أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات مسرحية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات مسرحية. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 7 مايو 2017

الكاتب والمخرج المسرحي.. علاقة متوترة

مجلة الفنون المسرحية

عندما يتناول مخرج ما مسرحية لعرضها، ما الذي يمنع الكاتب من حضور البروفات المسرحية؟ وعندما يحضر الكاتب سيجد المخرج نفسه في موقف حرج لأنه قد يغيّر بعض الجمل أو يعدّلها وفق خطته الإخراجية. لكن لماذا الحرج طالما هو الذي يقود السفينة إلى فضاءات النجاح عبر توزيع الأدوار على الممثلين رغم وجود الكاتب الذي لن يكون ربان هذه السفينة الآن على الإطلاق ولا هو صاحب السلطة المطلقة التي يجب أن يكون فاعلاً فيها بطرق مختلفة؟‏‏ اذا كان الكاتب المسرحي شخصاً معروفاً مثل ديفيد ماميت أو نيل سيمون أو توم ستوبارد، فسلطته وفاعليته محصورة في كثير من الأحيان بمناقشات مستمرة بينه وبين المخرج حول ما يحتويه النص من إشارات وحوارات ومواقف وحالات وحتى إرشادات إخراجية متفق عليها والتي يمكن للمخرج الاستفادة منها أو لا، وإذا كان المخرج يتعامل مع كاتب جديد، عندها قد يفكر في ترتيب المشاهد واستبدالها بحيث تكون أكثر فعالية في العرض.‏‏ أول شيء يدركه المخرج هو أن العديد من الكتاب المسرحيين الجدد لا يفهمون العملية التي تحول النص المسرحي إلى فن العرض المسرحي عبر مجموعة من الناس الموهوبين، مثل الممثلين والمصممين السينوغرافيين والدراماتورج وما إلى ذلك، والذين يعيدون تشكيل المادة الأصلية إلى فعل وأداء حركي ومناظر مسرحية. في بعض الأحيان، قد يجري المخرج تغييراً في رؤية الكاتب الأصلية ومقولته لتحقيق أمر ما يكون لصالح العرض، ما يؤدي إلى استياء الكاتب، لكن هناك بعض الكتاب يجدون صعوبة التخلي عن صورة مسرحية في النص والذهن، إن لم نقل استحالة التخلي عنها، والذين يصرون على توالد الصور التي تشكلت أول مرة في خيالهم عند كتابة النص بشكل ملموس.‏‏ أنا لا أرى أن فقدان الصورة/ المشهد يتطلب تغيير طبيعة العمل الأصلية وروحه، إلا أن فعل التفسير/ التأويل يفتح الأبواب على مفاهيم جديدة وإثارة أسئلة عن ماهية الكاتب وإبداعه. لكن إذا كان الكاتب يعترف أن نصه يتحول من نوع أدبي إلى نوع آخر فني/ مرئي، فلكل نوع أدواته وشروطه ومتطلباته تنجر إلى حالة الفوضى في بداية الأمر ثم تنتظم في إطار رؤية المخرج.‏‏ من الضروري أن يحضر الكاتب العديد من بروفات القراءة مع الممثلين والجلوس معهم إلى الطاولة الحوار لقراءة النص المقترح معاً، وبدوره يقدم الكاتب أكبر كمية من الاستفسارات والمعلومات والمعرفة للمجموعة كما أنه يمكن أن يقدم لكل حركة معان متعددة ومفتوحة، وأن يكون لديه فرصة للرد على الأسئلة بحيث يقدم للممثلين معاني واضحة من دون غموض، وينبغي أن يمنعهم من حضور البروفات الخاصة بينه وبين المخرج، قد يبدو هذا غير مستساغ، لكنها عملية ناجحة.‏‏ يبدأ الممثلون البحث عن الخطوط الدرامية وأفعال الشخصيات تبريراً لصياغة تحركاتهم على الخشبة، ولا يستطيعون اقتراح أي شيء إذا كان الكاتب موجوداً لأنهم ليسوا متأكدين فيما إذا كانوا يدركون أن حالة الفوضى أو التشكيل الحركي مؤقتة أم لا، وستتغير هذه الحالة كلما استمرت البروفة، ومن الضروري التأثير على جزء من عملية البحث والعثور على طريقة وأسلوب التمثيل، وهم مدركون بشكل مؤلم لحقيقة أن كل شيء في حالة فوضى، حالة الفوضى تسبق خيارات حاسمة من قبل المخرج الذي من شأنه أن يضبط العمل ويطبع عليه بصمته الإبداعية الخاصة.‏‏ ذات مرة كانت المسرحية جاهزة للعرض، وكان ينبغي دعوة الكاتب المسرحي إليها لحضور البروفة الأخيرة «الجنرال» ومشاهدة العمل في حالته البدائية، في هذه الحالة ستتكون لديه فكرة بالطريقة التي يتحرك فيها الممثلون واستخدام مكونات العرض الأساسية، وإذا كانت لديه اعتراضات قوية على هذه الطريقة، فمهمة المخرج شرح وجهة نظره له باعتباره الصوت المدافع عن العمل للتعبير عن الرؤية الإخراجية وتحركات الممثلين عندها سيحصل المخرج على انطباع حول كيفية الانتقال من حالة المسرحة إلى حالة الإبداع.‏‏ إن غياب الكاتب عن البروفات يعطي مبرراً قوياً لاستكشاف الموضوعات والمواقف التي لا تقدر بثمن والتي ربما تكون على خلاف مع مقولة الكاتب، وتكون ردود أفعاله وثيقة الصلة بتلك المرحلة، ويتعين على المخرج النظر فيها في هذه اللحظة، حيث يلهم الكاتب نفسه لتغيير وتعديل أو حذف أو إعادة النظر فيما كتبه عندما يقدم المخرج فرصة لمواجهة المشاكل مع النص، ومن ناحية أخرى تكون فترة البروفة غير واردة في الزمن.‏‏ إن المخرج والكاتب يقيمان العمل بصراحة بحيث يتفقان أو يختلفان على تحويل مقترحات النص الأدبي إلى عرض مسرحي منسجم أو متقارب في رؤية واحدة لتصور الشكل النهائي للمنتج. فصدق المشهد من قبل الطرفين قد يوفر فرصة كبيرة لتقديم عمل مشترك وناجح بينهما، وفي الوقت نفسه يقدم كل واحد البراهين والمبررات لمعالجات النص في محاولة لاستيعاب الطريقة الجديدة في الكتابة والتمثيل وشكل العرض.‏‏ ورغم انتقادات الكاتب المسرحي على العرض ودفاع المخرج عنه، يجب أن تنتقل هذه المناقشات والانتقادات إلى الممثلين ليتمكنوا من معرفة تأثير العرض على المتفرج بأسلوبهم الخاص. لا يستطيع الكاتب تعزيز عدم ثقة المخرج بنفسه وبالآخرين من اكتشاف فجائي عندما يستجيب الممثلون لملاحظات الكاتب بدلاً من الاستجابة لملاحظات المخرج، وهذا ليس غروراً بقدر ما هو تحدٍ، فالكاتب ببساطة لا يملك لغة العرض وليست لديه خبرة تقنية وقد لا يعرف معالجة المشاكل التي تظهر أثناء البروفات مع الممثلين والمصممين، بعكس المخرج الذي تكون لديه الجرأة في معالجة الإشكاليات ومتابعة الخطوط الدرامية والمشهدية البصرية/ السينوغرافية، وبالتالي فالكاتب المسرحي يجب ألا يتدخل في عمل المخرج ولا في آلية التواصل ويبقى متفرجاً لأن هناك مهمات منوطة لكل فاعل في العرض بالاتفاق مع الجهة المنتجة.‏‏ ربما يكون الكاتب المسرحي على معرفة بإبداء الملاحظات للممثلين حول خطأ الأداء وصوابه وليس حول أسلوب الأداء أو طريقة التعبير، فهو عادة لا يستخدم المفردات العادية ولا خلفية مسرحية لمعرفة كيفية تصحيح ذلك. باختصار لا ينبغي أن يقدم سلسلة من الأوامر في عملية الإنتاج، وفجأة يتم تدمير كل ما قدمه المخرج كما أنه يبث القلق إلى الممثلين السينمائيين والمخرجين الجدد وحصول نتائج عكسية واضطرابات مميتة لنوايا الكاتب المسرحي والمعالجة الخاصة به.‏‏ عندما أخرجت الثلاثية التي كتبها موراي تسيغال في لندن «في الواقع كان هذا أول إنتاج احترافي للكاتب» كان الكاتب متوتراً يصعد ويهبط في الممر الخلفي للخشبة يفرك يديه ويتمتم في قلق وتهيج مع ممثليّ العمل، لدرجة أن الممثلين أنفسهم اشتكوا لي بأنهم لا يستطيعون معرفة ما يجري والقيام بالبروفة لأن الكاتب منزعج جداً من أدائهم، فشرحت ذلك للكاتب للمحافظة على الروح المعنوية للممثلين ثم منعته من حضور البروفات اليومية حتى يجهز العرض تماماً. كان هذا في بداية مهنة السيد تسيغال الكتابية بلا شك. أعتقد أن هذا التصرف لا يشجع أي مخرج على تقديم مسرحيته على الخشبة، ولكن كان خياري بسيطاً، إما أن يبقى الكاتب والممثلون ليتحول العرض تدريجياً إلى حالة فوضى سيئة أو أن يخرج الكاتب من المسرح ثم أستأنف العمل، لم يكن لدي أي تردد في اتخاذ قراري الثاني.‏‏ دُعيت إلى إخراج مسرحية في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. كنت أعرف الكاتب ومسرحيته، وكانت المسرحية بحاجة إلى إعداد، فجهزتها للعرض بشكل جدي، وكنت أعرف مشكلة الكاتب لأن لي تجربة سابقة معه، فاضطررت إلى إجراء تعديلات وحذف بعض المقاطع بسبب الإنتاج. ولتفادي تكرار هذا الوضع اتفقت معه أن هذا الإجراء بسبب قلة التمويل فوافق مباشرة من دون تذمر. وأنا من جانبي جعلت البروفة في وضع مريح، وذلك بعد القراءات الأولى التي من شأنها أن يترك البروفة على أن يعود إليها عندما يتطور العمل، يتقبل الكاتب أخلاقيات العمل على مضض.‏‏ أثناء البروفات عملت على اقتصاديات الدلالة من النص لحماية العرض من حالة الفوضى المفرطة من قبل الممثلين الذين كانوا حريصين على المحافظة على سير البروفة كما يجب أن تسير. يمكنني القول إن العرض لاقى قبولاً من قبل الكاتب والجمهور على حد سواء، لكن تلك كانت حالة فريدة من نوعها، عادة، تبدأ البروفات مع اختصار النص بالفعل وصولاً إلى الخشبة، في هذه الحالة، كان الأداء مع بعض التجاوزات بحاجة إلى ضبط التشكيل الحركي الذي يتعين تقييمه بعناية قبل اتخاذ قرار الاختصارات والتعديلات بحيث يكون العمل الفني مغلفاً من الخارج بوشاح النجاح.‏‏ العمل مع الكاتب المسرحي الذي اختاره المخرج لتقديم مسرحيته على الخشبة هو دعوة إلى وليمة فاخرة، بشرط ألا يفسد هذا التعاون البروفات والتي تنعكس سلباً على الجهة المنتجة وعلى الجمهور الذي دفع ثمن البطاقة.‏‏

-------------------------------------------------------
المصدر : تشارلز مارو/ ترجمة: سناء عرموش

السبت، 6 مايو 2017

جماليات التكوين الحركى فى العرض المسرحى

مجلة الفنون المسرحية


 جماليات التكوين الحركى فى العرض المسرحى

راندا طه

يرى جوليان هيلتون Julian Hilton[1]  أن العرض المسرحى هو نتاج لثلاثة عناصر : المؤدى والفضاء المسرحى والزمن، ويستبعد هيلتون عنصرالنص من العناصر السابقة وذلك لوجود بعض أنماط من العروض كالعروض الأدائية التى لا يوجد لها نص مكتوب . والعرض المسرحى شكل متسلسل يتسم بالديناميكية والحركة المستمرة فى الزمن، ويختلف العرض المسرحى عن السينمائى فى كون العرض المسرحى منفتحاً على المشاركة الحية للجمهور[2].  كما أن العرض المسرحى عالم مختلف بأبعاده وتصميمه وألوانه ، يقوم فيه المخرج بالتجريب والمغامرة من خلال أدواته وخبراته ، ومن خلالها يشكل مفاهيمه الخاصة . والعرض المسرحى هو فى جوهره صورة مرئية وصوتية، فالصورة لابد أن تقول شيئاً ولابد أن يكون لها شكل متميز وتكوين مقصود فكرياً وجمالياً ترتاح له العين وتستوعب معانيه ، ويتكون العرض المسرحى من سلسلة من الصور المتتابعة ذات المغزى المتسق الذى يحكى قصة من خلال تكوينه المحدد بإطار معين [3].

وتطرح العروض المسرحية رؤى جديدة ومبتكرة تظهر كـصور Images بصرية وتكوينات يقوم المتلقى بتأويلها  Interpretation وتفسيرها بأشكال متعددة. ويعتمد التكوين المسرحى على عناصر عديدة منها عنصر بالغ الأهمية وهو الحركة وذلك لاعتماد العرض المسرحى بالأساس عليها، ولولا الإيهام بالحركة ما كان المسرح. والحركة – فى جوهرها- هى التعبير المباشر المحسوس عن مبدأ الصيرورة أو التحولات (ميتامورفوسيس metamorphosis)، أو هى فى معنى آخر الرسم على إحداثيى الزمان والمكان، كما اعتبرها الفلاسفة  التعبير الحقيقى عن استمرار الحياة من خلال الصراع ، واتخذت الحركة فى التكوين المسرحى مكانة متعاظمة فى المسرح العالمى المعاصر كما فى أعمال جروتوفسكى، بيتر بروك وآرين منوشكين[4] .

ولكل عرض مسرحى تكوين حركي تشكيلي تتداخل فيه التكوينات والمفردات  من خلال حركة الممثل ، والعناصر والإضاءة والتى تخلق فى مجملها مفهوماً تشكيلياً جمالياً عند المتلقى[5] . والتكوين المسرحى الحركى مساحة لا متناهية من التغير والتشكل يشعر بها المتلقى من خلال لفت انتباهه بإعادة التكوين والتشكيل. وللتكوين الحركى جماليات ترتبط بالكتلة واللون والفراغ والموسيقى وكافة العناصر بشكل عام وتشكل نسقاً خاصاً مترابطاً يؤثر في الجمهور ، وأحياناً يرتبط التكوين المسرحى الحركى بالفنون التشكيلية إلا أنه يبقى دائما مرتبطاً بالجوانب التذوقية التي لاتخضع لقانون أو قاعدة. ولكل سينوغرافى أو مخرج وجهة نظر خاصة به ، وذلك قد يسبب صعوبة في بلوغ المعنى الشامل للتكوين – ربما برغم سهولة فهم التكوين – عند ذلك يمكن إدراك التكوين بتأمل الانسجام الحادث بين العناصر المختلفة التى تشكله. يتحدد نجاح أى تكوين مسرحى بتوافر عناصرعديدة هى: الوحدة والتنوع والاتساق والتضاد والتوازن والتأكيد فى بناء التكوينات المتتابعة والتى تظهر فى تتابع سريع لصياغة التكوين المسرحى ، ولابد من توافر التناسب فى التكوين مع مساحة المنصة ، وخلق التكوينات ذات القيمة التشكيلية الجمالية والموحية، وترتيب التكوينات فى تتابع يثير ذهن المتلقى ، وإذا لم يستطع المخرج أن يوائم بين عناصره وبين خصائص المنصة التى يجرى عليها العرض  أو بحدوث نقص فى العناصر السابقة ، تتأثر الاستجابة المرجوة للجمهور ويفشل المخرج فى توصيل المعنى، أو يتسبب فى تشتيت ذهن الجمهور مهما كان التكوين جميلاً .
كما أن تكرار أنماط التكوين قد يصيب الايقاع بالملل، فالتكوينات المقسمة لنصفين من الشخصيات - على سبيل المثال- أو ترتيب الشخصيات على مسافات متساوية يصيب المتفرج بالآلية والتشتت إلا فى العروض التجريبية التى قد تلجأ لتلك التكوينات للإيحاء بضياع الانسان المعاصر . كما أن "الوحدة unity " بدون تنويعات متتابعة سرعان ما تفقد قدرتها على التأثير على المتفرج . أما الاتساق فيزيد الاحساس بالوحدة فى التكوين ، فمن خلاله تتداخل العناصر وتتفاعل لتكوين الشكل المميز  . ويضفى" التضاد contrast" الحيوية على التكوين ، فالتضاد قد يكون فى اللون والديكور والملابس وحتى فى الحوار ، أوالتضاد بين مختلف الأفكار والتوجهات ، كما أن التضاد فى الحركة المسرحية يبرز الصراع الدرامى ، وبدون التضاد يتحول التكوين من كيان ديناميكى متفاعل إلى وضع استاتيكى راكد . 

ومن عناصر التكوين المسرحى الأخرى : "الاتزانbalance " والذى يتكون من قوى" الشد tension" و"الانجذاب"attraction، وتعتمد درجات الشد فى التكوين المسرحى على المسافة بين الأشكال ، أو فى العلاقة بين الممثل والعناصر المشهدية والأثاث ، أما قوة الانجذاب أو الجاذبية فتؤثر على الاتزان وذلك بوضع أحد عناصر المنظر ثقيلة الوزن بشكل يتدلى فى المشهد مما يعطى إحساساً بالسقوط يؤدى بدوره للاحساس بعدم الاتزان . كما يمكن تصنيف الاتزان لنوعين هما : الاتزان المادى والاتزان النفسى. فالاتزان المادى يتم من خلال تعادل توزيع كتل التكوين على المسرح ، أما الاتزان النفسى فمن خلال تعادل قوى متضادة ومتصارعة غير ملموسة مادياً ، وتلك الطاقات النفسية تمنح الإحساس نوعاً من الوزن والكتلة وتتجسد فى الحركة والصوت والحديث والضوء واللون ، ويؤثر افتقاد الصورة المسرحية للتوازن بالسلب على العرض . كما يؤثر عنصر التأكيد على التكوين المسرحى ، وذلك من خلال اختيار المخرج مثلاً للشخصية التى ترتكز عليها أنظار الجمهور ، وينتقل التأكيد ويتغير بالضرورة من شخصية لأخرى مع تطور المشهد فى العرض، ومن خلال استخدام الأوضاع الجسدية والمساحات والمناطق والمسطحات والمستويات يؤكد المخرج على المعنى المطلوب. أما "الايقاع rhythm " فمن خلاله تُحَدَّد النسبة ما بين حجم المشهد المسرحى بالنسبة للمقياس الانسانى كما قد تصمم مشاهد ضخمة فى قياسها بالنسبة لحجم الممثل  ، ويؤثر الايقاع على وحدة التكوين من خلال التكرار المنتظم المتتابع والمتنوع دون أن يصيب المتلقى بالملل . 

أما الإحساس بالوحدة فيعد القيمة النهائية التى يسعى إليها المخرج فى عرضه ، ويعتمد الإحساس بالوحدة على التفاعل الايجابى بين العناصر السابقة (التنوع والاتساق والتضاد والتوازن والتأكيد والايقاع)، ويمكن تحديد عنصر الوحدة بكونها تعنى التفرد والاكتمال ، فكل تكوين هو وحدة متكاملة من خلال الاختيار الصحيح والترتيب والتكثيف، فكل عنصر فى التكوين يؤدى معنىً مطلوباً فى الصورة  .

وكل العناصر السابقة مهمة للحركة كما للتكوين فالحركة بطبيعتها لغة بصرية ذات قيمة تعبيرية غير محدودة ، فصورة الحركة تنطبع فى شاشة المخيلة – بعكس الحوار الذى يحتاج ليقظة ذهنية وقدرة على الحفظ والاسترجاع- فالحركة قادرة على جذب العين والتمسك بها ، وتثير تشويق المتفرج وتبرز عوامل الصراع الدرامى والتعبير الحسى عن الانفعالات والمشاعر .

يُطلق مصطلح الحركة على التتابع ما بين عمليتى الاختفاء ثم ظهور وإعادة صياغة تكوين جديد ، والفترة الزمنية التى تحتلها الصورة على المنصة رهن بمدى أهميتها وثقلها وقوة الدفع الكامنة فيها، وعندما تتوقف الحركة وتلزم الشخصيات مواقعها يتكون للصورة معنى من خلال التكوين الذى تحتوى عليه. وتشكل عناصر التكوين وحدة عضوية وجمالية أمام المشاهدين لا تنفصل عن المعنى أو المضمون الفكرى للنص المسرحى  . ويمكن تحليل تتابع الحركة المسرحية من خلال : ظهورصورة يعقبها اختفاء مع صياغة تكوين جديد ثم ظهور صورة .....إلخ  .

المصادر:

1 - جوليان هيلتون . اتجاهات جديدة فى المسرح.ترجمة أمين الرباط .مركز اللغات والترجمة اكادمية الفنون.1995م.ص33
2 - جوليان هيلتون . اتجاهات جديدة فى المسرح.ترجمة أمين الرباط .مركز اللغات والترجمة اكادمية الفنون.1995م.ص19-20
3- نبيل راغب فن العرض المسرحى ..الشركة المصرية العالمية للنشر-لونجمان.1996.ص104
[4] - صالح سعد،ميتافيزيقا الحركة. :دراسات فى الدراما الحركية والرقص، الهيئة العامة لقصور الثقافة،1995، ص11- 24
4- صالح سعد،ميتافيزيقا الحركة. :دراسات فى الدراما الحركية والرقص، الهيئة العامة لقصور الثقافة،1995، ص11- 24

  - نبيل راغب . فن العرض المسرحى . الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان.1996.ص108

  - نفس المصدر.ص110

 - نفس المصدر.ص110

  - نفس المصدر.ص111

  نفس المصدر.ص113

  ننفس المصدر.ص108-109

  نفس المصدر.ص115

  نفس المصدر.ص104

 -W. Oren Parker. Scene Design & Stage Lighting. 2nd Edition. 1964. p60-61

 - W. Oren Parker. Scene Design & Stage Lighting. 2nd Edition. 1964. p62

الاثنين، 1 مايو 2017

ما بعد التراجيديا في مولد (الميتامسرح)

مجلة الفنون المسرحية



ما بعد التراجيديا في مولد (الميتامسرح)

حاتم محمودي

لا شكّ في أنّ الإنسانية باتت -الآن- تقف على شفا جرف هار، وخاصّة بعد انهيار قيمها المطلقة والثابتة، منذ الجراحات الفلسفية صاحبة التأبين الميتافيزيقي للإله، مع “نيتشه”، وأفول النزعة الإنسانية مع “ميشال فوكو”، ومنذ الخلخلة العلمية المتمثلة فيما هو بيولوجي مع “داروين”، ونفسي مع “فرويد”، وفلكي مع “كوبرنيك”، ومنذ إعلان “البارتيّة” موت المؤلّف بتحقق البنيوية؛ ردّا على المناهج القديمة والكلاسيكية والإطاحة بالظاهراتية.
لقد تمّ تقويض كل التصورات التي حافظت لعصور على ذلك الزمن المجرّد المتعالي والثابت؛ منذ التركة الأرسطية، أو ما أطلق عليهم نيتشه “فلاسفة الانحطاط”، بوصفهم قتلة “ديونيزوس”؛ حتى أنه منذ ستينيات القرن الماضي، كان مع المفكّر والباحث الأميركي “أبيل” حديث عن “الميتامسرح”، كوريث شرعي للتراجيديا، ومن بعده النقد الفرنسي مع “مانفراد شميلنغ”، وبدرجة أقلّ “باتريس بافيس”.
تجدر بنا الإشارة إلى تحوّلات هذا المفهوم، فهو وإن كان رؤية فلسفية للعالم -وفق النقد الأميركي- فقد عُدّ ضربًا من ضروب التأريخ لسيرورة الفعل الأدبي داخل الفعل المسرحي عند الفرنسيين، وهو إن أطاح بالتراجيديا، فلأنّ مرتكزاته العلمية والفلسفية التي قوّضت ما هو ثابت ومطلق، قد أطاحت -بدورها- القيم الثابتة التي قامت عليها الأولى؛ ما يخوّله تصدّر الرّهان الحداثي -برمّته- على المستوى الفنّي، ولكن ثمّة ما يعتلي بالسؤال، فتلك المرتكزات كانت -في أوّلها- تجذيرًا وتأصيلًا للحداثة التي أعلنت فشلها، بعد استبدالها ما هو لاهوتي بصنم جديد هو العقل، وبعد فراغ المقوّم الحضاري الحاليّ من كلّ ما هو روحي وطقسي.

إنّ الإطاحة بالتراجيديا، مثّل فراغًا قويًّا وجراحات كبيرة، حملت المسرح؛ ليكون على وعي بأزماته، لكن يبدو أن “الميتامسرح” هو الآخر، وبوصفه نقدًا وتجاوزًا للراهن، ظلّ حبيس القراءات السطحية، منذ أن تمّ اختزاله -مع البنيويين- في النصوص المسرحية لا أكثر، ومنذ أن تمّ الإقرار باستبعاده من الأشكال “الفرجوية”، وهو اختزال يجعلنا نذهب إلى تقويضه بدوره. فقتل المؤلّف -بنيويًا- لا يزيح النصّ المسرحي بشكل نهائي، إنّما يخلق مركزية مضادّة، هي مركزية اللغة، وهو ما من شأنه أن يحافظ على القوالب الجمالية السائدة، مهما كان تفجير الوحدات الثلاث الأرسطية، أمرًا مهمًا.

يبدو لنا جليّا أن أزمة المسرح المعاصر كانت نتيجة التحوّل من الثابت إلى المتغيّر، وهي نتيجة ضرورية وحتمية إذا ما اتبعنا إرهاصات الحداثة وتمثّلاتها، ما دفع بالمسرح إلى البحث عن أشكال درامية جديدة عوض تلك السائدة أو القديمة، ولعل ما ذهب إليه “ليفي شترواس”، برفعه البنيوية إلى الحقول الأنثروبولوجية، هو ما سيفصح -نظريًّا- عن تلك العودة إلى البدائية من الأساطير والأشكال “الفرجوية”، وما هو طقسي وتعازيم ونذور؛ أي أنّنا إزاء نظرة إلى الحياة، بوصفها مسرحًا سلفًا، تمسرح بدورها “الآن” فنّيًا.

ثمّة جانب مهمّ، وجبت الإشارة إليه؛ فالعودة إلى الأصول تلك، خلقت -اليوم- ما يُطلَق عليه مسرح المثاقفة الآخر، بغية حلّه لمآزق مسرحه، لم يتعامل مع الطقوس الاحتفالية للشعوب والحضارات الأخرى، بهدف تناسج الأسيقة الثقافية؛ إنّما من موقع استثمارها لصالحه، وهو أمر يتعارض وعلّة “الميتامسرح” خاصّة؛ إنه يقوم على التناصّ/ تفاعل الفرجات، وعلى التجويف/ الفرجة داخل الفرجة، لا على الانتحال أو الاستثمار.

وللمحافظة على الرهان القديم/ السائد، ظلّت العديد من الدراسات -في قراءتها لمسرح ما بعد الدراما- مجرّد فؤوس تحاول شرخ أو جرح الصنم الجمالي الموروث منذ العهود الأثينية، وذلك بإقامتها حيّز القالب الجمالي دون حفرٍ “أنثروبولوجي”، من شأنه أن يعطينا تصورات جديدة عن مفهوم المسرح؛ لذلك، لم تبرح قاعات العرض، بل حاولت تغييرها، ولم تخن ما هو تقني؛ كالإضاءة والسينوغرافيا، إنما غيّرت في آلياتها، ولم تقوّض النصوص بل قوّضت سلطتها، أي: أنها مجرّد امتداد جدلي (ديالكتيكي) للماضي، ولم تحقق غير علاقة جديدة مع المتلقي، بعد تحرّرها من الإيهام، وتشغيلها للبعد التساؤلي عند المتلقي، وإمكانياته الإدراكية.

قد يعترض علينا مبحث آخر؛ ليقوّض ما ذهبنا إليه، ولكن الوعي بحجم المغالطات التاريخية الأولى، التي جعلت من المسرح رهان المركزية الثقافية، والتي صُدّرت إلى شعوب أخرى من الإغريق، وظلت سائدة، وهو ما يحملنا على تقويض وتفكيك مسرح المثاقفة من جهة، ومسرح ما بعد الدراما من جهة ثانية، ذلك أنّهما امتداد لتلك المركزية وليس هدمًا ونسفًا لها، بشكل كلّي، وأنّ ردم ذلك يبقى محفوفًا بقدرة وريث التراجيديا وتشغيله بالبحث في الأشكال الفرجوية -ما قبل مسرحية- بمناهج حديثة تتعالق هي الأخرى بدورها، وفقا للرؤية التي ذكرناها سلفًا مع ليفي شترواس.

مثلما تتحقق الأساطير وتتوالد لغويا (البنيوية) تتوالد أيضًا من أساطير أخرى (أنثروبولوجيا)، وبهذا الشكل نكون قد خرجنا من المأزق البنيوي، كما لو أنّنا نفتح نهجًا للاشتغال بـ “الميتامسرح” -في الأشكال الطقسية والاحتفالات والفرجات- خارج نطاق السيطرة الكولونيالية؛ بوصفها وجهًا من وجوه الحداثة المخاتلة.

----------------------------------------------
المصدر : جيرون 

الميتامسرح ..علاقة الأنا المؤدية بالآخر المتلقي

مجلة الفنون المسرحية

الميتامسرح‭
علاقة‭ ‬الأنا‭ ‬المؤدية‭ ‬بالآخر‭ ‬المتلقي

 أحمد ضياء 

يأتي‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬التسميات‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬حيزها‭ ‬ومكانتها‭ ‬في‭ ‬العرض‭ ‬المسرحي‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬يصفه‭ ‬بـ(المسرح‭ ‬داخل‭ ‬المسرح‭ ‬–‭ ‬الميتامسرح‭ ‬–الميتاتياترو–‭ ‬المسرح‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬–‭ ‬المسرحة‭ ‬أو‭ ‬التمسرح)‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الباحث‭ ‬يأخذ‭ ‬مصطلح‭ ‬(الميتامسرح)‭ ‬على‭ ‬الأغلب‮ ‬‭ ‬بديلاً‭ ‬عن‭ ‬كافة‭ ‬المجاورات‭ ‬الأخرى‭ ‬لما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬كريولية‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬الاندماج‭ ‬مع‭ ‬العروض‭ ‬المتبعة‭.‬
وفي ظل صراعات قائمة بين النظريات المسرحية أتت النظرية الميتامسرحية لتأخذ حيزاً كبيراً بين أدراج الإخراج المسرحي إذ استطاع العاملون فيها تأسيس ركن جديد يوازي النظرية السابقة بالاعتماد على المتلقي بشكل كبير وجوهري، فأخذ المؤدي/المتلقي بعداً جوهرياً مغايراً لكافة الأنساق التي عرف بها فلم يعد هذا الشخص ساكناً أو راكداً في مكانه يستقبل العرض فقط بل إنه بدأ يعطي ارشادات نقدية للعرض وبالتالي دسّ نفسه ضمن إطار العرض ولئلّا يظل واقفاً فقط نراه يتعامل مع العرض على أنه مفتتح جمالي جديد يتيح التعبير عن كافة الخلجات التي تؤرق المتلقي وتجعله يغيب فيها.
ويحدث الاشتغال الميتامسرحي على المواصلة في العرض رغم أن المصطلح ينماز بمساعيه الكريولية التي من خلالها أسس مفهوماً جديراً بالرؤيا والتنظير وليس من اليسير ولوج المخرج في العرض المسرحي وإعطاء إرشاداته التي غالباً ما يقوم بها في أوقات البروفة وليس في العرض مما يوفر بعداً جديداً لكسر أفق التوقع لدى المتلقي حيث يجد أن هذه اللعبة المسرحية تمارس تماساً مغايراً مع المكان ومع الرحلة المسرحية. أخذ المؤدي على عاتقه إبراز كيف يتم الاشتغال على هذا الفعل الثقافي الجديد فهو هنا لاعب ومؤدّ ومتفرج في الوقت ذاته مما يوفر له الفضاء من فعل ارتجاليّ.

يستبعد المؤدي عن رأسه كل حالات التقمص التي تتملكه أثناء بدئه بالعرض ويحاول دائماً كسر الجدار الرابع الفاصل بينه وبين المتلقين مما يتيح بعداً آخر تشاركياً، ويتكون هذا الأمر بسبب إصراره الشديد على إفهام المتلقي بهذه اللعبة، ويعرض المؤدي مشاهد قريبة من الواقع ليسهّل عملية تفاعل المتلقي مع العرض وعلى هذا الأمر سار المؤدي في عملية حجاجية لإبراز كوامن المتلقي وعدم كبته لكافة المتعلقات الأساس مع العرض، ويتيح الميتامسرح إنتاج بذور مغايرة لضمان ديمومة الاستمرار بمثل هكذا عروض تحاول أن توفر أرض خصبة للاحتجاج والتغيير إذ تتّخذ من السلطة غالباً الند الموضوعي لها، ففي العرض الميتامسرحي لا توجد هناك فوارق بين الشخصيات بل تذوب الأسماء فيما بينها لتصبح الشخصيات بـ (الممثل، المخرج، الممثل1 ، الممثل2 …. إلخ) وهنا فعلاً انصهارياً لكافة المقاييس التي تحتفي بها النظرية الأولى للمسرح.

جاءت الميتامسرح بوصفها نظرية ند، مكللة بالعديد من الأجناس الأدبية ونتيجة لانصهار هذه المكونات اعتمدت الفضاءات الحداثية وما بعدها منطلقاً لبلورة الإنتاج في المسرح البديل، وهنا أتقنت هذه النظرية دخولها بين أفواج كبيرة من العروض والنصوص المتعلقة في إنشاء الميتامسرح.

وإذا ذهبنا نحو النصوص المسرحية فنجد أن هناك العديد من هذه النصوص ذات الوثبة الأولى والجذر المتين لهذه النظرية وهذه النصوص على سبيل المثال لا الحصر هي (الضفادع، لهاملت) حيث أسس كل من الكاتبين فانيس وشكسبير عالماً خاصاً بهما يحاكي الشخصيات الأخرى. فالضفادع استطاعات استحضار الكاتبين السابقين (أسخيلوس / يوربيدس) وزجت بهما في حوارية مع العرض وإذا أخذت البعد الفلسفي لهذا المكون نجده في (محاورات بارمنيدس) لأفلاطون أخذت الجانب الأول للحوارية ولكن برؤيا أو صبغة فلسفية، أما شكسبير فقد استدعى من خلال النص أو العرض ممثلين آخرين ليؤدوا مشهداً أمام هاملت وهنا تحول الفعل المسرحي إلى جانب جديداً ميتامسرحي أي أصبح الممثلون أنفسهم متفرجين ولا بد من التأكيد على هذه الحالة في سبيل أن يكون هذا الجزء من العرض بارزاً عن كل ما سبقه.

ثم أتى بيراندللو مكللاً ومحتفياً بنظريته الميتامسرحية هذه في النص وخاصة في نصه الشهير (ست شخصيات تبحث عن مؤلف)، وهنا التجأ المسرح نحو ذاتية الذات ومسرحتها متخلياً عن ركوده العميق في نمطية الاشتغال.

وللباروديا عنصر أساس في تكوين الميتامسرح، كونه يسمح في تبلور العديد من المنتوجات اليومية والمحسوسة في أذهان المتلقين حيث الشاكلة الأولى والأساس المتواجدة فيهم، وهنا ينبغي إفراد آليات جديدة للميتامسرح تكون بمعزل عن المسرح ومنها:

على المؤدي أن يدرك المرامي اللعبية التي يتصف بها العرض الميتامسرحي.

المتلقي حاضر فعلي في الميتامسرح ومن شأنه التعليق على الأحداث والتلاعب بكل الحيثيات الفكرية التي من شأنه أن يتلاعب معها ويناغيها.

المسرح داخل المسرح هو مرحلة التمكن من العرض والالتجاء إلى الارتجال كحدّ جديد.

الذات مقابل الذات أي أن المؤدي يمارس نقد الحياة أو المسرح من خلال المسرح ذاته ويعرّج على أهم المفاصل التي يجد أنها بحاجة إلى النقد.

ظل المسرح عقيم التوجه منكفئا على ذاته يراوح في مكانه، لذا فالميتامسرح مرحلة جديدة لكسر هذه الأنساق النمطية والنظم التي سارت عليها النظرية الأولى محاولاً وبكل جهده إيصال المتلقي إلى مكونات فكرية لا أشياء تغييبية للعقل.

يفرد الميتامسرح مكاناً خاصاً به حيث التجأ إليه أغلب المخرجين المعاصرين وذلك للديناميكية الواسعة وحرية الحركة التي يفرضها هذا الاشتغال.

المشاركة من أبلغ وأفضل وأعم الجوانب الميتامسرحية لكونها تتيح الاستمرارية ومد خيوط سميكة بين الأنا/الآخر، المؤدي/المتلقي.

التقديم للعرض على أنه جانب منفصل عن الواقع ومنه، ليأخذ مدى شعبيا ممسرحا يتضح الحديث فيه نحو ارتياح المتلقي لما يشاهده ويتعامل ومعه، وفي بعض الأحايين يثور ضده إذا أساء للإنسان وسلوكياته بشكل عام.

ينخرط العرض الميتامسرحي في المحسوس واليومي لأنه يصور الأعمال ويعلق عليها.

يتسنى للمتلقي السير مع المؤدي لإنتاج فعل مغاير، فيتسنّى للتمسرح مشاهد تبغي مغادرة الخشبة والانتقال إلى الصالة بشكل مستمر حتى تكون على تماس واضح مع المتلقي.

الأنا بوصفها الإطار العام لشخص المؤدي تحاول أن تضم أفقا تجانسيا بينها وبين الآخر المتلقي، الذي هو ند في الوقت ذاته لأنه يتصل بالعرض وبالمؤدين كافة لتتم اللعبة بوساطة متجانسة
ينماز الميتامسرح بجوانب غروتسكية تعمد إلى تطابق فعلي مع الواقع وانمساخه المتكرر من أجل إثارة السخرية الكثيرة من قبل المؤدي بالدرجة الأولى والمتلقي بالدرجة الثانية، وهنا يأتي دور ارتجال الشخصيات على نحو واسع وكثيف، وتعدد أو تشتت الموقف العرضي يتيح للمتلقي الولوج معهم مما يتيح قدرة للتعليق على مجريات الأحداث.

إن الربط بين (الأوتوبيوغرافية) أي العلاقة مع الغيرية، وبين الميتامسرح أسس جانباً أدائياً يتناول الأبعاد التي تسير وفق خط الانطلاق الرئيس من الخشبة، رغم أنه يحاول إبراز الهوية التي يحملها العرض، والمكان المكوّن منه، إلا أنه ينتج فضاء تشاركياً مزدوجاً ومتعدداً عبر الفعل اللعبي الذي ينتجه. فالإلماعة من أولى التشكلات التي يبغي المؤدي الذهاب نحوها في سبيل العمل على تمرسات الارتجال الجديدة فيما تخص فضاء العرض الركحي. وهنا تتجلى عناصر فعل اشتغالي يخص المتلقي بوصفه أحد الأركان المهمة في العرض.

فالأنا بوصفها الإطار العام لشخص المؤدي تحاول أن تضع أفقا تجانسيا بينها وبين الآخر المتلقي، الذي هو ند في الوقت ذاته لأنه يتصل بالعرض وبالمؤدين كافة لتتم اللعبة بوساطات متجانسة تختلف عن كافة المتطلبات التي ينحو إليها المؤدي، فالمؤدي ناقد قبل أي شيء يحاول أن يعرض كافة السبل التي يعانيها الشعب عبر أساليب إقناع وانتهاز المتلقين واستفزازهم من أجل أن يرتقوا سلم العرض، وهذه العلاقة بين الأنا والآخر تفعل عناصر المفاجأة لكلا الطرفين. المسرحة بديل جديد وموضوعي لكافة الإنتاجات السالفة لأنها تخرج من الأزمة وتمارس تواصلها ونقدها في نفس الموقف وهنا لا تقف الموضوعات عائقا أمام المؤدين لأن أغلب ما يطرح مستل من الألم الذي يعانيه الفرد وهنا تحدث المفارقة وكذلك الكوميديا المفرطة من أجل أن تأخذ الباروديا حيزاً واسعاً لدى المؤدي والمتفرج.

ينبغي أخذ بعض التعاريف الرئيسة في تكوين الميتامسرح وهي:

مسرحة المسرح تأتي بفعل مغاير إذ تستخدم الفنان ضمن أحادث ما يجري الآن، ويعرف ميشيل كوفمان الميتامسرح على أنه «حضور وتوجه للجمهور وهو عرض لما هو غائب أي (استحضار)» (1) . انفلات الانوجاد بأبعاد أساسية تأتي ضمن أولويات الاشتغال الحرفي للميتامسرح.

وفي ظل هذا التعريف يأتي باتريس بافيس على تعريف الميتامسرح « أي المسرح الذي يتناول موضوع المسرح» (2). يأخذ بافيس على عاتقه مهمة نقد المسرح من خلال المسرح ذاته.

ويعرف الباحث أحمد ضياء الميتامسرح «هو إشهارية العرض المسرحي بوصفه لعبة تتكشف في علاقة التواصل والحجاج المباشر بين الفضاء المؤسلب والمتلقين بعدّهم جزءاً من خطاب العرض الأدائي» (3). وهنا تكمن هذه اللعبة الإشهارية ضمن الفضاء اللعبي.

يكشف ليونيا آبل في خطاطته الرئيسة حول تسمية الميتامسرح من خلال معادلة ضرورية للتماهي مع هذا المنحى الأساس الذي ينحو به الآخرون وهي «الميتاتياترو = العالم منصة تمثيل + الحياة حلم»( 4). وعبر هذا الإنتاج الكثيف للمادة يسحب الميتامسرح البساط من كافة المتراكمات المجاورة ويحيلها إلى العرض وإلى الارتجال ويجد أن الإنسان بأبسط حالته مؤد ماهر غير أنه لا يعطي لهذا الأمر حيزاً كبيراً في حياته.

ويجد علي الراعي أهم الارتكانات إلى الميتامسرح أنه يحتوي على «القدرة الذكية لالتقاط الحادث الاجتماعي الذي يشغل الرأي العام.. يجذب الجمهور ويحوّل جانبا من اهتمامه بالحدث إلى اهتمام بالعرض المسرحي» (5). وهنا يعرب علي الراعي عن اشتغال المؤدي ضمن المرتجلة التي تؤسس تيار مغايراً لما هو معتاد.

الظاهرات المتناقضة هي الحل الوحيد الذي يبحث عنه المؤدي من أجل البروز أو التمايز للحصول على رضى الجمهور بأوقات يشعرُ المؤدي فيها أنه قادر الآن على امتلاك زمام الأمور والتخطي للنمط ويكون في انعتاق من مقولات المنطق والضبط الأرسطي وينتج عن ذلك حراك لفعل مثل الارتجال وسبر غوره لذا فإنه يعمد إلى «الارتجال على المسرح ليس فيه شخصيات جاهزة مسبقاً، فهي إما تتجدد كل يوم أو أن الارتجال يكون في اليوم الأول فقط للعرض، ثم يتحول الى نص أو على الأقل نص سيناريو» (6). في حال إذا استمر الإرتجال على نفس المنوال أو الطريقة باعتبار ضياع عنصر الإدهاش للمتلقي أو أن المؤدي جعل ممّا قام بارتجاله عملية كلائشية.

هناك العديد من الحقائق التي يستطيع من خلالها المؤدي الولوج ضمن إطار المسرح والمؤدين لأنه يقلّصها. ومن هذه الحقائق استخدام يعض التقانة، التي تساهم في سلب الجمهور كافة ارتحالاتهم المخيالية التي يغيبون بها في العروض النمطية، أي «إن حقيقة أدوار المؤدين تتغير من يوم إلى آخر في حين أن حقيقية الشخصيات تظل نفسها إلى الأبد. وعلى ذلك يكون المؤدون أقل حقيقية من الشخصيات التي هي مخلوقات خيالية فقط» (7). كونهم لا يجدون بالشخصيات التي يتلبسونها حقيقتهم الفعلية بل إنهم يعمدون إلى تأدية هذه المتطلبات عبر النظر إلى الاطار العام للشخصية من الخارج. المؤدي يأخذ على عاتقة مهمة نقل الجمهور والتفاعل معه ضمن لوحة العرض وصورته كما أنه يدعوه لممارسة هذا الأداء اللعبي المشترك مع الجمهور.

توضح الفوارق الميتامسرحية أن الارتجال لا يعني مجرد القدرة على التكيف والانسجام مع الظروف والمستجدات والمشكلات الطارئة، بل يعني أيضا أن يكون المؤدي أكثر انفتاحاً لاستخدام الاحتمالات والإمكانيات التي تقدمها البيئة من حوله، وعلى المؤدي بالدرجة الأولى أن يتصف بالشجاعة والثقة، وأن يعتبر عنصر المخاطرة من أهم عناصر الارتجال لأنه يعمل على إخراج وإبداع أحداث لا يمكن توقعها أو التنبؤ بها (8). ولا يمكن لنا أن نجد هذا الأمر إلا من خلال وجود فسحة معرفية يتمايز بها بعض المؤدين.

بالتالي فالمسرح داخل المسرح له مزيه خاصه به وخلافاً لكافة المسارح الأخرى وجب على المؤدي في هذا المسرح أن يكون ذا سرعة بديهية وفطنة للتماهي مع المواقف المرتجلة.

فالميتامسرح حسبما سلف وجدت لها موطئ قدم حيث استطاعت مد حبال بين المؤدي على الخشبة والمتلقي والإتيان بالمخرج إلى المنصة ليؤدي ويشترك باللعبة. وعلى هذا استطاعت أن تبلور وتوضح الإشكالية الحاصلة بين المسرح والميتامسرح. فالأنا والآخر تمتّن الفعل النقدي الحاصل عبر الفضاء الميتامسرحي وتفضح الواقع بكل السبل المتوفّرة له، وعلى هذا الأمر تتسم العروض الارتجالية الميتامسرحية بعدم الخطأ لتوفر مساحة شاسعة للكلام وعدم التقيد ضمن الإطار العام للعرض. كما يعتمد المؤدي أو فنان الارتجال على سرعة البديهة في تلافي الأخطاء إن وجدت/المفاجئة، من طرح موضوع خارج السياق من قبل المتلقين/المخاطبة، المباشرة للمتلقي وتوجيه الحوارات إليه/التجدد الدائم وعدم الوقوع بالرتابة لأن الحوارات أغلبها غير ثابته لاعتمادها على الارتجال/الدعوة إلى التمثيل كأن تخبر أحد المتلقين هل تفضلت لتمثل معي/سهولة تلقي الحدث فالقصة نمطية من أجل إشراك أغلب المتلقين في العرض، لئلّا تصعب عليهم الفكرة ففي العديد من الكوميديات المرتجلة أو الميتامسرح يبغي المؤدون أن ينحوا مع المتلقين خارج السياقات المعمول بها.

أخيرا تجدر الإشارة إلى أن البحث اعتمد على عدد من المصادر الموقعة بأسماء ماري الياس، رضا غالب، مارياديلكارمن بوبس ناييس، حياة جاسم محمد، بيم ميسون.


مصادر


-1 ماري إلياس، مفهوم المسرحة، (عمان: مجلة نزوى فصلية الثقافية ، ع: 56، 2008)

-2 باتريس بافي، معجم المسرح، تر: ميشال ف. خطَّار، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2015)

-3 أحمد ضياء هادي، الميتامسرح وتمثلاتها في العرض المسرحي العراقي المعاصر، رسالة ماجستير غير منشورة (العراق، جامعة بابل- كلية الفنون الجميلة، 2016)

-4 رضا غالب، الميتاتياترو: المسرح داخل المسرح، (القاهرة: أكاديمية الفنون، 2006)

-5 علي الراعي، مسرح الشعب (الكوميديا المرتجلة – فنون الكوميديا – مسرح الدم والدموع)، (القاهرة: مكتبة الآسرة، 2006)

-6 مارياديل كارمن بوبس نابيس، دراسات عن سيميولوجيا المسرح، تر: سمير متولي، (القاهرة: مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، 2010)

-7 حياة جاسم محمد، الدراما التجريبية في مصر والتأثير الغربي عليها (1960-1970)، ط1، (بيروت: دار الآداب، 1983)

-8 ينظر: بيم ميسون، مسرح الشارع والمسارح المفتوحة، تر: حسين البدري، (القاهرة: مركز اللغات والترجمة –)

----------------------------------------
المصدر :الجديد - العدد: 18، ص(94)

دور الفلسفة في تفعيل الاستيعاب العربي للمسرح الغربي

مجلة الفنون المسرحية

دور الفلسفة في تفعيل الاستيعاب العربي للمسرح الغربي

  رجاء البرومي

تشبع المسرح العربي بالفلسفات التي أثرت على المسرح الغربي، ونهل منها لتطوير إبداعاته المسرحية التي تحولنا من مجرد النقل والاقتباس إلى التجريب والابتكار على مستوى النص والعرض، الأمر الذي انعكس بدرجات متفاوتة على التواصل المسرحي العربي مع الجمهور، ودفع بالمسرحيين العرب إلى تكثيف جهودهم من أجل انتقاء الفلسفات التي تتوافق مع تجاربهم الإبداعية ،والتي لا تتعارض مع طموحات جمهورهم، الذي يختلف كثيرا عن الجمهور الغربي. 


إن انتقال النظريات الفلسفية والفنية من بيئة إلى بيئة أخرى، يخضع لمجموعة من العوامل والمؤثرات التي قد تفتح  جسور التواصل مع المتلقي ، أو تبوء بالفشل فتكون ثمارها عكسية.
ويطرح إدوارد سعيد إشكاليتين هامتين في هذا الإطار: 
* أولاهما: - هل تكتسب الفكرة أو النظرية قوة إضافية بحكم انتقالها من مكان إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، أو أن الوهن يصيبها من جراء ذلك؟ 
* وثانيهما: - هل تصبح نظرية التي تنتمي إلى مرحلة تاريخية معينة وثقافة وطنية واحدة ،غيرها في مرحلة وموضع آخرين؟ 
وينبه إلى أن الإنتقال إلى وسط جديد لا يمر دون عراقيل، كما تستلزم العملية مسلسلا من التمثيل والتأسيس مخالفا للمسلسل الأصلي. وأن أي إحصاء يستهدف حصر عمليات زرع النظريات والأفكار، ونقلها وتداولها وتبادلها يصبح أمرا معقدا. 
ثم يضع أربع مراحل توضح الطريقة التي تسلكها أية نظرية خلال سفرها: 
أول مرحلة: نقطة الانطلاق؛ أو ما يبدو كذلك، وهي مجموعة من الظروف الأصلية التي رافقت ميلاد الفكرة أو دخولها ميدان الخطاب. 
ثاني مرحلة: المسافة المقطوعة، أو ذلك الممر الذي تجتازه الفكرة، عبر ضغط السياقات المختلفة، خلال انتقالها من نقطة معينة إلى زمان ومكان تصبح فيهما واضحة البروز. 
ثالث مرحلة:  [...]تخضع لمجموعة من الشروط يمكن تسميتها شروط القبول، أو أشكال المقاومة، كجزء لا بد منه لكي يحصل القبول،وهذه الشروط تواجه النظرية أو الفكرة المزروعة، وتمكن من إدخالها أو التساهل تجاهها مهما بدت غريبة(1)  
ورغم خطورة سفر النظريات والأفكار الفلسفية والفنية ،فقد غامر المسرحيون العرب بالتفاعل مع الإبداعات الغربية، وتقديمها في بيئة غريبة عنها. وأهم تلك النظريات الفلسفة الوجودية والفلسفة الاشتراكية، التي تشبع بها المسرح العبثي والمسرح الملحمي. 
و لقد أبرز محمد عوزري جانبا من التواصل بين المسرحيين العرب والغربيين من خلال حديثه عن التجربة المسرحية بالمغرب، كنموذج يعكس لنا خصوصية هذا التواصل، ويصف رواده بأنهم جيل الرفض؛ إذ يرى أنه مادام «رواد هذا الجيل الجديد جاءوا إلى المسرح، على العموم، من الجامعة، فإنهم سيبحثون عن مصادر الإلهام المسرحي في منابعها، وسيفرض هذا الجيل اقتباس كوميديا موليير ويتجه نحو ريبيرتوار آخر يمثله كل من بيرتولد بريخت، وهارولد بينتر، وبيتر فايس، وجان جوني، ولويجي بيرا نديللو، وأوغست ستريندبيرغ، وصامويل بيكت... أما المناقشات حول الإخراج فإنها ستتجه نحو عمل كل من كروتوفسكي، وبسكاتور، والمسرح الحي...وكل ذلك سيؤدي حتما إلى ظهور كتابة مسرحية جديدة.»(2) 
ونذكر على قائمة المتأثرين بالمسرح الغربي المتشبع بالفلسفة الاشتراكية، وتحديدا المسرح الملحمي البرشتي عبد الكريم برشيد الذي يصرح قائلا: «... ففي الاحتفال تختفي الأقنعة المجتمعية، وباختفائها تتحرر الذوات من الخوف ومن التمثيل الذي تعرفه كل يوم، ومن هنا تكون إيديولوجية الإحتفال مبنية على أسس من الاشتراكية، والوحدة، والعدالة والتحرر، ليس فقط بالنسبة لذلك الحيز المكاني الضيق والذي يسمى الخشبة، ولكن بالنسبة لكل الأرض التي تسع الإنسان.»(3) 
غير أن احتفالية عبد الكريم برشيد ستنسلخ من قوالب فلسفة المسرح الغربي، وتحاول البحث عبر مجموعة من الإبداعات تحمل بصمة هوية وذات لها خصوصيتها  الأصيلة، التي تخول للجمهور التواصل مع الاحتفالية المغربية وليس الغربية، من خلال مسرحياته «عطيل والخيل والبارود» و «امرؤ القيس في باريس» و «وفاوست والأميرة الصلعاء» و «الحكواتي الأخير». 
وفي نفس الإطار يتحدث خالد أمين عن صورة التواصل بين المسرح المغربي والمسرح البرشتي من خلال كتابه «مساحات الصمت» (غواية المابينية في المتخيل المسرحي) بقوله: «بالنظر إلى طبيعة الثقافة المغربية ونوعية المخاضات السياسية والثقافية التي شهدها المغرب خلال فترة السبعينيات، يمكن القول بان الكثير من المسرحيين المغاربة عثروا على ضالتهم في مفهوم التغريب البرشتي، فبرشت كان له الفضل في نحت مجموعة من النظريات البديلة في الخارطـة المسرحية المغربية والتي نلمس فيها الحضور البرشتي بقوة (مسرح النقد لمحمد مسكين، المسرح الجدلي، المسرح الثالث، المسرح الاحتفالي إلى حد ما)»»(4) 
ويلخص حسن المنيعي مراحل التفاعل بين المسرح المغربي والمسرح الغربي قائلا: «الواقع أن تراكمات المسرح المغربي منذ نشأته سنة 1932م، وإلى حدود الآن، تؤكد لنا أن الممارسة قد اعتمدت في الغالب على تجارب مسرحيته غربية بدءا بعملية الاقتباس، مرورا بعملية التشبع بمدارس ذات توجهات اجتماعية إيديولوجية رمزية، وأخرى عبثية ملحمية وتسجيلية، وصولا إلى الاسترشاد بمدارس وتقنيات تهتم بالفضاء المسرحي وعلاقته بجسد الممثل وبتكوينه الفيزيولوجي النفسي، وكذا بأبعاده الحضارية والثقافية.»(5) 
ثم يقدم لنا نموذجا من المسرح المغربي المتمثل في مسرح الصديقي الذي تواصل مع الأشكال المسرحية الغربية بفلسفاتها العديدة: «انطلاقا من المسرح اليوناني، مرورا بالمسرح الكلاسيكي، وصولا إلى المسرح الطليعي الذي لمسناه في رائعتيه «مومو بخرصة» و «في انتظار مبروك».(6) 
إن عمق الفلسفة البريشتية ومهارته في إنتاج إبداع مسرحي متميز خول له إمكانية اختراق أفق توقع المتلقي العربي، لأن الفن لا ينفصل عن الفكر ولا ينفصل أيضا عن واقع الإنسانية جمعاء. لذلك صرح برشت قائلا: «(لقد أصبح المسرح حقل نشاط للفلاسفة، أولئك الذين يسعون ليس فقط إلى توضيح العالم، ولكن إلى تغييره أيضا).»(7) 
ويعلق عبد الكريم برشيد على فلسفة برشت بالتأكيد على أن «المسرح ليس فرجة فقط، وإنما هو بالأساس فلسفة، فلسفة لتفسير العالم أولا، ولتغييره ثانيا. 
وتفسير العالم وتغييره، مهمتان صعبتان بلا شك، الشيء الذي يكشف عن خطورة هذا الفن الذي يسمى المسرح. 
وأن قياس المسرح المغربي –كفن يفسر ويغير- قياس قوته وفعاليته، لا يمكن أن تتم إلا من خلال عمليتين أساسيتين: 
- مقارنة هذا المسرح – كما هو كائن، هنا والآن- بما كان يجب أن يكون، أو بما هو كائن هناك.
- مقارنة هذا المسرح- كفن وعلم وصناعة- بالواقع التاريخي والحضاري للإنسان المغربي والعربي، ثم التساؤل بعد ذلك، إن كان هذا المسرح في مستو ى اللحظة التاريخية الراهنة؟ أو أكبر منها؟ أو أقل؟»(8) 
إن فلسفة المسرح الغربي تمكنت من أن تحفز المسرحي العربي على أن يجد ذاته من خلال الآخر، وأن يضع أسسا لفلسفة المسرح العربي، لأن التفاعل العلمي والثقافي والفكري لا يمكنه التطور والازدهار في عالم منغلق ومتقوقع، وهذا لا يعني الانمحاء بل ازدواجية التواصل بين المكون الداخلي والخارجي يغني التجربة الإبداعية، ويكسبها تنوعا افرز لنا المسرح الاحتفالي والطليعي والتجريبي والملحمي. وكلها حسب رأي فرحان بلابل متفرعة عن نهج واحد هو (تغيير ترتيب أركان الدراما). [...] وينبه على أنه يكفي أن يتذكر القارئ نصوص سعد الله ونوس ورياض عصمت وعلي عقله عرسان وممدوح عدوان ووليد إخلاصي وعبد الفتاح قلعجي وغيرهم من كتاب مصر، وأن يتذكر نصوص عز الدين المدني في تونس وعبد الكريم برشيد في المغرب وغيرهما من كتاب المغرب العربي(9) 
ويؤكد أيضا السعيد الورقي أن «النجاح الذي حققه المسرحان الملحمي والتجريدي كان له تأثيره على المسرح العربي خاصة منذ ستينيات الازدهار.»(10) وينفي بول شاول الخصوصية العربية عن كتابات المسرحيين العرب إذ يصرح قائلا: «وإن كانت المسرحيات مكتوبة أصلا بالعربية كمسرحيات أحمد شوقي وسعيد عقل وعبد الرحمان الشرقاوي وعزيز أباظة والفريد فرج وسعد الله ونوس ويوسف إدريس، إلا أنها، في العمق، استلهمت البنية التعبيرية الغربية في الشكل الكتابي. ولهذا، فهي، وإن كانت كتبت بالفصحى، إلا أنها امتدادات للمسرح الغربي، فأحمد شوقي وسعيد عقل وألفرد فرج مثلا، من متبعي المسرح الكلاسيكي الفرنسي والانجليزي، وسعد الله ونوس ابن الكتابة البرشتية، ويوسف إدريس غرف من بيكيت وخصوصا في «الفرافير.»(11) 
إن هذا الرأي يجعل المسرحيين العرب مجرد صدى للمسرح الغربي، ويلغي قدراتهم الإبداعية والفكرية، وإن كانوا قد تأثروا بالغرب، فهذا لا يعني أن فكرهم قد شل وأن ملكاتهم الجمالية والتخييلية قاصرة، كما أن اختيارهم لمرجعيات معينة لا يعني إلغاء لمرجعيتهم الأصلية.وإن كان الأمر كذلك فسنحكم على مسرح برشت بأنه مجرد صدى للمسرح اليابانـي والصيني يحكم أنه تشبع به، وعلى آرتو بأنه مجرد ناقل للمسرح الياباني والشرقي بصفة عامة ،وكذلك الأمر بالنسبة لآريان منوشكين ويوجينيو باربا. 
إن التفاعل الثقافي والحضاري لا يعني إلغاء للأصل، بل هو تحفيز لتطويره وخلق فلسفات تساير إيقاع التطور الذي تعرفه الإنسانية ، لبناء تواصل إيجابي مثمر.
وظهور مثل هذه الفلسفات والعلوم والنظريات الجديدة كان له أثر كبير في تحطيم معظم المعطيات الموروثة؛ ولا شك أن هذه التحولات الكبيرة في الأساليب الأدبية قد ساعد على رفع القيم الجمالية للمسرح الحديث من جانب، وإثراء الثقافة المعرفية على المستوى الإنساني من جانب آخر، في ترجمة وتجسيد المفاهيم النظرية بأطر جمالية جديدة تحقيقا لوظيفة الدراما كنشاط معرفي.(12)  
لكن يظل التعامل مع الموروث رهين بمجموعة من الاعتبارات التي نجملها في الأخذ بما هو إيجابي وترك كل ما هو سلبي وفق خصوصيات الإنسان حسب هويته وانتمائه، وأن لا نتجاهل هذه الخصوصيات أثناء تواصلنا مع الغرب ، ومادام «أن الثقافة والفنون إرث إنساني متبادل بين الشعوب والأمم، فقد كان للبيئة الفنية العربية ومنها العراقية حصة من هذا الإرث الإنساني، إسهاما في تنفيذ نشر الوعي الفني والثقافي في حدود البيئة العربية والمحلية بما يمكن التعبير عنه من خلالها،  كالواقعية[...]التي احتوت النصوص المسرحية في إطار موضوع القضية الاجتماعية، كمسرحيات يوسف العاني وطه سالم، وعادل كاظم (فكتب يوسف العاني مسرحية «إني أمك يا شاكر» وكتب طه سالم «قرندل» وكتب عادل كاظم مسرحية «الحصار». والتعبيرية في أطر سياسية واجتماعية فيما كتب جليل القيسي مسرحية «أيها المشاهد جد عنوانا لهذه المسرحية»، وكتب يوسف العاني مسرحية «الخرابة».(13) 
ومادام أن المسرح الغربي تشبع بفلسفات متعددة تنحو نحو التجريب من أجل التثوير والتطوير، فإن مجموعة من الأسئلة ستطرح نفسها بقوة وتظل المساحات البيضاء مجالا خصبا للاجتهاد والوقوف عند نقط القوة والضعف.
كما أشار تيودور أويزرمان فإن «بعض الأسئلة لا يمكن أن يجيب عليها الأشخاص الذين يطرحونها، وإنما يمكن أن يجيب عليها آخرون.»(14) 
إن المسرحيين العرب أثبتوا قدرتهم على خلق فضاء مضاعف لفلسفة المسرح الغربي، حيث تمكنوا من خلال قراءتهم لمختلف الإنتاجات الغربية أن يجيبوا عن الأسئلة والإشكاليات التي تطرحها قضية سفر النظريات المسرحية إلى البيئة العربية، وتمكنوا من أن يهيئوا مناخا خصبــا لترعرعها بشكل إيجابي ومن خلال براعتهم في التفسير والتأويل والتحليل –أي النقد البناء- وفق منهج مقارن يسمح بتجاوز حساسية الآخر، تمكنوا من نسج فضاء أرحب للحوار الفني والأدبي والحضاري، وفقا لفلسفات قد تتوافق ، أو قد تتخالف لكن تظل قاعدة أن الإختلاف لا يفسد الود، شعار الأدباء والفنانين والمفكرين في معظم أرجاء العالم،و الشاهد على ما نقول ثراء التبادل العلمي والثقافي والفني والأدبي عبر العصور والأزمان،لأنه مهما اشتدت حدة الصراع بين الأنا والأخر، فلابد من وجود وجه معاكس، يتمثل في توثيق الحوار. 
ومن رحاب المسرح يحدثنا محمد مصطفى القباج قائلا: «أكدت الأبحاث والمتابعات النقدية للنصوص والأعمال المسرحية الحداثية (بريشت- أونسكو- بيكيت...الخ) إن القضايا التي تطرحها هي من عمق الاهتمامات الفلسفية، وعلى الخصوص إشكالية اللغة وأزمة الجماليات التي تسببت في ميلاد ما أصبح يطلق عليه «المسرح المضاد» (Anti-théâtre) وإشكالية الصراع بين الأنا والآخر في منحاها الفلسفي.»(15) 
بحكم أن البعد الفلسفي كان حاضرا بقوة في الإبداعات المسرحية، بل أن المسرح كانت له القدرة على جس نبض المتلقي مع تلك الفلسفات، فإن عملية التواصل بين النص، والمنصة العرض ،وقاعة العرض أسست لفلسفة التواصل المسرحي الحر.  ومن بين مظاهر هذا التفاعل المسرحي ،  ما ورد في مقولة إسماعيل بن أصفية ، التي تضعنا أمام صورة تفاعل المتلقي العربي مع المسرح البريشتي، وتحديدا النقاد ، إذ يرى بأن: «نقاد المسرح العربي الذين تجلت في كتاباتهم تلك المقاييس النقدية المستمدة من آراء بريخت ونظريته، مثلوا ظاهرة تلقي الخطاب البريختي في النقد المسرحي، [...] كانوا جميعهم من ذوي الاتجاه اليساري، أمثال محمود أمين العالم، وأحمد عطية، ورجاء النقاش، ومحمد الشوباشي، ولويس عوض، وعبد المنعم تليمه وغيرهم، من النقاد الذين اكتفوا بالدعوى إلى اجتماعية الأدب، وضرورة الاهتمام بمشكلات المجتمع والتعبير عن قضاياه، واستجابوا للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جاءت بها ثورة 1952م.»(16)
ويؤكد إسماعيل بن صفية أيضا على أن «معظم الذين كتبوا مسرحيات ملحمية لاسيما الرواد منهم، كانوا يساريين أيضا أمثال رؤوف مسعد، نجيب سرور، ألفريد فرج، ميخائيل رومان، فأقبلوا على المسرح الملحمي لتقاطعه فكريا (باعتباره مسرحا اشتراكيا يدعوا إلى العدالة والمساواة)»( 17)  
ويربط كمال عيد بين الفلسفة الاشتراكية والتغيير الفني، إذ يرى بأن الواقعية الاشتراكية المتأثرة بالفلسفة الاشتراكية تنادي بتغيير الواقع، وعدم السكوت عليه. 
فهي لا تكتفي بالتغيير الفني، بل تنادي بالتغيير في أساس المجتمعات، وهي نفس فلسفة الكاتب الألماني برتولت برخت B.Brecht.(18) الذي تحدث عنه عدنان رشيد في مقدمة كتابة «مسرح برشت»  إذ قدم أهم المراحل التي مر منها هذا المسرح، وكيف استطاع أن يربط جسور التواصل مع المتلقي الغربي والعربي من جهة ،ومع الفلسفة الدياليكتية من جهة أخرى. وشرح علاقة برشت واهتماماته بالآداب العالمية الأخرى منذ شبابه، وكيفية تحوله إلى تبني فلسفة الديالكتيك (الجدل)، كما تناول شرح أبرز ملامح المسرح الملحمي والمسرح التعليمي، وقدمت بعض النماذج منها، كما شرح طريقة برشت في التمثيل والإخراج المسرحي التي طبقها في مسرحه (برلينرانسامبل) في برلين الديمقراطية، والذي أسسه عام 1949م بعد عودته من المنفى، وقد تتلمذ في هذا المسرح خيرة المخرجين والممثلين في أوروبا وألمانيا، وبعض المخرجين العرب وغيرهم حتى وفاة برشت في (أغسطس عام 1906).(19)  
ويؤسس لبداية تواصل المسرح العربي بالمسرح البرشتي بأوائل الستينات، حيث تم عرض مسرحياته وطبقت نظرياته وأساليبه في مسارح بغداد، والقاهرة، ودمشق، وبيروت، والكويت والأردن ودول المغرب العربي. 
ويكشف يونس الوليدي عن نموذج للتواصل المسرحي العربي بالمسرح البرشتي من خلال مسرحية بروميتيوس 91 لمحمد الكغاط، بقوله: «تأثر محمد الكغاط بمفهوم التغريب البرشتي في هذه الإرشادات المسرحية المتعلقة بتركيب الديكور وتغييره أمام الجمهور من أهم عناصر تكسير الإيهام بالواقع، وبالتالي من أهم مقومات التغريب عند بريشت.»(20) 
ويضيف قائلا: «وإذا كان الكغاط قد أشار في بداية اللوحة الثانية إلى أن ديكور بيت المحجور –أو بعبارة أخرى مع تشديد الحصار على العراق- سيصبح البيت أكثر ضيقا في اللوحة السادسة: «ينصرف بوشويكا»، يشرع مبارك في إغلاق كل منافذ الغرفة، ويمكن تضييق ديكور بيت المحجور إلى أقصى حدود ممكنة».»(21)  
واهتمام  محمد الكغاط  بأسطورة بروميثيوس يرجع إلى ما تتضمنه من قيم فلسفية متمثلة في البحث عن الحرية والخلاص من القيود، وفضح مظاهر الانتهاكات التي يتعرض لها الإنسان، علما أن مسرحية بروميثيوس 91 كتبت بعد قيام حرب الخليج، وتواصل المسرحيين العرب مع الأساطير اليونانية، كان من أجل ترسيخ فلسفتهم الذاتية تجاه واقعهم المعيش وتطلعاتهم لمستقبل أفضل، متأثرين برواد المسرح الغربي الحديث ،الذين أعادوا قراءتهم في المسرح اليوناني وقدموه في شكل تجريبي يتوافـق وفلسفتهـم في الإبداع والتفاعـل مع واقعهم، ونذكر من بينهم ألبيركامو، الذي يحدثنا عنه حنا عبود في كتابه «الدوائر المغلقة» قائلا: «فإذا نظرنا في الأساطير اليونانية، برزت أسطورة سيزيف التي كانت محور فلسفة ألبيركامو في العبث، كما كانت أسطورة بروميتيوس محور فلسفته في التمرد.»(22) 
واستطاع المسرح البرشتي أن يزود المسرحيين العرب بآليات تمكنهم من تقديم المسرحيات الأسطورية في قالب حداثي مغاير للفرجة الكلاسيكية والمتجسدة في تكسير الإيهام.ولم تقتصر إبداعات المسرحيين العرب المتأثرين بالمسرح البرشتي على الأسطورة فحسب، بل عرفت تنوعا وتعددا بتعدد القضايا السياسية والاجتماعية، ففي «مجلة المسرح خلال الستينيات كتب عدد من الكتاب المسرحيين في مصر مسرحيات تنتمي إلى الدراما الملحمية بدرجات مختلفة، والمسرحيات هي (لومومبا)أو(القناع) و(الخنجر) لرؤوف مسعد، كتبت عام 1965م،(اتفرج يا سلام) لرشاد رشدي، عرضت عام 1965م،(النفق) لرؤوف مسعد كتبت عام1966،(آه يا ليل يا قمر) لنجيب سرور عرضت عام 1967.(الزير سالم) لألفريد فرج عرضت عام1967،(بلدي يا بلدي) لرشاد رشدي، عرضت عام1968،(ليلة مصرع جيفارا) لميخائيل رومان، عرضت عام 1969»(23)  
إن تشبع المسرحيين العرب بالفلسفات الغربية، واجتهادهم في اختراق أفق المتلقي العربي، دفعهم إلى التسليم بالجوانب الإيجابية المطلقة لتلك النظريات دون الالتفات إلى سلبياتها، لان التفاعل مع الآخر سواء في المعسكر الشرقي أو الغربي والمغاربي، يقتضي بذل مجهود في تحليل الفلسفات المطروحة، والأخذ بالجوانب الإيجابية ومراعاة المجتمع والمحيط والحضارة التي ستتغلغل بين أوصالها. غير أن الجراح التي عانى منها المثقف العربي جراء الحروب الامبريالية من الدول الغربية والهزائم المتوالية دفعتهم إلى البحث عن: 
- الفلسفات الغربية الثائرة بعد الحربين العالميتين، الأولى، والثانية ،حيث ظهر الاتجاه العقلاني مع ديكارت، والوجودي الإلحادي مع سارتر، والإلحادي مع نيتش. 
- الفلسفات التي ظهرت في المعسكر الشرقي –أي الإتحاد السوفياتي سابقا-، والتي  أفرزت لنا الفلسفة اليسارية والاشتراكية. 
- وبين هذين العالمين كان هناك مثقفون عرب و مسلمون و مغاربيون، تعاملوا مع كلا الثقافتين لكنهم لم يطمسوا هويتهم وأصالتهم، واقتنعوا بأن التخلي عن مبادئ الإسلام كان سببا رئيسيا في تراجع الأمة العربية الإسلامية.
كما يصرح رينيه جرار René Girard في كتابه «العنف والمقدس» بأن: «وجود الفكر الديني في بدايات كل مجتمع بشري من الأساسيات والتي لا تقبل الشك. وقد يكون الموضوع الديني هو الوحيد، بين المؤسسات الاجتماعية، الذي لم يستطع العلم معرفة موضوعه الحقيقي، أو وظيفته الصحيحة، ونحن نؤكد أن الموضوع الديني وهدفه اوالية الضحية البديلة. ووظيفته تأمين استمرار وتجديد آثار هذه العملية أي أن يبقى العنف خارج المجتمع»(24).
ورغم تفاعل المثقفين العرب والمسلمين ومن بينهم المسرحيون بالفلسفات الغربية، إلا أنهم أدركوا أن الحضارة العربية الإسلامية غنية وقادرة على تجاوز أزماتها بالاجتهاد البناء والهادف، القادر على أن يترك بصمات الأصالة والحداثة في إبداعاته.
الأمر الذي حفز المسرحيين العرب للنهل من الرصيد الثقافي التراثي والحضاري، إذ ألف صلاح عبد الصبور مسرحية «مأساة الحلاج» المتشبعة بالفلسفة الدينية للمتصوفة في نموذج الحلاج، وتوفيق الحكيم بمسرحيته «أهل الكهف» التي يحدثنا عنها عبد الكريم برشيد قائلا:» لقد عاد توفيق الحكيم إلى القرآن الكريم واتخذ من آياته المتعلقة بأهل الكهف خيوطا نسج بها مسرحيته (أهل الكهف) ويقول صلاح عبد الصبور عن هذه الآيات القرآنية «إن معظم مشاهدها تتبع أسلوب الحوار.»(25) 
إن المسرحيين العرب والمسلمين أدركوا أن هدفهم يتمثل في التواصلهم مع الفكر والفن الأجنبي تواصل إيجابي قادر على الإنتاج، وأن لا يقتصروا فقط على الاستهلاك. وعلى حد تعبير محمد مصطفى القباج: «لسنا في حاجة إلى أن نستمر في تناول الموضوعات التي تتضمنها الأعمال والنصوص المسرحية، فليس هناك أي موضوع فلسفي لم يجد المسرح منفذا إليه أو ذريعة لمعالجته لا كنشاط تخيلي محض، ولكن كمشروع كاشف لوضع تاريخي في الزمان والمكان، وتوجه استشرافي كما ينبغي أن يكون عليه فعل أو حياة أو فكر أو كيان.»(26) 
أسهم عمق القضايا الفلسفية في المسرح الغربي على تعميق الرؤية لدى المسرحيين العرب ودفعهم إلى طرح إشكاليات تنبع من عمق الحضارة العربية الإسلامية، مما حول تواصلهم مع الآخر:
 j من        - مرحلة الاستهلاك. 
j إلى        - مرحلة الإنتاج.  
الأمر الذي يضعنا أمام فلسفة تواصلية مسرحية متداخلة بين حضارتين بدرجات متفاوتة: 
الفلسفة والمسرح الغربي        لفلسفة والمسرح العربي 
المستوى الأول: الإرسال                                التلقـي. 
المستوى الثاني: التلقي                                  الإرسال. 
يظل التواصل بين المسرحيين العرب والغربيين مشروطا بعملية الإرسال والتلقي التي تعرف قوة في المستوى الأول وتذبذبا في المستوى الثاني. 
ويعكس لنا المخرج المسرحي الألماني عزيز أحمد بيتر كرويش صورة معكوسة للتواصل بين المسرح الغربي والمسرح العربي، إذ استطاع أن يقدم مسرحية عربية للجمهور الألماني، واخترق أفق توقعه، وجعله يتجاوب معها تجاوبا إيجابيا، والمسرحية لألفريد فرج ترجمها للألمانية ناجي نجيب وعنونها «على جناح التبريزي وتابعه قفة»، كتبت عام 1968م، وهي تحكي عن «التبريزي» المفلس وتابعه قفة. 
ويحدثنا المؤلف عن مسرحيته قائلا: «وقد شاهدت «التبريزي» المفلس قبل أن أكتب يدعو «قفة» إلى مائدته الوهمية، بجد لا على سبيل المزاح... ثم يسافر الاثنان إلى مدينة على حدود الصين فلا يجدان مفرا من الزعم بأنهما أغنياء، وأن القافلة للتبريزي تتبعهما وتحمل ثروات فوق ما يتصور الذهن... قد حملها التبريزي خلفه، نفقة لسياحته هو وخادمه، مما أغرى التجار باقراضه، والوالي بتزويجه ابنته... وكل مال وصل إلى أيدي التبريزي تصدق به على الفقراء... والفقراء أصبحوا صناعا وحرفيين وتجارا... والقافلة لا تأتي بعد...»(28)  
ويكشف ألفريد فرج عن فلسفته في تأليف مسرحيته بقوله: «سيرة القافلة في الواقع لم يبتدعها التبريزي أوقفة، وإنما شاركه في ابتداعها كل من صدق التبريزي وقفة. ولكل إنسان خياله الخاص ورغبته الكامنة في إيهام النفس والغير باقتدار بوجود غير الموجود.»(29) 
أما المخرج عزيز أحمد بيتر كرويش فيقدم لنا فلسفته في تواصله مع مسرحية «على جناح التبريزي وتابعه قفة» من خلال حواره لمذيعة تلفزيونية حيث يصرح بأن: «كل ممثل سألني ما هي القافلة.. وكنت أجيبه، إن القافلة هي السلام العالمي، هي حرية الإنسان، هي الطعام والكرامة، وإذا كنت تؤمن بالغد، فأنت تعرف أن القافلة في الطريق...مع التبريزي، مع الأميرة، ومع قفة آخر الأمر، ومع كل المدينة[...]، ولما اعترف قفة لهم بعدم وجود القافلة حزنوا... ثم عادوا يصدقون ويفرحون.»(30)  
وتزداد فلسفته عمقا حين تطلب منه المذيعة أن يوجه خطابه للمتفرجين، إذ يبادر قائلا: «أريد أن أقول لهم، ها أنتم تتأملون وأنتم تضحكون، ها أنتم تضحكون وأنتم تتأملون، فهل رأيتم كيف يمكن أن يكون المسرح مفكرا وممتعا في الأدب العربي»(31) 
يظهر تواصل عزيز أحمد بيتر كرويش عمقا فلسفيا، تكون لديه من المزج بين ثقافتين غربية وعربية وإسلامية ،خولت له أن يقدم أعمال مسرحية ناجحة قادرة على اختراق أفق توقع المتلقي الغربي، وعلى حد تعبير يوسف سايفرت Josef Siefert فإن الفلسفة الغربية عاجزة عن تغذية طموحات المثقف العربي. إذ يصرح قائلا: «فعندما نتذكر أن معتنقي الإسلام لم يجدوا في الفلسفة الغربية ضالتهم، لأن الأسس التي تنبني عليها هذه الفلسفة بعيدة كل البعد عن الأسس الأخلاقية والروحية التي ينبني عليها الإسلام من جهة، ولأن هذه الفلسفة تعمل على إقبار أسس عقيدتهم وأخلاقهم من جهة أخرى. وعندما نتذكر كذلك أن النسق المفاهيمي الغربي لم يعمل على إيجاد أية نقطة الالتقاء بالمسلمين، فإننا نفهم بالطبع أن أسس الحوار بين الفلاسفة الغربيين والفلاسفة المسلمين لم تكتمل، أو لم تقم بعد.»(32)   
أدرك المسرحيون العرب خطورة الانصهار في حضارة مغايرة عنهم، واهتموا بالبحث عن قوالب عربية للمسرح العربي، وكان توفيق الحكيم من أهم المسرحيين العرب الذين استفادوا من النظريات الغربية، دون طمس المعالم العربية و الإسلامية، «وتعتمد فلسفته [...] على الإيمان بقصور العقل والاتجاه نحو الروحيات التي تجري في حياة الشرقيين وأعماق نفوسهم.(33)
غير أنه لم يقص الفلسفات الوجودية التي تشبع بها المسرح العبثي من أعماله، بحكم أن الاستفادة من الجوانب الإيجابية للإبداعات الغربية، لا يعني إقصاء للفلسفة العربية الإسلامية. «وقد أخذ هذا الاتجاه يعرف طريقه إلى العالم العربي بعد أن لفت إليه الأنظار توفيق الحكيم، عندما قدم مسرحية «الطعام لكل فم» ومسرحية «يا طالع الشجرة» وكتب لمسرحيته الثانية مقدمة حاول فيها أن يشرح مفهوم اللامعقول.»(34) 
إن التأمل في المسرح الغربي وفي فلسفاته زود المسرحيين العرب بالآليات التي خولت لهم التواصل مع المتلقي العربي أولا، ثم المتلقي الأجنبي ثانيا، وأدركوا أن قيمة إبداعهم لن تصل ذروتها إلا عن طريق ربط العلاقة بين الفلسفة والمسرح، فبحكم أن «العلاقة بين الفلسفـة والمسرح علاقة تبادل وتداخل. ومرد ذلك إلى أن المسرح إنتاج مركب، فهو لغوي ومعرفي وأدبي وتقني، ويشكل موضوعا للتفلسف بقدر ما يتناوله هو نفسه من موضوعات تمت إلى الفلسفة بصلة وثيقة»(35)
ويقدم سعد الله ونوس رؤيته الفلسفية العميقة تجاه الآخر والذي كانت ثمرة للتأمل عن قرب في التجارب المسرحية الغربية، إذ يخبرنا بأنه «لن يقول بان هناك تعارضا جذريا بين المسرح بمفهومه الأوروبي وبين هوية الثقافة العربية.[...]ولكن سينطلق من التساؤل التالي: 
هل هناك حقا مفهوم أوروبي عن المسرح؟.
ليخلص إلى أنه لا يمكننا أن نجد روابط حقيقية بين مسرح «الكوميديا فرانسير»، و «مسرح الشمس». وبالتالي لا يمكن أن نتحدث عن مفهوم أوروبي للمسرح، لأنه لا يمكن أن نضع آرتو وبيسكاتور، وبرشت، وغور دون كريغ، وغروتوفسكي والليفينغ تياترو ... و ... في نفس السلة؟[...]  ليخلص في النهاية إلى أن الواحد المتجانس، ليس واحدا أو متجانسا.(36)   
ويضيف قائلا: «لقد استوردنا مسرحا جاهزا وميتا، وغرسناه في بلادنا، وكانت لدينا سذاجة الاعتقاد بأن الشكل ليس إلا وعاء محايدا ومرنا يمكننا أن نضع فيه المحتوى الذي يتلاءم مع حاجاتنا وقضايانا. [...] وفي هذه الخدعة، ضيعنا، ومازلنا نضيع الكثير من الجهد والوقت دون الوصول إلى «مسرحنا». إن الشكل في المسرح، وخاصة في المسرح يفترض المضمون دائما، أو بتعبير أدق الموقف الفكري من الإنسان في سياق حركة التاريخ، بحيث أن كل تغيير في هذا الموقف – المضمون لابد أن يستتبع تغيرا في الشكل.»(37)  
وفي نفس السياق يحدثنا  عبد الرحمن بن زيدان الذي يرى بأن رفع الكفاءة الفكرية في التعرف على الآداب العالمية من حولنا، أمر حتمي وضروري تمليه طبيعة الغرب بخصوصياته الفلسفية والنفسية، والاقتصادية، وتفرضه –بالمقابل- خصوصيات الوطن العربي. إلا أن الأمر يحتاج إلى تحديد الموقف من المؤثرات الأجنبية، اقتباسا كانت، أو نقلا، أو موضوعا للسؤال النقدي المسرحي العربي، وهو يريد أن يكون منفتحا على التيارات المسرحية العالمية للتعامل مع أشكالها وتجاربها وأبعادها وخطاباتها الإنسانية.(38)
إن إهمال المزج بين المضمون والشكل في المسرح العربي وغياب الكفاءة في التواصل مع المسرح الغربي يولد قصورا ذاتيا يدفع بالبعض على حد تعبير نهاد صليحة «إلى استعارة تقنيات المسرح التجريبي الغربي التي تتطلب مهارات ليست متاحة للمؤدين العرب، وتقليد أساليب تدريب الممثل الغربية، في جانبها الجسدي والعملي، دون الاهتمام بجوانبها الروحية والنفسية، وأسسها الفكرية، فقلد البعض منهج جروتوفسكي، والبعض الآخر منهج بريخت، أو غيره، وكان التقليد في كل الحالات خارجيا صرفا.»(39) 
ويتطرق أيضا عبد القادر القط إلى الفروق بين المسرح الغربي والمسرح العربي ومدى تأثيرها على التواصل بين الثقافتين وقدم مسرح العبث كنموذج، إذ يرى أن «هذا الاتجاه لم يصادف نجاحا عند رواد المسرح العربي لأنه يعكس حاجات فنية ونفسية لبيئة تختلف جوهريا عن الوطن الغربي.[...] كما جاء تعبيرا عن ضيق الغربيين بحضارة تبدو لهم ثقيلة الوطء على وجدان الإنسان وذاتيته إذ صبته في «قالب» من الأوضاع الاجتماعية والمادية الصارمة،[...].»(40)
ويخلص إلى أن المجتمع العربي مازال يحاول أن يبني حضارته من جديد، ومازال أمام الإنسان فيه ألوان كثيرة من الطموح الواقعي الذي ينبغي أن يحققه، وما زالت مشكلاته وقضاياه واضحة محددة تدعو إلى شكل فني يلائم طبيعة تلك المشكلات.»(41)
وكما سبق وأشرنا، فإن معظم رواد المسرح العربي قد تشبعوا بالفكر الوجودي،على مستوى الشكل والمضمون في إبداعاتهم، محاولة منهم للبحث عن حلول للفشل الذي شل مجتمعاتهم. ونذكر من بينهم سعد الله ونوس الذي عكس هذا الاتجاه في مسرحياته، وتحديدا في الفترة الزمنية المحددة بسنة 1963م إلى 1965م متأثرا بكل من «سارتر» و «كامو»، وبحكم أن «رواد هذا الاتجاه قد عمدوا إلى استخدام أدوات مسرحية جديدة من خلال التهويل والتضخيم والمبالغة في رسم المناظر والشخصيات، كما استخدموا أسلوب المسرح داخل المسرح، على نهج الكاتب الإيطالي «لويجي بيراند يللو»، وعمدوا إلى التجريد والبعد عن محاكاة الواقع في صورته الخارجية، واتجهوا إلى البحث عن صورة الواقع في دخيلة النفس الإنسانية، وفيما تنطوي عليه أشكال الحياة، وسلوك الناس من حقائق كامنة تحت الحياة الظاهرية»(42)  
إن سعد الله ونوس قد اختار الاتجاه العبثي ليطرح من خلاله القضايا الشائكة والحساسة للأمة العربية والإسلامية، وكتب في هذا الإطار تسع مسرحيات هي: 
1- ميدوز تحدق في الحياة سنة 1962م. 
2- مأساة بائع الدبس الفقير سنة 1963م. 
3- الرسول المجهول في مأتم انتيجونا سنة 1963. 
4- فصد الدم سنة 1963م. 
5- جثة على الرصيف 1965م. 
6- الجراد سنة 1965م.
7- المقهى الزجاجي سنة 1965م. 
8- لعبة الدبابيس سنة 1965م. 
9- عندما يلعب الرجال سنة 1965م.(43)
وبالنسبة لعبد الواحد عوزري فإن الجيل المتأثر بالتيارات الغربية الحديثة وتحديدا في المغرب يعتبره جيل الرفض، إذ يصرح بأن «هذا الجيل الجديد الذي يقدم نفسه باعتباره جيلا بلا شيخ، ويعتمد فقط على روحه اليقظة، سوف لن يعترف بالنموذج المقدم والمبجل منذ استقلال البلاد، فهو قبل كل شيء جيل رفض ومواجهة.»(44) 
ثم يضيف قائلا: «ولأن رواد هذا الجيل الجديد جاءوا إلى المسرح، على العموم، من الجامعة فإنهم سيبحثون عن مصادر الإلهام المسرحي في منابعها... وسيرفض هذا الجيل اقتباس كوميديا موليير ويتجه نحو ريبيرتوار آخر يمثله كل من بيرتولد بريخت، وهارولد بينتر، وبيترفايس، وجان جوني، ولويجي بيرانديللو وأوغوست ستريندبيرغ، وصامويل بيكيت... أما المناقشات حول الإخراج فإنها ستتجه نحو عمل كل من كروتوفسكي، وبسكاتور والمسرح الحي... وكل ذلك سيؤدي حتما إلى ظهور كتابة مسرحية جديدة.»(45)
وفي المقابل نجد عقيل مهدي يوسف يعطي تصورا عن التواصل المشوه مع المسرح الغربي، إذ يعتبر أن مسرح اللامعقول أصبح من كلاسيكيات الدراما العالمية وينبه الشباب إلى أن اعتقادهم خاطئ فيما يتعلق بأن كل (جديد) هو (اللا معقول) ويضيف قائلا: «أو إن شئنا الدقة أكثر أنهم يعتبرونها الأساليب الوحيدة المعبرة عن الجديد المبتكر! لذلك يتفقون على صيغ ومعالجات تكاد تكون مكررة ومستنسخة إحداهما عن الأخرى... في كل كتاباتهم وعروضهم (مثل غموض الأفكار وتعثر بناء الجمل والصراخ الهستيري، والضحك الآني، واستخدام الصليب كرمز عن معاناة الإنسان وانسحاقه، ودوران المجموعة في متاهات الظلام، وهي تهذي في سيولة عالم مجنون، والغوص تحت ركام الأشياء من أثاث وملابس وأحذية وأنقاض.»(46)
ويذهب إلى أن الواقعية أكثر قدرة على تحقيق تواصل إيجابي في الوطن العربي الإسلامي ويقدم مسرح شكسبير كنموذج، ويستدل على قوله بأنه مسرح لا يخلو من الألغاز والأشباح والفلسفة السايكولوجية، وكذلك مسرح ستانسلا فسكي الذي يتوفر على طاقة إبداعية متميزة تتمثل في تكسير الجدار الرابع الوهمي واستخدام اليوجا والارتجال وتحريك جدران الديكور واستخدام تقنيات تظهر الشموع وهي تطير في الهواء وأشباحا تتراقص. 
ومع محمد نور الدين أفاية نجد أنفسنا أمام صورة أخرى من صور التواصل مع المسرح الغربي تظهر الجوانب الشائكة والحساسة والتي تتحدد في كون الغرب ليس وحده كلية ثابتة، فهو فضاء متعدد، تأسس، منذ بداياته الحديثة، على الاختلاف والتوتر والصراع. لذلك فإن سؤال الغرب بالنسبة للمثقف العربي كان دائما مصدر دهشة وحيرة وانفصال، فهو تارة تجسيد للعقل وتقدم للنزعة الإنسانية، وتارة أخرى قوة مسيطرة تعرقل نهضة الآخرين وتتحول إلى عنف وحشي وتدخل غاشم. إنه غرب الإخاء والمساواة وحقوق الإنسان، وغرب العدوان واللاتكافؤ والاحتقار والاستعمار.[...] لذلك نجد كتابات ومواقف فكرية من صميم هذا الغرب تدعو إلى نقده وتفكيك مقولاته وخلخلة نزعته المتمركزة حول العقل أو حول الغرب.(47) 
وإذا كان جون بيير مايكل Jean Pierre Miquel يرى أثناء حديثه عن طبيعة المسرح بأنه من الحماقة أن نعالج المسرح كما لو أنه عالمي يحكم أن الممثل يحمل بطبيعة الحال ثقافته الخاصة، وفقط داخل إطار ثقافته يمكن أن يحمل إلينا شيئا ما. وإلا سيحاكي ممثلين آخرين، يمثلون ثقافتهم الخاصة.(48) فإننا  يجب أن نراعي هذه الخصوصية، وأن نبحث عن الأبعاد الفلسفية داخل ثقافتنا وحضارتنا لندعم بها قضايانا الأدبية والفنية. 
ويضعنا أنتونين أرتو Antonin Artaud أمام قضية مهمة أيضا يجب أن ننتبه إليها أثناء تواصلنا مع الآخر، والتي نستخلصها من قوله: «نفهم أن هذه الأنتروبولوجيا المدخرة إلى التوق للماضي، يمكن أن تسخر المسرح مسكونا بالنوع البدائي والعودة إلى الأصول، متطلعا نحو الخارج ونحو الآخر كمحاولة لإيجاد دواء لأزمة الأشكال المسرحية التي هي في نفس الوقت مدركة كأزمة لكل الثقافة الغربية.»(49)  
إذن مادام الآخر يبحث عن حل لأزمته لدينا،ولدى المجتمعات الشرقية بصفة عامة التي تتوفر على طاقة روحية تفتقر إليها المجتمعات الغربية. فلا بد أن ندرك أننا يجب أن نجتهد في تفجير الطاقات الروحية والفكرية والجمالية الكامنة لدينا، وأن نبحث بدورنا لدى الآخر عن ما  يحقق لنا تميزنا وخصوصيتنا، دون أن ننصهر في القوالب الجاهزة. 

الهوامش
(1) إدوارد سعيد، عندما تسافر النظرية، مجلة بيت الحكمة، دار قرطبة للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، العدد الثاني، السنة الأولى، يوليوز 1986م، ص 139، 140. 
(2) عبد الواحد عوزري، المسرح في المغرب ،اتجاهات وبنيات، ترجمة عبد الكريم الامراني، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 1998م، ص 219. 
(3) محمد بهجاجي، ظلال النص ،قرارات في المسرح المغربي، دار النشر المغربية، الطبعة الأولى، 1991م، ص 62. 
(4) خالد أمين ،مساحات الصمت، غواية المابينية في المتخيل المسرحي، تقديم د.حسن المنيعي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى، 2004م، ص 30. 
(5) حسن المنيعي، المسرح... مرة أخرى، سلسلة شراع دار النشر المغربية، العدد التاسع والأربعون، 1999م، ص 54.
(6) نفسه، ص 56. 
(7) عبد الكريم  برشيد، الأزمة في المسرح المغربي أساسية أم  انعكاسية؟ مجلة البعث الثقافية، الطبعة الوطنية، العدد الثاني، أكتوبر 1980م، ص 7. 
(8) نفسه، ص 7-8. 
(9) فرحان بلبل، النص المسرحي الكلمة والفعل، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003م، ص 19-20. 
(10) السعيد الورقي، تطور البناء الفني في أدب المسرح العربي المعاصر (في مصر)، دار المعرفة الجامعية الإسكندرية، 1990م، ص 267-268.  
(11) بول شاوول، المسرح العربي الحديث (1976-1989)، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1989م، ص 25
(12) فؤاد علي خارز الصالحي، دراسات في المسرح، دار الكندي للنشر والتوزيع، أربد، الأردن، الطبعة الأولى 1999م، ص 83. 
(13) نفسه، ص 85-86. 
(14) تيودور أويزرمان، تطور الفكر الفلسفي، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، 1988م، ص
(15) محمد مصطفى القباج، من قضايا الإبداع المسرحي، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 1420هـ 2000م، ص 25.
(16) إسماعيل بن اصفية، أثر بريخت في الخطاب النقدي المسرحي العربي، النادي الأدبي الثقافي، جدة، علامات ج 53، م 14، رجب 1425هـ - سبتمبر 2004م، ص 621. 
(17) نفسه، ص 621. 
(18) كمال عيد، فلسفة الأدب والفن، (بتصرف)، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس 1398هـ - 1978م، ص 322، 323. (19) عدنان رشيد: مسرح العبث، دار النهضة العربية، بيروت، 1451هـ - 1988م. ص 7-8. 
(20)  يونس الوليدي، الميثولوجيا الإغريقية في المسرح العربي المعاصر، مطبعة أنفوبراتن الليدو، فاس، الطبعة الأولى، سنة 1998م. ص 220
(21) نفسه، ص 220
(22) حنا عبود، مسرح الدوائر المغلقة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سنة 1978م، ص 145 
(23) حياة جاسم محمد، الدراما الملحمية في مصر، عالم الفكر، م الخامس عشر، ع الأول، سنة 1984م، ص 84
(24) محمد مصطفى القباج، من قضايا الإبداع المسرحي، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 1420هـ 2000م، ص 17. 
(25) سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، دار الفكر الجديد، سنة 1978م، ص 93-94. 
(26) نفسه، ص 94-95. 
(27)  عبد الرحمن بن زيدان، خطاب التجريب في المسرح العربي، مطبعة سيندي، مكناس، الطبعة الأولى 1997م، ص 16
(28) حياة جاسم محمد، الدراما الملحمية في مصر، عالم الفكر، م الخامس عشر، ع الأول، سنة 1984م، ص 84. 
 (29) رينيه جيرار، العنف والمقدس، ترجمة ،جهاد هواش وعبد الهادي عباس، دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق الطبعة الأولى. سنة 1991م، ص 118. 
(30) عبد الكريم برشيد، حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى. سنة 1985م، ص 49-50. 
(31) محمد مصطفى القباج ، من قضايا الإبداع المسرحي، مطبعة النجاح الجديد، الطبعة الأولى 1420هـ - 2000م، ص 24
(32) ألفريد فرج، أضواء المسرح، دار الهلال، سنة 1989م، ص 283. 
(33) نفسه، ص 283-284. 
(34) نفسه، ص 285.
(35) نفسه، ص 285. 
(36) يوسف سايفرت، تفاعل الحضارات، دور الفينومينولجيا الواقعية في حوار الحضارات والديانات. ترجمة وتقديم: حميد لشهب، دعم من طرف الأكاديمية العالمية للفلسفة إمارة الليكتنشطاين، الرباط، 2004م، ص 47. 
(37) شوقي ضيف ،الأدب العربي المعاصر في مصر، دار المعارف بمصر، الطبعة الخامسة، 1961م ص 216. 
(38) حنا عبـود، مسرح الدوائر المغلقة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1978م، ص143 
(39) نهاد صليحة، المسرح بين الفن والحياة، مطابع الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 2000م، ص 16. 
(40) عبد القادر القط، من فنون الأدب المسرحية، دار النهضة العربية، 1978م، ص 307. 
(41) نفسه، ص 307. 
(42) خالد عبد اللطيف رمضان ،مسرح سعد الله ونوس ،دراسة فنية، الكويت، 1984م، ص 33، 34.. 
(43) نفسه، ص 35. 
(44) عبد الواحد عوزري ،مرجع سابق، ص 218. 
(45) نفسه، ص 219. 
(46) عقيل مهدي يوسف، متعة المسرح ،دراسة في علوم المسرح نظريا وتطبيقيا، دار الكندي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، سنة 2001م، ص 47. 
(47) محمد نور الدين أفاية، المتخيل والتواصل ،مفارقات العرب والغرب، دار المنتخب العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الاولى، سنة 1414هـ - 1993م. ص 92. 
(48) Jean-Pierre Miquel , le théâtre et les jours, Flammarion, 1986, p 42. 
(49)            Monique Borie et Antonin Artaud ,Le retour aux sources,
 Editions Gallimard, 1989, p 12.  

------------------------------------------------
 المصدر : مجلة نزوى 

الأربعاء، 26 أبريل 2017

مرجعيات الترميز لجسد الممثل في العرض المسرحي

مجلة الفنون المسرحية



مرجعيات الترميز لجسد الممثل في العرض المسرحي


د. راسل كاظم

   لكون جسد الممثل يدرك بوصفه ظاهرة بصرية لذا يمكن معرفة لغته كونها وسيطا للاتصال من خلال استخدام رموز ايحائية، تسعى الى بناء فهم مشترك خاضع لثقافة المتفرج وخبرته المكتسبة من الواقع لاجل اكتشاف المعنى ودلالته، فهيئة الممثل كمظهر مادي خارجي متمثلة بجسده هي شكل قائم بحد ذاته يرتبط بدلالة شخصيته، اما اذا اضفنا علاقة اخرى ضمن اشكال جديدة، فأنها تكون لنا دلالة اجتماعية او فكرية، فتتكون الدلالة "حالما كان هناك جزءان او اكثر مجتمعان مع بعضهما لكي يصنعا نسقاً مرئياً"(1)وهنا لا يمكن تجاوز مساحة اشتغال الممثل، كونه يشكل محصلة كل الفضاءات الاخرى للعرض المسرحي وبحسب فرضية (إلين ستون) فان الصورة ومن ضمنها جسد الممثل تعمل في اربعة مستويات "المستوى الوظيفي - السوسيومتري* - خلق الجو العام – الوظيفة الرمزية"(2). وفي حركة العرض تبدأ الاشكال بالتحول الى طاقة تعبيرية فتتنامى الاشكال المرئية وتصبح سلسلة من الرموز المتفاعلة مع دلالات العرض الاخرى، فالحركة تقوم بتفكيك ما هو مركب لاعادة تركيبه من جديد ولإنجاح عملية التواصل، لا بد أن تتوافق الدلالة التي يرسلها الجسد مع الرموز التي تصل إلى ذهن المتلقي، وكما يرى (باربا) ان هناك تقنيات مشتركة لتمظهرات الجسد. وكل ما نسميه بـ"التكنيك ما هو الا استخدام خاص لجسدنا"(3) وليس المقصود من التكنيك هو الجسد الخام المستخدم في الاشكال اليومية وانما المقصود هو الشكل المفعل للحركة ومعنى ذلك ان الجسد يمارس عصيانه ضد الشكل السائد، وفي تحرير طاقته يتحول الجسد من شكله الخامل الى شكله الجديد الناشط. والخطوة الاهم تكمن

في فهم تكنيك الجسد اليومي الذي من الممكن ان يستبدل بعد ذلك بتكنيك اضافي أي تكنيك لا يسير وفق الحالات المعتادة للجسم وهذا التكنيك الاخير هو ما يقوم الممثل باستخدامه في الالفية الثالثة الذي يسير على مبدا اقل المجهود . أي الحصول على افضل النتائج مع اقل مجهود لان المجتمعات الحديثة لا تريد تبديد طاقتها وتحاول ان تستخدم اقل طاقة لاكبر انتاج ، " ولغة جسد الممثل عندما يتم تنشيطها على مستوى ذي فاعلية فأنها تكون بالتالي كثيفة المعاني، وكون الجسد يتمتع بالحياة فأنه يعطي ديناميكية لكل عناصر العرض، ويمثل جسد الممثل ست علامات بصرية من مجموع العلامات البصرية التسع، التي تنتمي الى منظومة العلامات في المسرح المتكونة من ثلاث عشرة علامة، حسب تصنيفات (كوفزان)، لنظم علامات المسرح. وهذا ما يضع الجسد في مقام الصدارة بالنسبة للعلامات البصرية، من خلال تعبير الممثل الذي يتشكل بالجسد والمظهر الخارجي له، وتزداد اهمية جسد الممثل كلما تحررت خشبه المسرح من الاشكال المعمارية الثابتة والتقليدية، ويمكن للجسد ان يفوق في شعره شعر الكلمة المنطوقة، كما حلم (ارتو)، فجسد الممثل يمكن ان يصور افكارا ومواقف ذهنية ولمحات من الطبيعة، بطريقة ملموسة، ان يذكر الاشياء والتفاصيل الطبيعية. فضلاً عن الانماط الكامنة في الاساطير والطقوس والاحلام التي تفصح عن تجليات جدية في البحث عن انماط للتعبير الجسدي والتي تطلبت الانفتاح على الحضارات الشرقية، لهذا كانت رغبة بروك تتوجه الى الجسد لإيمانه الشخصي بان الجسم الانساني يمثل الوعاء الذي يحوي بقية العناصر ويرى (بارت) ان فن المسرح هو "فن ازدهار وتفتح الجسد"(4)، اما (ميرهولد) فانه يرى ان ابداع الممثل ينبثق من الجسد، وهو "ليس ابداع شخصيات، بقدر ما هو ابداع اشكال بلاستيكية جديدة في الفضاء الزماني المكاني للعرض"(5). وقد تطور مفهوم جسد الممثل لدى المسرحيين المعاصرين ومنهم الباحث والمسرحي (باربا)، من خلال ربط المسرح بالانثروبولوجيا، بهدف كشف وظائف غير مألوفة من خلال البحث باشكال الحركة الجسدية للمسرح الشرقي، ان المرسل في العرض هو جسد الممثل وهو يحقق التواصل مع المتلقي "فالتواصل يفترض مرسلا ومستقبلا وعمليتين متقدمتين لا متناظرتين هما عمليتا التشفير والترميز ، أي الشفرات وفك الرموز ، الترميز يمثل المتكلم وفك الرموز المؤول.

ووظيفة جسد الممثل في العرض ليست معنية بنقل المشاعر، بقدر عنايتها بما يرمز اليه هذا الجسد في تشكيلاته التشريحية، لان المشاعر يمكن ان تنقل عن الطريق اللفظي للممثل, لذا لا بد أن توضع قدراته بالحسبان ، بمعنى عدم إغلاق رسالة النتاج على ذاتها ، بل يفترض السعي الى الانفتاح على دور المتلقي وقراءته ، لذا يفترض التنسيق مع كفاءة مدركاته ومعجم شفراته وهذا ما مهدت له السيميائية التي تمحورت بحوثها حول العلامة ، وعنيت بها على مستويين:

المستوى الأول :الانطولوجي : ويعنى بماهية العلامة، أي بوجودها وطبيعتها وعلاقتها بالموجودات الأخرى التي تشبهها والتي تختلف عنها.

المستوى الثاني: البرجماتي : ويعنى بفاعلية العلامة وبتوظيفها في الحياة العملية ، ومن منطلق هذا التقسيم نجد ان السيميوطيقا اتجهت اتجاهين:

الاتجاه ألاول : يحاول تحديد ماهية العلامة ودرس مقوماتها

الاتجاة الثاني : يركز على دراسة توظيف العلامة في عمليات الاتصال ونقل المعلومات.

فاللغة والتفكير والعلم والفن والأدب والأشياء و القيم لابد لها من علامات تتكون بوساطتها او نتيجتها ، فالعلامات ودلالاتها هي عماد الوجود الإنساني وصوره التداولية والتواصلية ، فقد بلغ مجال السيميولوجيا الخاص الى أوسع دوائر المعرفة والى الممارسة الاجتماعية بكافة أبعادها ، تتوخى المعرفة العميقة بمختلف ظواهر الوجود والوعي الاجتماعيين بواسطة البحث عن مظهرها الدال ودلالاتها الممكنة في الماضي والحاضر والمستقبل. ويمكن ان نقسم مرجعيات الترميز لجسد الممثل في العرض المسرحي الى:

اولا/ مرجعيات ثقافية : أن الثقافة هي الحقل الأوسع في الدراسات السيميولوجيه لأنها تتضمن حقولاً عدة مثل الأدب والفن ، والتاريخ والتراث ، والسلوك والعادات وهذه الأنظمة العلاماتية تنتمي الى موضوع يتسم بالتعميم وبالضرورة تنتج بنيه ذاتية تجعل بعضها متمايزا عن البعض الأخر ذلك ان لكل نظام ثقافي/ علاماتي شفراته التي يأتلف منها. فشفرات الطقوس والشعائر لجسد الممثل تختلف عن شفرات العادات . والشعائر تختلف شفراتها من ديانة الى أخرى وهكذا الأمر مع جميع مظاهر الثقافة في عموم المجتمعات ، وهناك الكثير من الاراء التي طرحت بهذا الخصوص، منها الرأي القائل: ان الثقافة بوصفها آليات لتنظيم المعارف وحفظها في وعي الجماعة تثير المشكلة النوعية للتواصل او الاستمرار الثقافي ، وان لهذه الاستمرارية وجهين:(8)

1. استمرارية النصوص المعرفية للذاكرة الجمعية
 2. استمرارية القواعد الشفرية. او النظام الشفري للذاكرة الجمعية.

وفي حالات بعينها يحتمل الا يرتبط احد هذين الوجهين بالأخر ارتباطاً مباشراً وعلى سبيل المثال فقد ينظر الى بعض المعتقدات على أنها عناصر في نص من نصوص ثقافة قديمة في الوقت ذاته الذي فقد فيه النظام الشفري لتلك الثقافة. وتعني هذه الحالة ان النص الثقافي امتد بحياته وعاش بعد حياة النظام الشفري. وقد تحدث الحالة بالعكس فقد تبقى شفرات بعينها في حين تنمحي نصوصها من الذاكرة الجمعية او يبقى بعضها ، كما في حالة الأمثال الشعبية التي تكون شفرة متداولة في حين ان حكايات كثيرة من الأمثال تختفي من التداول او لا يعرفها المستشهد بالمثل، ولما كانت الثقافة تشمل جميع أشكال المعرفة بما فيها التاريخ والتراث ، والآداب والفنون ، وتضم العادات والتقاليد والأعراف ، وحتى تلك التي تبدو تارة وتبيد تارة أخرى ، فان من هذه الأشكال الثقافية/ المعرفية تظهر شفرات جديدة ، بعد ان استعانت هي بشفرات متداولة, من اكثر تلك الأشكال الثقافية هي النصوص الأدبية والفنية على اختلاف أنواعها وتوجهاتها وذلك من خلال توظيف شفرات بعينها في سياقاتها سواء كانت عملية التوظيف هذه قصدية ، ومن اجل أحياء شفرات _تاريخية ، تراثية، او تلقائية حين تبتدىء الشفرات المحورية لنسق ثقافي معين، تفرض نفسها بعدها الخيار الامثل في تقديم مضمون ما. ولما كانت الثقافة في مجملها تتكون من نصوص ، رسائل يتولد بعضها من البعض الأخر ، وبما يكفل لها الديمومة والتواصل ، فان لغة الجسدهي شفرات ثقافية, وان القيام بصياغة رسالة تعني القيام بعملية تشفير الجسد على وفق سياق معين.

ثانيا/ مرجعيات جمالية : وتنتمي الى الاتجاه الفني ـ الفلسفي، فقد حاول المسرح عبر تاريخه الهرب من رتابة التقاليد وثقلها الصارم حيث يستدعي ذلك ظهور نوازع جمالية جديدة مرتبطة مع اذواق الناس وحاجاتهم الجمالية وهذه بطبيعة الحال سرعان ما تترك مواقعها لاخرى اكثر تقدماً، فلكل زمن جمالياته، ولكل مرحلة سماتها التي قد ترتبط بجماليات الفنون المجاورة او تشترك معها. مما يدفع الممثل للجوء نحو استخدام اسلوب تعبيري معين قد يسهم باضطرار الممثل عبر التأويل لمجاراة هذه النوازع الجمالية، فحركات وايماءات الممثل في العصر الحديث تختلف اختلافاً كبيراً عنه في عصر النهضة، والعلاقات الجمالية بالمقابل اختلفت وتباينت بشكل كبير، مما حتم على الممثل الاهتمام بنوع الاشارة التي يرسلها جسده لايصال البعد الجمالي للمسرحية، فطبيعة الفنان قادرة على التفاعل مع المحيط وبناء علاقات نابعة من اتصاله مع الاشياء، بحيث تكون هذه العلاقة التوليدية مبنية على استجابات الفنان عند تفاعله مع المحيط. إن العمل الفني يتطلب من حيث هو نتاج للروح نشاطية ذاتية خلاقة تجعل منه حينما تصوغه وتشكله موضوعا لحدس الآخرين وتخاطب حساسيتهم ومخيلة الفنان هي التي تمثل هذه النشاطية الذاتية الخلاقة"(9). ان عملية استحضار البنى و النظم والعلاقات التي اكتسبتها الذاكرة بواسطة فاعلية ذهنية (الخيال) و التي التقطها حسيا من العالم المحيط فقد تحدث بشكل عام عن طريق استحضار واع, ان الممثل باستخدامه المطلق لأسرار جسده التعبيرية وعلاقته بالفضاء المادي المحيط به يعد حالة مثيرة واستثنائية أثناء تحقيقه للفعل والرؤيا في العرض. ولهذا فهنالك علاقة بين الكتلة، والمادة ـ الجسد والشيء تنتج معنى دلالياً للتعبير عن الحدث والفكرة من خلال الرؤى والإيقاع الموسيقي المميز لحركة الجسد في علاقته بالمادة. ووفق التيارات المسرحية التي تعاقبت وشكلت بالمقابل مدارس جمالية تغيرت نظرة الفنان الى الجمال من عصر الى عصر، ومن مرحلة الى اخرى، ومن مكان الى اخر.

ثالثا/ مرجعيات ايديولوجية : تستخدم في التعبير عن أفكار تتجاوز على نحو واسع حدود الحكاية التي ترتبط بها، وهي تعكس موقف المخرج إزاء أهم المشاكل الفكرية والسياسية وهنا يكون الفنان حراً في اختياره للصراع الفكري الذي يصطف معه و يجعله مادة لفنه ، ويمكن ان يصبح وثيقة في امكان المتلقي التحاور معها عبر رؤية تاريخية جمالية و اعية . و العامل الفكري مجاور للتاريخي و يستمد منه التشكيلات و المحددات التي تفصل بين الطبقات و الفئات وحتى الاختصاصات في الثقافة و المعرفة و بناء القيم . و المجتمع هو الميدان الذي تجرب فيه كل المبادىء و النظريات ، عبر سلسلة من الثورات الاجتماعية و السياسية و العلمية التي غايتها في الاساس تطوير المجتمع ، و اكتشاف و زرع القيم الجديدة 
رابعا/ مرجعيات اجتماعية: يكتسب الفرد بوصفه (الاساس في تشكيل المجتمعات) خبراته عن طريق الممارسة العلمية والتفكير في المشكلات الحسية المرتبطة بواقع الحياة ، فالمعرفة التي تأتي عن طريق تراكم المعلومات وفهمها ، هي اساس الخبرة سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة ، لذا فإن الخبرة تتسع وتتعمق لتوضح حقيقتها بكل جوانبها المختلفة الحسية والعقلية والروحية , الوجود الاجتماعي يرتكز على تشابك طقوس تكمن وظيفتها في ادارة العلاقات بين البشر والعالم، وبين الناس فيما بينهم، فكل انسان عبر مسيرته الخاصة، وباسلوبه الخاص يرمز لعدد كبير من الاوضاع التي يصادفها والحياة اليومية هي المكان المميز لهذه العلاقة، وهذه العلاقة تترك اثرها على الممثل، بطريق تكوين شبكة من المعلومات يستثمرها في سبيل اسقاطها على اداء جسده. ويمكن لهذه المرجعيات ان تختلف باختلاف المجتمعات فما يصح في مجتمع قد لا يصح في اخر كما تختلف زمانياً في المجتمع الواحد، فالقيم كغيرها من الانساق الاجتماعية معرضة للتغيير والتبديل خلال تاريخ المجتمع. ولا يعني هذا ان تغيرها مرهون بعامل التقادم الزمني نفسه، وانما بالاحداث والتقلبات واشكال الاحتكاك الحضاري والتثقيف التي يتعرض لها المجتمع. أن الرسالة المميزة للفن هو ان يرتفع ويحلق بمشاعرنا الى آفاق عالية ولابد أن يسمو الفن على الواقع حتى يحفزنا على إصلاحه أن يكون هذا الفن متصلا بقيم المجتمع الحاضر وأهدافه المستقبلية ، وفهم هذا الفن يعد فهما لهذه القيم والأهداف وذلك لبنائها وتطويرها ، مما يرتقي بالمجتمع الانساني المتحضر.على وفق القيم والأهداف الاجتماعية بل إنه يحرضه على

 قراءتها والحكم عليها ، ويشجعه على التفكير في أهداف الفنان المتجلية في عمله ورسالته وفي رؤيته ، ومعرفة علاقتها بالمجتمع وقيمه.

المراجع:
1. دني هو بسمان :علم الجمال ، ترجمة : ظافر الحسن (باريس : بيروت ، منشورات عويدات ، ط4 ،1983 ، ص106.
* القياس السيوسومتري هو القياس في المستوى الاجتماعي.
2. ألين ستون، جورج سافونا، المسرح والعلامات، تر، سباعي السيد، مهرجان القاهرة الدوري للمسرح التجريبي، وزارة الثقافة ، القاهرة، 1991، ص 203.
3.  باربا ، مسيرة المعاكسين ، انثروبولوجيا المسرح . ترجمة قاسم البياتي ، دار الكنوز الادبية ، الطبعة الاولى ، لبنان ، 1981 ، ص105.
4. رولان بارت، المسرح الاغريقي، ترجمة سهى يشور، (المعهد العالي للفنون المسرحية، 1987)، ص 25.
5. سعد صالح، الانا والاخر.. ازدواجية الفن التمثيلي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والاداب والفنون، 2001، ص174.
6. جوليا كريستيفا : علم النص ، ترجمة : فريد الزاهي ،ط1 ( الدار البيضاء ،دار توبقال للنشر )1991 ،ص18.
8.  ينظر : اوسينسكي بوريس وزميله : حول الالية السيميوطيقية للثقافة ،ترجمة عبدالمنعم تلميعه، في كتاب 9- مدخل الى السيميوطيقا_مقالات مترجمة ودراسات مصدر سابق ، ص301.
هيغل، فكرة الجمال، تر: جورج طرابيشي، (بيروت, دار الطليعة، )، ج2، ط1،1978, ص 291.

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption