الظاهرة النثرية في أدبنا الحديث
الظاهرة النثرية في أدبنا الحديث
د. إبراهيم خليل - الدستور
ظهر النثر الأدبي في الأردن، وتطوَّر مع ظهور الصحف، ومن أبرزها صحيفة الجزيرة لتيسير ظبيان، وصحيفة الأردن. فمن المعروف أن رواد القصة، والرواية، في الأردن، ومنهم، على سبيل المثال لا الحصر، تيسير ظبيان، وميشيل الحاج، وأديب رمضان، وعيسى الناعوري(1918- 1985)، وعبد الحليم عباس (1913- 1979)، وشكري شعشاعة (1890- 1963)، ومحمد أديب العامري(1907- 1978)، ومحمود سيف الدين الإيراني (1914- 1974)، وغيرهم.. كانوا يجمعون إلى اهتماماتهم الأدبية الكتابة في الصحف على نحو شبه ثابت. وقد استوحوا مادة كتاباتهم القصصية من واقع الحياة اليومية. فعبد الحليم عباس كتب روايته الأولى فتاة من دير ياسين ليروي قصة شابين فرقتهما النكبة. وتشاءُ المصادفاتُ أنْ يعاني بطلا الرواية « بيت وراءَ الحدود « لعيسى الناعوري 1959 من تلك المأساة، ومن هاتيك الفرقة التي بدَّدت شمل الحبيبين، وقد واصل الناعوري كتابة الرواية فنشر عددا من الروايات كانت الأخيرة منها بعنوان ليلة في القطار1974 . أما شكري شعشاعة فقد قدم لنا نموذجا يشبه الأيام في روايته السيرة « ذكريات « وأخرى تشبه رواية زينب لمحمد حسين هيكل 1914 في روايته « في طريق الزمان» ، ولو أن رواية شعشاعة تبرأ من شائبة السيرة التي علقت برواية هيكل المذكورة. وعلى هذه الطريق سار حسني فريز في روايته» مغامرات تائبة « التي نشر بعدها روايات أخرى كالعطر والتراب، ورواية حب من الفيحاء، ورواية في ظلال الزيزفون.. وعندما ننظر في رواية تيسير سبول « أنت منذ اليوم « 1968 نجده يستخدم في خطابه السردي تقنيات سردية حديثة كتيار الوعي، والتناص، فضلا عن الرمز ببعض الاقتباسات من التراث التاريخي(محمد بن القاسم) وما لقيه من عقوبة من الخليفة نظرا لتجاوزه الأوامر ففتح من البلدان أكثر مما هو مسموح به لدى البلاط. وفي موازاة ذلك نجد أمين شنار في روايته « الكابوس» 1968يدعو لتحرير العقل العربي من الأفكار الخاطئة السائدة. وهي دعوة غلب عليها النظرُ الديني والبناء الرمزي. أما سالم النحاس في « أوراق عاقر « 1968 فيرمز لما حدث في حزيران يونيو 1967 بحريق يشبُّ فجأة في فندق يقيم فيه الراوي- بطل الرواية- ليعاني بعد ذلك من حروق يُنقل على إثرها للمشفى. إلى جانب ذلك ثمة رموز أخرى تشتبك بهذا، فالزوج والزوجة في الرواية يتمنيان الخصوبة والإنجاب، ويترددان إلى طبيب بغية تحقيق هذه الغاية، إلا أن الحريق بما تبعه أحبط أحلامهما هذه، وبدلا من يرزقا بالمولود المنتظر أصيبا بخيبة مريرة كخيبة العرب الذين انتظروا طويلا بدء الحرب المذكورة ليروا نصرا مؤزرا يفرحون به، فإذا بالنكسة تحبط تلك الأحلام، وتضع حدًا لهاتيك الآمال.
النهوض الروائي
وقد توالت بعيد ذلك رواياتٌ تسلط الأضواء على معاناة الشخوص، كرواية الضحك، ورواية سلطانة، والبكاء على الأطلال لغالب هلسا. ورواية وتشرق غرْبًا للكاتبة ليلى الأطرش، التي تلتها رواية امرأة للفصول الخمسة، ورواية ليلتان وظل امرأة، ثم رواية صهيل المسافات، فمرافئ الوهم، ورغبات ذاك الخريف، فرواية أبناء الريح، ورواية ترانيم الغواية. وقد تناولت الأطرش في رواياتها تلك عددًا من مواجع الإنسان العربي، ذكرا وأنثى، من غير تفريق. ففي الرواية الأولى، مثلا، وقفت بنا إزاء النكبة، ثم ما تلاها من حوادث من أبرزها العدوان الثلاثي على مصر سنة1956 فالنكسة 1967 وما تلاها من تصاعد المقاومة التي نهضت فيها بطلة الرواية هند النجار بدور مهم دخلت بسببه السجن السياسي، وتم تحريرها في تبادل أسرى إلخ.. وعرضت فيها أيضًا للعلاقات بين المرأة والرجل، بصرف النظر عن الدين أو المذهب، ما دام النشاط السياسي المشترك يجمع ولا يفرق. وتطرقت إلى العمل الفلسطيني في امرأة للفصول الخمسة، ولموقف المرأة من ذلك، وإلى المشكلات الأسرية في ليلتان وظل امرأة، وإلى إشكالات نفسية ونسوية في مرافئ الوهم، ومعضلة المثقف العربي في صهيل المسافات، لا سيما إذا كان ذا نشاط سياسيّ في مجتمع تهيمن عليه العشائرية، والبداوة، والتخلف الحضاري بالمعنى الدقيق لكلمة تخلف. ولم تبخل الكاتبة على المهمَّشين، المسحوقين، من اللقطاء، وخريجي دور رعاية الأيتام، فكتبت رواية أبناء الريح من هذا الوحي.
طفرة الرواية
ومن أراد أن يعرض للنثر الروائي، فلا بد أن يتتبَّع ذلك في رواية العودة من الشمال لفؤاد القسوس، وروايات مؤنس الرزاز: أحياء في البحر الميت، واعترافات كاتم صوت، ومتاهة الأعراب.. والذاكرة المستباحة وسلطان النوم وليلة عسل وجمعة القفاري.. . وجمال ناجي في الطريق إلى بلحارث، والحياة على ذمة الموت، ومخلفات الزوابع الأخيرة، وغريب النهر، وعندما تشيخ الذئاب، وموسم الحوريات، وهزاع البراري في تراب الغريب، وأعالي الخوف، بعد الغربان، وحواء مرة أخرى، وسليمان قوابعة.. وزياد قاسم الذي أغنى المكتبة بعدَدٍ من الروايات التي ترصد التحولات الكبرى في المجتمع، وعثمان مشاورة؛ في «مقهى البازلاء « وطاهر العدوان الذي نشرت له ثلاث روايات؛ الأولى وجه الزمان، والثانية حائط الصفصاف، وهما روايتان ترصدان التحولات المطردة في المجتمع الأردني، وأثر النكبة الفلسطينية في هذه التحوُّلات، وأما االثالثة « أنوار» فليست بقوة الروايتين السابقتين. وقد لوحظ، في أواخر القرن الماضي، تزايد ملحوظ في إصدارات الروائيِّين، مما حدا ببعض المتابعين، ممن يولونَ البعد الكمي أهمية أكبر من البعد النوعي، للوقوع في وهم الإحصاء، وتعداد الإصدارات. وتوجُّه بعض كتاب القصة، في ظاهرة أخرى لافتة، إلى الرواية: إلياس فركوح، وهاشم غرايبة، وقاسم توفيق، ومفلح العدوان، ومحمود الريماوي، وجمال أبو حمدان، وسامية العطعوط..وعصام الموسى.. ومنال حمدي.. مثلما تحول بعض الشعراء لكتابة الرواية؛ كإبراهيم نصرالله، وأمجد ناصر، وجلال برجس، وجهاد أبو حشيش. وبعض الروايات التي كتبها هؤلاء الشعراء تغلبُ عليها لغة الشعر، لا لغة النثر القصصي، أو الروائي، فنجد الرموز تشيع في العناوين، مثل: ذئب الماء، أفاعي النار، شرفة الهاوية، أو ذئب الله، وشرفة في قفص إلخ.. وهذا ينم على أن الكاتب الشاعر لم يستطع التخلص من هيمنة الشعر على روايته، وإذا مضى القارئ في متابعة قراءة الرواية اكتشف الكثير من الأحاجي، والألغاز، التي تشبه الطلاسم، مما يبعد الكتابة عن طبيعة الرواية، ويجعلها نصًا هجينًا تختلط فيه أجناس أدبيّة متباعدة.
روائيات
ومن الكاتبات اللائي كتبْن الرواية، علاوة على من ذُكرن: سميحة خريس، ورفقة دودين، وسَحَر ملص، وغصون رحال، وفيروز التميمي، وجهاد الرَجبي، ونرمينة الرفاعي، وفادية الفقير، التي نُشرت لها روايات عدة بالإنجليزية، فازتْ إحداهنَّ بجائزة بريطانية، وهي رواية My Name Is Salma وتعد مساهماتهنَّ مؤشرًا على اتساع هامش التقبُّل الشعبي لهذا الفنّ الذي كانَ، إلى زمنٍ قريبٍ، فنًا مرْفوضًا غيرَ مقبول.
في القصّة
أما القصة القصيرة، فقد بدأتْ في الأردن على يدي محمد صبحي أبو غنيمة، صاحب « أغاني الليل « المطبوعة بدمشق1922. واغتنت على أيدي كثيرين، منهم عيسى الناعوري(خلّ السيف يقول) و(أقاصيص أردنية )، و(حكايات جديدة)، ومحمود سيف الدين الإيراني (متى ينتهي الليل)، و(ما أقل الثمن)، و(أصابع في الظلام) وغيرها، وحسني فريز(قصص من بلدي) وأمين فارس ملحس (1923- 1983) صاحب مجموعة « من وحي الواقع « وأبو مصطف وقصص أخرى» 1952. وساعدت المجلات على زيادة الاهتمام بهذا النوع الأدبي، نشرًا ونقدًا، لا سيما الرائد، والاثنين، والأفق الجديد، و صوت الجيل، و أفكار، والمهد، وعمّان، وتايكي. علاوة على الملاحق الثقافية للصحف اليومية في الدستور، والرأي، وسابقاً في الجهاد، وفلسطين، والدفاع، وعمان المساء، والصباح، والصحفي، وأخبار الأسبوع، وصوت الشعب، والعرب اليوم. فبرز عدَدٌ من كتاب القصة في « الأفق الجديد « على سبيل المثال، وممَّن يشار إليهم بالبنان فخري قعوار الذي مرت قصصه بمراحل عدة انتقل فيها من السرد الذي يحاكي فيه الحياة الواقعية إلى السرد الغرائبي، متكئًا على الأسطورة، أو الخرافة، أو النموذج التاريخي، الذي يحيلنا فيه لشخصيَّةٍ من التراث. أما جمال أبو حمدان فقد نشر في وقت مبكّر « أحزان كثيرة وثلاثة غزلان» عن دار مواقف ببيروت 1970، وهي قصصٌ توضع على قدم المساواة مع أعمال البارزين من كتاب القصة في الوطن العربي.
أثر القاصّ
ومما يجب التنويه إليه، أن لهذه المجموعة أثرًا كبيرًا في القصة الأردنية القصيرة، يعزى ذلك إلى الطرائق الفنية التي جاء فيها بما يشهد على ابتكاره. فهو، من الانطباع الأول، يكتب القصة ذات الحكاية المُكثفة التي يستعيرُ بعض حوادثها من الماضي، أو من التاريخ القديم، أو من الخرافات، والأساطير، كما في « سبارتاكوس « أو « أبو ذر الغفاري « أو « من هنا طريق قيس» وغيرها من قصص، وربما لجأ إلى ما يسمّيه المحدثون اليوم التناصّ الأسْطوري، أوالديني، كما في قصَّتهِ « أحزانٌ كثيرة وثلاثة غزلان « التي تقنّعتْ فيها شخصياتُ القصّة بشخصية زليخة تارَة، وشخصية يوسف تارة، مع أنّه يُسلط الضوءَ على وضْع سياسي راهن، وهو ما تبع نكسة 5 حزيران 1967 من ردود فعل تعرَّض لها جنديٌ عائد من ساحة القتال. وقصَصُه، على الرغم مما فيها من قِصَر، لا تخلو من المسْحة الدرامية، التي تضع القارئ في جو يشبه الجو المسرحي، ومن ذلك، على سبيل المثال، قصته « سيف الملك المنذر بن ماء السماء» وكذلك قصّة الخلخال في « أمس الغد» التي أعاد الكاتب مسرحتها في نص درامي بعنوان (مكاور) صدر في كتاب مستقل 2017.
ولا تفوتنا الإشارة لكتّاب آخرين منهم: هاشم غرايبة صاحب «بيت الأسرار»، وهند ابو الشعر التي غلب على قصصها المبكرة « شقوق في كف خضرة « 1982 الاهتمام بالمرأة، ولجأت إلى الرموز البسيطة المعبرة عن الواقع تعبيرًا لا يصعب فهمه في « المجابهة «، و» في الوشم «، وفي «حين تصبح الذاكرة وطنا»، وفي « مارشات عسكرية « وغيرها من المجموعات التي ينطوي عليها مجلد الأعمال الكاملة، وما تلاه. ومن كتاب القصَّة أيضًا إبراهيم العبسين وعدي مدانات وبسمة النسور، ومحمد طملية، وبدر عبد الحق، ومحمود الريماوي، الذي يغني القصَّة مع كل جديد يكتبه، وسامية العطعوط، وسحَر ملص، وفايز محمود، ونايف النوايسة، وفؤاد القسوس، وعصام الموسى، وخليل قنديل، وحنان بيروتي، ومحمّد سناجلة، وجواهر رفايعة، ومحمد خليل، وجمال القيسي، ورمزي الغزوي، وخلود جرادة، وأميمَة ناصر، وبسمة النمري، ويوسف ضمرة، وسليمان الأزرعي، ومخلد بركات، وجعفر العقيلي، وخليل قنديل وهشام بستاني.. وآخرون. ويذكر أن الروائي غالب هلسا بدأ مسيرته الإبداعية بكتابة القصة القصة القصيرة، تشهد على ذلك مجموعتاه: وديع والقديسة ميلادة وآخرون(1968) وزنوج وبدو وفلاحون(1974).
الحبَّة والقبَّة
وفي العقدين الأخيرين ظهرت موجة جديدة من كتاب ما يسمّى «القصة القصيرة جدًا» أو القصَّة الومْضة، أو التوقيع، تشبيهًا لها بتوقيعات الخلفاء التي قلما تدرج في نوع من أنواع الأدب. وهي تميل ميلا شديدًا للتكثيف على حساب التقاليد المعروفة لهذا الفن. ومن كتاب هذا اللون بسمة النسور وذكريات حرب وتبارك الياسين وجلنار زين وهاني أبو نعيم ومهند العزب ومحمد جميل خضر وجمعة شنب، وسامية العطعوط في آخر أعمالها، وخالد سامح وبسمة النمري في أعمالها الأخيرة. غير أن هذا النوع لا يجد ما تجده القصَّة القصيرة من اسْتحسان لدى النقاد المهتمّين بالسرد القصصي. كونه يقتصرُ، في الكثير من نماذجه، على مُلحة من المُلح، أو نادرة من النوادر المبتكرة التي تكاد تقول، أو لا تقول، شيئا. وقد أساءَ إلى هذا الشكل الهجين تنافسُ الكتّاب على منْ يستطيع أن يقلل حجم القصة أكثر من غيره، حتى تفاخَرَ بعضهم على غيره بأنه يكتب القصة من ستّ كلمات، فيتحداه آخر بكتابة قصة من ثلاث كلمات. وهذا في رأينا لا يسيءُ لفن القصة وحْدَه، بل ينحدر بهيبة الأدب. وبصَرْفُ النظر عن موقفنا من هذا اللون، فإن القصة القصيرة جدًا – بصفةٍ شبه عامَّة إلا منْ استثناءات- لا يمكن لها أن تكون مَوْضوعًا للدراسة، إلا إذا كنا نعتزم العمل بالمثل القائل: يجعلُ من الحبَّة قُبَّة.
المَسْرح
ولئن كانت القصة، والرواية، لا تحتاجُان إلا لكاتبٍ موهوب، وقارئ، وناشر، كي تظهر وتزدهر، فإن المسرحية، شعرًا كانت أم نثرا، تحتاجُ إلى جانب الكاتب، فريقا من الممثلين، ومخرجًا، ومصمِّما للديكور، والمناظر، ومشرفا للمسرح، ومنتجا يموّل المشروع (العرض) وموسيقيا يؤلف الموسيقى التصويرية المرافقة، وخبيرًا في الماكياج، وجمهورًا، ومبنىً تتوافر فيه المعدّات المناسبة كالإضاءة، والستارة، ومكبرات الصوت إلخ.. وهذا العدد من الفنيين ينبغي له أن يعمل في إطار من التناغم والتنسيق. ولهذا لا نعْجب إذا وجدنا من يقول من الباحثين إن المسرح تأخر ظهوره في الأردن كثيرا عن ظهوره في بلاد أخرى كمصر، ولبنان، والعراق. فأول عمل مسرحي جرى تقديمه في الأردن يعود إلى العام 1918 مقابل أول عمل مسرحي عُرض بلبنان يعود إلى سنة 1846. ويذكر في هذا المقام الأب أنطون الحيحي الذي قيل الكثير عن تأليفه نصوصًا مسرحية أخرجها بنفسه، وأدى بعض الأدوار البارزة فيها، مثلما نُسب إلى الشاعر فؤاد الخطيب كتابته أول نص مسرحي نثري تاريخي بعنوان فتح الأندلس. وتتابعت المحاولات بعد ذلك في إربد، وبيت ساحور، والقدس، ومأدبا. ومن النصوص النثرية التي قدمت: مسرحية ابن وائل، والسموأل، ووفاء العرب، وصلاح الدين الأيوبي، والرشيد والبرامكة، ومن المسرحيات المعرَّبة التي جرى تقديمها مسرحية يوليوس قيصر، وتاجر البندقية، وكلتاهما لوليم شكسبير. مثلما قُدمت مسرحية في سبيل التاج للفرنسي فرانسوا كوبيه.
وممن نشطوا في الكتابة للمسرح: روكس العزيزي، وصلاح أبو زيد، ومحمد المحيسن، الذي قدمت له مسرحية نثرية بعنوان الأسير عام 1946. وعبد الوهاب أبو السعود الذي كتبَ مسرحية نثرية بعنوان (الوطن) 1946 وعباس علام، وعبد الغني الريماوي. على أن المسرح لم يقتصر في هذه الحقبة على النثر، فقد نُسبت لحسني فريز محاولة مسرحية شعرية بعنوان (الطوفان) وهي ليست مسرحية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وإنما مجموعة من المقطوعات الغنائية التي ينتظمها موضوع واحد، هو عشق آلهة الهواء المرأة إينو. وأما النصوص المسرحية النثرية بعد العام 1948 فكانت تقدم في مهرجانات الاصطياف في رام الله، والبيرة، وفيها عُرضت محاولات لعبد اللطيف البرغوثي، وهدية عبد الهادي (لقاء) 1965. وبعد ذلك جاء ظهورُ « فرقة المسْرح الجامعي « في الأردنية، ليضع الحلول المُمكنة لغياب الفرق، وتوافر الأجهزة، والمُعدّات التقنية.
وشهد مدرج سمير الرفاعي بواكير العروض المسرحية الجادّة، بعد أن انضمَّ لهذا الفريق المخرج المحترف هاني صنوبر، ولمع في هذا الفريق عدد من الممثلين، مثل: قمر الصفدي، وصلاح أبو هنود، وحسن أبو شعيرة، وجودت صالح، وبهاء أبو طه، ومحمود أبو غريب، وغيرهم. وشاهد الجُمْهورُ لأول مرة مسرحيات جادة مثل « أفول القمر» لشتاينبك، وبيْت الدمية لهنريك إبسن، وثمن الحرية للإسباني روبيلوس، ومسرحية السلاح والإنسان لجورج برناردشو، وغيرها من عيون المسرح العالمي ومن هذه العناوين يتضح افتقار الفرقة للنص المسرحي المحلي.
أسرة المسرح الأردني
وفي المقابل أنشأت دائرة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام فرقة مسرحية أخرى باسم «أسرة المسرح الأردني « وانتعش المسرح، إذ اتخذ المسرحيون من أعمال بعض الكتاب المحلِّيين نصوصًا أخضعت للإخراج، ومنها مسرحية « المفتاح « لجمال أبو حمدان، التي عرضت في مهرجان دمشق الدولي، وكذلك مسرحية « الجراد « للكاتب نفسه، وزرقاء اليمامة، وحكاية شهرزاد في الليلة الثانية بعد الألف، وليلة دفن الممثلة جيم وغيرها. وعرضت أيضا مسرحيات من تأليف محمود الزيودي رسالة من جبل النار، والضباع، ومسرحية عبد الرحيم عمر خالدة، ومسرحية وجه بملايين العيون، ومحمود سيف الدين الإيراني الذي حول إحدى قصص مجموعته الأخيرة « أصابع في الظلام « إلى مسرحية بعنوان (الأقنعة) التي عُرضت في مهرجان دمشق الدولي (1974) وعلى خشبة مسرح النادي الأرثذوكسي بعمان. وتواصلت العروض المسرحية، وتعدَّدت الفرق، فظهرت فرق لمسرح الطفل، والمسرح التجريبي، والكوميدي، والفوانيس، وممن نشطوا في مجال للمسرح فؤاد الشوملي، ومصطفى صالح، وعبد الجبار أبو غربية، وعبد اللطيف شما، وليلى الأطرش، وهزاع البراري، الذي أسهم بعدد من النصوص فاز واحدٌ منها بجائزة..
السيرة
يضافُ لهذه الفنون النثرية فن آخر هو السيرة، وحظ السيرة في أدبنا قليل، فمن أوائل من كتبوا السيرة شكري شعشاعة في الكتاب المذكور آنفا (ذكريات) يضاف إليه ما كتبه عيسى الناعوري في الشريط الأسود، وما كتبه سليمان الموسى في ثمانون، وما كتبه أمجد ناصر في كتابين له أولهما بعنوان خبط أجنحة في سماوات بعيدة، والثاني عن بيروت. وهناك كتب أخرى مثل: على جناح الطير لسميحة خريس، والسيرة الطائرة. ونثر السيرة يشبه النثر الروائي حينًا، وفي أحيان يتحول إلى توثيق لا حظ فيه للأدبيَّة. ورب سائل يسأل: ما الذي يختلف فيه نثر هذه الفنون بعضه عن بعض؟ جوابًا عن هذا يمكن القول- في الحدود التي تسمح بها هذه المقاربة الوجيزة – إن النثر القصصي في القصير منه يختلف قليلا عن النثر الروائي، ففي القصة القصيرة نستمع لصوت القاص غالبًا، ولهذا يتسع النثرُ الأقصوصي لمزيد من الاختيارات الأسلوبية، والمَجازيّة، والتراكيب التي تضع النثر في مستوى جمالي يقترب فيه القاص من شعرية السرد، لكن الرواية تعتمد في شعريتها على الاقتراب من لغة الحياة اليومة، لهذا لا نستمعُ فيها لصوت المؤلف وحْدَه، وإنما نستمعُ- في رأي باختين- لأصوات متعددة، هي أصوات الشخوص، وتبعا لذلك نتوقَّع في الرواية حواراتٍ بلهجات ليست متعددة حسب وإنما مختلفة، ومن هنا تعزى بلاغة الرواية لقوانين مباينة لقوانين تراعيها وتلتزم بها فنون الشعر، وإذا لاحظنا في النثر الروائي غلبة هذه القوانين (الشعرية) تأكد لنا الانطباع عن أنّ الرواية كتبت بطريقة مفتعلة، منفصلة، عن الواقع الذي تحاكيه. والحوار – الذي هو المادة الأساسية للمسرح النثري- ينبغي له، هو الآخر، أنْ يقترب بنا من عالم الشخوص (الممثلين) وإلا بدت لنا المسرحية كالمسلسلات المكسيكية المُدبْلجة بالفصحى، بعيدةً جدًا عن الواقع، حيث الخادمة أو المربية أو الطفل يتكلمون بحذلقة، وبتقعُّر، يعلو كثيرًا على فصاحة الفراهيدي، ونحويَّة سيبويه.