسه أمام ضرب من الدهشة والالتباس.

--------------------------------------------
المصدر : جريدة العرب 

السبت، 3 يونيو 2017

إدوارد ألبي.. مغادرة مسرح بثلاث أذرع

مجلة الفنون المسرحية

إدوارد ألبي.. مغادرة مسرح بثلاث أذرع

نوال علي 

"الناس تنام في الليل لأنها تخشى الظلام"، تقول أغنيس، الشخصية الرئيسية في "توازن دقيق"، إحدى مسرحيات الكاتب الأميركي إدوارد ألبي (1928 - 2016)، الذي رحل الجمعة الماضي.
معظم أعمال ألبي يلفّها الظلام، تدور بعد أن ينتهي كل شيء، فالظلام بالنسبة إليه أوضح لحظات الحياة، وهو كذلك بالنسبة لشخصياته، سنجد تعبيراً يقرّبنا من هذه الفكرة في "ثلاث نساء طويلات" (كُتبت عام 1990)، حيث امرأة في التسعين وأخرى في الخمسين وثالثة في العشرين، تحاول كل واحدة تحديد "أسعد لحظات حياتها"، ليُترَك أمر الإجابة الأصدق لتلك التسعينية التي ستعلن "حين ينتهي كل شيء، حين نتوقّف، حين نستطيع أن نتوقّف". ربما من هنا يصل الشعور لقارئ مسرحيات ألبي بأنها قصص تبدأ حين تقترب من نهايتها.
حتى حين يستخدم ألبي النهار، يوظّفه كلحظة منبوذة تسبق الليل، لحظة يُنتظَر انتهاؤها، ذلك واضح في "صندوق الرمل" (كُتبت عام 1959)، فجأةً ستخاطب الجدّة في المسرحية أحد المشتغلين في المسرح، لتقول له: ألا ينبغي أن يحلّ الظلام الآن؟"، فيختفي ذلك النهار الشديد، وتعتم الخشبة على الديالوغ الأخير بين الجدّة والحفيد (ملك الموت).

يضع جانباً كل ما أضافته الحضارة إلى الإنسان المعاصر

يدير ألبي معظم حوارات شخصياته في وقت متأخّر، حيث لا انهماكات سوى تلك العاطفية والجنسية والنفسية، الليل ضروري بوصفه مكاناً تترعرع فيه العلاقات الزوجية ويُسمَح للذكريات بأن تتنفّس وتتشاجر مع الحاضر وتكشف حقيقته وتخرّبه.
في مسرحيته الأبرز "من يخاف فرجينيا وولف؟" (كُتبت عام 1961)، تبدو الشخصيتان الرئيسيتان، مارثا وجورج، وكأنهما نسخة أولى من أغنيس وتوبي في "توازن دقيق" (كتبت عام 1966). وفي كلا العملين، تمتد ثلاثة فصول من الحوارات الغرائبية لشخصيات شبه مجنونة من الليل حتى الصباح.
مارثا وجورج، زوجان في الخمسين من الطبقة المتوسّطة (صفات معظم شخصيات ألبي)، كل منهما على حافة الانفجار. تدعو مارثا الزوجين الشابين نيك وهوني، ويتسبّب اللقاء الرباعي في تفكيك العلاقات وتعقيدها في آن.
ثمّة وهمٌ وكذبة في كل علاقة، مارثا وجورج لا يستطيعان الإنجاب فيتفقان على تخيّل ابن، شرط أن يحتفظا بالوهم لنفسيهما. هوني تدّعي أنها حامل، لتدفع نيك إلى الزواج منها، وبعد الزواج يختفي الحمل. ثمّة أمومة وهمية إذن، هي الحامل الوحيد للشراكة هذه، التي تنتهي مع إعلان جورج أن ابنهما قد مات، وتُطلِق مارثا صرختها "لا يمكنك فعل ذلك"، لا يمكن قتل الابن، لا يمكن إنهاء الزواج.
العلاقة الاجتماعية بين الشخصيات الغريبة عن بعضها، لا تختلف عن العلاقة بين الأقرباء في أعمال ألبي، لذلك يلجأ إلى حيلة واحدة تقريباً في غالبيتها، ثمّة عائلة وضيوف عليها؛ ينسج الكاتب من علاقة العائلة/ الزائرين شبكة صيد كبيرة تلتقط عيوب العلاقات، الأحقاد القديمة والمسكوت عنها والرغبات.

يُقدّم تجارب الفرد مع الخوف والرفض والفرص الضائعة

هناك عدائية واستفزاز دفين في كل شخصية تجاه الأخرى، الأزواج في "من يخاف فرجينيا وولف؟"، والضيوف في المسرحية نفسها، والأم والابنة في "توازن دقيق"، وجيري وبيتر الغريبين في "قصة حديقة حيوان"، والجدّة وزوجة الابن في "صندوق الرمل" و"الحلم الأميركي". الأمر يتعلّق بمنطقة اشتغال ألبي وهي العائلة وتعقيداتها وأسرارها وخداع أفرادها والشعور بالاغتراب فيها وعنها.
ما يفعله ألبي هو تجويف الإنسان من الداخل، إفراغه ممّا فيه، إخراج كل شيء أضافته الحضارة إلى الإنسان، كأنه يستعرض ما يحتويه كيس مشتريات. لينتهي الأمر بشخصية بدائية، تظهر الجوانب الحيوانية منها. من هنا، يمكن فهم تسمية نصّه المسرحي الإشكالي "قصّة حديقة الحيوان".
في هذا العمل، يجلس بيتر على مقعد في حديقة ويلتحق به جيري، بيتر هو شخصية ألبي المفضّلة، زوج وأب مستقر في وظيفة، في الخمسين من العمر، من الطبقة المتوسّطة، نموذج لرب العائلة الأميركية. بيتر متشرّدٌ مزعج يبدأ في استفزاز جيري.
المدهش في هذه المسرحية هو القدرة على بناء علاقة قوية صدامية وحميمة في آن، بين غريبين يلتقيان في مكان عام، وألبي يحقّق ذلك من خلال أسئلة بيتر التي تتسلّل شيئاً فشيئاً إلى حياة جيري الخاصة، وتكشف عن سخط هذا على حياته.
من الواضح أن بيتر يتحدّث إلى جيري بهدف التنمّر عليه ومضايقته، يبدأ في دفع جيري إلى حافة المقعد، يقول له "دافع عن منطقتك"، يخرج سكّيناً ويلقيها أمامه، يلتقطها جيري فيرمي بيتر نفسه عليها منتحراً ومجبراً رجل العائلة العادي على إظهار حقيقته؛ على التحوّل إلى قاتل. أين هي حديقة الحيوان؟ هل هي في "سنترال بارك" نيويورك، حيث مقعد عمومي يجلس عليه بيتر وجيري، هل هي هذه المسرحية، أم أنها في بيت جيري، حيث الزوجة والبنتان والقطتان والببغاوان؟
هذه هي أول مسرحية كتبها ألبي سنة 1958، وكانت من فصل واحد. بعد ثلاثين عاماً، سيقوم الكاتب بإعادة كتابتها في فصلين، الأول بعنوان "في البيت" والثاني "في حديقة الحيوان"، معتقداً أن إظهار زوجة جيري وعائلته أمر جوهري كان أغفله. يقول ألبي إنه لطالما شعر أن شخصية بيتر كاملة، وأن جيري عظام لم يكسُها باللحم.
سيحتجّ النقّاد، فالمسرحية بنسختها الأصلية من كتابة شاب مندفع في التجريب، والنسخة الثانية كتبها رجل مسن وناضج أفسد "قصة حديقة الحيوان". سيمنع ألبي، في رد فعل صادم على منتقديه، أي تمثيل للنسخة الأولى من المسرحية؛ لقد انتهت "قصة حديقة الحيوان" كما عرفها ملايين القرّاء في العالم. في "تمارين إطالة لعقلي"، كتابه الذي يضمّ مجموعة مقالات، يقول ألبي "لا شي أفعله يفاجئني، بعض منه يثير اهتمامي، وبعضه لا. لكن أياً منه لا يفاجئني".
رغم أن "قصة حديقة الحيوان" هي أولى مسرحياته، لكنها تبدو مثل خلاصة منجزه بموضوع يمكن تعميمه على بقية أعماله؛ تفكيك الإنسان المتحضّر، وفضح لحظات الزلل إلى الغرائز الأولى، والمشاعر الانتقامية والكراهية المتوارية بين أفراد العائلة الواحدة وبين العائلة والمجتمع.
"الحلم الأميركي" (كتبت عام 1960) مثال مرعب على هذا النموذج، حيث لا شيء يقف وراء الحلم ويبقيه حياً سوى العنف. في هذه المسرحية، بدأ ألبي يظهر ككاتب محترف، وظهرت مادته الخام التي سيصنع منها مستقبله المسرحي، سيتعمّق موضوعه فيها ويتسّع، ومن هذه المسرحية بدأت لغته تميّز نفسها وتتفرّد.
تفتح المسرحية على "مامي ودادي" ينتظران السيدة باركر، هناك الجدّة التي تسيء ابنتها معاملتها وتهدّدها بالتخلص منها، إنها نفس الجدة في مسرحية "صندوق الرمل" التي تُترك لتموت فيه على الشاطئ.
نفهم من كلام الجدّة أن الزوجين تبنّيا طفلاً قبل عشرين عاماً ليجلب لهما الفرح، لكنه فشل في ذلك فقاما بتعذيبه وتشويه أعضائه والتنكيل فيه إلى أن مات، والآن يريدان استرداد نقودهما عبر السيدة باركر مسؤولة مؤسسة التبني التي باعت لهما طفلاً معطلاً، لا يشتغل، لا يجلب الفرح كما كان الغرض منه (ألبي نفسه كان متبنّى وهرب/ طُرد من عائلته، وفي إحدى مقابلاته يقول: "لم يعرفا كيف يكونان أبوين ولم أعرف كيف أكون ابناً"). مرة أخرى يضع الكاتب علاقة البنوّة والأبوة والأمومة ضمن العلاقات الاستهلاكية المنحرفة.
من "الحلم الأميركي"، يقول ألبي، أنه استخرج الكثير من شخصيات مسرحياته الأخرى، سنعثر على مامي ودادي في "مشهد بحري" (1974)، نانسي وشارلي، زوجان من الطبقة المتوسطة في أواسط العمر جالسين على الشاطئ، تستشكف الزوجة شعورها بعد عقود من الزواج، وتعقد أن الحياة الزوجية الجيدة التي عاشتها كانت محدودة، كذلك الزوج لديه نفس الشعور لكنه ينكره.
يلجأ ألبي إلى الحيلة المفضلة لديه، لا بد من زوّار للزوجين ليفقأ العلاقة ويخرج كل القيح الذي فيها. لكن زوّار مسرحية "مشهد بحري" ليسوا بشراً، بل سحليتين (زوجين) خرجتا من البحر، كل واحدة بحجم إنسان (سارة ولزلي)، يدور بين الأربعة حوار سريالي بين بشر وسحالي بمنطق "برمائي" مزج فيه الكاتب الحيواني بالإنساني.
يُلزم ألبي نفسه دائماً بثلاثة عناصر في النص. إنه مثل شخصية "هو نفسه" في عمله "الرجل الذي كان له ثلاثة أذرع"، نحتاج إلى رجل وامرأة وعنصر ثالث، نحتاج إلى ثلاثة فصول عادة، نحتاج إلى الفرد والعائلة والمرآة.
مسرح ألبي هو تجارب الفرد مع الخوف والرفض والفرص الضائعة والشعور العميق بالوحدة، أو تلك الأمور الكثيرة التي يلعنها هاري في "توازن دقيق": "هناك الكثير، الكثير جدّاً من خيبات الأمل، الكثير من التهرّب، الكثير ممّا نتذكّر أننا أردنا، والقليل الذي اكتفينا به، أحياناً نتحدّث عنه، ومعظم الوقت لا نفعل".

----------------------------------------------
المصدر : العربي الجديد 

الاثنين، 29 مايو 2017

مسرح عالمي: كوميديا "ماركس الشاب".. فاتحة مسرح تجاري جديد بلندن

مسرحية 'النار بالنار' تنصف الفارين من جحيم الحروب

مجلة الفنون المسرحية

مسرحية 'النار بالنار' تنصف الفارين من جحيم الحروب

“النار بالنار” مسرحية تسرد هجرة رجل وابنته الرضيعة، من القارة السمراء إلى القارة البيضاء، حيث ديمقراطية يهيمن عليها قانون السوق، في زمن التراجع المريع للثقافة، وهي أيضا صيحة حبّ يوجهها والد نحو طفلته، بين جيلين وبلدين، وواقعين متناقضين. ذاك هو ملخص عرض شائق يتواصل عرضه على خشبة مسرح بلفيل بباريس حتى الأسبوع الأول من شهر يوليو المقبل.

“النار بالنار” عنوان رواية للفرنسية كارول زالبيرغ، استوحتها من حادثة حقيقية، حريق نشب في إحدى الضواحي الباريسية عام 2005 عندما أضرم أحدهم النار في صناديق البريد بردهة عمارة، وكذلك من مشاهد المهاجرين الأفارقة على جزيرة لمبيدوزا الإيطالية، وخصوصا صورة طفل يحمله الموج جنب أبيه.

وانطلاقا من تلك الرواية، أعدّ المخرج جيراردو مافاي بالتعاون مع المؤلفة مسرحية مكثفة، ذات حبكة درامية قوية، وأداء مميز للممثلة فاطمة صوالحية مانيه. مسرحية بطلها أب يروي حكاية هجرته، بعد أن نجا من حريق في قريته مع طفلته الرضيعة، يرويها بعد صمت دام خمسة عشر عاما، قطعه يوم اتهمت ابنته بحريق إجرامي في الحي الذي يقطنانه.

والنص ينقل شهادة أب ينساب خطابه على وتيرة سريعة كأن دافعا من أعماقه يحثه على تدارك الصمت الذي ربّى فيه ابنته، في موازاة ذلك يندّ صوت البنت، وقد غدت مراهقة، لكي تروي ما الذي دفعها إلى ارتكاب تلك الحادثة المأساوية.

تتكلم البنت بلغة الضواحي الباريسية، لغة ذات بنية وقاموس ينتهكان السائد، فتتجلى المفارقة بين أسلوبي تعبير، كدليل على الهوة العميقة التي تفصل جيلين، جيل الأب وجيل البنت، وإشارة إلى أسباب صعوبة تواصل أداما مع أبيها، والصعوبة التي يلقاها هو في نقل ماض أليم.

في قرية أفريقية مشتعلة، رجل يتماوت وسط عدد من القتلى لعله ينجو من موت محتوم، عندما هبط الليل، وفيما كان مرتكبو المجزرة ينصرفون في سيارات رباعية الدفع، نهض الرجل يقاوم ألمه وخوفه يتحسس الجثث المشوهة في الظلام بحثا عن زوجته، ولما عثر عليها بعد لأي، كانت قد فارقت الحياة وهي مسجاة فوق طفلتها الرضيع كأنها كانت تريد أن تذود عنها الأسلحة والنيران. سحبها من تحتها وهو يحسبها ميتة، فإذا هي تطلق صرخة فزع مفاجئة، حملها بين ذراعيه وفرّ، فتبدأ عندئذ متاهة طويلة سوف تقودهما إلى مكان لم يحلم به الأب إطلاقا، خلافا لكثيرين غيره، أوروبا.

مسرحية بطلها أب يروي حكاية هجرته، بعد أن نجا من حريق في قريته مع طفلته الرضيعة، يرويها بعد صمت دام خمسة عشر عاما، قطعه يوم اتهمت ابنته بحريق إجرامي في الحي الذي يقطنانه
وفي اليوم الذي تلا الحريق المأساوي، الذي أشعلته ابنته مع صديقتيها لأسباب واهية، يتوجه الأب المصدوم إلى المراهقة التي تنام في السجن، ليسرد عليها حكاية أسرتها، وبذلك نعرف مسارهما الذي صادفتهما أثناءه عقبات ومتاعب، وتهديدات ومخاطر، إلى جانب لقاءات سعيدة وأعمال خير جليلة، حتى وصولهما إلى تلك الضاحية الباريسية، والروتين اليومي الذي خلق على مرّ الأعوام هوة بين إرادة البقاء لدى الأب، وشعوره بالعرفان بجميل أرض آوته وأكرمته، وبين الفراغ وغياب الغاية التي يعاني منها شباب لا يوعدون بغير البطالة وسط سجن فسيح تحده ألواح الخرسانة، ما يضطرهم إلى ابتكار نمط عيشهم، وألبستهم، وأغانيهم وحتى لغتهم، وفي أسوأ الحالات ينساقون إلى الكحول والمخدرات والتجارة الموازية وما تنطوي عليه من عنف وتصادم مع رجال الأمن.

في نهاية تلك الليلة التي كان فيها صوت الأب يحمل أيضا صوت البنت، يكتشفان ما في حياتهما من أشياء ثمينة، ولكن كان الأوان قد فات، ولم يعد بالإمكان تمرير أي قيمة إلا بانبعاثها في أشكال أخرى. وكأن الكاتبة توحي بأن الرأسمالية، من منظور أنثروبولوجي في سعيها لخلق ثقافة جديدة، تشترط بشرا لا علاقة لهم بماضيهم، كي يعيشوا فقط للاستهلاك والمتعة، ولا تتورع عن استغلال حتى من هم في أمس الحاجة إلى العون.

اختار المخرج جيراردو مافاي أن يدرج هذه المسرحية ضمن ثلاثيته عن الاستهلاك، تلك التي تضع موضع مساءلة “الميكانيزمات العبثية لمنظومة طفيلية استحوذت على حيواتنا”، مثلما يدرج حكاية أداما وأبيها ضمن ظرف اجتماعي اقتصادي رأسمالي يحوّل الفرد الذي يعاني الوحدة والاجتثاث من تربته إلى مستهلك مثالي ويد عاملة زهيدة الأجر، ويرى في الحريق الذي أضرمته أداما قطيعة ضرورية، ومقاومة لمنظومة “السياسيين الفاسدين، والصحف المحكومة بعالم المال وقانون الطوارئ”.

ويقول مافاي “كل يوم، تشهد أوروبا قدوم جحافل من البشر الفارين من فظائع الحرب، حرب تغذيها صراعات مافيوزية تخدم مصالح الشركات المتعددة الجنسيات من أجل غاية وحيدة هي تنمية أرباحها، بلا حياء. أولئك الفارون لم يأتوا كلهم إلى أوروبا حبّا فيها، بل جاؤوا أملا في النجاة، ألم يقل الأب: لم أنس أبدا أننا هنا لا لنكون سعداء، بل لأننا هناك ما كنا لنحيا”.

ويواصل المخرج “أداما وأبوها وآلاف غيرهما غادروا بلادهم، وفقدوا كل شيء، ثقافتهم ولغتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ثم صار يطلب منهم الاندماج، في أي شيء؟”، ويتساءل مافاي “في تفاهات ديمقراطياتنا الفاسدة، والقيم الغربية التي لا نرى منها غير تدمير الأميركان لكل ثقافة، وخلق إنسان جديد، قابل لأن يتحول إلى سلعة؟”.

-----------------------------------------
المصدر :ابوبكر العيادي -  العرب 

السبت، 27 مايو 2017

من يخاف فرجينيا وولف

مجلة الفنون المسرحية

من يخاف فرجينيا وولف

الكاتب إدوارد آلبي يعرض سيكولوجية الزواج في الطبقة الوسطى الأميركية والتي وضعها تحت المجهر.

يعرض مسرح هارولد بينتر اللندني مسرحية “من يخاف فرجينيا وولف؟” للكاتب الأميركي إدوارد آلبي حتى السابع والعشرين من شهر مايو. كانت المسرحية قد فازت بجائزتي توني وحلقة النقاد بنيويورك عام 1962، ثم نالت جائزة بوليتسر إلا أن الجائزة تم سحبها لما تناولته المسرحية من مواضيع مثيرة للجدل ولغة محظورة وقتذاك.

لا تقل مسرحيات آلبي شأناً عن أعمال أرثر ميلر وتينيسي وليامز. كان فكره الدرامي قد برز على خريطة المشهد الأميركي في خمسينات القرن العشرين حين ناقشت مسرحياته صراعاً محتداً ومعاناة اجتماعية وخيبة أمل ميزت تلك المرحلة من تاريخ المجتمع الأميركي، مرحلة هيأت لصخب الستينات السياسي ومطحنتها الاجتماعية.

ألاعيب سامة

في ساعات الصباح المبكرة بحرم إحدى الكليات الأميركية تدعو مارثا بروفيسورَ علم الوراثة الجديد وحرمه -نيك وهاني- لاحتساء الخمر في بيتها بالرغم من امتعاض جورج زوجها الكهل. تستهل المسرحية بهتافها السكير وهي تدلف إلى بيتها في الثانية صباحاً “يا يسوع المسيح. يا لها من مزبلة!” بعدها تسود المضيفة البهجة وتنهال علينا ضحكاتها كالمطر. يسيل النبيذ في الحلوق لتجتذب ألاعيبها السامة الزوجين الأصغر سناً.

نيك وهاني أحمقان يتفجر قلباهما بطموح الحلم الأميركي، حلم يتقلب أرقاً، لا يهدأ، وألَقه لا يلبث أن يخبو مع كل حجر عثرة. الثنائي متسلقان اجتماعيان من الدرجة الأولى يسعيان إلى استغلال بعض العلاقات الأكاديمية.

عجرفة الشباب اليافع تلوثهما، وكذا سذاجة منقطعة النظير. وجورج لا يسب نيك حين يذْكر بلسان لا مبال أن نيك يؤمن بيوطوبيا موحشة مترعة بأطفال أنابيب مثاليين. نيك على الجانب الآخر يزدريه ازدراء العالِم لمؤرخ مثل جورج!

نرى الزوجة الصغيرة يسودها الارتباك في أغلب مشاهد المسرحية، وهي الأخرى محل احتقار زوجها. لا نفقه إن كانت مهذبة حقاً أم بلهاء! ولغبائهما، تمسح مارثا بهما خشبة المسرح في خلال ثلاث ساعات هي مدة العرض ثم تُحجِّرهما أحياء كما تُحجِّر الميدوسا ضحاياها في الميثولوجيا الإغريقية.

تلاعب المنتقمين

تقارع مارثا جورج الإهانة مقابل الإهانة، ويتلاعبان بالزوجين الشابين تلاعب المنتقمين.يتسارع الأدرينالين بين المشهد والآخر أو بالأحرى بين العراك والتالي. لا ينقطع الجدل اللاذع أو بصقات السباب. وهذه الأفكوهة المترعة بالحقد والضغينة تضم مشهدين يعيبهما إحساسٌ بأنها كوميديا رخيصة لا تعدم الخشونة.

مارثا مثالٌ للتكلف المتأنق. لا تبدو كإليزابيث تايلور في النسخة الهوليوودية، بدينة الجسد مشعثة الشعر. فاتها ريعان الشباب بيد أنها لم تقع في بركة الكهولة بعد. أمَّا جورج فكان يوماً نجماً، وتاريخ حبهما يشْهد عندما تنتحب مارثا “لا بد من عقابه لارتكابه خطأ شنيعاً جارحاً مهيناً بحبه لي”. ولكنه اليوم مترهل، عنين الجسد والقلب.

والزوجة التي تسلك طريق الخيانة “واقعة في شرك الأبله، تحْمل في قلبها شيئاً اسمه الأمل”. وفي دوامة نهمها الوحشي للجنس والحياة، دوامة كما الجرح الممزق، لا تتوانى عن فعل أي شيء لشد انتباه زوجها. تتلذذ بإهانته، تستفزه عمداً بتصويب إصبع محتقر إليه، ترقص رقصاً خليعاً مع غريب على خشبة المسرح.

من يخاف الوهم

استلهم آلبي عنوان المسرحية من أغنية “من يخاف الذئب الضخم الشرير؟” بفيلم الرسوم المتحركة “السيمفونية الهزلية”. واختلفت التفسيرات حول صلة المسرحية بالكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف. شأنها شأن وولف، مارثا بلا أطفال تزدحم في ذهنها أفكار انتحارية.

سمة وولف الراديكالية والألمعية غير المعهودة غير أنك لن تخشاها. أمَّا إميلدا ستانتون في دور مارثا فقد نجحت في إيقاع الرعب في قلوبنا، كذلك لم تخف علينا هشاشتها واحتقارها لذاتها. ننبهر بأداء متدفق الحيوية لامرأة قوية لا تهاب الرجال وإن كانت في توق دائم إليهم.

يحيي المخرج جيمز ماكدونالد نسخة تطهيرية من أعظم مسرحيات آلبي. لا لكثافة ما تتمتع به من واقعية سيكولوجية تساقطت عنها الأقنعة أو لما تصبّه من نقد اجتماعي على طبقة بأكملها، ولكن لأن كل خطوة فيها تتسم بالحدة واليقظة، بل والسعار الشديد
والأرجح أن العنوان يعني “مَن يخاف الحياة بدون وهم؟”، تعترف مارثا أنها تخاف الحياة بلا وهم، ولكن جورج يغتال أحلامها وهي تشطح بعيداً عن الواقع المبرح ألماً. وبينما ننصت إلى مونولوج من السخط الطافح سكراً من طرف مارثا، يتكشف لنا أن جورج هو الآخر يبطن مكراً خبيثاً يكاد يتقرب من المؤامرة. رجل فاشل أكْرَش بظهر منحنٍ، لا يترك كأس الخمر عن عادة أو إحباط. وعلى كتفيه حمل هذا العرض في دور فذ.

تشريح بلا رحمة

إن هذه المسرحية دراسة مفصلة لديناميكية الكوارث الزوجية القبيحة. وفي تسليطها ضوءاً مشعاً على أركان خفية من العلاقات الزوجية والأبوة وماهية الصداقة، عدَّها النقاد “تشريحاً بلا رحمة لحياة الطبقة الاجتماعية الوسطى في أميركا”. ما الذي تريده تلك الطبقة بكل عنفها اللفظي وحيلها المضطربة واصطناعها للسعادة؟

لا قديسين ولا مخابيل في هذه الدراما. تُردد صدى اعتراف الشاعر البريطاني ديلان توماس أنه يدري، مثله مثل مارثا، كل شهوة وكل نكتة من نكات المراحيض، بإمكانهما استقلال الحافلات وعدّ الفكة وعبور الطرق والنطق بجمل حقيقية. “بيد أن براءتنا عميقة عمقاً متناهياً، وسرّنا المشين هو أننا لا نفقه شيئاً على الإطلاق، أمَّا سرّنا الباطني المروّع فهو أننا لا نكترث لهذا الجهل”.

تطهير اجتماعي

لقد أحيا المخرج جيمز ماكدونالد نسخة تطهيرية من أعظم مسرحيات آلبي. لا لكثافة ما تتمتع به من واقعية سيكولوجية تساقطت عنها الأقنعة أو لما تصبّه من نقد اجتماعي على طبقة بأكملها، ولكن لأن كل خطوة فيها تتسم بالحدة واليقظة، بل والسعار الشديد، كل إيماءة بلا استثناء. لا أحد مسترخٍ ولا جملة متراخية، وأخيراً تتوج الليلة ذروةٌ من المصارحة الزوجية المدمرة.

أهذا ما يراه آلبي في مؤسسة الزواج الحديث؟ مباراة ملاكمة أو نوبة من الكشف الموجع؟ المؤكد أن حِدِّة السكين تلك لا يعوزها حس من السخرية المريرة والكوميديا السوداء. إنه العداء الزوجي المذكِّر بعداء الحرب الباردة! وعلى الأسرة الأميركية نبذ أوهامها ومجابهة الحقيقة على مرارتها.

نسخة سياسية تطهيرية

تتخلل المسرحية مضامين سياسية تلقي بظلالها على حالة أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، حالة جمعت بين بحبوحة العيش وعقم الهدف. نرى الزوج يرمي جسماً متثاقلاً على كرسي يواجه الحائط ليطالع كتاب “انهيار الغرب” للفيلسوف الألماني أوزولد سبينجلر.

ويلاحظ الناقد المسرحي مايكل بيلنجتون في صحيفة “ذا جارديان” أن المسرحية ليست مجرد مثال لتأثر آلبي بالكاتب السويدي يوهان أوغست ستيرنبرغ، وإنما تحليل لحالة الاتحاد الأميركي نفسه. جورج هو الرئيس الأميركي الراحل جورج واشنطن، ومارثا هي زوجته. يعمل زوج الستينات في كلية يشير اسمها إلى الإمبراطورية الرومانية: نيو كارثيدج، وهي بلدة غزاها الرومان بعد معركة شديدة الوطأة في أيبريا، مما يوحي بالدمار المُبَيَّت.

وهناك مشهد محوري يشير إليه بيلنجتون حين يصرح عالم الإنسانيات جورج إلى عالم الوراثة نيك بأن الأميركيين يحتسون الخمر بشراهة “أحسبنا سنفْرط أيضاً في الخمر… لو بقينا على قيد الحياة”. كتب آلبي هذه السطور عام 1962 والحرب الباردة تهدد السلام الاجتماعي في أميركا، وتبدو الآن وفقاً لتحليل بيلنجتون شديدة الصلة بالواقع الأميركي تحت حكم ترامب.

------------------------------------------
المصدر : هالة صلاح الدين - العرب 


تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption