أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات مسرحية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات مسرحية. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 28 سبتمبر 2017

المتغير العلامي فـي الخطاب المسرحي

مجلة الفنون المسرحية

المتغير العلامي فـي الخطاب المسرحي

أحمد شرجي  - المدى 

تخضع اللغة عند (رولان بارت Roland Barthes) للنموذج الدوسوسيري، لأنها تشكل الأسس الرئيسة لفهم بنية الحياة الثقافية والاجتماعية لأي مجتمع. فالبنية الاجتماعية والثقافية ممارسة يومية يعتاد عليها الفرد، ومن ثم تصبح الأرضية التي يتعامل بها ، ومن ثم تتجه تمثلاتها في العرض المسرحي . وبالنسبة لبارت تدرس التمثلات الجماعية بدلاً من الواقع الذي تشير إليه كما في علم الاجتماع، وهذا ما نجده في مقاربته البنيوية والسيميولوجية لنظام الموضة أو الأزياء، إذ يحاول اختزال الظواهر الاجتماعية وإرجاعها إلى بيئتها لكونها وظيفة عامة. ويؤكد لنا هذا الاختزال البارتي مفهومنا للعلامات والتي نطلق عليها بـ "العلامات الجيلية و العلامات الترحيلية. ونعرف الجيلية: بأنها العلامات التي تحمل خصوصية الجيل، والعادات، والسلوكات، والتقاليد. أما العلامات الترحيلية: فهي العلامات التي ترحل من جيل إلى جيل، وتحافظ على رسوخها داخل المجتمع، لأنها هوية جيل وعلاماته. وتندرج اللغة ضمن هذا الإطار لكونها سلوكاً يومياً بين الفرد والمجتمع. ومن هذا المنطلق فإن العلامات قد تندثر عند الجيل اللاحق، أو يترحل بعض منها. بينما توحي العلامة عند (رولان بارت ) بثلاث علاقات، تشكل أنماط العلامة وعلاقاتها، وهي:
- علاقة داخلية: توحد بين دالها ومدلولها، وتتضح معالمها من خلال العلاقة الترابطية التي تفرضها طبيعة الدال على المدلول، ولا يمكن لأحدهما العمل بشكل فردي، لأن ذلك معناه تقويض قصدية العلامة.
- علاقة افتراضية: توحد بين العلامة ومخزون محدد من العلامات الأخرى قد تنهل منها بهدف ولوج عوالم الخطاب، وبالتالي تشكل علاقة خارجية.
- علاقة فعلية: وهي توحد بين العلامة وغيرها من العلامات في الخطاب الذي يسبقها أو يعقبها، وهي أيضاً علاقة خارجية.
لا يمكن التسليم بأن دلالة التعيين Denotation يقرأها المتلقي بذات القصدية الثقافية داخل الخطاب المسرحي، إذ يتوقف ذلك على عدّة عوامل، منها: ثقافة متلقي العرض، وثقافة الممثلين، وثقافة النص، وثقافة العرض. فقد لا ينتمي النص إلى ثقافة الممثلين وثقافة المتلقين، والأمر نفسه ينطبق على العرض المسرحي. بمعنى آخر: يتأسس العرض، بوصفه منظومة أنساق علامية، على ثقافته الأصلية التي كُتِب في ضوئها المعجم الدلالي للعرض، غير أننا نجد أنفسنا في الغالب أمام نص غادر زمن كتابته الأولى وهاجر سياقه الثقافي الأصلي. فالخطاب المسرحي يتضمن دلالات متعارف عليها، لكن رغم ذلك، يشوب العلامة المسرحية شيء من الالتباس بسبب الدلالة الحقيقية، إذ "تكتسب العلامة المسرحية حتماً معاني ثانية لدى الجمهور الذي يردها بدوره إلى القيم الاجتماعية والأخلاقية والإيديولوجية المعمول بها داخل الجماعة التي ينتمي إليها المؤدون والمشاهدون"( كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ص:18). وهذا ما انتبه إليه (بيتر بوغاتريف Petr.Bogatyrev)، حين لاحظ قدرة حامل العلامة على الإشارة إلى ما وراء الدلالة الحقيقية، فضلاً عن الدلالة القصدية بشقيها الثقافي والمسرحي. وهنا يكون الحديث عن مرجعيتين ثقافيتين، هما: مرجعية ثقافة النص المسرحي ومرجعية ثقافة العرض المسرحي. فالمرجعية الأولى ذات ارتباط زمني بعلامات الزي والديكور، ونقصد زمن النص المسرحي الأدبي. وتفسَّر العلامات ¬هنا¬ وفق العلاقة الزمنية المشار إليها، أي وفق الانتماء والظرف الزمنيين. أما المرجعية الثانية فتربط العرض وعلاماته الثقافية بالمتلقي، لأنه المؤوِّل النهائي للعرض المسرحي. وحتى لو كانت العلامات المسرحية ترتبط مع بعضها البعض حسب ما ذهب إليه (بوغاتريف)، فإنها لا تشير ¬لحظة العرض المسرحي¬ إلى العلامة ذاتها التي طرحها النص الأدبي، بل تتحدد علاقتها المباشرة بالمؤول وموروثه الثقافي، من خلال إرجاع العلامات لا إرادياً إلى ثقافته وبيئته الاجتماعية. ولهذا استبدل بوغاتريف الدلالة الحقيقية بمصطلح آخر أطلق عليه: (الدلالة بالتضمن)، وتتمثل في كل عناصر العرض المسرحي. وتحكم العلاقة الجدلية بين الدلالة الحقيقية والدلالة بالتضمن كل مظهر من مظاهر العرض المسرحي، لأن "الديكور وجسد الممثل وحركاته وكلامه يحدد ويتحدد على الدوام عبر تغيّر شبكة من المعاني الأولية والثانوية"( كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ص:19). وارتباطاً بتعددية الدلالة بالتضمن، تنتج العلامة المسرحية سلسلة من الوحدات الثقافية في العرض المسـرحي، وتكمـن قدرتها التوليدية في اتسـاع الدال بالتضمن، لأنه "مهما بلغت درجة تحديد مؤشرات الدل بالتضمن، فإنها تعتمد على قوة الاتفاقات الدلالية المعمول لها"( نفسه، ص:20). لكن هناك استثناءات، ففي المسرح الإغريقي ومسرح النو والكابوكي، تكون الأنساق العلامية والوحدات الدلالية ثابتة، بحيث يصعب التمييز بين الدلالة الحقيقية والدلالة بالتضمن، بل تختفي دلالة التضمن نهائياً، لأن العرض لا يحيد عن أنساقه العلاماتية المحددة مسبقاً والتي يدركها المتلقي جيداً.
يحدد صناع العرض المسرحي الوحدات الدلالية، بناء على الاتفاقية التي اعتمدت أثناء التداريب، لكن تتغير قصديتها أثناء العرض من متلق إلى آخر، لأن "قابلية المشاهد الحقيقية لإدراك ترتيب ¬ثانوي للمعاني في عملية فك كودات العرض، تعتمد على القيم خارج¬ المسرح والقيم الثقافية العامة التي تحملها بعض المواضيع وضروب الخطاب أو أشكال السلوك"( نفسه، ص:21). وفقاً لذلك، فإن العرض المسرحي "آلة سبرنطيقية" كما يقول رولان بارت، ويضاف إلى قدرة علاماته التوليدية قابلية العلامات على التأويل المستمر. فالعرض المسرحي بوصفه دلالة، بمقدوره توليد العديد من الدلالات التي تعمل بدينامية داخل العرض المسرحي، وتتحول إلى دلالات بالتضمن لكونها تخضع لثقافة المؤول من جهة، وتذعن لمجموعة سلوكات وعقائد دينية واجتماعية وأخلاقية، لأن "عالم التوليد السيميائي هو عالم متحرك. وأن نفترض أن له بنيات لا يعني أبداً أننا نفترض أنه ثابت: إن الأمر يتعلق، على العكس من ذلك، بالتعرف على آليات تغير بنيته"( إيكو ، أمبرتو، العلامة تحليل المفهوم وتاريخه، ص:179).

الأربعاء، 27 سبتمبر 2017

عن مسرح الدمى، اللعب، والسياسة

مجلة الفنون المسرحية

عن مسرح الدمى، اللعب، والسياسة


رياض عصمت - الحرة 


تغيرت قواعد اللعب في زماننا. يطلق على التمثيل في المسرح بالإنكليزية كلمة playing، أي "اللعب". لطالما قلت لطلاب التمثيل: "العبوا للجمهور، لكن إياكم أن تلعبوا على الجمهور". كنت أقصد ألا يسعى الممثلون الشبان إلى خداع الجمهور بأداء زائف، واستعراض المهارات أمامه لتلقيمه الأمور عنوةً كدروس ثقيلة على القلوب. الجمهور في الشرق الأوسط ذكي، يدرك بالفطرة الصادق من الزائف، مثل صائغ محترف يميز عيار الذهب 24 قيراطا من ذلك المطلي والمغشوش. لكن موضوعنا ليس لعب المؤدين الأحياء على خشبات المسارح، بل اللعب بمؤدين من خشب وقماش في ما يسمى "مسرح الدمى"، وهو ما يسمى أيضا "مسرح العرائس"، بينما يسمى في اليابان "مسرح بونراكو".

في زمن مضى، كان كراكوز وعيواظ شخصيتين تركيتين متناقضتين بطبعيهما وسلوكيهما، تجسدَّان بأشكال مقصوصة من الجلد السميك، تحركها خفية من وراء شاشة مضاءة أسياخ معدنية رفيعة تمسكها بمهارة أصابع لاعبين مهرة، وكان يطلق على هذا النمط المسرحي اسم "خيال الظل" Shadow Theatre. استهوى هذا النمط المسرحي البدائي الجماهير العربية، وشاع في كل أرجاء البلاد التي استعمرتها الإمبراطورية العثمانية آنذاك. ظل اللاعبون الذين يحركون تلك الدمى الجلدية البدائية مختفين عن الأنظار ليتابع المتفرجون حركة الدمى من وراء ستارة بيضاء، ويصغون إلى تلميحات سياسية لا تخلو أحياناً كثيرة من ألفاظ نابية تنفِّس الاحتقان والغضب الشعبي من استفحال الفساد والاستبداد. بالتالي، لا يدعو للاستغراب أن مسرح خيال الظل قوبل برقابة قاسية ومتعنتة، فمنعت له عروضٌ بدت محرضة لوعي الجمهور الشعبي، كباراً وصغاراً، كي يدفع عنه الضيم، يستعيد الكرامة ويسخر من الحكام الظالمين والأثرياء المستغلين، على طريقة مسرحيات موليير الهزلية وكوميديا السينما الصامتة عند تشارلي تشابلن وأقرانه.

قبل أكثر من نصف قرن، حين كان والدي الراحل يصطحبني مع أختي وأخي إلى "مدينة الملاهي" في دمشق، كان أول ما يلفت أنظارنا لدى ولوجنا المكان مسرح دمى متواضع يقدم عليه لاعبون مختفون عن الأنظار شخصيتي كراكوز وعيواظ بقفازات تحركها أيديهم من الأسفل، وكان لحن "عزيزة" للموسيقار محمد عبد الوهاب يصدح عالياً ليصم الآذان. اللافت للنظر أنه كان من المحرمات أن يلمح الجمهور أولئك الذين يلعبون خلسةً بالدمى وينطقون بحوارها.أما في مصر، فظهرت نسخ مطورة عن مسرح الدمى أطلق على الشخصية المحورية فيها لقب "الأراجوز"، ومن هذا النموذج استقى الكاتب المعروف يوسف إدريس مسرحيته السياسية الشهيرة "الفرافير".

أنتقل إلى المستوى العالمي، لأذكر أنني شاهدت نموذجاً راقياً لمسرح الدمى في مدينة سالزبورغ النمساوية Salzburg Marionette Theatre وذلك عندما اصطحبت زوجتي إلى عرض فريد من نوعه لم يسبق لنا أن شاهدنا مثله من قبل، هو أوبرا موزارت "الناي السحري" وقد جسدت بصورة أخاذة وغناء رائع يضاهيان بعض أفضل ما شاهدنا من عروض الأوبرا العالمية. أيضاً، كان اللاعبون هنا متوارين عن الأنظار ليحركوا دمى "الماريونيت" بخيطان خفية، فتلك ظلت قاعدة اللعب الأوربية السائدة في المسرح وفي الحياة لحقبة طويلة من الزمن، بحيث يتم تحريك الأقطاب المؤثرين في الجماهير بالخيطان الخفية كما تحرَّك دمى "الماريونيت".

بالمقابل، تذكرت اليوم طرازاً عريقاً ومختلفاً لمسرح الدمى، إذ لاحظت أن موضته أحييت في القرن الحادي والعشرين، وهو الطراز الياباني المسمى "بونراكو". مسرحيات بونراكو مختلفة عن كل ما سبق ذكره، فهي أعمال جادة، وليست كوميدية أو غنائية الطابع، بحيث اشتهر تشيكاماتسو كأعظم مؤلفيها التراجيديين عبر نصوصه الدرامية المؤثرة. في هذا الطراز - المنافس بقوة لطرازي "نو" و"كابوكي" المسرحيين اليابانيين اللذين يؤديهما بشر - يرى الجمهور دمىً ضخمة الأحجام، يصل الواحد منها إلى ثلث حجم الإنسان، يحركها بوضوح أمام أنظار الجمهور لاعبون ظاهرون للعيان يتشحون جميعاً بالسواد. مسرحيات "بونراكو" عادةً مأساوية، تنضح بالدم والدموع، وتختتم بنهايات تسبب رعشة الشفقة والخوف لدى المتفرج، محققة ما أسماه أرسطو "التطهير" في النفس الإنسانية. لكن هذا التطهير، في الواقع، لا يؤدي إلى أي تغيير، بل إلى مراوحة في المكان.

تغيرت قواعد اللعب في عصرنا إلى حد الانقلاب. ما كان يجري خلسةً في الخفاء على استحياء، صار يجري الآن في العلن دون خجل أو وجل. صارت السياسة الدولية تأنف من مسارح الدمى التي يجبر فيها اللاعبون على الاختفاء محركين هياكل شخوصها بقفازات أو بخيوط. نحن لا نرى اللاعبين في هذين النمطين، وإنما نرى آثار أفعالهم، فهم يتلاعبون بمشاعرنا ويتحكمون بوجداننا وهم مختفون عن الأبصار. أما عند اليابانيين، فلاعبو الدمى لا يأبهون بالتواري عن الأنظار، ولا يضيرهم انكشافهم متنكرين بالسواد، فهم يحركون الدمى الأكبر حجماً في العلن، من دون مواربة أو تستر. هكذا، أصبح فن "بونراكو" الياباني عالمياً في زماننا الراهن، وتغيرت قواعد اللعب بين الماضي والحاضر، ليكرَّس الثبات ويُنعى التغيير. ما أشبه "بونراكو" بمواقف المجتمع الدولي في عالمنا اليوم!

الاثنين، 25 سبتمبر 2017

إشارات معرفية عن ثقافة الصورة

مجلة الفنون المسرحية

إشارات معرفية عن ثقافة الصورة


علوان السلمان - الصباح الجديد 

التراكم المعرفي الكمي والانشغال بقضية المعنى.. والمثقف المنتج هو العنصر الفاعل في تحقيقها للوصول الى هذا المعنى الكامن في ما وراء اللفظة والصورة الثقافية التي هي اول حرف هجائي لغوي اتخذه الانسان للتعبير عن ذاته والمحيط.. وبذلك حققت وظائفها في تسجيل مظاهر الحياة والتعبير عن الاحاسيس والمعتقدات.. فحققت وظائفا سايكولوجية بحلها بعض المتطلبات النفسية والعقلية.. اضافة الى وظيفتها الاخبارية بوصفها انجح وسيلة اعلامية تمنح المتلقي المضمون بواقعيته المتميزة..كونها (اعادة انتاج طبق الاصل او تمثيل مشابه لكائن او شيء) على حد تعبير روبيرت robert..فهي تخلق واقعا متخيلا يسهم في القضاء على امية المشاهد(المستهلك)..كونها قيمة ثقافية مضافة ومصدر تأويل يقترن بالصيغ التعبيرية متمثلة في اللغةlangage القدرة التي يختص بها النوع الانساني والتي تمكنه من التواصل بوساطة نسق من العلاقات الصوتية..كونها خزان فكري وديوان الحضارة تقوم على خلق التفاهم وتحقيق المعارف والاندماج الاجتماعي بين الهويات..عبر الكلمة التي هي رمز دالsignifiant متآلف مع دوال الجملة كي يحرك آلية التفكير فيستحضر التاويل ..كونه يقدم نفسه على هيئة متلاحقة من الصوتيات(الفونيمات)و(المورفيمات) والوحدات الدلالية التي تشكل ثقافة العقل المتأمل بأساليبه الاستدلالية..اما ثقافة الصورة فهي امتداد للادراك البصريvisual literacy والتي تمثل مقدرة الجمهور على تحليل وتقييم وفهم وسائل الاعلام كوثيقة تاريخية وذاكرة اللحظات المحتفظة بها وجودا مؤثرا..
لذا فان (رولان بارث) يذهب الى ان النص اللغوي الذي يحضر الى جوار الصورة يلعب احد الوظيفتين: الاولى الترسيخ ذلك ان الصورة تتسم بالتعدد الدلالي ..وثانيهما التدعيـم والاسنـاد كون النص اللغوي يمارس سلطة على الصورة..وهذا يعنـي انهما نتاج متعايش لتعزيز دورهما المعرفي.. فالصورة علامة مبتكرة بافـق دلالي يحاول الاستحواذ على ذهن المتلقـي وتكييفه على وفق ما يتطلبـه منطـق الاستهـلال..فضلا عن انها علامة معرفية وثقافية واعلامية تعيد انتاج العالم بحدثيتها التي تفرض وجودها على المتلقي بعد ان كانت تشكل الهامش اذ كان حضورها جزئيـا.. فصارت بعد الثورة التكنولوجية وازدهـار الصحـف والمجلات وانتشارظاهرة التوثيق تهيمـن صناعتها على مكونات الحقل الثقافي في عصر الحداثة التي ثورت اساليب التواصل عن طريق الصورة التي اصبحت العلامة الثقافية التي حلت محل الكلمة المسموعة التي تشكل ثقافة العاطفـة كونهـا شحنة انفعاليـة تساعـد علـى التكوين العاطفي للانسان.. بعد ان تحولت من الهامش الوجودي الى المركزي الفاعل..المؤثر..ومن الحضـور الجزئـي الـى السيادة الكلية لما تفـرزه من معطيـات وما تحدثه من تحولات في الرؤى والقيـم.. كونهـا وثيقـة تاريخيـة وذاكـرة ثقافيـة ومـرآة اجتماعيـة في تثبيـت اللحظـات الانسانية المتحركة.. لـذا فهـي الغايـة والمنتهى.. وكيان قائـم بذاتـه يشكـل ثقافة موهمة بالواقع البصري ذاتـه والذي هو اداة من ادوات المعرفـة التـي تسهم في التكوين الثقافـي وتشكيـل قدراته على رؤية الاشياء..
ان ثقافة الصورة في قوة تأثيرها اليوم تمثل فرصة غير مسبوقة في تاريخ البشرية للاعلام والتوعية والتثقيف..فهي تثير الوجدان اكثر من العقل وهي بطبيعتها تلك لا يمكنها ان تستقل عن اللغة في التواصل الفاعل مهما بدا لنا ان عصـر الصـورة يوحـي لعكـس ذلك..
منذ منتصف القرن العشرين كان الاهتمام بالفوتوغراف بوصفه فن تعيينـي(صـوري)وجمالي (تشكيلي) حين اتخذت فنـون ما بعـد الحداثة الصورة كسيرة ذاتية ازاء التحولات الزمكانيـة..وتعتبر قراءات شاكر لعيبـي فـي (بلاغـة الصـورة الاشهاريـة) وذاكـرة بغداد لكفاح الامين من اهم المحاولات التطبيقية لاهمية الفوتوغراف.. اذ تناول كل منهمـا فلسفة الصورة ومدى قوتها التأثيرية في تحديد مسارها طبقا لآلية التأويل القائم على المفارقة..

السبت، 23 سبتمبر 2017

بين ثقافة متلقي العرض وثقافة النص..العرض المسرحي ومتاهة العلامات الثقافية

مجلة الفنون المسرحية

بين ثقافة متلقي العرض وثقافة النص..العرض المسرحي ومتاهة العلامات الثقافية

أحمد شرجي - المدى 

تقوم السيميولوجيا على توسيع فكرة اعتباطية الدال، بمعنى اتفاقيته واستناده إلى العُّرف. وإذا كانت اعتباطية المدلول سهلت المأخذ والفهم، فإن الصعوبة تكمن في كيفية تخلص الفرد من الشعور بأن هناك شيئاً ما طبيعياً في هذه المدلولات التي تبدو كأنها أشياء طبيعية. ولهذا انفتحت السيميولوجيا على حقول معرفية أخرى، من قبيل: اللسانيات التي اعتبرها دوسوسير جزءاً من علم أشمل وأكثـر اتساعاً وهو السيميولوجيا.


يعتبر المنهج السيميولوجي منهجاً للتحليل، بيد أنه يضع العلامة أمام عوائق عديدة في سبيل وصولها إلى مقصدها الدلالي، إذ تقوم إجراءات الممارسة السيميولوجية على أساس تراتبي. فالعملية التحليلية ذات مراحل ثلاث، حسب التصور البورسي، وهي:
• المرحلة الأولى: تحليل الممثل الأول.
• المرحلة الثانية: تحليل الموضوع.
• المرحلة الثالثة: تحليل المؤول.
لا تخضع هذه التراتبية لأي تراتبية عقلية ولا يمكن التسليم بحياديتها، لأنها ترفض أي تقاطع مع الواقع. وبناءً على ذلك، فإن عدم الاعتراف بوجود هذا المثلث العلائقي الذي ترتبط به أجزاء العلامة (الممثل، الموضوع، والمؤول)، معناه أنه لا وجود للعلامة، مادامت لا توجد إلا من خلال تلك العلاقة التراتبية الترابطية. فإذا سلمنا بأن الممثل هو: (أ)، والموضوع هو: (ب)، والمؤول هو: (ج)، فمن غير المعقول أن يتم تجاوز (ب)، للربط بين (أ و ج) بعلاقة يكون مصدرها (ب)، إذ عندها ستكون العلامة مبهمة وتفتقد إلى القصدية الدلالية. وبالتالي فإن (أ و ج) يوصلان إلى (ب) لضرورة إعلامية أو جبرية. ومن هنا، فإن سيميولوجيا التحليل وفق المقولات البورسية، كما أوضحها جيراردو لودال، كالآتي:
• حل التشفير (الموجود بالقوة).
• التواصل الفعلي (علاقة تشفير ¬ حلّ تشفير).
• التشفير (القواعد).
ومن المسلم به أنه لا يوجد تشفير جديد من دون حل التشفير السابق، ولكنه في كلتا الحالتين تشفير مقصود، لأن التشفير الجديد قائم حتماً في الذهن، فـ"لا وجود لأي تواصل عن طريق العلامات من دون وجود قصدية وراء فعل التواصل، ومن دون وجود إبداع أو على الأقل من دون توليف للعلامات"( جيراردو لودال، السيميائيات أو نظرية العلامات، ص:126.). ومن هنا نتساءل: لماذا نرفض سيميولوجيا المؤول، ونصّر على استبدالها بعلامة المؤول والتي لا تؤول في النهاية إلا عن طريق الإنسان؟
لا يمكن التسليم بأن دلالة التعيين Denotation يقرأها المتلقي بذات القصدية الثقافية داخل العرض المسرحي، إذ يتوقف ذلك على عدة عوامل، منها: ثقافة متلقي العرض، وثقافة الممثلين، وثقافة النص، وثقافة العرض. فقد لا ينتمي النص إلى ثقافة الممثلين وثقافة المتلقين، والأمر نفسه ينطبق على العرض المسرحي. بمعنى آخر: يتأسس العرض، بوصفه منظومة أنساق علامية، على ثقافته الأصلية التي كُتِب في ضوئها المعجم الدلالي للعرض، غير أننا نجد أنفسنا في الغالب أمام نص غادر زمن كتابته الأولى وهاجر سياقه الثقافي الأصلي. فالعرض المسرحي يتضمن دلالات متعارف عليها، لكن رغم ذلك، يشوب العلامة المسرحية شيء من الالتباس بسبب الدلالة الحقيقية، إذ "تكتسب العلامة المسرحية حتماً معاني ثانية لدى الجمهور الذي يردها بدوره إلى القيم الاجتماعية والأخلاقية والإيديولوجية المعمول بها داخل الجماعة التي ينتمي إليها المؤدون والمشاهدون"( كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ص:18 ). 
وهذا ما انتبه إليه بيتر بوغاتريف Petr.Bogatyrev، حين لاحظ قدرة حامل العلامة على الإشارة إلى ما وراء الدلالة الحقيقية، فضلاً عن الدلالة القصدية بشقيها الثقافي والمسرحي. ولهذا تساءل: "ما هو الزي المسرحي على وجه الدقة، أو ما هو الديكور الذي يمثل بيتاً في المسرح؟ عندما يستخدم هذا أو ذاك في المسرح يكون قد جرى اعتبار أي منهما علامة تشير إلى وحدة من خصائص علامات الزي أو البيت في المسرحية. ففي الواقع يكون اي منهما علامة لعلامة أخرى ولا يكون علامة لشيء مادي"( بوغاتريف في: كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ص:19). نستشف مما سبق، بأن بوغاتريف يتحدث عن ثقافتين، هما:
• مرجعية ثقافة النص المسرحي.
• مرجعية ثقافة العرض المسرحي.
فالمرجعية الأولى ذات ارتباط زمني بعلامات الزي والديكور، ونقصد زمن النص المسرحي الأدبي. وتفسَّر العلامات ¬هنا¬ وفق العلاقة الزمنية المشار إليها، أي وفق الانتماء والظرف الزمنيين. أما المرجعية فتربط العرض وعلاماته الثقافية بالمتلقي، لأنه المؤوِّل النهائي للعرض المسرحي. وحتى لو كانت العلامات المسرحية ترتبط مع بعضها البعض حسب ما ذهب إليه بوغاتريف، فأنها لا تشير ¬لحظة العرض المسرحي¬ إلى العلامة ذاتها التي طرحها النص الأدبي، بل تتحدد علاقتها المباشرة بالمؤول وموروثه الثقافي، من خلال إرجاع العلامات لا إرادياً إلى ثقافته وبيئته الاجتماعية. ولهذا استبدل بوغاتريف الدلالة الحقيقية بمصطلح آخر أطلق عليه: (الدلالة بالتضمن)، وتتمثل في كل عناصر العرض المسرحي. وتحكم العلاقة الجدلية بين الدلالة الحقيقية والدلالة بالتضمن كل مظهر من مظاهر العرض المسرحي، لأن "الديكور وجسد الممثل وحركاته وكلامه يحدد ويتحدد على الدوام عبر تغيّر شبكة من المعاني الأولية والثانوية"( كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ص:19).
وارتباطاً بتعددية الدلالة بالتضمن، تنتج العلامة المسرحية سلسلة من الوحدات الثقافية في العرض المسـرحي، وتكمـن قدرتها التوليدية في اتسـاع الدال بالتضمن، لأنه "مهما بلغت درجة تحديد مؤشرات الدال بالتضمن، فإنها تعتمد على قوة الاتفاقات الدلالية المعمول لها"( نفسه، ص:20). لكن هناك استثناءات، ففي المسرح الإغريقي ومسرح النو والكابوكي تكون الأنساق العلامية والوحدات الدلالية ثابتة، بحيث يصعب التمييز بين الدلالة الحقيقية والدلالة بالتضمن، بل تختفي دلالة التضمن نهائياً، لأن العرض لا يحيد عن أنساقه العلاماتية المحددة مسبقاً والتي يدركها المتلقي جيداً.
يحدد صناع العرض المسرحي الوحدات الدلالية، بناء على الاتفاقية التي اعتمدت أثناء التداريب، لكن تتغير قصديتها أثناء العرض من متلق إلى آخر، لأن "قابلية المشاهد الحقيقية لإدراك ترتيب ¬ثانوي للمعاني في عملية فك كودات العرض، تعتمد على القيم خارج¬ المسرح والقيم الثقافية العامة التي تحملها بعض المواضيع وضروب الخطاب أو أشكال السلوك"( نفسه، ص:21). وفقاً لذلك، فإن العرض المسرحي "آلة سبرنطيقية" كما يقول رولان بارت، ويضاف إلى قدرة علاماته التوليدية قابلية العلامات على التأويل المستمر. فالعرض المسرحي بوصفه دلالة، بمقدوره توليد العديد من الدلالات التي تعمل بدينامية داخل العرض المسرحي، وتتحول إلى دلالات بالتضمن لكونها تخضع لثقافة المؤول من جهة، وتذعن لمجموعة سلوكات وعقائد دينية واجتماعية وأخلاقية، لأن "عالم التوليد السيميائي هو عالم متحرك. وأن نفترض أن له بنيات لا يعني أبداً أننا نفترض أنه ثابت: إن الأمر يتعلق، على العكس من ذلك، بالتعرف على آليات تغير بنيته"( إيكو ، أمبرتو، العلامة تحليل المفهوم وتاريخه، ص:179).


الاثنين، 18 سبتمبر 2017

ابتعاد النص عن تجسيد الواقع

مجلة الفنون المسرحية

ابتعاد النص عن تجسيد الواقع


علاء كريم - الصباح 


المتعة الجمالية تركيبة معقدة من الاحاسيس التي يعاني منها الإنسان وبقوة، لذا لن يستطيع الكاتب أثارتها اذا لم يكن متعمقا في واقع الإنسان الاجتماعي والنفسي، كما لا يمكنه التأثير في ذاكرة المتلقي التي لا تختلف عن أي ذاكرة معرضة للفقدان، بسبب تراكمات الحياة المتشابكة. السؤال هو: هل ابتعد النص عن واقعنا الحقيقي؟ قد يجادل البعض بالإجابة عبر النفي، ويؤكدوا على أن ما يعرض هو جزء من واقعنا وأحداثه المتجددة، والدليل على ذلك بما يقدم سنويا من عروض. المجموعة المسرحية ( ثامن ايام الأسبوع) للمؤلف المسرحي العراقي علي الزيدي والتي تضم الى المسرحية التي حملت عنوان المجموعة، ثلاث مسرحيات أخرى هي: (العد التنازلي لمكبث) و (كوميديا الأيام السبعة) و (خروج بإتجاه الدخول)، كتبها المؤلف بشجاعة عبر نقله وقائع ترتبط بالفرد وواقعه الاجتماعي، والشارع العراقي بكل تحولاته، وذلك من خلال كشفه ثنائية القسوة الخوف وتعرية الفاسدين واعلاء صوت المطالبين بالحق والعدالة. 
تناولت النصوص مضامين إنسانية متعددة معتمدا بذلك على التراث الانساني العراقي، وربطه بالتراث المسرحي العالمي، بشكل يتيح للمتلقي استقبال النص. مسرحية(كوميديا الايام السبعة) بطل المسرحية طاهي يتهم هو وحفيده بقتل كلبه، مما فرض عليهما هذا الحدث الامتناع عن الاكل لمدة أسبوع حداداً على كلبه، فقد الطاهي وحفيده انسانيتهم، الاول بسبب فعل الشر المتلبس به، والآخر بسبب خوفه وضعف شخصيته، أجاد المؤلف في رسم خطوط الشخصيات وربطها بحرفة بالواقع المتصل مباشرة بالناس، فضلا عن تحوله من الماضي إلى الحاضر وبالعكس. النص قريب للواقع العراقي وجانبه الاجتماعي، والسايكولوجي، لذا أرى انه يجب على المجتمع أن يعطي للكاتب مساحة حتى يكتب ما يشاء وينقل صورا واحداث الواقع بحرية مطلقة على شكل مشاهد درامية، ومن ثمة يعالجها كيفما يشاء دون ضوابط أو قيود مجتمعية
، هذا الأسلوب في الكتابة يعطي حرية بعيدة عن المثالية، لان النص الممتع هو الذي يظهر بشكل فني ناضج، كما أنه حامل لافعال إنسانية تبعث شعورا للمتلقي على انه يعيش الحدث ويتفاعل معه وكأنه واقعه الذي يصارع من اجله، وهذا يعطي ايضا استمرارية للمتعة أن تؤدي ما عليها من واجب، كما انها تعطي للمتلقي عنصر (التشاركية) وتبعده عن الشد خلال فترة العرض اذا كان (مسرحيا) او ( دراما تلفزيونية). 
لا بد أن يجمع الكاتب عند كتابته النص صورا من الذاكرة، لانها ستضيف الكثير الى جمالية المشهد، لما تحمله من عمق في المعنى وألم الحياة ومأساتها التي رسم لها الموت، والجوع، فضلا عن الحروب شكلا آخر في مجتمعنا المغاير لطبيعة حياته، كما أن التواصل الى فحوى المغايرة وآليات اشتغالها لابد أن يسبقه كشف بسيط لأهم ملامح ذلك الاشتغال الذي ينتج النص على شكل كائن يحيا ويعيش، هذا ما ينطبق على نص مسرحية (ثامن أيام الأسبوع)، من مجموعة المؤلف “علي الزيدي” الذي بث عبر هذا النص شكلا مختلفا لعمق المأساة التي يعيشها المجتمع، وشبح الموت الذي حكم به الإنسان، رغم شدة الصراع من أجل الحياة، وصعوبة التغلب على عامل المقبرة (الدفّان)
، إلاّ إن هذا الصراع لن ينتهي إلا بوضع الدفان داخل القبر ورمي التراب عليه. يتميز هذا النص بمقاربته ثنائي الوجود، عالم واقعي، وآخر افتراضي، بالتزامن مع إرادة الموت، واثبات الوجود من أجل استمرارية الحياة كما تفرضه البيئة. يجب أن يبحث الكاتب عن احداث الحياة اليومية، والابتعاد بعض الشيء عن المنجز الادبي، كالرواية، والشعر، والقصة، لان غالبا ما يكون النص الأدبي وطريقة اعداده سبب الرتابة التي يشعر بها المتلقي، وذلك نتيجة التجارب الدرامية التي تحمل أخطاء في الطرح والصياغة، ليس على مستوى الفكرة الدرامية فحسب، بل على مستوى التأويل الإخراجي أيضا، بما فيه من معالجات بصرية، باعتبار أن النص يبنى على أصول الكتابة الواقعية لأنها تنقل وتجسد الحدث، وقادرة على حماية المعالجات الإخراجية من السقوط في مثل تلك الأخطاء. 
بالمقابل يرى المخرجون أن النصوص الهادفة حاليا قليلة وغير متوفرة، وأغلبها لا يقدم رؤى إبداعية جديدة، ولا يجد فيها المخرج ما يحفز أفكاره في تجسيد الفعل، ويستدعيه لمعالجته، حيث يعتقد المخرجون أن أكثر النصوص تستعيد نفس الأفكار والرؤى التي عولجت سابقا، في حين أن طبيعة الحياة هي التجدد، والبحث عن مقاربات إبداعية جديدة، رغم ان هذا الغياب يؤدي الى المقاربة في خلق الجمال، وهذا ما يستدعي الى إيجادصيغ جديدة للمعالجة الدرامية. من المؤكد أن هناك أزمة في النص الدرامي
، لذلك يأمل أن يجد الكاتب مُخرجاً يأخذ نصه إلى الخشبة أو حتى الدراما التلفزيونية، وهذا يعتمد على حرفته وكيفية انتقاء الفكرة التي تعطيه دعما للولوج إلى مايريد، لذا عليه البحث عن تجارب إنسانية جديدة تعطيه استمرارية لخلق 
الجمال.

المتعة الجمالية تركيبة معقدة من الاحاسيس التي يعاني منها الإنسان وبقوة، لذا لن يستطيع الكاتب أثارتها اذا لم يكن متعمقا في واقع الإنسان الاجتماعي والنفسي، كما لا يمكنه التأثير في ذاكرة المتلقي التي لا تختلف عن أي ذاكرة معرضة للفقدان، بسبب تراكمات الحياة المتشابكة. السؤال هو: هل ابتعد النص عن واقعنا الحقيقي؟ قد يجادل البعض بالإجابة عبر النفي، ويؤكدوا على أن ما يعرض هو جزء من واقعنا وأحداثه المتجددة، والدليل على ذلك بما يقدم سنويا من عروض. المجموعة المسرحية ( ثامن ايام الأسبوع) للمؤلف المسرحي العراقي علي الزيدي والتي تضم الى المسرحية التي حملت عنوان المجموعة، ثلاث مسرحيات أخرى هي: (العد التنازلي لمكبث) و (كوميديا الأيام السبعة) و (خروج بإتجاه الدخول)، كتبها المؤلف بشجاعة عبر نقله وقائع ترتبط بالفرد وواقعه الاجتماعي، والشارع العراقي بكل تحولاته، وذلك من خلال كشفه ثنائية القسوة الخوف وتعرية الفاسدين واعلاء صوت المطالبين بالحق والعدالة. 

الأحد، 3 سبتمبر 2017

ايرفن بيسكاتور ومسرحه السياسي 1893_1966

مجلة الفنون المسرحية

   ايرفن بيسكاتور ومسرحه السياسي 1893_1966

  وضاء قحطان الحمداني

يعد *( بيسكاتور ) أحد مؤسسي المسرح السياسي في العالم وأكد ان المسرح يجب أن لا يغفل السياسة بأي شكل من الاشكال والمسرح لديه وسيلة من الوسائل التعليمية في المجتمع وحاول أن يربط بين سياسته الفنية وبين الطبقة العاملة من أجل أن يضمن حياة حرة كريمة لهم وتحقيق الحصول على حقوقهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية . يقول بيسكاتور ( ان ميلاده الحقيقي هو يوم انضمامه للمسرح وكان ذلك عام 1914 . إلا انه في نفس السنة تحدث الحرب العالمية الاولى وتغلق المسارح ويجند بيسكاتور في صفوفالجيش الالماني ويصاب بالرعب من الحرب بعد ما رأى أكداس
الجثث من الجانبين المتحاربين خاصة بعد أن استخدمت ألمانيا الغازات السامة في المعركة "(1).
فكان في البداية من المتحمسين للحرب لكنه بعد التجارب المريرة رفضها بكل ما فيها وأسس مع صديقه(هرمان شولر)عام 1919(مسرح العمال الثوري )  وأسلوب (بيسكاتور) الإخراجي يتألف من ثلاثة عناصر رئيسة : عنصر سياسي وعنصر ملحمي وثالث تقني .

" لقد وجد (بيسكاتور )جذور المسرح البروليتاري في ثلاث حركات أو اتجاهات هي الطبيعية والتعبيرية والفن الشعبي ، فقد أعجب بالطبيعيين لاهتمامهم بالمشاكل الاجتماعية ولكنه أخذ عليهم خطأهم في تتحديد أنفسهم بالتقرير الموضوعي ومعاملة الواقع على أساس الثبات ، وأعجب بالتعبيريين لرغبتهم في تغيير المجتمع لكنه أخذ عليهم مثاليتهم وتجريداتهم ، وكان يساند الدوافع التي حفزت المسرح الشعبي إلا انه يعتقد إن الفن الشعبي قدم مسرحيات للطبقة الوسطى بدلاً من ابتداع مسرح بروليتاري حقيقي "(2).


استخدم (بيسكاتور) العنصر الملحمي أول مرة في مسرحية (الرايات ) ل(الفونز باكيت) وأستخدم الشاشات وتصوير الخلفية الاجتماعية والاقتصادية.

إن المسرح الملحمي عند (بيسكاتور) " يجب أن لا يحقق مالا يستطيع الأدب أن يحققه وذلك عن طريق العرض : عرض مباشر للتاريخ لا كخلفية للمسرح ولكن في المستوى الأول للعرض المسرحي ، توصلاً إلى هضم الحكمة السياسية التي تطرحها تجاربه"(3).

ويقول( سعد أردش) في مجلة عالم المعرفة تحت عنوان ( المخرج في المسرح المعاصر  عن الواقعية السياسية عند (بيسكاتور) يقول (بيسكاتور) : " إن الماضي هو الماضي ونحن نعيش في الحاضر في حقبة تغلي بالمتغيرات السياسية ولهذا فأن السياسة تحتل المستوى الأول من الاهتمام وتستوعب الجميع تحت جناحها فلماذا نطلب إلى المسرح شيئاً آخراً غير الدعاية السياسية ؟إن هذا ما كان يفعله المسرح الإغريقي "(4).



إن مسرح (بيسكاتور) مسرح سياسي مسرح (البروباجنده) الدعاية السياسية هو مسرح التعليم والاستفزاز السياسي هو مسرح لا بد أن يكون بالضرورة للطبقة العاملة ، أخرج مسرحية (الطوفان) ل(أدولف باكي) عام  1924 وفيها أستخدم السينما لأول مرة وأخرج مسرحية (هولا _نحن نعيش) للكاتب التعبيري (توللر) عام 1927 ولجأ إلى خلق توازن بين أحداث المسرحية على الخشبة وأحداث  لحرب والثورة مسجلة على فيلم سينمائي فيستيقظ البطل ( توماس) من عزلته في المجتمع بعد هزيمته في الحرب واندحار الثورة ليكتشف إن زملاءه في الحرب قد انصهروا في المجتمع الجديد مجتمع ما بعد الحرب ، كما استخدم (بيسكاتور) السينما في مسرحية (الاستعراض الأحمر ) عام 1942 وهي مسرحية دعائية تحريضية (بروباجندا) وفي عام 1927 قام بنقل مسرحية تاريخية تجري أحداثها في القرون الوسطى للمؤلف (آدم فليك) بعنوان (عاصفة في بلاد الغوث) ليجعل منها مسرحية حديثة جعل شخصياتها ترتدي أقنعة شخصيات موجودة في الزمن الحاضر.

"يعتقد (بيسكاتور) إن المسرح السياسي يجب أن لا يكتفي بعرض الأحداث الفردية بل يتخطى ذلك غالى تحليل انعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية وتقرير كافة الوقائع التاريخية بشكل ينقل الصورة الدرامية إلى الآفاق الملحمية بإكساب العرض الطابع القصصي واللجوء إلى الوسائل التوضيحية( كالخرائط ، واليفط، والبيانات ، والشرائح الزجاجية ، والأفلام التسجيلية "(5).

إن "بيسكاتور لم يكن هدفه تقديم متعة جمالية للجمهور بقدر ما يدفع الجمهور إلى اتخاذ موقف عملي من القضايا التي تهمه وتهم بلاده ذلك أن المسرح عنده برلماناً والجمهور هو الهيئة التشريعية "(6).

وكان يقدم (بيسكاتور) المسرحيات التاريخية ليس لمجرد السرد بل " إن رسالة المسرح لا تتلخص في سرد الأحداث التاريخية بل أن نستخلص من هذه الأحداث  دروساً قيمة وإقامة علاقات سياسية واجتماعية حقيقية "(7).

وكان مسرحه يقدم أحداث تاريخية معاصرة تهم حياة الجمهور الألماني في نهاية الحرب العالمية الأولى وما سببته هذه الحرب من نتائج كونه أحد الرافضين للحرب مهما كانت أسبابها ودوافعها ، وقد استخدم

(بيسكاتور) الملحمية كشكل مسرحي


مضاد للتعبيرية لتزويد الجمهور بخبرة جديدة ويصيح الجمهور عنصراً مشاركاً فعالاً في العرض المسرحي.

وأستخدم (بيسكاتور) مناظر باعتماده على رسامين في تصميم مناظره لأكثر أعماله " أعتمد (بيسكاتور) على الرسام (جورج كروس) في تصميم مناظره كما في مسرحية (السفينة التائهة) فقد استخدم البروجكتر والفانوس السحري لعرض الصور وتحديد خشبة المسرح وعرض مقطع من شريط سينمائي  لعكس الظروف السياسية والاجتماعية "(8).

نال (بيسكاتور) شهرته في ثلاثة أعمال مسرحية هي (هولا _نحن نعيش)و(راسبوتين) و(الجندي الطيب شفايك ) و(افتتح مسرح (بيسكاتور)

بمسرحيته (هو لا _نحن نعيش) وهي تحكي عن أحد الثوار الذين يطلق سراحهم

من السجن بعد عشر سنوات ليكتشف ان جميع رفاقه القدماء قد استقروا في حياة مريحة أخرجها عام 1927،وفي المسرحية جمع بين الفيلم السينمائي والممثل الحي


"وفي أواخر عام 1927أخرج ( بيسكاتور) النص المعدل عن قصة (تولستوي )

حيث شيد (بيسكاتور ) بناءاً رمزياً يشابه الكرة الارضية ويحوي داخله عدة مناطق  للتمثيل ، وأستخدم شاشة بيضاء لعكس الصور وأستخدم احدى الشاشات ليعرض عليها التواريخ والتعليقات والملاحظات والهوامش.

وقصة (تولستوي) الروسية تحكي قصة المؤامرات في القصر الملكي وهي  مسرحية (راسبوتين) ، وقد أخرج (بيسكاتور) عام 1928مسرحية (الجندي الطيب شفايك)عن رواية جيكية للمؤلف الالماني (ياروسلاف هاجيك) بطلها شخصية كوميدية مخبول ظاهرياً وخانعة بسذاجة معبرة عن جنون وتفاخر العالم "(9).

 واستعمل (بيسكاتور) قرصين دوارين للدوران باتجاهين مختلفين أحدهما الشخصية الرئيسة (شفايك )    والثاني للشخصيات الاخرى فكان الجندي شفايك كما لو أن بساطاً يدور به. وأخرج مسرحية (تاجر ب   رلين)والتي عرضت عام 1929 للتعبير عن الصراع بين الطبقات عبر ثلاث حاملات للكشافات ا     لضوئية تصعد وتنزل حسب تطور الفعل. أما عن سبب انهيار المسرح السياسي في ألمانيا فهو لأسباب سياسية


حيث ازدياد الوعي السياسي الذي اصطدم بتنامي الرجعية السياسية في المانيا  أزمة في ميدان علم الجمال ، هرب (بيسكاتور) الى الولايات المتحدة اثر أستلام (هتلر) السلطة ثم عاد عام 1950الى برلين والى المسرح الالماني بتقديم مسرحية (الحرب والسلام) مأخوذة عن رواية ل(تولستوي) وساهم كل من (بيسكاتور)و(بيتر فايس)و(جنتر جراس)و(كيبارد)و(بريشت)في  تأسيس المسرح السياسي أو ما يسمى بالمسرح التسجيلي أو المسرح الوثائقي ان  من مؤلفات (بيسكاتور) (كتاب المسرح السياسي) عام1930وملحق لكتاب المسرح السياسي عام 1960.


  *بيسكاتور (1893_1966) مخرج مسرحي ألماني ، تتلمذ على يد المخرج ( ماكس راينهارت ) عمل في العاصمة برلين من

  1919_1938في المسرح الشعبي الالماني وهو أحد مؤسسي المسرح السياسي (البروبجانده) أو الدعاية السياسية ، هاجر الى

ا الولايات المتحدة الامريكية عام 1938 هارباً من النازية وأسس مدرسة للتمثيل تحت اسم المدرسة الدراماتيكية التجريبية وأستمر

مهجره حتى عام 1950 حيث عاد الى المانيا مرة اخرى .


الهوامش :

(1)سعد أردش ، المخرج في المسرح المعاصر ،(الكويت : مجلة عالم المعرفة ، 1978)، ص195.

(2)سامي عبد الحميد ، ابتكارات المسرحيين في القرن العشرين ، (بغداد : د0ت)، ص0173

(3)سعد أردش ، مصدر سابق ، ص0202

 (4) المصدر نفسه ، ص0201

(5) سعد أردش ، المصدر نفسه ، ص0197

(6)جيمس روس ايفانز ، المسرح التجريبي من ستانسلافسكي الى بيتر بروك  ، ترجمة : فاروق عبد القادر ،(الشارقة : هلا

للنشر والتوزيع ،د0ت )، ص0109

(7) أوديت أصلان ، فن المسرح ، ترجمة : سامية أسعد أحمد ،ج2، (بيروت : ايف للطباعة والنشر،د0ت)،ص0363

(8)فاضل خليل ،مادة: مناهج وأساليب عالمية في الإخراج المسرحي ، ألقيت على طلبة الدراسات العليا ، كلية الفنون الجميلة،

جامعة بغداد ،15/10/01995

 (9)ينظر: د.سامي عبد الحميد ، مصدر سابق ، ص176_ص0177

الأربعاء، 23 أغسطس 2017

صلاح عبد الصبور والأبداع المسرحي الشعري

مجلة الفنون المسرحية

صلاح عبد الصبور والأبداع المسرحي الشعري

محسن النصار - ملاحق المدى 

لم يظهر الفن  المسرحي إلا في القرن التاسع عشر فقد حاول بعض الشعراء العرب أن يقدموا  للمسرح أعمالا شعرية من ذلك ما قام به الشيخ خليل اليازجي في مسرحية  (المروءة والوفاء) إلا أنها كانت محاولات ناقصة وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء  احمد شوقي الذي كانت له صلته بالأدب الفرنسي وطيدة فتأثر بالمسرح التقليدي  الكلاسيكي في استمداد الموضوعات من التاريخ القديم واختيار الأبطال من  علية القوم وتوظيف اللغة الراقية
 فكتب مسرحيات (مجنون ليلى , عنترة , مصرع كليوباترة , قمبيز , علي بك الكبير , الست هدى)وهي خمس مسرحيات درامية وملهاة واحدة. وقد استقى مادتها من التاريخ الفرعوني والعربي والمجتمع المصري في عصره. وكتب بعده عزيز أباظة (غروب الشمس , شهريار , العباسة أخت الرشيد).
ويرى النقاد أن مسرحيات عزيز أباظة أقوى من الناحية الفنية من مسرحيات شوقي. ثم حققت المسرحية الشعرية درجة عالية من النضوج على يد الشاعر صلاح عبدالصبور؛ لما امتلكه الشاعر من رؤية جمالية خاصة، نهلت من المسرح العالمي في وعي وبصيرة مع ثقافة ثرة ومعرفة واسعة بالتاريخ الإسلامي العربي أتاحت له استيحاء مواقف الدراما الثورية. كل ذلك اتحد بموهبة شعرية فذة أنتجت أعمالاً مسرحية أجمع النقاد على روعتها واعتبارها علامة بارزة ومبدعة في تاريخ المسرحية الشعرية، بل المسرحية العربية بمختلف مصادرها. وقد وصلت أعماله المسرحية من مثل (مأساة الحلاج 1964, الأميرة تنتظر 1969، بعد ان يموت الملك 1975، مسافر ليل1968 وليلى والمجنون ,) إلى مرحلة المسرحية الشعرية الدرامية التي يختلط فيها الشعر بالدراما وتندمج فيها غنائية الشعر وصوره بالبنية الدرامية للشخصيات والمواقف بما يخرج بناءً مسرحياً منسجماً.
عالج فيها مشكلات فلسفية واجتماعية وقد وظف صلاح عبد الصبور هذا النمط الشعري الجديد في المسرح فأعاد الروح وبقوة في المسرح الشعر , وترك عبد الصبور آثارا مسرحية أثرت في أجيال متعددة من الشعراء والمسرحيين في مصر والبلدان العربية، خاصة ما يسمى بجيل السبعينيات، وجيل الثمانينيات في مصر الوطن العربي، وقد حازت أعماله والمسرحية قدرا كبيرا من اهتمام الباحثين والدارسين، ولم تخل أي دراسة نقدية تتناولت المسرح الشعري من دون الإشارة إلى مسرحياته، وقد حملت مسرحياته الشعرية سمات الحزن والسأم والألم وقراءة الذكرى واستلهام الموروث الصوفي، واستخدام بعض الشخصيات التاريخية، ومن أبرز أعماله في ذلك: " " مأساة الحلاج" و" ليلى والمجنون".
وكان التعبير الفني في مسرحياته عن حادثة من حوادث الحياة البشرية بإحياء مشهده وما يجري فيه من عمل. وهكذانجد المشهد المسرحي مشهد ناطق متحرك وهو على حد قول أرسطو محاكاة الأفعال النبيلة والمؤلف في مسرحياته يتوارى عن الأنظار ويظهر الأشخاص بأفعالهم وأخلاقهم. يعتمد على الحوار الشعري مسرحياتة وعلى عناصر أساسية هي:التمهيد أو المقدمة والعقدة والحل.
في التمهيد يعرض الشاعر الشخصيات والموضوع والزمان والمكان ويشترط فيها أن تكون موجزة مجملة تلمح إلى الموضوع تلميحا من غير تفصيل ولا كشف للمجهول ويتم ذلك عن طريق الحوار.أما العقدة فهي العنصر الأساسي في بناء الحبكة الفنية وهي تنطوي على اشتباك الوقائع والأحداث والمصالح والمنازع والمفاجآت والتحولات مما يبعث الشك في صدور المشاهدين والقلق والتطلع إلى الحل.
الحل وهو خاتمة المطاف والنتيجة التي تصل إليها أحداث المسرحية فتنحل العقدة ويتضح مصير البارزين من أبطال المسرحية ويكون مفجعا ومتفقا مع فلسفة الشاعر وافكاره مراعيا مشاعر الجمهور مرضيا لكل توقعات النفس البشرية , وحاز على العديد من الجوائز ومنها (جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الشعرية (مأساة الحلاج) عام 1966،وقد بلغ المسرح الشعري درجة عالية من النضج والأبداع الفني عند صلاح عبد الصبور.

الاثنين، 21 أغسطس 2017

الثقافة المسرحية.. حقيقة علمية

مجلة الفنون المسرحية

الثقافة المسرحية.. حقيقة علمية

علاء كريم - شبكة اخبار العراق 

الثقافة المسرحية تجربة مغايرة ومميزة؛ تعمل على تنشيط الجانب الثقافي في المجتمع عبر الاحتكاك والتنوع؛ وبالتالي يكون هناك تفاعل يظهر تجربة جديدة تحمل انفتاحا فكريا وثقافيا عند الإنسان يدفعه إلى تغير وضعه الحياتي من جهة؛ والتأثير في عملية نسخ الثقافة بالمعنى البديل للكلمة من جهة اخرى.هذا يؤكد لنا أن الثقافة المسرحية لها ابعاد متعددة منها إنسانية وأخرى جمالية؛ تعمل على خلق واقع مختلف عبر تأثيرها المباشر في بنية المجتمع. لأن المسرح هو مكان الابداع الحقيقي؛ من خلاله ترسم الافعال الفنية الجديدة أشكالا تقوم بجذب الجماهير المتعطشة لكل ما هو جديد؛ وهذا ما عمل عليه الكثير من مخرجي المسرح العالمي؛ ومنهم المخرج بسكاتور الذي عمل إضافة فنية جديدة للعرض المسرحي؛ كأشرطة الأفلام السينمائية (السلايت)؛ كي يجعل من الحدث أو الفعل الدرامي قريبا الى الجمهور؛ كما عمل بسكاتور على تحويل المسرح الى عالم يسمى (اعاجيب حرفية) لأنه عرض في قسم من أعماله المسرحية كتلا على خشبة المسرح تحمل عنصر التغريب لما تعكسه من دهشة لدى المتلقي.
نرى في ملخص مسرحية (رغم كل شيء) اخراج بسكاتور الاستعراض الضخم عن تاريخ الثورات منذ بداية الحرب العالمية الاولى؛ وادخال السينما من ضمن عمل وفكرة المخرج؛ حيث عرض الوثائق التي عثر عليها في هذه المسرحية والمحفوظات الوطنية؛ وصور الحرب الحقيقية؛ وديكور عملاق صنع من شرفات ومن الواح كبيرة؛ ومن سلالم ومسطحات دوارة؛ ومقالات الصحف والصور والشخصيات التاريخية؛ واختلطت السينما بالمسرح ليكون عرض متكامل في كل شيء. استطاع بسكاتور في سنين قليلة أن يدخل سلسلة من التجديدات على المسرح؛ حيث عمل على إنعاش الديكور واعتباره جزء من الحدث؛ حول الخشبة إلى قاعة ميكانيكية وهذا ماجسده في مسرحية (مغامرات الجندي الشجاع شفايك) عن الحرب ؛ قصة للكاتب الروماني  ياروسلاف هاسك؛ الجندي شفايك في الجيش النمساوي والذي بالاعيبه وحيله الساذجة وبلاهته ينتزع من الحرب ومن الجيش اسطورتهما؛ ادخل بسكاتور في هذا العرض الى خشبة المسرح مواكب من مشوهي الحرب؛ على شكل مارشال عسكري كبير.
 وهذا ما جعل المخرج العالمي بسكاتور يقول “لم اكن اعجب بهذا الجو المليء بالمتناقضات؛ لكني في الحقيقة ابحث عن كيفية تحويل المسرح الى عمل درامي مستعينا بالوسائل الحرفية الخارجية حتى تجعل منه مجالا مرنا في خدمة العقل والقلب”. هذا القول يؤكد لنا أن المسرح يستمد موضوعته من فلسفة الإنسان ومركزية وجوده؛ بشرط وجود إجماع روحي يعبر عما هو انساني بالتزامن مع الزمان؛ والمكان؛ الذي يشعر من خلالهما الجمهور ببعض الاندهاش الذي يعطي صفة الاثارة والاستجابة لطريقة الحوار والحركة اللذين يعطيان معنى مطابقا لفكرة العمل شكلا ومضمونا لدى الجمهور. وذلك لوجود مفاهيم مهمة يطرحها العرض تكون موضوعة التحليل والمناقشة من قبل الجمهور؛ هذا يدخل في ثقافة المتلقي واشتراكه لا للسمع فقط؛ بل يستطيع أن يعبر عن رأيه وقراءته للعرض. هذه الثقافة تنتج نقدا لمشهد ما؛ وفي نفس الوقت تبين حالة لها حضور مهم عبر مشاهد المسرحية. ثقافة المسرح تعطينا مسرحا إنسانيا غير تقليدي تتبلور فيه تجارب كثيرة ومعقدة لحياة الإنسان اليومية.
 وقد يعكس هذا انفعالات وانطباعات قصص حياتية للأشكال ما قبل وبعد المسرح جسدت واقعا عفويا احيانا؛ وآخر حياتيا جادا  حاول المخرج (بسكاتور) خلق عدد من أشكال العروض التي تعمل على تشاركية الجمهور مع العرض؛ وخاصة مع الممثل وحركته؛ إذ تمخضت تجربته على المسرح التحليلي الناتج عن المسرح السياسي والملحمي. 
وهذا النوع من المسرح يبنى على أساس الحقيقة العلمية والموضوعية الصادقة؛ المرتبطة بشكل مباشر بواقع المجتمع وبيئته؛ وهذا ما يؤكد على أن المسرح مجال ثقافي تعبيري؛ يتم اللجوء إليه لأنه وسيلة التعبير الأكثر مباشرة والأسرع فاعلية.  كما أن هناك تباينا في الثقافة المسرحية العربيه وما وصل إليه المسرح العالمي، حيث أكد كثير من النقاد العرب على إشكالية غياب الثقافة المسرحية العربية؛ وفقر آليات تطوير عناصر العرض المسرحي وتحقيق أثره لدى المتلقي؛ وذلك لعدم قدرة المسرحيين العرب على التواصل مع قضايا مجتمعاتهم؛ وإذا قارنا بين الثقافة المسرحية عند المجتمع الأوروبي، وما يقابلها عربياً، نرى أن هناك حركة مسرحية أسست المسرح المعاصر في أوروبا خلال عشرينيات القرن الماضي؛ قامت على إعطاء الجمهور حرية الرأي وبالتالي قسم الجمهور إلى فرق؛ الأول يرى العرض المسرحي جميلا ومجددا، والثاني يراه عرضاً فاشلاً.وفي كل الأحوال يبقى معظم الجمهور جالساً في المسرح حتى بعد انتهاء العرض وهذا جزء من ثقافتهم؛ على اعتبار أن الخروج أثناء العرض تصرف لاانساني؛ أما التجربة الثانية المقابلة لها عربياً ابتعدت مفاهيم المسرح وثقافته الباحثة عن التجديد في القيم الجمالية والفكرية للمسرح الانساني؛ لأنه فن محافظ يمتلك دلالات تعود لأزمنة مختلفة؛ فضلا عن أنه فن محافظ؛ بمعنى أنه لا يقبل التجديد إلا بصعوبة؛ رغم أن التجديد يرتبط بمتغيرات عصرنا سريعة التطور.



الأحد، 20 أغسطس 2017

الظاهرة النثرية في أدبنا الحديث

مجلة الفنون المسرحية

الظاهرة النثرية في أدبنا الحديث


د. إبراهيم خليل -  الدستور 

ظهر النثر الأدبي في الأردن، وتطوَّر مع ظهور الصحف، ومن أبرزها صحيفة الجزيرة لتيسير ظبيان، وصحيفة الأردن. فمن المعروف أن رواد القصة، والرواية، في الأردن، ومنهم، على سبيل المثال لا الحصر، تيسير ظبيان، وميشيل الحاج، وأديب رمضان، وعيسى الناعوري(1918- 1985)، وعبد الحليم عباس (1913- 1979)، وشكري شعشاعة (1890- 1963)، ومحمد أديب العامري(1907- 1978)، ومحمود سيف الدين الإيراني (1914- 1974)، وغيرهم.. كانوا يجمعون إلى اهتماماتهم الأدبية الكتابة في الصحف على نحو شبه ثابت. وقد استوحوا مادة كتاباتهم القصصية من واقع الحياة اليومية.  فعبد الحليم عباس كتب روايته الأولى فتاة من دير ياسين ليروي قصة شابين فرقتهما النكبة. وتشاءُ المصادفاتُ أنْ يعاني بطلا الرواية « بيت وراءَ الحدود « لعيسى الناعوري 1959 من تلك المأساة، ومن هاتيك الفرقة التي بدَّدت شمل الحبيبين، وقد واصل الناعوري كتابة الرواية فنشر عددا من الروايات كانت الأخيرة منها بعنوان ليلة في القطار1974 . أما شكري شعشاعة فقد قدم لنا نموذجا يشبه الأيام في روايته السيرة  « ذكريات « وأخرى تشبه رواية زينب لمحمد حسين هيكل 1914 في روايته « في طريق الزمان» ، ولو أن رواية شعشاعة تبرأ من شائبة السيرة التي علقت برواية هيكل المذكورة. وعلى هذه الطريق سار حسني فريز في روايته» مغامرات تائبة « التي نشر بعدها روايات أخرى كالعطر والتراب، ورواية حب من الفيحاء، ورواية في ظلال الزيزفون.. وعندما ننظر في رواية تيسير سبول « أنت منذ اليوم « 1968 نجده يستخدم في خطابه السردي تقنيات سردية حديثة كتيار الوعي، والتناص، فضلا عن الرمز ببعض الاقتباسات من التراث التاريخي(محمد بن القاسم) وما لقيه من عقوبة من الخليفة نظرا لتجاوزه الأوامر ففتح من البلدان أكثر مما هو مسموح به لدى البلاط. وفي موازاة ذلك نجد أمين شنار في روايته « الكابوس» 1968يدعو لتحرير العقل العربي من الأفكار الخاطئة السائدة. وهي دعوة غلب عليها النظرُ الديني والبناء الرمزي.  أما سالم النحاس في « أوراق عاقر « 1968 فيرمز لما حدث في حزيران يونيو 1967 بحريق يشبُّ فجأة في فندق يقيم فيه الراوي- بطل الرواية- ليعاني بعد ذلك من حروق يُنقل على إثرها للمشفى. إلى جانب ذلك ثمة رموز أخرى تشتبك بهذا، فالزوج والزوجة في الرواية يتمنيان الخصوبة والإنجاب، ويترددان إلى طبيب بغية تحقيق هذه الغاية، إلا أن الحريق بما تبعه أحبط أحلامهما هذه، وبدلا من يرزقا بالمولود المنتظر أصيبا بخيبة مريرة كخيبة العرب الذين انتظروا طويلا  بدء الحرب المذكورة ليروا نصرا مؤزرا يفرحون به، فإذا بالنكسة تحبط تلك الأحلام، وتضع حدًا لهاتيك الآمال. 
 النهوض الروائي
وقد توالت بعيد ذلك رواياتٌ تسلط الأضواء على معاناة الشخوص، كرواية الضحك، ورواية سلطانة، والبكاء على الأطلال لغالب هلسا. ورواية وتشرق غرْبًا للكاتبة ليلى الأطرش، التي تلتها رواية امرأة للفصول الخمسة، ورواية ليلتان وظل امرأة، ثم رواية صهيل المسافات، فمرافئ الوهم، ورغبات ذاك الخريف، فرواية أبناء الريح، ورواية ترانيم الغواية. وقد تناولت الأطرش في رواياتها تلك عددًا من مواجع الإنسان العربي، ذكرا وأنثى، من غير تفريق. ففي  الرواية الأولى، مثلا، وقفت بنا إزاء النكبة، ثم ما تلاها من حوادث من أبرزها العدوان الثلاثي على مصر سنة1956 فالنكسة 1967 وما تلاها من تصاعد المقاومة التي نهضت فيها بطلة الرواية هند النجار بدور مهم دخلت بسببه السجن السياسي، وتم تحريرها في تبادل أسرى إلخ.. وعرضت فيها أيضًا للعلاقات بين المرأة والرجل، بصرف النظر عن الدين أو المذهب، ما دام النشاط السياسي المشترك يجمع ولا يفرق. وتطرقت إلى العمل الفلسطيني في امرأة للفصول الخمسة، ولموقف المرأة من ذلك، وإلى المشكلات الأسرية في ليلتان وظل امرأة، وإلى إشكالات نفسية ونسوية في مرافئ الوهم، ومعضلة المثقف العربي في صهيل المسافات، لا سيما إذا كان ذا نشاط سياسيّ في مجتمع تهيمن عليه العشائرية، والبداوة، والتخلف الحضاري بالمعنى الدقيق لكلمة تخلف. ولم تبخل الكاتبة على المهمَّشين، المسحوقين، من اللقطاء، وخريجي دور رعاية الأيتام، فكتبت رواية أبناء الريح من هذا الوحي. 
 طفرة الرواية 
ومن أراد أن يعرض للنثر الروائي، فلا بد أن يتتبَّع ذلك في رواية العودة من الشمال لفؤاد القسوس، وروايات مؤنس الرزاز: أحياء في البحر الميت، واعترافات كاتم صوت، ومتاهة الأعراب.. والذاكرة المستباحة وسلطان النوم وليلة عسل وجمعة القفاري.. . وجمال ناجي في الطريق إلى بلحارث، والحياة على ذمة الموت، ومخلفات الزوابع الأخيرة، وغريب النهر، وعندما تشيخ الذئاب، وموسم الحوريات، وهزاع البراري في تراب الغريب، وأعالي الخوف، بعد الغربان، وحواء مرة أخرى، وسليمان قوابعة.. وزياد قاسم الذي أغنى المكتبة بعدَدٍ من الروايات التي ترصد التحولات الكبرى في المجتمع، وعثمان مشاورة؛ في «مقهى البازلاء « وطاهر العدوان الذي نشرت له ثلاث روايات؛ الأولى وجه الزمان، والثانية حائط الصفصاف، وهما روايتان ترصدان التحولات المطردة في المجتمع الأردني، وأثر النكبة الفلسطينية في هذه التحوُّلات، وأما االثالثة « أنوار» فليست بقوة الروايتين السابقتين. وقد لوحظ، في أواخر القرن الماضي، تزايد ملحوظ في إصدارات الروائيِّين، مما حدا ببعض المتابعين، ممن يولونَ البعد الكمي أهمية أكبر من البعد النوعي، للوقوع في وهم الإحصاء، وتعداد الإصدارات. وتوجُّه بعض كتاب القصة، في ظاهرة أخرى لافتة، إلى الرواية: إلياس فركوح، وهاشم غرايبة، وقاسم توفيق، ومفلح العدوان، ومحمود الريماوي، وجمال أبو حمدان، وسامية العطعوط..وعصام الموسى.. ومنال حمدي.. مثلما تحول بعض الشعراء لكتابة الرواية؛ كإبراهيم نصرالله، وأمجد ناصر، وجلال برجس، وجهاد أبو حشيش. وبعض الروايات التي كتبها هؤلاء الشعراء تغلبُ عليها لغة الشعر، لا لغة النثر القصصي، أو الروائي، فنجد الرموز تشيع في العناوين، مثل: ذئب الماء، أفاعي النار، شرفة الهاوية، أو ذئب الله، وشرفة في قفص إلخ.. وهذا ينم على أن الكاتب الشاعر لم يستطع التخلص من هيمنة الشعر على روايته، وإذا مضى القارئ في متابعة قراءة الرواية اكتشف الكثير من الأحاجي، والألغاز، التي تشبه الطلاسم، مما يبعد الكتابة عن طبيعة الرواية، ويجعلها نصًا هجينًا تختلط فيه أجناس أدبيّة متباعدة. 
 روائيات
ومن الكاتبات اللائي كتبْن الرواية، علاوة على من ذُكرن: سميحة خريس، ورفقة دودين، وسَحَر ملص، وغصون رحال، وفيروز التميمي، وجهاد الرَجبي، ونرمينة الرفاعي، وفادية الفقير، التي نُشرت لها روايات عدة بالإنجليزية، فازتْ إحداهنَّ بجائزة بريطانية، وهي رواية My Name Is Salma وتعد مساهماتهنَّ مؤشرًا على اتساع هامش التقبُّل الشعبي لهذا الفنّ الذي كانَ، إلى زمنٍ قريبٍ، فنًا مرْفوضًا غيرَ مقبول.   
 في القصّة
أما القصة القصيرة، فقد بدأتْ في الأردن على يدي محمد صبحي أبو غنيمة، صاحب « أغاني الليل « المطبوعة بدمشق1922. واغتنت على أيدي كثيرين، منهم عيسى الناعوري(خلّ السيف يقول) و(أقاصيص أردنية )، و(حكايات جديدة)، ومحمود سيف الدين الإيراني (متى ينتهي الليل)، و(ما أقل الثمن)، و(أصابع في الظلام) وغيرها، وحسني فريز(قصص من بلدي) وأمين فارس ملحس (1923- 1983) صاحب مجموعة « من وحي الواقع « وأبو مصطف وقصص أخرى» 1952. وساعدت المجلات على زيادة الاهتمام بهذا النوع الأدبي، نشرًا ونقدًا، لا سيما الرائد، والاثنين، والأفق الجديد، و صوت الجيل، و أفكار، والمهد، وعمّان، وتايكي. علاوة على الملاحق الثقافية للصحف اليومية في الدستور، والرأي، وسابقاً في الجهاد، وفلسطين، والدفاع، وعمان المساء، والصباح، والصحفي، وأخبار الأسبوع، وصوت الشعب، والعرب اليوم. فبرز عدَدٌ من كتاب القصة في « الأفق الجديد « على سبيل المثال، وممَّن يشار إليهم بالبنان فخري قعوار الذي مرت قصصه بمراحل عدة انتقل فيها من السرد الذي يحاكي فيه الحياة الواقعية إلى السرد الغرائبي، متكئًا على الأسطورة، أو الخرافة، أو النموذج التاريخي، الذي يحيلنا فيه لشخصيَّةٍ من التراث. أما جمال أبو حمدان فقد نشر في وقت مبكّر « أحزان كثيرة وثلاثة غزلان» عن دار مواقف ببيروت 1970، وهي قصصٌ توضع على قدم المساواة مع أعمال البارزين من كتاب القصة في الوطن العربي.
 أثر القاصّ 
ومما يجب التنويه إليه، أن لهذه المجموعة أثرًا كبيرًا في القصة الأردنية القصيرة، يعزى ذلك إلى الطرائق الفنية التي جاء فيها بما يشهد على ابتكاره. فهو، من الانطباع الأول، يكتب القصة ذات الحكاية المُكثفة التي يستعيرُ بعض حوادثها من الماضي، أو من التاريخ القديم، أو من الخرافات، والأساطير، كما في « سبارتاكوس « أو « أبو ذر الغفاري « أو « من هنا طريق قيس» وغيرها من قصص، وربما لجأ إلى ما يسمّيه المحدثون اليوم التناصّ الأسْطوري، أوالديني، كما في قصَّتهِ « أحزانٌ كثيرة وثلاثة غزلان « التي تقنّعتْ فيها شخصياتُ القصّة بشخصية زليخة تارَة، وشخصية يوسف تارة، مع أنّه يُسلط الضوءَ على وضْع سياسي راهن،  وهو ما تبع نكسة 5 حزيران 1967 من ردود فعل تعرَّض لها جنديٌ عائد من ساحة القتال. وقصَصُه، على الرغم مما فيها من قِصَر، لا تخلو من المسْحة الدرامية، التي تضع القارئ في جو يشبه الجو المسرحي، ومن ذلك، على سبيل المثال، قصته « سيف الملك المنذر بن ماء السماء» وكذلك قصّة الخلخال في « أمس الغد» التي أعاد الكاتب مسرحتها في نص درامي بعنوان (مكاور) صدر في كتاب مستقل 2017.
ولا تفوتنا الإشارة لكتّاب آخرين منهم: هاشم غرايبة صاحب «بيت الأسرار»، وهند ابو الشعر التي غلب على قصصها المبكرة « شقوق في كف خضرة « 1982 الاهتمام بالمرأة، ولجأت إلى الرموز البسيطة المعبرة عن الواقع تعبيرًا لا يصعب فهمه في « المجابهة «، و» في الوشم «، وفي «حين تصبح الذاكرة وطنا»، وفي « مارشات عسكرية « وغيرها من المجموعات التي ينطوي عليها مجلد الأعمال الكاملة، وما تلاه. ومن كتاب القصَّة أيضًا إبراهيم العبسين وعدي مدانات وبسمة النسور، ومحمد طملية، وبدر عبد الحق، ومحمود الريماوي، الذي يغني القصَّة مع كل جديد يكتبه، وسامية العطعوط، وسحَر ملص، وفايز محمود، ونايف النوايسة، وفؤاد القسوس، وعصام الموسى، وخليل قنديل، وحنان بيروتي، ومحمّد سناجلة، وجواهر رفايعة، ومحمد خليل، وجمال القيسي، ورمزي الغزوي، وخلود جرادة، وأميمَة ناصر، وبسمة النمري، ويوسف ضمرة، وسليمان الأزرعي، ومخلد بركات، وجعفر العقيلي، وخليل قنديل وهشام بستاني.. وآخرون. ويذكر أن الروائي غالب هلسا بدأ مسيرته الإبداعية بكتابة القصة القصة القصيرة، تشهد على ذلك مجموعتاه: وديع والقديسة ميلادة وآخرون(1968) وزنوج وبدو وفلاحون(1974). 
 الحبَّة والقبَّة
وفي العقدين الأخيرين ظهرت موجة جديدة من كتاب ما يسمّى «القصة القصيرة جدًا» أو القصَّة الومْضة، أو التوقيع، تشبيهًا لها بتوقيعات الخلفاء التي قلما تدرج في نوع من أنواع الأدب. وهي تميل ميلا شديدًا للتكثيف على حساب التقاليد المعروفة لهذا الفن. ومن كتاب هذا اللون بسمة النسور وذكريات حرب وتبارك الياسين وجلنار زين وهاني أبو نعيم ومهند العزب ومحمد جميل خضر وجمعة شنب، وسامية العطعوط في آخر أعمالها، وخالد سامح وبسمة النمري في أعمالها الأخيرة. غير أن هذا النوع لا يجد ما تجده القصَّة القصيرة من اسْتحسان لدى النقاد المهتمّين بالسرد القصصي. كونه يقتصرُ، في الكثير من نماذجه، على مُلحة من المُلح، أو نادرة من النوادر المبتكرة التي تكاد تقول، أو لا تقول، شيئا. وقد أساءَ إلى هذا الشكل الهجين تنافسُ الكتّاب على منْ يستطيع أن يقلل حجم القصة أكثر من غيره، حتى تفاخَرَ بعضهم على غيره بأنه يكتب القصة من ستّ كلمات، فيتحداه آخر بكتابة قصة من ثلاث كلمات. وهذا في رأينا لا يسيءُ لفن القصة وحْدَه، بل ينحدر بهيبة الأدب. وبصَرْفُ النظر عن موقفنا من هذا اللون، فإن القصة القصيرة جدًا – بصفةٍ شبه عامَّة إلا منْ استثناءات- لا يمكن لها أن تكون مَوْضوعًا للدراسة، إلا إذا كنا نعتزم العمل بالمثل القائل: يجعلُ من الحبَّة قُبَّة.
 المَسْرح
ولئن كانت القصة، والرواية، لا تحتاجُان إلا لكاتبٍ موهوب، وقارئ، وناشر، كي تظهر وتزدهر، فإن المسرحية، شعرًا كانت أم نثرا، تحتاجُ إلى جانب الكاتب، فريقا من الممثلين، ومخرجًا، ومصمِّما للديكور، والمناظر، ومشرفا للمسرح، ومنتجا يموّل المشروع (العرض) وموسيقيا يؤلف الموسيقى التصويرية المرافقة، وخبيرًا في الماكياج، وجمهورًا، ومبنىً تتوافر فيه المعدّات المناسبة كالإضاءة، والستارة، ومكبرات الصوت إلخ.. وهذا العدد من الفنيين ينبغي له أن يعمل في إطار من التناغم والتنسيق. ولهذا لا نعْجب إذا وجدنا من يقول من الباحثين إن المسرح تأخر ظهوره في الأردن كثيرا عن ظهوره في بلاد أخرى كمصر، ولبنان، والعراق. فأول عمل مسرحي جرى تقديمه في الأردن يعود إلى العام 1918 مقابل أول عمل مسرحي عُرض بلبنان يعود إلى سنة 1846. ويذكر في هذا المقام الأب أنطون الحيحي الذي قيل الكثير عن تأليفه نصوصًا مسرحية أخرجها بنفسه، وأدى بعض الأدوار البارزة فيها، مثلما نُسب إلى الشاعر فؤاد الخطيب كتابته أول نص مسرحي نثري تاريخي بعنوان فتح الأندلس. وتتابعت المحاولات بعد ذلك في إربد، وبيت ساحور، والقدس، ومأدبا. ومن النصوص النثرية التي قدمت: مسرحية ابن وائل، والسموأل، ووفاء العرب، وصلاح الدين الأيوبي، والرشيد والبرامكة، ومن المسرحيات المعرَّبة التي جرى تقديمها مسرحية يوليوس قيصر، وتاجر البندقية، وكلتاهما لوليم شكسبير. مثلما قُدمت مسرحية في سبيل التاج للفرنسي فرانسوا كوبيه. 
وممن نشطوا في الكتابة للمسرح: روكس العزيزي، وصلاح أبو زيد، ومحمد المحيسن، الذي قدمت له مسرحية نثرية بعنوان الأسير عام 1946. وعبد الوهاب أبو السعود الذي كتبَ مسرحية نثرية بعنوان (الوطن) 1946 وعباس علام، وعبد الغني الريماوي. على أن المسرح لم يقتصر في هذه الحقبة على النثر، فقد نُسبت لحسني فريز محاولة مسرحية شعرية بعنوان (الطوفان) وهي ليست مسرحية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وإنما مجموعة من المقطوعات الغنائية التي ينتظمها موضوع واحد، هو عشق آلهة الهواء المرأة إينو. وأما النصوص المسرحية النثرية بعد العام 1948 فكانت تقدم في مهرجانات الاصطياف في رام الله، والبيرة، وفيها عُرضت محاولات لعبد اللطيف البرغوثي، وهدية عبد الهادي (لقاء) 1965. وبعد ذلك جاء ظهورُ « فرقة المسْرح الجامعي « في الأردنية، ليضع الحلول المُمكنة لغياب الفرق، وتوافر الأجهزة، والمُعدّات التقنية. 
وشهد مدرج سمير الرفاعي بواكير العروض المسرحية الجادّة، بعد أن انضمَّ لهذا الفريق المخرج المحترف هاني صنوبر، ولمع في هذا الفريق عدد من الممثلين، مثل: قمر الصفدي، وصلاح أبو هنود، وحسن أبو شعيرة، وجودت صالح، وبهاء أبو طه، ومحمود أبو غريب، وغيرهم.  وشاهد الجُمْهورُ لأول مرة مسرحيات جادة مثل « أفول القمر» لشتاينبك، وبيْت الدمية لهنريك إبسن، وثمن الحرية للإسباني روبيلوس، ومسرحية السلاح والإنسان لجورج برناردشو، وغيرها من عيون المسرح العالمي ومن هذه العناوين يتضح افتقار الفرقة للنص المسرحي المحلي.
 أسرة المسرح الأردني
وفي المقابل أنشأت دائرة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام فرقة مسرحية أخرى باسم «أسرة المسرح الأردني « وانتعش المسرح، إذ اتخذ المسرحيون من أعمال بعض الكتاب المحلِّيين نصوصًا أخضعت للإخراج، ومنها مسرحية « المفتاح « لجمال أبو حمدان، التي عرضت في مهرجان دمشق الدولي، وكذلك مسرحية « الجراد « للكاتب نفسه، وزرقاء اليمامة، وحكاية شهرزاد في الليلة الثانية بعد الألف، وليلة دفن الممثلة جيم وغيرها. وعرضت أيضا مسرحيات من تأليف محمود الزيودي رسالة من جبل النار، والضباع، ومسرحية عبد الرحيم عمر خالدة، ومسرحية وجه بملايين العيون، ومحمود سيف الدين الإيراني الذي حول إحدى قصص مجموعته الأخيرة « أصابع في الظلام « إلى مسرحية بعنوان (الأقنعة) التي عُرضت في مهرجان دمشق الدولي (1974) وعلى خشبة مسرح النادي الأرثذوكسي بعمان. وتواصلت العروض المسرحية، وتعدَّدت الفرق، فظهرت فرق لمسرح الطفل، والمسرح التجريبي، والكوميدي، والفوانيس، وممن نشطوا في مجال للمسرح فؤاد الشوملي، ومصطفى صالح، وعبد الجبار أبو غربية، وعبد اللطيف شما، وليلى الأطرش، وهزاع البراري، الذي أسهم بعدد من النصوص فاز واحدٌ منها بجائزة.. 
 السيرة
يضافُ لهذه الفنون النثرية فن آخر هو السيرة، وحظ السيرة في أدبنا قليل، فمن أوائل من كتبوا السيرة شكري شعشاعة في الكتاب المذكور آنفا (ذكريات) يضاف إليه ما كتبه عيسى الناعوري في الشريط الأسود، وما كتبه سليمان الموسى في ثمانون، وما كتبه أمجد ناصر في كتابين له أولهما بعنوان خبط أجنحة في سماوات بعيدة، والثاني عن بيروت. وهناك كتب أخرى مثل: على جناح الطير لسميحة خريس، والسيرة الطائرة. ونثر السيرة يشبه النثر الروائي حينًا، وفي أحيان يتحول إلى توثيق لا حظ فيه للأدبيَّة. ورب سائل يسأل: ما الذي يختلف فيه نثر هذه الفنون بعضه عن بعض؟ جوابًا عن هذا يمكن القول- في الحدود التي تسمح بها هذه المقاربة الوجيزة – إن النثر القصصي في القصير منه يختلف قليلا عن النثر الروائي، ففي القصة القصيرة نستمع لصوت القاص غالبًا، ولهذا يتسع النثرُ الأقصوصي لمزيد من الاختيارات الأسلوبية، والمَجازيّة، والتراكيب التي تضع النثر في مستوى جمالي يقترب فيه القاص من شعرية السرد، لكن الرواية تعتمد في شعريتها على الاقتراب من لغة الحياة اليومة، لهذا لا نستمعُ فيها لصوت المؤلف وحْدَه، وإنما نستمعُ- في رأي باختين- لأصوات متعددة، هي أصوات الشخوص، وتبعا لذلك نتوقَّع في الرواية حواراتٍ بلهجات ليست متعددة حسب وإنما مختلفة، ومن هنا تعزى بلاغة الرواية لقوانين مباينة لقوانين تراعيها وتلتزم بها فنون الشعر، وإذا لاحظنا في النثر الروائي غلبة هذه القوانين (الشعرية) تأكد لنا الانطباع عن أنّ الرواية كتبت بطريقة مفتعلة، منفصلة، عن الواقع الذي تحاكيه. والحوار – الذي هو المادة الأساسية للمسرح النثري- ينبغي له، هو الآخر، أنْ يقترب بنا من عالم الشخوص (الممثلين) وإلا بدت لنا المسرحية كالمسلسلات المكسيكية المُدبْلجة بالفصحى، بعيدةً جدًا عن الواقع، حيث الخادمة أو المربية أو الطفل يتكلمون بحذلقة، وبتقعُّر، يعلو كثيرًا على فصاحة الفراهيدي، ونحويَّة سيبويه.

الجمعة، 18 أغسطس 2017

النظرية الشعرية بين نص المؤلف ونص المخرج

مجلة الفنون المسرحية


النظرية الشعرية
بين نص المؤلف ونص المخرج

لبروزيين عبيد

إن الحديث عن الجدلية القائمة بين نص المؤلف الدرامي ونص المخرج المسرحي، هو في حقيقة الأمر، حديثٌ نسبيا، مقارنة بتاريخ المسرح العريق، لأن وظيفة المخرج لم تظهر إلا في القرن الثامن عشر مع الدوق ساكس منينجن، ومنذ ذلك الحين، أصبح المخرج يضطلع بدور كبير في تشكيل معالم العروض المسرحية، حيث يعبر عن تصوراته وتوجهاته في الرؤية الإخراجية التي تكوّن، عادة، رؤيته للعالم. 
وأمام المكانة المهمة التي أصبح المخرج يحظى بها في المسرح الحديث والمعاصر، ستقوم الدراسات المسرحية باستثمار السيميائيات في دراسة الجانب الفرجوي، أو ما يسمى بالنص الفرجوي، والمقصود عوالم الخشبة المسرحية وما تزخر به من رؤية إخراجية، وديكور، وسينوغرافيا، وإضاءة، وتمثيل. وهكذا أصبحت مكونات العرض المسرحي معطى للقراءة والتأويل، بعد أن كان النص الدرامي مركز العمل المسرحي، فانتقلنا من هيمنة خطاب المؤلف إلى هيمنة خطاب المخرج.
المسرح بهذا المعنى، فن أدبي وفرجوي بامتياز، لأنه يتكون من نص المؤلف ونص المخرج، أي الرؤية الإخراجية للعرض المسرحي، وبهذا يتم الانتقال من الخطاب الأدبي إلى خطاب الفرجة، أو من النص الدرامي إلى خطاب الركح، الذي يوظف علامات لغوية وغير لغوية des signe non verbaux لبناء معالم العمل المسرحي، ولكن هذا الانتقال الذي يرتبط بتنويع طرق التعبير، طرح إشكالات نقدية كثيرة، لأن نص المؤلف، باعتباره نصا أدبيا، تحكمه العديد من القواعد، والتي تتأطر تحت نظرية الأجناس الأدبية، فجمالية النص الدرامي ترتبط بمقومات الجنس أو النوع، والقصد بنيته التي تميزه عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى، لذلك يمكن القول إن النص الدرامي، وبانتسابه إلى الأدب، لا يمكن تحديد مقوماته الجمالية إلا بربطه بنظرية الأدب، وبالتالي، سيصبح عمل الناقد المسرحي هو دراسة الأدبية أو الشعرية، وذلك بالتركيز على الخصائص النوعية التي تشكل فرادة المسرحية مثل الانزياحات اللغوية، وتوظيف الزمان والمكان، والشخصيات، والصراع الدرامي، والإرشادات المسرحية...إلخ، بينما يستدعي العرض المسرحي، تصورا شموليا يشكل قالبا يستحضر المؤلف والمخرج والممثل والسينوغراف، وكل هذا خاضع لتصور المخرج المسرحي، لأنه يتحكم في جميع مكونات العرض المسرحي، وهنا سينصب دور الناقد على مفهوم التمسرح Théâtralité، من خلال السيميائيات ونظرية التلقي، أو غيرها من المقاربات التي يمكن أن توظف لدراسة الفرجة المسرحية.
وليس الأمر بالبساطة التي قد يبدو عليه، بل إن اختلاف الوسائل العديدة في المسرح، أدت إلى صراع بين سلطة المؤلف وسلطة المخرج، فألفت العديد من الكتب لتوضيح دور كل منهما، غير أن ما يهمنا هنا، ليس رصد هذا الصراع، بل التركيز على جماليات النص الدرامي في علاقته بشعرية العرض المسرحي، وهو الذي يعكس رؤى مختلفة، تبتدئ برؤيا المؤلف وتنتهي برؤيا المخرج، لذلك، فهما يتكاملان في تشكيل العمل المسرحي، وإن كان هذا لا يعني أن كلا منهما لم يستطع تحقيق استقلاليته الخاصة. وإجمالا، إن شعرية النص الدرامي، كنتاج خالص للمؤلف، يحتكم إلى الخصائص المميزة لهذا النوع الأدبي، وبالتالي فإن جماليته، ترتبط ببنيته، وشكله العام، وطريقة مقاربته، بينما يرتبط العرض بمؤثثات الركح في علاقته بالنظريات المسرحية. 
إن الفصل بين النص الدرامي والعرض المسرحي، أو بين نص المؤلف والمخرج، هو من بين المزالق الكبيرة التي وقع فيها المسرح الحديث والمعاصر، ذلك أن كلا منهما يكمّل الآخر، فكل قارئ لأي عمل أدبي، يعد مخرجا بالضرورة، لأنه يستعمل خياله لتأويل الرموز اللغوية ليبين أفكار النص، فيرسم في أخيلته، ما يتوهم أنه يقرأه، وبالتالي فكل مؤلف مخرج وكل مخرج مؤلف بعديّ.
إن اعتبار النص الدرامي نصا أدبيا، يجعله يحتكم لشروط النتاج الأدبي، وإلى تطور النظريات الأدبية والمناهج النقدية، منذ الشكلانيين الروس إلى ما بعد البنيوية، وهذا يجعلنا نعود إلى ياكوبسون الذي يعتبر الأدبية بأنها هي "التي تجعل من إنتاج ما إنتاجا أدبيا" ، وهذا يعني مراعاة عناصر المسرحية ذات الخصائص الأدبية، وذلك بالتركيز على الانزياحات اللغوية، وبنية النص الدرامي (الشخصيات، الزمان المكان، الصراع...)، وطريقة توظيف هذه العناصر هي التي تجعل النص الدرامي إنتاجا أدبيا.
والعناية بهذه العناصر الأدبية، أيضا، من طرف النقاد والدارسين للمسرح، جعل المؤلف يهيمن –ردحا طويلا من الزمن- على العمل المسرحي ككل، قبل أن نصل إلى عصر سماه رولان بارت في إحدى مقالاته بعصر الصورة، حيث هيمنت الوسائل البصرية على المجتمعات الحديثة، وأصبحت وسيلة للمعرفة، وشكلت وعي الإنسان بنفسه وبالواقع، لذلك، يعد البصريّ والمشاهد من سيمات العصر الحديث، خصوصا بعد توالي ظهور النظريات الأدبية، ومن هنا أصبح المسرح يولي عناية خاصة بالجوانب البصرية في العروض، حيث دخل عوالم التجريب لتظهر سلطة المخرج من جديد، وما أقصده بسلطة المخرج، هو دوره في رسم معالم العرض المسرحي، وليست السلطة بمعنى السيطرة والهيمنة. وحتى الذين يتحدثون عن الصراع في المسرح، هم في حقيقة الأمر، لا يميزون بين التأليف والإخراج بكونهما مهنة، وبين كونهما إبداعا يستقل كل واحد عن الاخر بطرائق التعبير، وانتساب الأول إلى نظرية الأدب والثاني إلى نظرية الفرجة. 
 تقوم حقيقة الصراع بين المؤلف والمخرج عندما قام هذا الأخير بتقليص الملفوظ الحواري على خشبة المسرح، واعتنى بالجماليات البصرية من خلال تجريب طرق جديدة في التعبير، تعتمد بالأساس على توظيف التكنولوجيا والاكتشافات العلمية، وهكذا "نخلص إلى أن التجريب في المسرح الغربي كان هو أسلوب البحث عن حداثة مسرحية تبتعد عن السلطة الأحادية للنص، وترتمي في أحضان جمالية فضائية" .
لقد فتح التجريب افاقا واسعة للمخرج ليبني رؤيته الجمالية على مكونات بصرية، واتسع دوره ليتجاوز الترجمة الحرفية للنص الدرامي، بل أصبحت اللغة الملفوظة فوق خشبة المسرح تتراجع عن مكانتها الرئيسة، وتقلصت هيمنتها الطويلة في المسرح الكلاسيكي، حيث ظهر مايرخولد وكروتوفسكي وأرطو وغيرهم، يدعون إلى اعتماد لغة الجسد والتركيز على اللغة البصرية، خصوصا بعد تأثرهم بالمسرح الشرقي فـ"لإيجاد التأثير الذي كان يرغب فيه أرتو، سعي إلى لغة مسرحية تقوم أولا على الحركة والصوت، وهو بالنسبة لفكرته عن الحركة يدين بالفضل إلى إدراكه لكنه المسرح الشرقي" .
لقد استطاعت التجارب المسرحية الحديثة والمعاصرة، الحد من سلطة المؤلف، بل جعلت أمثال رينيه ويليك، وأوستن وارين في كتابهما "نظرية الأدب" يقران على أن "المسرحية مازالت كما كانت بين الإغريق فنا مختلطا، أدبيا بشكل مركزي ولا شك، لكنه يشتبك أيضا بالعرض يستفيد من مهارة الممثل والمخرج وصانع الأزياء ومهندس الكهرباء"  وهكذا كان المسرح فنا مختلطا باحتوائه أجناسا أدبية مختلفة، وأشكالا فرجوية متعددة. إن النص الدرامي بهذا المعنى، نص مسرحي بامتياز، أي أنه نص أدبي وفرجوي، وهذا يعني أنه فن مختلط، حيث يحتوي على خصائص أدبية وفرجوية في الان نفسه، وكل تصور حول الظاهرة المسرحية يستبعد جانبا من هذه الجوانب يعد تصورا ناقصا.
إن الخروج من هذا المأزق، يستوجب إقامة تصور شامل حول الظاهرة المسرحية باستحضار أبعادها المتعددة، وهو ما نلمسه، حتى الآن على الأقل، في النظرية الشعرية باعتبارها نظرية عامة للأدب والفرجة، وهي قادرة على أن تكشف الخصائص الجمالية والفنية لخطاب المؤلف والمخرج معا، لأن ما يهمنا هنا، ليس رصد الصراع التاريخي بينهما، وهيمنة خطاب على آخر، بقدر ما نصبو إلى الوقوف عند الخصائص النوعية لكل منهما.
تثير النظرية الشعرية العديد من الإشكالات الإبستيمية والإيتيمولوجية، الأولى تتعلق بتاريخ الأدب والفرجة، وما حققاه من تراكم كمي، والثانية ترتبط بالأصل اللسني للكلمة، فهو بمعنى من المعاني، يبحث عن مميزات وخصوصيات الخطاب الأدبي والفرجوي على حد سواء. لكن المسرح - ولكونه فنا بصريا بامتياز- يحتوي في بنيته التعبيرية المركبة أكثر من خطاب، يتجاوز من خلاله النص الدرامي إلى العلامات الركحية التي تشكل العمل المسرحي، وهذا ما يجعل من الشعرية نظرية قادرة على استنطاق النص والعرض على ضوء المناهج النقدية الحديثة.
والشعرية في علاقتها بالمسرح، لا بد لها من رصد الخصائص الفنية للنص الدرامي، الأمر الذي لا يتحقق إلا من خلال وضعه في سياق تطور نظرية الأدب، والوظائف التي تحكمه، فهو يضطلع "بثلاث وظائف: وظيفة درامية، وظيفة شعرية، وظيفة تواصلية، بالنسبة للوظيفة الدرامية، إن النص المسرحي هو أولا الذي يحمل الفعل  l’actionوأحيانا يفسره. إن الحوار محمل بمعلومات واضحة أو مضمرة تتعلق بجريان الفعل أو الحدث. لكن –هذه الوظيفة الثانية- للنص المسرحي وظيفة شعرية، ذلك أنه يستعمل مثل أي نص أدبي، كل الحيل أو المهارات الكتابية، استعارات Métaphores كتابات   Métonymies وهو بذلك يستجيب لغاية جمالية" . 
إن هذه الوظائف الثلاث، هي التي تجعل النص الدرامي نصا أدبيا قابلا للدراسة الأدبية، ولكن التركيز على الوظيفة الثانية، أي الوظيفة الشعرية، تجعل الشعرية قادرة على رصد المقولات الجمالية للنص الدرامي. أما بالنسبة للعرض، فإن الشعرية تركز على دراسة العلامات غير اللغوية من قبيل الحركات والإيماءات والديكور والإضاءة وغيرها من العناصر الركحية الأخرى. 


الأربعاء، 16 أغسطس 2017

المسرح البيئي.. وجماليات التلقي

مجلة الفنون المسرحية

المسرح البيئي.. وجماليات التلقي  

ابتسام يحيى الأسعد


ارتبط المنجز الإبداعي بشكل وثيق بالحياة بشكل عام والإنسان، الذي هو محور الوجود بشكل خاص، وذلك باعتبار أن الفن أداة للتعبير عن مختلف أوجه النشاط البشري بكل تناقضاته. وينطلق هذا الموضوع من "أن العمل والفكر والفن كلها مميزات ضرورية وحاسمة وملازمة لحياة الإنسان"( ). من هنا برزت العلاقة الجدلية بين المنجز الذي يرتبط بذات الفنان واستقبال هذا المنجز الذي يرتبط بالآخر – المتلقي.
إن هذه العلاقة كانت الأرضية التي انطلق منها الفنانون المسرحيون في البحث عن وسائل متعددة للتعبير، خاصة في القرن العشرين. وهذا يرجع لما امتاز فيه هذا القرن من تعدد الأفكار والحوادث المتلاحقة، التي شهدها العصر وتركت أثرها في الفنان. 
فقد شهد المسرح في القرن العشرين اتجاهات عديدة امتازت بابتكار مضامين وأشكال جديدة للتعبير عن الإنسان ومشكلاته، مثلت محاولات للخروج عن الأنماط التقليدية للدراما والعرض المسرحي. هدفت هذه المحاولات إلى إيجاد علاقة من نوع جديد متميزة ومتواصلة مع المتلقي. ابتعدت هذه العلاقة أحياناً وفصلت بين المتلقي والعرض وجعلت من الجمهور مراقباً. بينما اقتربت أحياناً أخرى وجعلت منه، أي الجمهور، مشاركاً في الحدث (العرض). وتطرفت في ذلك فجعلته صانعاً له.
كان احد هذه الأشكال المبتكرة المسرح البيئي الذي أشاعه (ريتشارد ششنر) (1934-)، إذ اعتبر "أن المتفرجين هم صانعوا مشهد ومراقبو مشهد، كما في مشهد الشارع خلال الحياة اليومية"( ). وقد استفاد هذا المخرج من التأثيرات البيئية لإيصال محتوى هذا المسرح. كما عمل عدد من المخرجين في العالم تجارب عديدة في محاولة لإرساء إسلوب عام لهذا الشكل ألا إسلوبي. 
إن الأساليب الجديدة والمثيرة التي قدم فيها مخرجو المسرح البيئي أعمالهم، جعلت منها موضوعا للتأمل. فقد أخذت عروضهم طابعا جماليا من نوع خاص وفريد، وذلك لأن الجمال يسر لمجرد كونه موضوعاً للتأمل، سواء عن طريق الحواس أو في داخل الذهن ذاته . بعبارة أخرى إن التقنيات التي استخدمها مخرجو المسرح البيئي وضعت المتلقي داخل بيئة العرض، محفزة ذهنه وشعوره على تأملها وإمعان التفكير فيها، وبالتالي أصبح منقادا في الدخول في بيئتها. وهو ما أعطى بيئة العمل المسرحي تفردها.
نبع اهتمام المسرحيين في البيئة (Environment) لكونها تمثل العوامل الخارجية، التي يستجيب لها الفرد والمجتمع بأسره. وهذه الاستجابة فعلية كالعوامل الجغرافية والمناخية من سطح ونباتات وموجودات وحرارة، وكذلك تشابه العوامل الثقافية التي تسود المجتمع وتؤثر في حياة الفرد والمجتمع، وتشكلها وتطبعها بطابع معين( ). وقد اعتبرت البيئة نظام متكامل يتألف من مجموعة العوامل والعناصر الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية التي تحيط بالإنسان ويحيا فيها( ). كما تمثل البيئة المجال الذي تحدث فيه الإثارة والتفاعل لكل وحدة حية. وهي كل ما يحيط بالإنسان من طبيعة ومجتمعات بشرية ونظم اجتماعية وعلاقات شخصية. كما إنها المؤثر الذي يدفع الكائن إلى الحركة والنشاط والسعي، لذلك فان التفاعل متواصل بين البيئة والفرد، فالأخذ بالعطاء مستمد ومتلاحق.
كما لفتت البيئة عناية العاملين في المسرح لكون الدراسات البيئية تقوم بدراسة الأوساط الاجتماعية والاقتصادية والحضارية التي يعيش فيها الإنسان، والتي يجريها العلماء حول محيطه الاقتصادي والاجتماعي والعوامل المؤثرة فيه. وهي الدراسات التي تتعلق بمادة علم النفس الاجتماعي، الذي يهتم بدراسة البيئة التي يعيش فيها الإنسان، بما فيها من موجودات طبيعية وظواهر اجتماعية تتعلق بمؤسسات المجتمع المختلفة وتقاليده وعاداته وقيمه ومواقفه. كما إن هناك عدداً من الجماعات تعتبر الدراسات البيئة جزءاً من الدراسات الأنثروبولوجية الاجتماعية( ). ولهذا فقد أعتبر المخرج الأمريكي(ريتشارد ششنر) البيئة بأنها: المحيط الدائم والغطاء والمحتوى والأعشاش. وهو المشاركة والفاعلية في الأنظمة الحياتية المترابطة. وهو يرى أن البيئة حيث بدأت الحياة. وقد تأثرت بالكائنات الحية وبالأحداث الطبيعية غير الحية، مثل هيجان البراكين والعواصف والفيضانات والبقع الشمسية…الخ. وعد هذا المخرج أن العلاقة بين ما هو طبيعي وبشري أمر معقد، فمن الممكن أن لا يؤثر الإنسان في الأحداث الطبيعية غير الحية، لكن الفعل الإنساني يؤثر في الطقس (الجو) وعنف وطأته( ).
عالج المسرح البيئي أزمات الإنسان المعاصر، التي أنتجتها الإحداث السياسية في العالم، وما تركته الحروب من دمار على أوضاع الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. وقد ربط المسرح البيئي بين المسرح والحياة باعتبار أن ما يحدث في المسرح هو رديف للحياة، يحيلها الفنان إلى المسرح ضمن انطباعات ورؤية خاصة يلعب فيها الخيال دوراً أساسياً، حيث يتعايش الجميع في مواجهة حياتية في بيئة العرض المسرحي تماماً كالحياة. ولهذا فقد أزاح مخرجو المسرح البيئي النص الدرامي الأدبي الجاهز، واعتمدوا على توليفة من أنماط تواصلية مرئية- سمعية، تتناسب وطبيعة تلك العروض ورؤية هؤلاء المخرجين لها. كما حاول مخرجو المسرح البيئي إعطاء عروضهم صفة كونية، سواء في طرح موضوعات عروضهم أو استخدامهم للغات متعددة عالمية. كما استعاض بعض منهم عن لغة الكلمات بلغة الأصوات، مدخلين لغات مرتجلة. واشتغلوا في عملهم على إذابة الطابع المحلي للثقافة الشعبية من اجل إعطائها صفة كونية.
ظهرت بوادر المسرح البيئي (Environmental Theater) عام 1970 على يد المخرج (ريتشارد ششنر)، الذي لخص فيه إسلوبه في التعامل مع فضاء العرض المسرحي والعلاقة مع الجمهور وعدد من البديهيات. وقد التقط (ششنر) مصطلح البيئة (Environment) من (ألن كابرو)* الذي استخدمه في صياغة العمل الفني. وظهر هذا التعبير في كتابه (التجمعات، البيئات، الواقعات) عام 1966، التي يرى أن "مفتاح المفهوم امتداد لفكرة (كابرو) عن البيئة، حيث يعتبر مشهد العرض جزءاً مكملاً للكل، يجمع الممثل والمتفرج ويتفاعلان فيه كوجود أو كينونة. ومثل هذه المحاولة تعني تلقائياً رفض عمارة المسرح التقليدي لصالح الأماكن المناسبة كبيئة"( ).
طور (ششنر) المسرح البيئي من خلال بحثه عن فضاءآت جديدة للعرض المسرحي، يهدف من خلاله إلى "توليد إشارات مسرحية بلا حدود ومعاني لا متناهية، ناتجة عن إمكانية تشكيل لانهائية لمساحة* المسرح"( ). وهو ما عبر عنه (فيلار)** في عام 1948 في قوله: "إن كثيرون منا يفهمون انه مازال ضرورياً أن ندع المسرح "يتنفس" (…). فمستقبل المسرح ليس في المساحات المغلقة"( ). 
بحث المخرج الأمريكي عن ارتباط المتلقي بالفضاء من خلال "امتلاء المساحة، الطرق اللفظية المتعددة التي تنتقل عن طريقها المساحة وتضج بالحياة. وهو ما يعد أساساً في تصميم المسرح البيئي، الذي عد أيضا مصدر تدريب لمؤدي الأدوار المرتبطة بالبيئة. وإذا كان المشاهدون هم احد العناصر التي يجري عن طريقها العرض، فان المساحة المليئة بالحياة هي عنصر آخر. إن هذه المساحة الحية تتضمن كل المساحة في المسرح، وليس ما ندعوه خشبة مسرح فقط"( ).
اعتبر (ششنر) إن البيئات أو بيئة العرض ليس فضاء فقط، بل فاعلية اللاعبين في أنظمة إرسال معقدة، تأخذ مكانها من خلال فضاءآت ساكنة بشكل مبدئي. فبيئة العرض تعني (المكانة) بالمفهوم السياسي، (جسد المعرفة) بالمفهوم العلمي، (المكان الحقيقي) بالمفهوم المسرحي. وهذا يعني انه لتجسيد العرض بيئياً لا يعني مجرد نقله خارج (البروسينيوم)***، بل ان تشترك جميع العناصر التي تؤلف العرض المسرحي كي يعطيها شكل الحياة. وهو يعني احداث التغيير والتطور والتحول وامتلاك الحاجات والرغبات والقدرة على التعبير واستخدام الوعي. فالمسرح البيئي حيثما يكون الفعل: في غرفة الأزياء والماكياج، حيث المشاهد، في الردهة، في مكتب الإدارة في صندوق البريد، وحتى التواليت، وفي وسائط النقل التي تجلب المشاهد إلى المسرح وحتى الكافتريا التي تقدم الطعام، هذه جميعها تشكل بيئة العرض( ).
وقد جاءت جماليات المسرح البيئي من تركيب عناصر مستقاة فعلياً من الابتكارات المسرحية المعاصرة، فقد لجأ مخرجو المسرح البيئي إلى إسلوب جمع المواد الأدبية والفنية والتقنية في أعمالهم، المسرحية. إذ عملوا على "تلقي الصورة الفنية وتبنيها حتى تصبح صورة خاصة بهم. ومن ثم نقل هذه الصورة وهي طازجة إلى المتلقي. يضاف إلى ذلك إن العناصر يتم تقديمها من خلال فكرة "تعليق القراءة"، أي أن تجعل المتلقي يستعيد تجربة مكانه الأليف. وينطلق هذا كله من فكرة "ديناميكية الخيال". أي أن الصورة الفنية والمكان الأليف، والذكريات المستعارة، ليست معطيات ذات أبعاد هندسية، بل مكيفة بالخيال وأحلام اليقظة"( ). وهنا لا بد من التأكيد بان جمع هذه المواد لم يتم تناولها بطريقة عشوائية، ذلك ان السمة الجمالية لأي عمل، إنما يتأتى من توافر عاملين هما: تنظيم عناصر العمل وتآلف تلك العناصر مع بعضها البعض لإخراج عمل فني جدير بالإعجاب، أو لخلق عمل فني مبدع. وهذين العاملين (التنظيم والتآلف) يتبعهما المتذوق إسوة بالفنان، لأنه يمر بنفس المراحل التي يمر بها الفنان في سبيل تمثيل موضوع فنه. ومن ثم محاولة تقييمه والحكم عليه"( ). 
إن الهدف الذي سعى إليه المسرح البيئي في هذه العملية يتشابه وأسلوب السينما المعاصرة. فقد رأى (اونا شودهوري) بان هناك تشابها بين منطق وإسلوب السينما المعاصر والمسرح البيئي؛ حيث تسعى الأولى إلى توسيع مجال الرؤيا الإنسانية ليشمل كل الحقائق وتعرضها للتشريح الإنساني. فهي تشرح الموضوعات الإنسانية وتعرفها وتقدمها تماماً مثل المسرح البيئي( )، ذلك أن "تغييرات المشاهد القصيرة، وتقاطع الحبكة الرئيسية بحبكة ثانوية، إنما هو جانب من الشكل العام لها. وينكشف هذا الشكل ديناميكياً. فالسلسلة المتصلة من المشاهد، التي تشبه إلى حد كبير تسلسل الأحداث في الشريط السينمائي، الذي تتخلل عرضه فترات استراحة وفترات موسيقية بين كل جزء وآخر، هو الذي يقوى تأثيرها ويزيد من قوتها"( ).
يلعب الخيال دوراً أساسياً في تجسيد الصورة مسرحياً عند مخرجي المسرح البيئي، وذلك لكون الخيال، كما يرى (باشلار)، قوة خفية… قوة كونية بقدر ما هو ملكة سايكولوجية. وقد ميز (باشلار) بين نوعين من الخيال: الخيال الشكلي والخيال المادي، ففي حين يخلق الخيال الشكلي كل الجمال غير الضروري داخل الطبيعة مثل الأزهار. فان الخيال المادي يهدف إلى إنتاج ما هو بدائي وخالد في الوجود. وفي داخل العقل الإنساني يكون الخيال الشكلي مغرماً بالخرافة، والجمال الفاتن بالتنوع وبالمفاجئة في الأحداث. بينما يتركز الخيال المادي على عنصر الديمومة في الأشياء. وهكذا فهو يفرز في الطبيعة بذوراً، ومن تلك البذور يترسخ الشكل بعمق في المادة( ). وبهذه الطريقة يصبح للظاهرة الفنية "بعداً موضوعياً، بعداً اجتماعياً، وبعداً نفسياً بالإضافة إلى بعدها الظاهراتي- أي بعد المعايشة والخيال.."( ).
اهتم المسرح البيئي بالانثروبولوجيا الاجتماعية Social Anthropology وهي "الدراسة الاجتماعية للقيم والسلوك الإنساني الخاص بأنواع مختلفة من المجتمعات البشرية. وتركز الدراسة الانثروبولوجية الاجتماعية من الناحية النظرية على فحص المجتمعات البشرية برمتها، الا انها من الناحية العملية تكرس جهودها في تحليل المجتمعات إلى عناصرها الأولية أو وحدتها البنائية. وهي تقوم بتحليل قطاع اجتماعي تحليلاً دقيقاً، وغالباً ما تربطه بقطاعات المجتمع الأخرى. والدراسة العملية الأنثروبولوجية تستلزم استعمال طريقة المشاهدة المباشرة أو طريقة المشاهدة بالاشتراك"( )
وضمن هذا السياق وظف (ششنر) دراسته للأنثروبولوجيا في تقديمه لنموذج (الانتقال/التحول) الذي اعتبر انه نموذج "مفتوح، أي الاستفادة من الثقافات المختلفة والحياة اليومية وتوظيفها في هذه العروض. تماماً كما تم توظيف الطقوس التلقينية** لاولاد (كاهوكو) في (بومبو) في غينيا الجديدة، ومن الممكن الاستفادة أيضاً من التجارب الشخصية مع هذه الشعوب عن طريق دراسة هذه الثقافات. وهو ما تحقق في (باخوسيات) و (فيلوكيتس) لـ (سوفوكلس) و (اوديب) لـ (سنكا)***. ومن الممكن الاستفادة من الرسالة الهندية (نايتاساسترا) ودراما النو( ). وكان اعتماد (ششنر) على كثير من تقنيات تلك الطقوس ينبع من وجهة نظر تفيد بان " تحويل خشبة المسرح إلى طقس هو لمجرد رغبته في تفعيل العرض المسرحي، واستخدام الأحداث المسرحية لتغيير الناس. وذلك بالاعتماد أساساً على الطقس الذي يقوم على عزل المشاركين عن بيئتهم السابقة من خلال نزع الحواس Sensory depoivation وتغيير التوجه disorientation. وهذا الفعل يوحي بالتغيير في طبيعتهم، وإدماجهم في بيئة جديدة بشكل مادي. وهذا يتضح في مشروعات جروتوفسكي "البارامسرحية Paratheatical او في المسرح الحي"( ).
استخدم المسرح البيئي الطقس في سعيه لان تصبح الرموز فوق طبيعة ويصبح المعنى المجازي للحدث على الخشبة مفهوماً دون سؤال، والتواصل بين الخشبة والجمهور كاملاً. وبهذا الشكل يحتفظ الحدث على الخشبة بغموض له نظام واقعي آخر، ولا يمكن الإحساس به، إلا من خلال معايشته كطقس، وكما هو الحال في المسارح الدينية القديمة، تفهم العناصر الطقسية بعموميتها وتعتبر مسلمات وتبقى مقدسة"( ). وبالطبع فان هذا الغموض المطلوب مرتبط بالتلقي من قبل المشاهد، الذي اعتبر هدفاً لمخرج المسرح البيئي، استنادا إلى "أن الفن هو أداة "تغريب" الأشياء وأداة الشكل الذي أصبح صعباً، أي إنه الأداة التي تزيد من صعوبة وإطالة الإدراك، لان عملية الإدراك في الفن غاية في ذاتها ولابد من إطالتها"( )، وهكذا تكون عملية التلقي في المسرح البيئي قد امتلكت إسلوباً وخصوصية في التأويل.
ويتركز عمل مخرجي المسرح البيئي مع ممثليهم في ورش مسرحية معتمدين على العمل الجماعي، بدءاً من إعداد النص إلى تقديم العرض. واعتمدت تقنية الأداء التمثيلي في المسرح البيئي على المرونة العالية للجسد، التكوين، التنويع، والتنغيم في طبقات الصوت، والارتجال المرتبط بتداعيات الممثل. وقد هدفت جميع تلك التقنيات الأدائية إلى خلق علاقة تواصلية مع المتلقي، الذي يعتبر المسرح البيئي جزءاً أساسياً من بيئة العرض المسرحي. لذلك حاول المخرجون توظيف جميع عناصر العرض المسرحي وتقنياته بهدف إدخال المتلقي في تجربة طقسية موحدة، وتوريطه بشكل جمعي في تجربة شاملة يتوحد فيها الجميع بلا تمييز لتحويل العرض المسرحي إلى حدث اجتماعي داخل بيئة العرض.



تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption