أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الأربعاء، 22 أكتوبر 2014

«ربيع المسرح العربي» في هانوفر: عروض جريئة تناولت الحب المحظور و«ختان البنات» وتحرر المرأة

مدونة مجلة الفنون المسرحية
هانوفر ـ «القدس العربي»:كانت هانوفر مدينة ساكنة، تعيش يوميات خريفها العادي، تهدأ في انسياب توالي ساعات نهاراتها المترادفة، قبل ان يحل بها مبدعات وفاعلات مسرحيات عربيات، آتيات من فجاج البلاد العربية العميقة. جئن كخيوط ثرة بالالوان المتباينة، لينسجن من 6 الى 11 اكتوبر/تشرين الاول ملاءات فنية ترشح بصور المعاناة وأمل النساء في كل مواطن السلطة والقهر. حضرن ليحولن قاعات عروض «مركز الثقافة والتواصل» Pavillon ومن خلاله مركز المدينة الى فضاء يتردد فيه صدى لقائهن الحيوي، الحميمي الحار، المفعم بقضايا وهموم المرأة العربية من بغداد الى الرباط، من تونس الى حيفا، من بنغازي الى القاهرة وبيروت. في هذا اللقاء الثاني «الربيع العربي المسرحي»، الذي تحتضنه المدينة بعد سنتين للمرة الثانية ويحمل شعار «نهضة النساء»، مرت من خلاله المبدعات العربيات خطابات بالوان قزحية، بادوات تعبيرية متباينة مرفوقة بترجمة الكترونية جدارية الى الانسان الالماني. خطابات عن اوضاع المرأة العربية، عن الحب المحظور، عن ختان البنات، عن تحمل النساء تبعات عقم الرجال، عن الثأر، الذي يقف فوق القرابة وفوق الارحام، عن مخلفات الهجرة… عن ليل جنوب قاس، معاناة فضاؤها الجنوب المصري، زمنها كل العالم العربي. 
انها قصة معاناة العمات الاربع، اللاتي يستحضرهن المهاجر العائد الى الجنوب من خلال النبش في غور ذكريات مأساة حملتها مسرحية «ليل الجنوب» للكاتب شاذلي فرح، بلغة شاعرية طوعها المخرج ناصرعبد المؤمن، لتصبح رسائل اشواق الى الجنوب المصري، الى النوبة. 
هذا العمل الذي استهل به اللقاء النسائي، والذي اثار ردود فعل إيجابية في الإعلام الالماني، فقد كتبت جريدة هانوفر العموم : «بين التقليدي والشبكة الرقمية تتحدث مسرحية ليل الجنوب عن بؤس العلاقات الأبوية القديمة. مزيج مظلم من التخلف والقهر، فالنساء يعانين أكثر في مصر وليس في مصر وحدها من الزواج القسري والتشويه الجنسي، الانجاب الاجباري. فالمجموعة المصرية مسرح الغد لم تتحفظ في هذا العمل على شيء».

المفاجأة البغيضة
كان عرض اليوم التالي مفاجأة كبيرة بالنسبة للجمهور الالماني من جهة، والجمهور العربي المتمثل في المشاهدين العاديين او المشاركين في اللقاء المسرحي. عمل فرقة «مسرح الاكواريوم» من المغرب، هذا العمل المقتبسة فكرة اطاره عن مسرحية حوارات المهبل للكاتبة الامريكية إيفي إنستر، خلقت منها المخرجة نعيمة زيطان نسخة مغربية تحمل عنوان «مهبلي»، عنوان اضطرت لاحقا بسبب ضغوطات الجهات الممولة والاعلامية في المغرب، الى تحويله الى تسمية «ديالي» (ملكي). 
دعائم هذا العمل، كما صرحت مبدعة العمل زيطان تقوم على حوارات وشهادات ولقاءات مباشرة مع عدد كبير من النساء المغربيات، اللاتي تعرضن الى اعتداءات واجحافات مختلفة. فالعمل يعتمد دعامات خطاب يتراوح ما بين السخرية والمرارة في حدودها القصوى، يقدم صورة عن حالات تعاني منها المرأة بشكل خاص، مثل الاغتصاب، التحرش الجنسي، تعتيم المعرفة بالاعضاء التناسلية، قمع علاقة المرأة بجسدها الذاتي. نساء اغتصبن اثناء خروجهن من العمل، نساء اغتصبن من أزواجهن، نساء اغتصبن في طريقهن الى العمل.
ففي الوقت، الذي اعتمدت فيه نسخة العمل الالماني «حوارات المهبل»، الذي قدم مباشرة بعد العمل المغربي، وفي الامسية نفسها من طرف المجموعة الالمانية «مسرح الورشة»، على النص الكامل للكاتبة الامريكية إيفي انستر تحت ادارة المخرجة مارتينا فن بوكسن المعتمدة على تقنية الصورة الوثائقية والتسجيل الصوتي كأدوات رابطة بين الحدث الحكائي والحدث التسجيلي، الى جانب إطار سينوغرافي ينقل اجواء نسائية للفئة الاجتماعية الوسطى لمرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، اعتمد عمل «ديالي» على فضاء فارغ إلا من حبل غسيل علق عليه عدد من السراويل الداخلية النسائية. هذا الحبل ومحتواه يأخذ عددا من الاشكال التعبيرية، من خلال الممثلات الثلاث، اللاتي ينقلن الينا صورا وحالات من حمل وولادة ورضاعة الى غيرها من اشكال التعبير عن الحزن والفرح. لقد كانت جرأة الطرح في هذا العمل مفاجئة حتى بالنسبة للجمهور الالماني، ناهيك عن العربي، الذي يدرك مدى جرأة هذا الطرح في المغرب، إن كان في المانيا نفسها ورغم عرض هذا العمل منذ سنوات، لا زال يواجه معارضة كبيرة من خلال تناوله موضوع هذا العضو الحساس من جسد المرأة.

الماضي والحاضر الرصاصي
«فلم ابيض واسود» للفرقة الوطنية للتمثيل من بغداد مسرحية تتحدث عن فترة ليس فيها الوان. أم تبحث عن ابنها المفقود اثناء الغزو العراقي للكويت، من اجل اعادته الى العراق.
المرأة التي عاشت مأساة مماثلة، فقدانها زوجها المعارض، يقول مخرج العمل وكاتبه قحطان حاتم عودة، أثناء ورشة مسرحية قدمها لتلاميذ احدى الثانويات اثناء وجوده في هانوفر: «إنها حكاية واقعية جزؤها الكبير عشته كضابط سابق في الجيش العراقي. والابن، الذي يتحدث عنه العمل كان من بين الجنود اليافعين، الذين كانوا تحت إمرتي. فهذا الماضي والحاضر، الذي يجثم بكل ثقله الرصاصي على نفسية الانسان العراقي يشبه فيلما بالابيض الاسود لم يعرف لحد الان الوانا، واملنا ان يتحول قريبا الى فيلم ملون». حين تعثر الام في الاخير على ابنها يكون قد فقد عقله جراء السجون والتعذيب واصبح بالنسبة للام مجرد وجود شبيه بالعدم. 
اعتمد حاتم عودة في اخراجه للمسرحية على فضاءات يملؤها الضوء الباهت والضباب، اللذان يعكسان واقعا عتما تتعذر فيه الرؤية من اجل تبين مستقبل مجهول. هذه الفضاءات، التي تمت تجزئتها ذاتها الى بقع تضم الام، الضابط (حاتم عودة السابق)، الابن في شقي ازدواجية شخصيته بين القبول والرفض، تنساب من خلالها حوارات بين الصراخ في المتاهة والهمس الى حد السكون.

الاختلاء بالذات
على عكس عوالم عودة تطفح مسرحية «سنديانا» العمل المسرحي، الذي شاركت به الممثلة التونسية زهيرة بن عمار كممثلة، مخرجة وكاتبة، بمزيج من الحنين الى الماضي، الرؤية التي تحاول اختراق المستقبل، حديث عن القيود، التي تكبل المرأة التونسية والعربية، من خلال منظور الكاتبة. فقد كانت زهيرة بن عمار فورة امرأة فوق الخشبة، ورغم خضوعها من وقت قليل الى عملية جراحية في ساقها، فقد انتزعت اعجاب الجمهور الحاضر من خلال ادائها الحيوي. «سنديانا» عمل حملته الكاتبة والممثلة ابعاد التشابه بين المرأة وشجرة البلوط، ذات الشموخ والاصول الثابتة. انه الحديث عن الرقابة، الانحشار البوليسي في يوميات الانسان العادي، في احلامه، في لحظات اختلائه بذاته. انها اطلالة زهيرة بن عمار من خلال رقصها، غنائها شوقها الى النهضة العربية، رثائها لضياع حضارات من وادي الرافدين الى موريتانيا من خلال نسيج من الالوان والحضور الحيوي المرح فوق مساحة الركح.
هذا الاداء النسائي الفردي يلاقينا ثانية في مسرحية «الايام التي تراقص الليل» المقتبس عن رواية الكاتب الكنكولي كايا ماخلي والتي تحمل العنوان نفسه من اخراج المخرجة اللبنانية المقيمة في باريس سرين اشقر. لقد جسدت الممثلة الفرنسية ذات الاصول الافريقية اكنيس نويل امرأة يقتل زوجها، الذي قتل بدوره طفلتهما الوحيدة المهقاء (برص منذ الولادة). لانه يرى «انه من الصعب تزويجها مستقبلا»، فتغيب في متاهة التذكر والمرارة والاحباط، ساعية الى اشباع رغباتها الرجالية، غير انها كلما اوغلت في هذه الرغبة الجسدية يتعمق لديها الاحساس بالضياع الذاتي كامرأة ترغب في ان تعامل كانسان وليس كمادة استهلاكية. فقد ركزت سرين الاشقر على الاختزال في مجموع رؤيتها الفنية واختيارها الصعب لرواية شاعرية، جعلت منها جسرا يربط المعاناة النسائية في العالم الثالث بوحدة مصيرية. لقد فرض نص الرواية المحولة الى مسرحية، مهمة جد صعبة، سواء على مستوى الاداء او الاخراج، من خلال مقاطعه الشاعرية والايحائية، التي يصعب تجاوزها، إلقاء او نقلا فنيا فوق الخشبة. فالنص الثري بالرموز والاشارات، يفرض على المخرجة، كما على الممثلة، فك شفراته وتقديمه الى المشاهد في سياقه الروائي والمسرحي في آن واحد.

البيت لا يترك
بعد الاداء الفردي للعمل التونسي في صيغته المجتمعية، اللبناني في نظرته النفسية، يأتي عمل جد متميز في طروحاته السياسية التسجيلية الواقعية، «كبوتشينو في رام الله» للممثلة سلوى نقارة. هذا العمل المحور هو الاخر عن رواية الكاتبة الفلسطينية سعاد العامري «شارون وحماتي»، واخراج المخرجة الاسرائيلية نولا تشلتون البالغة من العمر اربعا وثمانين سنة. لقد استطاعت سلوى نقارة من خلال ادائها فوق بقعة رمادية كمثرية الشكل بطول خمسة الى ستة امتار، وبعرض حوالي ثلاثة امتار واختزال سينوغرافي متمثل في مقعد، حقيبة سفر وفستان عالق في الهواء، ان تنقل معاناة الحصار المضروب على حياة الشعب الفلسطيني اليومية تحت الاحتلال الاسرائيلي. نقلت عبر هذا العرض، الذي كان جهود عمل مشترك بين اللجنة المنظمة للقاء المسرحي بالبافيون وجمعية مبادرة فلسطين لمنطقة هانوفر، الى الجمهور، الذي حضره بكثافة، صورا حية لتلك المعاناة وذلك ببالغ الحيوية والشاعرية.. صورا لمضايقات الانسان الفلسطيني من عتبة المطار حتى اخر حبة زيتون على التراب الفلسطيني. هذه المذكرات، التي لملمت اطرافها الكاتبة سعاد العامري على مدى عشرين سنة، ترافقنا في كل المشاهد من دون لحظة ملل ولو عابرة.
فبكثير من السخرية والفرجة الهادفة توصلت سلوى نقارة الى تحويل الحدث الدرامي، التسجيلي الى واقع حي ملموس من دون الوقوع في خانات الشفقة والتباكي او الاحلام البعيدة عن الواقع. فمن خلال البقعة الرمادية يتجسد جدار الحصار المضروب على الانسان الفلسطيني، فصله عن ممتلكاته، غير ان ذلك الامل المبني على النضال اليومي في كل صوره الحياتية، يصر في نهاية العمل على الصمود والبقاء، ورغم كل الانهيار، يليه دائما صعود جديد. «الانسان لا يترك بيته مهما كان»، تقول سعاد العامري على لسان حماتها ام سليم.

مأساة قبل المسرح
هذه المعاناة، المجسدة على الركح من خلال اعمال نسائية متباينة عاشها واقعا ملموسا اعضاء فرقة المسرح الشعبي لمدينة بنغازي في رحلة شاقة بين مطار بنغازي والسفارة الالمانية في تونس العاصمة، وحيث انه لم تعد هناك سفارة المانية في ليبيا كان على الفريق ان يرحل غير مرة في رحلة آوديسية بحثا عن امكانية تأشيرة الحضور الى هانوفر، ليقدم لنا نموذجا مغايرا لمعاناة المرأة، من خلال مسرحية «ليسقط شكسبير». عمل يتناول ادوار المرأة في اعمال شكسبير، كما يراها مخرج العمل محمد الصادق، فهي دائما إما خائنة او ضحية. من هنا يعطي للمرأة دور القيام بثورة على المخرج الذي تعكسه الممثلاث الرافضات لادوارهن السلبية في اعمال شكسبير، ويتحولن الى فاعلات في النص المسرحي، ما يجعل منهن نساء يمسكن بخيوط اللعبة المسرحية في اياديهن.
ان كل هذه التجارب النسائية او المتناولة لاوضاع النساء في هذه البقع من الوطن العربي برزت في هذا اللقاء بصورة اكثر جلاء من خلال النقاشات، التي جاءت عقب تقديم كل الاعمال، حيث عبر مبدعاتها ومبدعوها عن الهوة السحيقة، التي لا زالت امام المرأة العربية، التي تكافح من اجل تخطيها وتجاوزها، والتي تحتاج الكثير من الجهد. فقد قال المشرف على اللقاء عبد الفتاح الديوري للمحطة التلفزيونية DW (الموجة الالمانية): «ان دور هذا اللقاء هو منح المبدعة العربية اطارا خارج الدول العربية، للتعبير عن همومها، من دون الخضوع لقيد الوصاية والرقابة. في زمن كثرت فيه الرقابات تحت اسماء مختلفة».

ادريس الجاي
القدس العربي

الاثنين، 20 أكتوبر 2014

مسرحية " انترفيو " تعيد الأمل بمستقبل واعد للمسرح العراقي

مدونة مجلة الفنون المسرحية



" انترفيو " تعيد الأمل بمستقبل واعد للمسرح العراقي
وسط حضور كبير ومتميز، عرضت دائرة السينما والمسرح بالتعاون مع مؤسسة النور للثقافة والإعلام ومنظمة التبادل الثقافي بين اوربا ودول الشرق الأوسط وشمال افريقيا (مينا) مساء اليوم الإثنين مسرحية ( انترفيو ) في قاعة المسرح الوطني وسط العاصمة بغداد .
مؤلفة مسرحية ( انترفيو ) آلاء حسين عكست في نص المسرحية المأخوذ عن الانتولوجي "عيون اينانا " لكاتبات عراقيات معاصرات ، عكست تأثير العادات والتقاليد على حياة المرأة العراقية وجسدت الواقع اليومي الذي تعيشه من خلال أوجه مختلفة جمعت فيها عناصر متعددة بين الميلودراما وأسلوب المقابلة الشخصية والحوار والرقص التعبيري الحديث.
وقد استطاع ممثلا المسرحية ألاء حسين وسعد محسن من التعامل مع جزئيات الحياة اليومية والمواطن وصدامها مع العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي تدفع بدورها المرأة الى زوايا مظلمة .
وتفاعل الحضور الكبير الذي شهدته قاعة المسرح الوطني مع المسرحية بشكل كبير، ورسم العرض الأمل بمستقبل موعود للمسرح الجاد الذي يحاكي الواقع العراقي .
يذكر ان مسرحية " انترفيو " كانت من اخراج أكرم عصام ، واستعراضات الفنان موشكان هاشميان من المانيا ، وتصوير الفيديو تم من قبل حيدر جمعة . 
هذا وحضر العرض السادة وكيلا وزارة الثقافة فوزي الأتروشي ومهند الدليمي وعضوا مجلس النواب السابق علي الشلاه ومجلس محافظة بغداد محمد الربيعي وعدد من المسؤولين في وزارة الثقافة وجمهور غفير من متذوقي الفن .

العلاقات والإعلام
مكتب وكيل الوزارة
20 / تشرين الاول / 2014

بث مباشر - مسرحية Free نمول - تونس



مدونة مجلة الفنون المسرحية
بث مباشر - مسرحية مجانية نمول - تونس



بث مباشر - مسرحية نمول مجانية - تونس

الهيئة العربية للمسرح تقيم الماتقى العربي لفنون الدمى وخيال الظل في تونس

مدونة مجلة الفنون المسرحية




















الهيئة العربية للمسرح تقيم الدورة الثانية من الملتقى العربي لفنون الدمى في تونس.
ندوات علمية و تجارب و ورش يشارك بها خمسون فنانا
الهيئة تكرم ناجي شاكر من مصر و محيي الدين بن عبد الله من تونس.
عقدت الهيئة العربية للمسرح الدورة الثانية من "الملتقى العربي لفنون الدمى" في الفترة من 20 إلى 25 من شهر أكتوبر 2014 في العاصمة التونسية، و كانت الهيئة قد عقدت الملتقى الأول في ديسمبر من العام 2013 في الشارقة، و هكذا تعمق الهيئة العربية بانعقاد الدورة الثانية منهجها في التعاون مع المؤسسات الفنية و الثقافية المعنية بالمسرح، إذ يأتي انعقاد الدورة الجديدة من الملتقى بالتتعقعاون مع مؤسستين مؤثرتين في المشهد المسرحي عامة و فنون الدمى خاصة و هما (المعهد العالي للفن المسرحي) و (المركز الوطني لفن العرائس) في تونس.
إن الانتقال بالفعل المسرحي إلى مناطق عربية مختلفة و الذي تنتهجه الهيئة في فعالياتها، إثراء لهذا الفعل من خلال اكتساب خصوصيات المكان الجديد و ايقاع فنانيه و وصول التفاعل إلى أكبر عدد من المسرحيين ، و المساهمة التي يشكلها انتقال الملتقى و ما يقدمه من إثراء للفعل المسرحي في تلك المنطقة.
و قد صرح اسماعيل عبد الله الأمين العام للهيئة بقوله :
"إن الهيئة العربية للمسرح و منذ النشأة عملت على أن تكون الشريك و الداعم لتفعيل المشهد المسرحي العربي في كل منطقة نأت أم قربت، وأمعنت النظر من خلال 300 عقلية مسرحية عربية عملت في خمس ملتقيات خلال عامي 2011 و 2012و وضعت استراتيجية عملها ، لذا كان من الطبيعي الالتفات بقوة إلى تلك الفنون التي أصبح بعضها آيلا للاندثار، و ذلك لقلة عدد الفنانين المشتغلين بها، أو لأسباب تتعلق بما لحق بهذه الفنون من إهمال و راء وهم أنها فنون لا تحمل قابلية الحياة في ظل المتغيرات التقنية.
لذلك لم يكن عقد الدورة الأولى في الشارقة موعدا لفعالية عادية أو عابرة، لقد كان إيذانا بانطلاق المسيرة نحو العمل الاستراتيجي  في إعادة الاعتبار لهذه الفنون في المشهد المسرحي باعتبارها فنونا حية ، و نعمل جميعا على استمرارها و تطورها، و نجعل منها جسورا  تربطنا بأناسنا ، و مجتمعاتنا، و جسورا تربطنا بالعالم من حولنا".
شهدت الفترة ما بين الملتقيين العمل بكل روية وثقة مستمدة  من وجود خيرة فناني الدمى و خيال الظل و صندوق العجب و الأراجوز و الحكواتي في الوطن العربي ، فقدمت الهيئة ورشا في فنون الدمى و خيال الظل ضمن مهرجان الإمارات لمسرح الطفل. وندوة فكرية في ذات المهرجان الذي أهدته عرضا من العروض المهمة في فنون الدمى "يالله ينام مرجان".
كما قامت تكليف الفنان الفلسطيني عادل الترتير بتصنيع نسختين من صندوق العجب بطرازين أحدهما نقال و الثاني متحفي تم اهداؤه لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي و بهذا تكون قد أعادت الصندوق للإمارات بعد 60 سنة من غيابه.
و أقامت ثلاث ورش في فنون الدمى و الحكواتي و الأراجوز، لفائدة الفنانين العرب المشاركين في مهرجان المسرح العربي – الدورة السادسة التي أقيمت في الشارقة من 10 إلى 1 يناير 2014.
كما أقامت سوقا للدمى بعنوان "العب و تعلم و امتلك دميتك" و ذلك ضمن فعاليات أيام الشارقة التراثية و على مدار اسبوعين، بمشاركة 11 فنانا من تونس و فلسطين و الأردن و سوريا.
و قامت الهيئة باصدار كتاب "مسرح العرائس" الذي ترجمه عن التشيكية الأستاذ سليم الجزائري من العراق و هو  يشكل إضافة هامة للكتب المختصة بفن العرائس و توظيفها في المسرح
هذا و تشتمل الدورة الثانية على برنامج عمل ثري ، إذ ستشهد ندوات فكرية و ورش تدريب و عروضا و تكريمات على النحو التالي:
• ندوة خاصة بالمصطلح و التعريفات الخاصة بهذه الففنون لوضعها بصيغة يتم الاتفاق عليها و توحيدها و تعميمها عربيا
• ندوات تبحث مستقبل هذه الفنون، و توظيفها في الفضاء التربوي و المدرسي، و تقديم تجارب خاصة لفنانين قدموا تجارب مهمة في هذا الصدد، يشارك في هذه الندوات كوكبة من الأكاديميين و الفنانين أصحاب التجارب.
• عقد ورشتين متوازيتين لفائدة فنانين من المغرب و الجزائر و تونس و ليبيا و مصر و السودان و اليمن و الإمارات و موريتانيا.
• عرض أربعة من المسرحيات التونسية في أمسيات الملتتقى.
• تكريم فنانين عربيين لهما مساهمات كبيرة في مجال فنون الدمى، و هما:
o الدكتور ناجي شاكر – مصر
o الفنان محيي الدين بن عبد الله – تونس.
• إقامة معرض لنتاجات الفنانين المكرمين.
و في معرض تعليقه على هذا برنامج عمل الدورة الثانية، قال الأمين العام :
إن فعاليات الدورة الثانية من الملتقى العربي لفنون الدمى هي خطوة جديدة في الاتجاه المفضي إلى العمل الاستراتيجي الذي تسعى إليه الهيئة و يأتي تطبيقا خلاقا لدعوة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حين قال : يا أهل المسرح، تعالوا معنا، لنجعل المسرح مدرسة للأخلاق و الحرية.

درماتورجيا العمل المسرحي و المتفرج للباحثين محمد سيف و خالد أمين

مدونة مجلة الفنون المسرحية

درماتورجيا العمل المسرحي و المتفرج للباحثين محمد سيف و خالد أمين














يعد كتاب: " درماتورجيا العمل المسرحي و المتفرج " للناقدين المسرحيين محمد سيف و خالد أمين من أهم المراجع المتعلقة بالدراسات المسرحية التي طالعتها في المدة الأخيرة ، إنه الكتاب رقم 29 ضمن سلسلة منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة الكائن مقره بمدينة طنجة المغربية ، و الذي – المركز – يشرف عليه الأستاذ الدكتور خالد أمين .
إن هذا الكتاب هو بحق من النوع الذي يخف حمله و تكبر قيمته العلمية ، و يغري بالقراءة الفورية لما فيه من كنوز فكرية ، حيث إنه يقع في 130 صفحة من الحجم المتوسط و ينقسم إلى فصلين كبيرين صدرهما الدكتور سعيد كريمي بعتبة على شكل مدخل لعالم الدراماتورجيا ، ثم جاء الفصل الأول من الكتاب بقلم الدكتور خالد أمين و هو بعنوان رئيسي : " الدراماتورجيا البديلة : الأشكال الخاصة بطلائع الألفية الثالثة " تناول فيه الباحث عدة مسائل و قضايا فنية مسرحية مهمة وضعت على بساط البحث و النقاش عددا من المسائل المتصلة بمسرح مابعد الدراما و التي أطلق عليها الباحث تعبيرا ربما يكون أكثر دقة و هو الدراماتورجيا البديلة ، و قد تمحورت فكرة الفصل حول النقاط الآتية :
- أرسطو و سطوة دراماتورجيا المؤلف .
- تناسج الدراماتورجيا .
- الدراماتورجيا البديلة : هل هي اتصال أم انفصال ؟
- المرتجلة – مابعد الكولونيالية ، و دراماتورجيا الانعكاس الذاتي .
- الدراماتورجيا البصرية و المنعطف الوسائطي.
- الدراماتورجيا البديلة في سياق الربيع العربي .
- دراماتورجيا نون النسوة : مسرحية " ديالي " و الحراك من أجل تأنيث الفرجة المسرحية .
- " دموع بالكحول " و المنعطف الإثنوغرافي في المسرح المغربي المعاصر .
- دراماتورجيا المثاقفة و إعادة كتابة الحداثة المسرحية
- خلاصات أولية .
و من خلال مطالعتنا لعناصر هذا الفصل ، فإننا نكتشف أهمية مصطلح الدراماتورجيا الذي أصبح يعد اليوم من أكثر المصطلحات شيوعا و تعبيرا عن جوهر الممارسة المسرحية ، حيث إنه يشير إلى مجموعة من القواعد و النظم و الأعراف التي تتحكم في عملية بناء النصوص الدرامية ، كما تمتد لتشمل مجال الإخراج المسرحي.
إنها إذن مفهوم متشعب يحاول الإحاطة بكل حيثيات الممارسة المسرحية من حيث كونها نصا له خصائصه و مقوماته ، و عرضا له تجلياته السمعية البصرية و طقوسه الفرجوية المتعددة ، و هذا بالإضافة إلى أن الدراماتورجيا الحديثة تختلف عن الدراماتورجيا الكلاسيكية في كونها لا تقصي من اهتماماتها جانب النقد المسرحي من حيث كونه تحليلا علميا منهجيا للمارسة الدراماتورجية.
لقد تأسس مسرح مابعد لدراما انطلاقا من التطور الذي شهدته مفاهيم الدراماتورجيا في المسرح المعاصر ، حيث إن الدراماتورجيا الكلاسيكية في تركيزها على النص تحيلنا على قواعد المسرح الأرسطي ، و القائمة على الالتزام بقانون الوحدات الثلاث ( الحدث و المكان و الزمان ) ، بينما نجد الدراماتورجيا الحديثة تراهن على خرق تلك المعايير والقواعد الأرسطية و كل الشعريات الكلاسيكية لإنجاز الفرجة و تحقيق التواصل مع الجمهور ، حيث نلاحظ أن الدراماتورجيا الكلاسيكية كبينية داخلية تهتم على الخصوص بالعقدة و العرض و الصراع و النهاية و البنية السردية للنص الدرامي ، في حين أن الدراماتورجيا الحديثة كبنية خارجية تهتم بسبل و وسائل الإنتاج على خشبة المسرح ، أي تهتم بكل عناصر العرض المسرحي .
و الحقيقة فإن الباحث الدكتور خالد أمين لا يتوقف عند التحليل النظري لمصطلح الدراماتورجيا و مفاهيمه المختلفة ، بل إنه يبادر إلى تقديم مقاربات تطبيقية من خلال دراسة بعض العروض المسرحية التي تختزن تجليات درامية تجريبية يمكن وضعها ضمن خانة مسرح مابعد الدراما ، و هو المسرح الذي يتسم بتخلصه من المعايير الأدبية الدرامية كشرط لوجود الحدث المسرحي .
إن مسرح مابعد الدراما يؤسس هويته على ردم الحدود بين الفنون و توظيف جماليات خاصة تنعكس في الاهتمام بالسينوغرافيا و الموسيقى ، و استثمار الجسد في الأداء المسرحي ، و التعامل مع الإنارة باعتبارها لغة فنية ، كما تنعكس في الصورة الثابتة أو السينمائية ، و اللغة على الخصوص التي ترصد البعد الاجتماعي و السياسي من خلال طابعها اليومي .
أما الفصل الثاني من الكتاب و الذي خطه الدكتور العراقي " محمد سيف " الباحث المسرحي المعروف و المقيم في باريس ، فقد جاء بعنوان " الدراماتورجي ، ماذا يعني ، و ماهي وظيفته ، ومواصفاته ، و أنواعه ؟ "
و الحقيقة أن المطالع على هذا الجزء من الكتاب لابد و أن يكتشف قدرة الباحث " محمد سيف " على التحليل الهادئ وفق تدرج منهجي ينم عن قدرته العلمية في الإحاطة بعوالم الدراماتورج ، حيث قدم في البداية دراسة التطور الدلالي لمفهوم الدراماتورج عبر المراحل التاريخية المختلفة ، و هذا قبل أن يقدم تحليلا وافيا للمفهوم المعاصر للدراماتورج و وظيفته الحديثة التي تعود إلى العالم " ليسينغ " الذي يعود إليه الفضل في فرض هذا المصطلح ضمن مجالات الدراسات المسرحية المعاصرة ، ثم تمتد عناصر هذا الفصل لتدرس هيئات مختلفة للدراماتورج ، و هذا قبل أن يفيض الباحث " محمد سيف " في دراسة قضية الدراماتورج في المسرح العربي انطلاقا من تجربته – محمد سيف – في العمل المسرحي مع المخرج الدراماتورج العراقي الشهير قاسم محمد و كذا الفاضل الجعايبي .
و صفوة القول فإن كتاب درماتورجيا العمل المسرحي و المتفرج للباحثين محمد سيف و خالد أمين هو بالفعل فتح علمي رائد في مجال النقد المسرحي العربي ندعو جميع المشتغلين بالدرس المسرحي لاقتنائه و مطالعته للاستفادة مما فيه من معلومات ثمينة .
حسن تليلاني

تهريج الإيطالي داريو فو يشعل النار في مسارح فرنسا

مدونة مجلة الفنون المسرحية

تهريج الإيطالي داريو فو يشعل النار في مسارح فرنسا

 عشق قديم يجمع بين جمهور المسرح الفرنسي، خاصة في العاصمة باريس، ونصوص الكاتب والممثل المسرحي الإيطالي داريو فو (جائزة نوبل للأدب سنة 1997)، ويحدث غالباً أن تتقاطع العروض على مسارح المدينة وضواحيها، أو في مدن كبرى أخرى مثل بوردو وليون ومرسيليا، خلال الأسابيع ذاتها.
وهكذا يعرض المسرح الموسيقي في ضاحية مونتروي، شرق باريس، مسرحية غنائية مستوحاة من فو، بعنوان «القمر والمصباح الكهربائي»، تتألف من فصلين، بإخراج كاتي بياسان وتمثيل باتريك دراي ولوشيانو ترافاغلينـــو، وتعتـــمد على صيغة متوازنة بين المسرح والكابــاريه، فتشهد الخشبة مزيداً من الأفراح والأتراح، التسلية الضاحكة والتأملات الفلسفية، الجدّ والهزل.
ويقول الممثلان إنهما انطلقا من الرغبة في تلحين وغناء نصوص داريو فو، واستكشاف ما تخفيه قبل ما تعلنه. عالم آخر؟ ربما، فخلف هذه الحكايات والأغنيات المستمدة من داريو فو يطهر الكائن الإنساني بكل تردده وإقدامه، وضعفه وقوّته، ومهازله ومآسيه. هنالك أيضاً أجواء فيللينية، نسبة الى المخرج السينمائي الإيطالي الشهير، يتبادل تطويرها مهرجان اثنان على الخشبة.
مسرح «رون بوان» في قلب الشانزيليزيه اختار ثلاثة نصوص من داريو فو وشريكته فرانكا راميه، هي «اليس في بلاد بلا عجائب» و»أعود إلى البيت» و»ثنائي منفتح»، لإعداد عرض واحد أخرجه ستوارت سيد، ويطرح في الجوهر سلسلة أسئلة: إلى أين انتهت «الثورة الجنسية؟» وهل وقعت، حقاً، في أي يوم؟ وما الذي تبقى منها؟ وأي ألغاز وأسرار تنطوي عليها كلمتا «رجل» و»امرأة»؟
وعبر الفكاهة الهادفة، والسخرية المريرة، واختلاط الرمز بالواقع، تناقش النصوص ما انتهى إليه الحبّ الطبيعي في عصر يشهد شاشات التلفزة وهي تعرض آلاف الأفلام البورنوغرافية التي تجعل الجنس ممارسة ميكانيكية، بعضها لم يعد يثير الغرائز بقدر ما يبعث على التثاؤب!
التهريج لا يغيب عن هذه العروض، بل هو ركن أساسي في فنّ داريو فو. وفي حوار مع صحيفة «لوموند» الفرنسية، كان الفنان الكبير قد كرّر اعتزازه بأن يحمل لقب «ملك المهرجين» والمشعوذين والمحتالين، الذين سخروا من البلاط الملــكي في العصور الوسطى وثأروا للعامة والفقراء، وردّوا لهم كرامتهم.
وقال إنه في ذلك يستلهم تراث أستاذه المهرّج الإيطالي الكبير روزانتي، «الذي لا يرقى إلى مستواه الكوميدي سوى أناس من أمثال موليير وشكسبير»، والذي تعلّم منه طرائق «تدمير وإعادة تعمير اللغة، واستخدام الكلمات التي لا توجد في أي قاموس آخر سوى ذاك الذي يبتدعه الشارع المقهور». في ما بعد سوف يهتدي النقد المسرحيّ إلى المصطلح الذهبيّ الذي يليق بهذا المسرحي الفذ: سيّد «التهريج الملحمي!».
كذلك فإن عروضاً كهذه، وسواها كثير، تثبت مجدداً أن داريو فـــو يتربع دائماً على عرش التهريج المعاصر، في طـــول العـــالم وعرضه، بلا منازع عملـــياً. إنه، أيضاً وأساساً، سيّد الكوميديا الهـــادفة اللاذعة التي جلبت وتجـــلب عليه سخط الساسة ورجال الدين وأساطين المافـــيا والمال والأعمال.
وأعماله الكوميدية أولاً هي لوحات في السيرة الذاتية تعتمد سرداً استعادياً تسجيلياً وتخييلياً كثيفاً يذكّرنا بفرادة أمثال مارسيل بروست في «البحث عن الزمن المفقود»، وآلان فورنييه في «مولن الكبير»، وإيتالو كالفينو في «أقاصيص ماركوفالدو».
وإذ كان داريو فو استحقّ جائزة نوبل بكلّ ما ينطوي عليه هذا الاستحقاق من معانٍ، فإن صياغة حيثيات القرار لم تكن أقلّ إنطواء على ما يدهش، بل ويدهش كثيراً في الواقع. فالأكاديمية اعتبرت أنّ فو «اقتفى خطى مهرّجي الملوك في القرون الوسطى، وألهب السلطة بسوط النقد، مسترداً بذلك كرامة المهانين والضعفاء». وتابع البيان يقول: «إذا كان من شخص يستحقّ صفة المهرّج بالمعنى الحقيقي لهذا التعبير، فإنه داريو فو. وبمزيج من الضحك والرصانة فتح أعيننا على مفاسد ومظالم المجتمع، وكذلك على المنظور التاريخي العريض الذي يمكن أن تُوضع فيه. وأعمال فو المتعددة الأوجه تبرهن على أنه فنّان ساخر، ولكنه بالغ الجدّية في الآن ذاته. واستقلال وصفاء رؤيته دفعاه إلى مجازفات خطيرة، عانى مباشرة من عواقبها، ولكنها في الوقت ذاته كفلت له استجابات هائلة في أوساط عريضة مختلفة».
ولا تُنسى تلك الصيغة الكوميدية المبتكرة العجيبة التي اختار أن تأخذها محاضرته ساعة استلام جائزة نوبل. وكما هو معروف، تقضي التقاليد العريقة السائدة في الأكاديمية السويدية أن يقوم الحائز على جائزة نوبل (في أي ميدان، وليس في الآداب وحدها) بإلقاء ما يسمّى «محاضرة نوبل»، وفيها يُنتظر من الفائز أن يقدّم خلاصة تجربته الشخصية في حقل نشاطه الإبداعي أو العلمي أو العملي الذي استحقّ عليه الجائزة. كما جرت العادة أن تحتوي المحاضرة على «رؤيا» فلسفية من نوع ما، تغطّي واقع وآفاق ذلك الحقل من النشاط وتدخل في أرشيف الأكاديمية الرسمي كوثيقة أساسية.
وبدل المحاضرة الموعودة، وصل داريو فو إلى ستوكهولم متأبطاً 25 رسماً كاريكاتورياً، أنجزها بنفسه على طريقة الرسوم المتحركة، واختصر فيها مراحل حياته الفنية، ومواقفه الأخلاقية والفلسفية، والمحطات التي مرّ بها وهو يشيّد أركان تجربته الفذّة كمسرحي مهرّج ساخر من «بَلاط» المؤسسة على اختلاف أنماطها. ثمّ وزّع تلك الرسومات على أعضاء الأكاديمية بوصفها… محاضرة نوبل للآداب لعام 1997!.
وليس غريباً أن يتواصل العشق بين داريو فو وجمهور المسرح في العالم بأسره، فهذا في نهاية الأمر هو المسرحيّ الكبير الذي لم تجد المافيا من وسيلة ناجعة للضغط عليه سوى اختطاف زوجته وشريكته في العمل المسرحي فرانكا راميه، وتعذيبها جسدياً. وهو الذي أنزلته الشرطة الإيطالية من خشبة المسرح أثناء العرض، لكي تقتاده إلى السجن بتهمة… الخروج عن النصّ المسرحي!.
وهذا هو المسرحي الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي الإيطالي وفي لجان يسارية متعددة للدفاع عن السجناء السياسيين، والذي سخر بشدّة من المؤسسة البابوية، ومن الأحزاب السياسية الإيطالية بيمينها ويسارها، ومن أوروبا الإمبريالية، ومن الولايات المتحدة (التي ظلّ ممنوعاً من دخول أراضيها طيلة عقود).
وأخيراً، هذا هو داريو فو المتعاطف، في الحياة كما على خشبة المسرح، مع المقاومة الفلسطينية التي كانت في مطلع السبعينيات بمثابة التجسيد الأقصى لـ«الإرهاب المطلق» في أنظار أوروبا والغرب إجمالاً.
Super User
القدس العربي

جاك ليكوك وشعرية الجسد / د. جميل حمداوي

مدونة مجلة الفنون المسرحية
مقدمــــة:
يعتبر جاك ليكوك Jacques Lecoq من أهم المخرجين المعاصرين الذين أرسوا الإخراج المسرحي على أساس الواقعية الجسدية وشعرية الحركة، ويعني هذا أن جاك ليكوك من المخرجين الذين اهتموا كثيرا بفن الجسد وبلاغة الحركة ومسرح الألعاب البدنية والرياضية. ومن ثم، يتميز مسرحه بالديناميكية الأدائية ودراسة الإشارات اللفظية والإيماءات الصامتة والكوريغرافيا البصرية والتجريد الميمي.
وقد استطاع جاك ليكوك بكل مهارة ودراية احترافية أن يجعل من الركح المسرحي حلبة للصراع العضلي وفضاء للتعبير الديناميكي الذي ينصب على إظهار مقومات الجسد بمافيه الوجه واليدين وباقي أعضاء الجسم كله، كما ركز كثيرا على سيميولوجية الحركة والإشارة داخل العرض السينوغرافي من أجل خلق مشاهد فنية وجمالية رائعة ومثيرة تشد بلب المتفرج وتسحر بصره وتأخذ بوجدانه.
والجديد الذي أتى به جاك ليكوك هو أنه أدخل الرياضة البدنية والألعاب العضلية في عالم المسرح، وأعطى الدور الكبير للصمت والحركة والقناع على حساب اللفظ من أجل تغيير المسرح الأوربي الذي كان مرتبطا أيما ارتباط بالكلمة الحوارية، و تشبه ثورة جاك ليكوك التجديدية ما قام به كل من جاك كوبوه وأنطونان أرطو حينما رفضا المسرح الغربي ودعيا إلى مسرح حركي بديل.
1- من هو جاك ليكوك؟
ولد الفرنسي جاك ليكوك  Jacques Lecoq بباريس في 15 دجنبر 1921م وتوفي في19 يناير 1999م، ويعرف جاك ليكوك بكونه ممثلا ومخرجا ورياضيا وكوريغرافيا وبيداغوجيا.
ويعد أيضا من كبار الأساتذة المعاصرين الذين اهتموا بتدريب الممثل في القرن العشرين في مجال الميم المسرحي والشقلبة البهلوانية والأقنعة والكوميديا الهزلية وتشغيل الراوي في المسرحيات المنصبة حول التراجيديات القديمة.
بدأ جاك ليكوك حياته المهنية أستاذا للرياضة والتربية البدنية ، وعرف بحبه للعدو الريفي والسباحة،، وتعلم التمثيل في فرقة جان داستيه Jean Dasté، واستفاد كثير من الكوميديا الإيطالية ” دي لارتي ” على مستوى الجسدي والحركي.
واهتم جاك ليكوك كثيرا بفلسفة القناع ودوره السيميائي في المجال المسرحي والسينوغرافي، وتوصل مع صديقه النحات الإيطالي أمليتو سارتوري Amleto Sartori إلى إبداع ما يسمى بالقناع المحايد .
هذا، وقد وجهه صديقه داريو فو Dario Foإلى الاهتمام بالكوريغرافيا وشعرية الحركة والجسد؛ مما أهله هذا الأمر لإخراج مجموعة من التراجيديا اليونانية على ضوء الكوليغرافيا المعاصرة و بلاغة الجسد والتعبير الحركي.
وقد أسس جاك ليكوك سنة 1956م بباريس المدرسة العالمية للمسرح والميم، وقد تولى فيها التدريس وتدريب الطلبة وهواة الدراما والكوليغرافيا.
وفي سنة 1977م، أنشأ ليكوك مختبره LEM لدراسة حركات الجسد ، والبحث عن علاقات  الإيقاع  والفضاء المشهدي بالسينوغرفيا الركحية.
2- مدرسة جاك ليكوك:
تخرج من مدرسة جاك ليكوك كثير من عشاق المسرح وهواة الدراما والكوريغرافيا، ومن بين هؤلاء أريان منوشكين Ariane Mnouchkine التي اقترن اسمها بمسرح الشمس، وفيليب أفرون Philippe Avron ، ولوك بوندي Luc Bondy، وكريستوف مارتالير Christoph Marthaler ، وياسمينة رضا، ومومن شانزMummenschanz …واليهودي عميرام أتياس وآخرين…
وتضم مدرسة ليكوك كل من يرغب في معرفة شعرية الجسد، ويريد تعلم تقنيات التمثيل والتشخيص والإخراج المسرحي والتعرف على نظريات المسرح وطرائق الإخراج والكتابة الدرامية وبناء السينوغرافيا وتأثيث الركح.
ويقول الدكتور شاكر عبد الحميد عن هذه المدرسة:” أنشأ ليكوك مدرسته الخاصة لتدريب الممثلين عام 1956م في باريس، وقد كان ليكوك يقول: إن الممثل يكتب بجسده في الفضاء المسرحي، مثلما يكتب المؤلف المسرحي بقلمه على صفحة بيضاء، وربما لأنه بدأ حياته لاعبا رياضيا، فإنه كان مهتما بالقدرات الخاصة للجسد الإنساني. ومن ثم، فإنه خلال اهتمامه بالمسرح وتطويره لأساليبه المسرحية كان يشير كثيرا إلى أن أي حركة تقوم بها تحمل معنى ما، سواء كنا نقصد ذلك أو لانقصده، وكذلك أن الدافع الجسمي، دافع الحركة والتعبير الحركي، هو من الأمور الملازمة على نحو أصيل لتفكيرنا وانفعالاتنا وأداءاتنا بشكل عام”.1
ويدرس الطلبة في مدرسة ليكوك سنتين متتابعتين: ففي السنة الأولى يتم التركيز على ملاحظة حركات الناس ودراسة سيكولوجيا الشخصية. أما الدروس فتنصب حول استكشاف عالم الأقنعة والألعاب البهلوانية والشقلبات السيركية وفنون الصراع وتحليل الحركات وتحديد دلالاتها السيميائية والرمزية.
كما يتم الاهتمام بالميم والألعاب العضلية والفرجوية، وتمثيل الحياة عن طريق المحاكاة والتقليد واللعب ، ودراسة القناع من خلال ثلاث خاصيات أساسية وهي: الصمت والهدوء والتوازن، علاوة على دراسة الطبيعة في علاقتها الجدلية بالشخصية من خلال التركيز على العناصر و المواد ، والإضاءة والألوان، والنباتات والحيوان.
وتركز الدراسات النظرية على  الأقنعة وأدوارها الأيقونية والتعبيرية والوظيفية والبدائية.
كما يتم الاهتمام بتدريب الشخصيات على المواقف الدرامية ودراسة تصرفاتها ورغباتها وأهوائها.
ويدرس الطالب أيضا على ضوء رؤية ديناميكية الفنون الجميلة كالشعر والرسم والموسيقى في علاقة هرمونية بمسرح الأشياء وتحولاته الزمانية والمكانية.
وعلى مستوى التعلم الذاتي، يطلب من التلاميذ كل أسبوع توظيف خيالهم من أجل تحقيق إبداعاتهم داخل الجماعة، وتعرض أعمالهم في نهاية الأسبوع أمام مجموعة من الأستذة الذين يخضعون إنتاجاتهم للمناقشة والتقويم.
ويطلب منهم أيضا إنجاز أبحاث ميدانية حول عادات الناس وتصرفاتهم في الأماكن الآهلة والمزدحمة بالبشر استعدادا لتشخيصها فوق خشبة المسرح لإثارة الجمهور واستفزازه.
وتخصص السنة الثانية للإنتاج الإبداعي من خلال استثمار ما درسه الطالب في السنة الأولى في مجال  المونودراما، والكوميديا الهزلية، والتراجيديا ، والتهريج البهلواني، والكوميديا الإنسانية…
ويدرس الطلبة كذلك لغة الحركات، والبانتوميم، والحكايات الميمية، وتشخيص المشاعر على ضوء التمسرح الميلودرامي ، والتدريب على الكوميديا الإنسانية المقنعة والكوميديا الهزلية المجتمعية والفانطاستيكية  والكروتيسكية، والتمثيل في شكل جماعات وفرق ، ودراسة تراجيديا الراوي والبطل،وتمثل تقنيات المهرج والبهلوان السيركي والمسرحي مع استيعاب قواعد الكوميك.
ولا ننسى أيضا التعمق في دراسة النصوص المسرحية الكلاسيكية والمعاصرة مع التركيز على الكتابة المسرحية ومقومات الدراماتورجيا الدرامية.
مشهد مسرحي جماعي
وعلى المستوى الإنجاز الشخصي، يعرض الطلبة أعمالهم على المدرسين في نهاية كل أسبوع، كما تعرض أعمال الطلبة المنجزة أيضا على الجمهور كل ثلاثة أشهر.
وفي نهاية السنة الدراسية، يقدم الطلبة عرضا مسرحيا محددا من حيث الموضوع والوقت لمعرفة قدراتهم الكفائية في مجال المسرح والدراما .
وعليه، فمدرسة جاك ليكوك تستعمل بشكل بارز تقنية التكنيك الأكروباتيكي من خلال الجمع بين أسلوب إتيان دوكرو وأسلوب جان داست.
ومن ثم، تتميز المدرسة الليكوكية ببلاغة الجسم وديناميكية العضلات ، وتنطلق من شعرية الجسد وبلاغة الحركة و التركيز على الشعار الحيوي: ” فلنتحرك جميعا” فوق خشبة المسرح.
مدرسة جاك لكوك
أقنعة ليكوك
تدريب الممثلين حركيا
3- مؤلفات جاك لكوك:
من المعروف أن لجاك ليكوك مجموعة من الدراسات النظرية والتطبيقية التي تعرف بمدرسته المسرحية والإخراجية بله عن دروسه التي كان يقدمها لطلبته حول شعرية الجسم وبلاغة الجسد والحركة.
ومن أهم مؤلفات جاك ليكوك البارزة كتابه:” مسرح الميم والحركة” الذي ترجم إلى عدة لغات ومنها: اللغة الإنجليزية.
كما ألف كتابا آخر بعنوان:” شعرية الجسد le corps poétique” يشرح فيه نظريته المسرحية وتصوره الميزانسيني القائم على بلاغة الجسد والواقعية الجسمية والحركية.
وكان ليكوك ينتقل من بلد إلى آخر ليلقي مجموعة من دروسه النظرية والتطبيقية حول شعرية الجسد والحركة الديناميكية.
4- مصادر مسرح جاك ليكوك:
تأثر جاك ليكوك بالميم (التمثيل الصامت) المعروف قديما وحديثا، فطوره على ضوء أساليب تقنية معاصرة استوحى فيها نظريات أساتذته المبدعين كجاك كبوه Copeau، وفرانسوا ديل سارتو Francois Del Sarto (1811-1871م)، وإتيان دوكرو Etienne Decroux، وإليان غويو Eliane Guyon ، وجان داست Jean Daste، وماريا هيلين داست Marie Helene Daste  ، وهوراتسيو كوستا، وغابرييل كوزان Gabriel Cousin.
ويلاحظ أيضا أنه تأثر كثيرا بمارسيل مارسو الذي قال:” إن الحركة الإيمائيةMime هي جوهر المسرح، كما أن مارسو هذا سيؤسس عام 1978- في باريس- ما سماه ” مدرسة الميمودراما” أو مدرسة الدراما الإيمائية”، وقد خصصها للتعلم والتدريب المناسبين في هذا المجال “.2
كما تأثر جاك ليكوك بالفارس والسيرك الغربي وبفن كوميديا ” دي لارتي” وطريقتها الارتجالية والكوميدية والحركية، كما استوعب مقومات المسرح الأنتروبولوجي الأفريقي والآسيوي والأمريكي.
5- مفهوم جاك ليكوك للممثل:
من المعروف أن هناك ثلاثة نصوص أساسية في مجال المسرح: نص المؤلف ونص المخرج ونص المتلقي، بيد أن جاك ليكوك يتحدث عن نص جديد وهو نص الممثل؛ لأنه يكتب نصه عن طريق الحركة والجسد مستعملا في ذلك طاقته التشخيصية الذاتية وذكاءه الفردي الخاص، وعبقريته  الحدسية في توليد الحركات الإبداعية المناسبة لسياقات التمثيل والتشخيص الدرامي.
تشخيص حركي
ومن هنا، فالممثل الحقيقي حسب ليكوك هو الذي يشغل جسده بطريقة رياضية وأكروباتيكية ، ويحسن الصراع الجسدي، ويتحكم في إيقاع بدنه في تناغم مع الفضاء السينوغرافي. كما أن هذا الممثل مطالب بمعرفة الميم والاشتغال الجيد على الأقنعة و الكوميديا الهزلية والتهريج ، وهو مطالب أيضا بإتقان فن المحاكاة والسخرية والباروديا والألعاب السركية والشقلبة المسرحية واللعب البهلواني.
ويشترط فيه كذلك حسن التموقع الفردي والتموقع الجماعي على خشبة الركح. ويعني هذا أن الممثل عند ليكوك قد أصبح لاعبا رياضيا ومصارعا بدنيا يوظف جسمه ولياقته بطريقة درامية لإقناع الجمهور والتأثير عليه.3
ويبدو لنا من كل هذا أن طرائق تدريب الممثل كما طورها جاك ليكوك على امتداد ثلاثين سنة أو يزيد عبارة عن أساليب :” غير مألوفة وجديدة في تشجيع الممثل على اكتشاف أسلوبه الخاص، بدلا من فرض أسلوب معين في الأداء عليه. وقد طور ليكوك أساليبه هذه في ظل أفكار تنامت في فرنسا في بداية سبعينيات القرن العشرين ، فحواها أنه من المهم التركيز على العملية المسرحية أكثر من الاهتمام بالناتج فقط، أي ضرورة الاهتمام بالعملية التي يتطور من خلالها النص المسرحي وليس المنتج النهائي الذي يؤدي أمام الجمهور. وقد تطلب ذلك أن يعاد تعريف مفهوم النص في المسرح فقيل: إن ذلك التعارض الثنائي القديم الذي يميز بين نص الكاتب وأداء الممثل لم يعد تمييزا مقبولا، وإن الممثل نفسه يقوم بتوليد نصه الخاص، وإن هذا النص، خاصة عندما يفهم جيدا، وعندما يندمج مع الكلمات والحركة والإيماءة والرقص والموسيقى والإضاءة وغيرها من المكونات المسرحية سيكون له تأثيره البالغ والمهم في الجمهور4.
ويقصد بهذا أن أهم نص مسرحي ليس هو نص المؤلف الذي يمكن الاستغناء عنه، بل هو نص الممثل الذي يحوله عن طريق الحركة الحية إلى عرض سينوغرافي ساحر ورائع.
إذا، فبمجرد:” بداية الأداء قد يكتب نص جديد، وإن الارتجال والإيماءات الحرة أو الموجهة، قد تكتب نصا خاصا، يؤدي، تكون ولادته الأولى والوحيدة مع بداية الأداء، من دون نص مكتوب سابق، وقد تكون له ولادته الثابتة إذا كان هناك نص مكتوب يمثل نقطة الانطلاق لهذه الولادة الثانية على خشبة المسرح.”5
يستند تدريب جاك ليكوك للممثل إلى الحركة والإيماءة كأساس للعمل، وينتقل الممثل من الدراما الميمية إلى الكلام الحواري، ويستلزم تدريبه الميمي أن يراقب جيدا الطبيعة التي تحيط به ويلاحظ أيضا الحياة الاجتماعية للناس عن طريق الجسد الذي يستعمله الملاحظ في الاحتكاك بالآخرين والاتصال بالطبيعة.
ومن هنا، يتحدث ليكوك عن الميم الديناميكي والجيودراماتيك، وتدريب الممثل على أداء التراجيديات القديمة والكوميديا دي لارتي والبانتوميم والميلودراما.
ويركز ليكوك في تدريب ممثله على التجمهر ولعبة القناع  والتهريج الدرامي وتوظيف عضلات الجسم وشعرية الجسد في حركة متناسقة وهرمونية منسجمة مع إيقاعات السينوغرافيا المسرحية وأنغام الموسيقى الموحية.
التشخيص البهلواني
5- التصور الميزانسيني عند جاك ليكوك:
يستند التصور الميزانسيني ” الإخراجي” عند جاك ليكوك على الاهتمام بشعرية الجسد في مجال المسرح من خلال التركيز على الميم والبانتوميم والكوريغرافيا وحركة التهريج والشقلبة السيركية وتوظيف الأقنعة الموحية ودراسة الراوي علاوة على البحث في الحركات الدرامية وتشريحها بدقة دلالية وسيميائية وأيقونية.
كما ركز جاك ليكوك على الفضاء الركحي والإيقاع الدرامي والحركي في علاقتهما بالسينوغرافيا الجسدية أوسينوغرافيا الكتل البشرية. ومن هنا، تتحول السينوغرافيا المشهدية عند ليكوك إلى فيلم حركي وفضاء للمبارزة والمصارعة القتالية وملعب للرياضة البدنية ومجال لفنون القتال ومرقص للجسد المتحرك بحيوية ديناميكية على أمواج الموسيقى الموحية والإضاءة الخافتة والمتوهجة فنا وجمالا.
ويهتم جاك ليكوك بدراسة الوجه واليدين وحركات العضلات الجسمية وتقنيات التحرك والمشي وتموقع الرجلين مع التركيز على النظرات والحركات الأيقونية والإشارات الميمية واللغات الجسدية ومختلف الألعاب البهلوانية والسيركية والتهريجية والتجمهر الجماعي والتشخيص الكوميكي الفكاهي.
كما يهتم أيضا بالمحاكاة الصادقة العميقة الجذور التي تمتد إلى :”ماوراء التشابه البسيط في الجسم أو الصوت، تمتد إلى ماوراء التشابه الخاص في الشكل الخارجي، إلى المحاكاة الخاصة العميقة للمعنى، وهي محاكاة تمتد من أشكالها البسيطة التي تتمثل في سلوك الطفل التلقائي إلى المحاكاة العميقة التي نجدها لدى الممثل أو في الفن عموما، المحاكاة هنا ليست هي المحاكاة السطحية المرآوية الساذجة، بل المحاكاة التي تقوم على أساس الخيال وعلى أساس القرب من عمق الشخص الذي تتم محاكاته ومن جوهر انفعالاته وأفكاره أيضا، جوهره الذي قد لايكون واضحا ظاهرا من خلال شكله الظاهري وأدائه الواضح، بل من خلال ما قد يكون كامنا وراء السطح وخلف المظهر.هنا نقترب أكثر من مفهوم المحاكاة الإيمائية المحاكاة والمحاكاة التنافسية أي المحاكاة بقصد الإتقان والإضافة والتفوق”.6
شعرية الجسد
وعلى أي حال، فهذه الطريقة التي ابتدعها جاك ليكوك مخالفة لطريقة قسطنطين ستانسلافسكي وأستوديو الممثل لكونها تركز بشكل أساسي على طاقات الممثل الجسمية وشعرية جسده وحركاته الذاتية ومقوماته العضلية والبدنية،” فمع تزايد اهتمام المخرجين المؤدين والجمهور بالإبداع الخاص بالممثل، تزايد الشعور بالحاجة إلى استكشاف أساليب مختلفة في التدريب للممثلين. وقد شعر البعض أن أسلوب ستانسلافسكي لن يكون مفيدا بدرجة كبيرة بالنسبة إلى الممثلين الذين يحاولون خلق ( إبداع ) مادتهم الخاصة، أسلوبهم الخاص، بدلا من البداية من نص مكتوب. هنا، كانت أفكار ليكوك أكثر إلهاما. هنا، اكتشفوا قدرا كبيرا من الإيماءات والتعبيرات الجسدية التي تمثل تراثا ثريا يعود إلى أساليب متنوعة خاصة بالبانتومايم (التمثيل الصامت) والكوميديا الارتجالية (كوميديا دي لارتي)، وفن المايم وفناني المايم الحديثين في فرنسا خاصة في بداية القرن العشرين، إضافة إلى عالم الأكروبات والمهرجين ومسرح الأقنعة القديم والحديث والكوميديا بأنواعها، وغيرها من الأساليب التي تعتمد على الحركة.”7
وينبني الإخراج المسرحي عند ليكوك على تعديل نص المؤلف ليتلاءم مع شعرية الجسد وتفاصيل الكوريغرافيا الهرمونية. وبعد ذلك، ينتقل إلى كتابة الممثل الجسدية من خلال تدريبه على قوانين الحركة واللعب والشكل والفضاء. ويعني هذا أن النص الدرامي ينبغي أن يكون نصا جسديا ميميا ومقنعا يقوم على اللعب الأكروباتيكي وتوظيف تقنيات الصراع والمبارزة واللعب البهلواني واستعمال السخرية والباروديا والتهريج والفكاهة الهازلة. وتساهم السينوغرافيا الإيقاعية والضوئية والفضائية في إثراء السياقات الجسدية للممثل وتشكيلها فنيا وجماليا ودراميا.
وقد كان ليكوك في تصوره الإخراجي يستكشف:” قوانين الحركة في المسرح، وفي الحياة بشكل عام،  حركة الجسم المرتبطة بانفعالاته ومشاعره المتنوعة وعلى أساس مجموعة من التجارب وعمليات التجريب بالجسد ، وقد كان يسعى دوما باحثا عن طرائق لاكتشاف الأبعاد الخيالية والشعرية للحركة، إضافة إلى أبعاد هذه الحركة الجسمية وطرائقها المتنوعة في التعبير أيضا، حيث كانت الإيماءة هي أساس الأداء والخيال المسرحي لدى ليكوك.
هكذا ، فإنه بينما كان ستانسلافسكي يؤكد ” الواقعية النفسية” للأداء، فإن ليكوك يؤكد الواقعية الجسمية والحركية له،أي قدرة الحركة على التعبير حتى لو كانت صامتة، فاللغة هنا لغة الإيماءة التي تقوم على أساس التحرير للخيال الجسدي للمثل كما أشارت أريان منوشكين، وقد كانت شديدة التأثر في مسرحها بأفكار ليكوك”.8
التدريب الحركي
يشغل جاك ليكوك ديناميكية الجسد في العمل المسرحي باعتبار أن الجسد هو العنصر الحي الأساسي في الإنسان، فيتم  نقل كل مايتحرك إلى المسرح عبر الجسد ومكوناته الرئيسة، كما يطبق جاك لكوك القوانين العالمية للحركة الجسدية في ميدان المسرح وتدريب الممثل.
وتستفيد منهجية جاك ليكوك من جميع التقنيات والتصورات الإخراجية المسرحية قديما وحديثا ، ويحاول ليكوك تجديدها وعصرنتها وقراءتها على ضوء الحاضر باستغلال شعرية الجسد وبلاغة الحركة وتقنيات الكوليغرافيا. كما تمثل ليكوك التكنيك الكروباتيكي وفن الميم الذي قال عنه:” ليس هناك شكل آخر للميم، فالميم هو كل شيء و قبل كل شيء في المسرح”.
ويمكن اختزال التصور الميزانسيني لدى جاك ليكوك في الخطوات الموالية:
* الانطلاق من نص مكتوب أو مرتجل أو حركي؛ لأن ليكوك لايستغني عن اللغة المكتوبة؛
* إخضاع النص المنتقى لدراماتورجية الجسد والكوريغرافيا التعبيرية؛
* تدريب الممثلين على الأداء الإيمائي والعضلي والرياضي؛
* الانطلاق من الواقعية الجسدية لتجريب طاقات الممثل الحيوية والديناميكية؛
* اكتشاف  الأبعاد الخيالية والشعرية للحركة؛
* تحرير الخيال الجسدي للممثل؛
* ربط الأداء الحركي بالمحاكاة والخيال والارتجال؛
* المزاوجة بين اللغة اللفظية واللغة الصامتة، بيد أن اللغة المتلفظة قاصرة وعاجزة عن الأداء مقارنة مع لغة الجسد وشعرية الحركة؛
* الاستعانة بالخيال الجسدي لتطوير قدرات الممثل على التمسرح والفعل الدرامي؛
* ملاحظة الممثلين لحياة الناس ومعايشتها بصدق في كل ثرائها وتجلياتها؛
* دراسة الحركة الجسدية تحليلا وتشخيصا؛
* تطويع الحركية الجسدية مع سينوغرافيا الركح؛
* التركيز على السينوغرافيا الجسدية والحركية؛
* الاهتمام بفن المقاتلة والصراع والتهريج والكوميك والميم والشقلبة السيركية؛
* توظيف الرياضة البدنية والأقنعة المحايدة في العروض المسرحية؛
* فهم العالم وتفسيره عن طريق الجسد والحركة.

توظيف الرياضة البدنية في المسرح
6- مكانة جان لكوك المسرحية:
من المعلوم أن لجاك ليكوك مكانة هامة في تاريخ الإخراج المعاصر، والدليل على ذلك أنه استدعي مرات عدة من قبل الكثير من دول العالم ليقدم محاضرات حول نظريته المسرحية التي تسمى بشعرية الجسد أو بلاغة الحركة أو الواقعية الجسدية أو مسرح الإيماءة أو مسرح القناع.
و يعد أيضا من مؤسسي بيداغوجيا المسرح التي أرسي دعائمها على التكنيك الأكروباتيكي وفن الميم والارتجال والرياضة البدنية.
وتتجلى مكانته الكبرى في تأسيس السينوغرافيا العضلية والمشهدية البصرية الكوريغرافية على أسس علمية وفنية جديدة تنفتح على السيرك والرقص والباليه والسينما والتنشيط والمسرح والرياضة البدنية وفنون القتال والمصارعة.
ومن الآثار الدالة على قيمة جاك ليكوك ومكانته الهامة في المسرح الغربي أنه حاول أن يخلص المسرح العالمي من إسار الكلمة اللفظية والحوارات اللغوية واستبدال كل ذلك بالصمت والميم والبانتوميم والألعاب الرياضية وفنون المقاتلة والمبارزة. علاوة على كونه  ساهم في تكوين مجموعة من الأطر المسرحية من ممثلين ومخرجين ومنشطين ومدربين ومدرسين في مجال المسرح وأخص بالذكر المخرجة آريان منوشكين صاحبة مسرح الشمس بباريس.
لقطة مشهدية عضلية
7- تقويم تجربته المسرحية:
من أهم الملاحظات التي يمكن الخروج منها بعد تأملنا في تجربة جاك ليكوك  التنظيرية والتطبيقية أنه حول المسرح إلى كوريغرافيا عضلية ورياضة بدنية ومصارعات قتالية وصمت حركي ميمودرامي ، بيد أن المسرح تعبير لغوي أكثر مما هو تعبير جسدي، وحوار لفظي أكثر مما هو كوريغرافيا ولعب جسمي وعضلي.
وعلى الرغم من هذه الملاحظات الهينة، فإن جاك ليكوك أتى بنظرية درامية جديدة ويمكن حصرها في بلاغة الجسد أو شعرية الحركة أو الواقعية الجسدية.
خاتمــــة:
وخلاصة القول: يعتبر  جاك ليكوك مخرجا فرنسيا متميزا في تاريخ الإخراج العالمي بما قدمه من نظريات وتطبيقات ميزانسينية توحي بالتجديد والإبداع والحداثة وبالضبط حينما ربط تشخيص الممثل بالتربية البدنية واللعب الفيزيائي العضلي. وبالتالي، يرتبط جاك ليكوك أيما ارتباط ببلاغة الحركة وشعرية الجسد.
وإذا كان المخرج الروسي قسطنطين ستانسلافسكي قد بلور ما يسمى بالواقعية النفسية، فإن جاك ليكوك قد أوجد نظرية جسدية تسمى بالواقعية الجسدية التي تستند إلى تطويع الجسد بطريقة ديناميكية لينسجم مع إيقاعات الموسيقى وجماليات السينوغرافيا المشهدية.
ومن هنا، يمكن القول بأن جاك ليكوك سيبقى خالدا في أرشيف المسرح الغربي بسبب تأسيسه لبلاغة الجسد وشعرية الحركة ولعبة الميم والبانتوميم.
المصادر والمراجع:
1- د. شاكر عبد الحميد: الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد:360، فبراير 2009م؛
2-A Regarder. Lecoq.J.: Theatre of Mime and gesture. Translated by Dvlid Bradly et.al.London: Routledge, 2006.

الأحد، 19 أكتوبر 2014

مسرح فيزيائية الجسد

مدونة مجلة الفنون المسرحية
ماهو مسرح فيزيائية الجسد؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من الاشارة اولا الى ان المسرح منذ نشأته الأولى- القرن الخامس قبل الميلاد وتحديدا عند الإغريق- وخلال تطوره عبر السنوات المتعاقبة وظهور المدارس المسرحية المتنوعة فكرا وشكلا كان قد حمل في بنيته العضوية جزءا من مفهوم مسرح الجسد حيث يتجلى ذلك في العنصريين الاساسيين المكونين لشرط العرض المسرحي الا وهما العرض والجمهور. في العرض،يقوم الممثل المسرحي (الكائن الحي) الموجود على الخشبة بمجموعة أفعال صوتية وحركية وايمائية، والعنصر الثاني أي الجمهور فهو ايضا يقوم بجموعة افعال حركية وصوتية تبدأ من لحظة مغادرته البيت حتى وصوله الى المسرح ويستمر الفعل اما بالتصفيق والهتاف في حال اعجابه بالعرض او الاستنكار والاستهجان في حال حدوث العكس. اذن فيزيائة الحركة وفيزيائية الصوت هما جزء من تكوين المسرح تاريخيا.
 احتل النص على مدى العصور المساحة المسيطرة الكبيرة (باستثناءات قليلة سآتي على ذكرها لاحقا) بين عناصر الإنتاج المسرحي التي تشمل بجانب النص:الممثل، الإضاءة، الديكور، الملابس والاكسسوارت، الموسيقى، والمؤثرات السمعية والبصرية.لقد حاول الكثيرون من المنشغلين في التجربة المسرحية بتخصصاتهم المختلفة في بداية القرن العشرين إيجاد معادلة تخرجهم من مأزق غلبة وسيطرة النص والحوار على عناصر الانتاج الأخرى. جاءت محاولتهم هذه كثورة على كل من المدرسة الطبيعية والواقعية اللتين تعتبران المسرح  انعكاسا للواقع،  وقد جاء بحثهم ايضا للتخلص من سلطة النص على الخشبة ومن الفكرة القائلة انه - أي النص -  يعتبرالأساس لأي عرض مسرحي، ومن هؤلاء جوردن جريج وجاك كوبو وفيسفولد ميرهولد.  قام هؤلاء بالعودة الى "الكوميديا دي لارتي" هذا النوع من الفن المسرحي الذي بدأ في منتصف القرن السادس عشر وانتشر نحو قرنين من الزمن (وقد قمت بشرح جذورها وسماتها في فصل سابق) والذي هو بايجاز: فن يعتمد على قيام ممثلين محترفين باستخدام كافة المهارات من تمثيل ورقص واكروبات وبانتومايم وحيل مسرحية وحركات بهلوانية حيث يكون التمثيل ارتجالا- اي لا وجود لنص مسبق-  فقط يتم الاتفاق على الفكرة الرئيسية ويقوم بعدها الممثلون بارتجال ادوارهم امام الجمهور من خلال شخصيات نمطية ثابتة.
 لقد عاد كل من كوبو وكريج وميرهولد الى "الكوميديا دي لارتي" ووجدوا فيها الهاما جديدا يركز على الصورة وجسد الممثل حيث يرتجل الممثل الحركات الفنية المعقدة بشكل حرفي عال- بمعنى اخر-  الممثل هو المبدع وخالق العرض المسرحي، وقد وصلت نتائج بحثهم الى المفهوم التالي: ان فن المسرح يجب ان يصهر او يدمج كل من الصورة  والصوت معا أي: النص لم يعد هو العنصر المسيطر على خشبة المسرح، بل ان كافة العناصر المسرحيةالأخرىتتمتع في احتلال أهمية موازية.
في نفس الوقت الذي توصل فيه الباحثون الى هذه النتيجة، ذهب ميرهولد الى ابعد من ذلك، فحول الاستوديو خاصته الى مختبر يختبر فيه مفهوم الجسد وحركة الممثل. نتج عن مختبره نظرية وضعها ميرهولد حملت عنوان البيوميكانيك Biomechanicsوهي كلمة مشتقة من كلمتين الاولى Bioوتعني الكائن الحي والثانية Mechanicsوتعني الالة. وضع ميرهولد معادلة شبه علمية مشتقة من مفهوم الكلمتين للوصول الى عقل الممثل وجسده. تنحصر هذه المعادلة بأن الممثل هو المنظم Organizerوعليه ان ينظم الالة وهي جسده اي Mechanicاي انه هو الفاعل والمفعول به.
كرس ميرهولد نظريته هذه ليحول الاتجاه من تدريب الممثل على النص كما كان يفعل استاذه ستانسلافسكي الى التركيز على تدريب جسد الممثل باستخدام اسلوب مؤسلب ومؤطر. وخرج بمفهوم يعارض استاذه  ستانسلافسكي  الذي يفترض بأن على الممثل معايشة الحالة حتى تصل بصدق الى الجمهور وأن عليه استخدام ذاكرته الانفعالية لاستخراج حالات وانفعالات لم يعايشها الممثل نفسه بل ربما قرأها او شاهدها في مكان ما أو في زمن ما. إلا أن ميرهولد قال عكس ذلك. حيث افترض بأن اي حركة يقوم بها الممثل هي بلآ شك تحمل عاطفة ما دون الحاجة الى معايشتها المسبقة، لذا دعا الى ان يكتسب الممثل الكثير من المهارات الحركية والجسدية لاستخدامها في الوقت المناسب في العرض المسرحي وقام في مختبره بتطويرمجموعة من التمارين والحركات حملت اسم البيوميكانيك. لمتصلنا هذه إلا مؤخرا ومن خلال تلامذته والسبب في ذلك هو أن السوفيت اعتبروا ميرهولد خارجا بفكره عن النهج الاشتراكي اذ ان اي شخص آنذاك( روائي, تشكيلي، مسرحي)والذي كان لا يقدم "الواقعية الاشتراكية" في عمله الفني كان يعتبر منتهكا ومعارضا للحكم. لذا حكم على ميرهولد بالسجن في عام 1939م وتم اعدامه بالرصاص في عام 1940م. لم يكتف ستالين بذلك بل منع التداول باي فكر لميرهولد على الاطلاق لذا لم يتم الإفراج عن تمارين ونظرية ميرهولد الا بعد موت ستالين عام 1953م ولم تصل تمارينه من خلال تلامذته إلى العالم الغربي الا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بعد البروستاريكا في بداية التسعينيات من القرن المنصرم. اما في عالمنا العربي فقد كان معهد الفنون المسرحية في سوريا محظوظا حينما قام احد تلاميذ ميرهولد وهو بوجانوف Boganovبتدريس تمارين البيوميكانيك في الثمانيات من القرن المنصرم لطلاب المعهد. من الجدير بالذكر بأن البيوميكانيك دخلت إلى أمريكا في عام 1993م من خلال يجانوف وليفنسكي التلميذ الآخر لميرهولد. لقد ساهمت افكار ميرهولد في التأسيس لما نسميه مسرح فيزيائية الجسد.
بعد كريج وكوبو وميرهولد، كان لجهود المخرج البولندي" جروتفسكي" الاثر البالغ ايضا في تطوير مسرح فيزيائية الجسد. هذا المخرج الذي قدم نظريات كثيرة للمسرح اهمها ما جاءعلى ذكره في كتابه الشهير "نحو مسرح فقير" ومفاده "بأن العرض المسرحي يمكن له ان يقوم بدون استخدام ديكوراو ملابس او اضاءة او موسيقى وايضا بدون نص مكتوب مسبقا الا انه لا يمكن ان يستغني عن العنصر الاهم في العملية المسرحية برمتها الا وهو الممثل".
استمر جروتفسكي يبحث عن طرق واتجاهات متعددة في تدريب الممثل للاستغناء عن كافة العناصر الاخرى، فهو يرى بأن جسد الممثل يستطيع ان يكون ديكور المسرحية وان اضاءة الممثل الداخلية تغني عن المؤثرات الضوئية وذهب الى اكثر من ذلك وهو الاتيان بالمغاير في جسد الممثلين من اجل تكوين صورة مسرحية قادرة من خلال هذه المغايرة ان توصل المعنى الذي يحمله جسد الممثل اكثر من التركيز على اللغة والحوار، وهذا لا يعني ان جروتفسكي الغى النص بل قام بتحجيمه وتكثيفه لصالح جسد الممثل.
وفي الحديث عن المسرحيين الذين اثروا في تكوين اتجاه جديد في جسد الممثل، لا بد من التطرق ايضا الى تجربة البولندي "فلدزمير ستانويسكي" Wlodzimierz Staniewiskiوهوتلميذ لجروتفسكي، عمل معه فترة من الزمن الا انه انفصل عنه في السبعينيات من القرن المنصرم، وانشأ فرقة تحمل اسم مسرح الجاردزنيتشة Gardzienice. بدأ ستانويسكي من مفردات جروتفسكي الا انه اختلف عنه في طرق التطبيق حيث ان اهم خلاف كان في اسلوب تدريب جسد الممثل، فليس الاسلوب المؤسلب والمؤطر هو الطريقة لخروج ممثل مبدع خلاق، بل ذهب الى ما هو ابعد من ذلك الا وهو اللجوء الى التراث المهمل. حيث كان فريق من العمليق ومبزيارة القرى المهجورة والنائية التي يعتقد ستانويسكي انها ما زالت تحافظ على التراث، ويطلب من فريقه بكافة تخصصاتهم الانخراط مع اهل القرية ومعرفة عاداتهم وتقاليدهم وغنائهم وقصصهم الشعبية، وتسجيل كل ذلك، ومن ثم العودة الى  المختبر ووضعها في مكان التجريب ليخرجوا اولا بنصوص جديدة وغناء مختلف يقومون بتحويره وتطويعه ليهدف إلى تطويرالفكرة المتفق عليها، اضافة الى ان العروض كانت تتم في ساحات القرية او كنائسها او بيوتها القديمة، أيأنه قدخرج من الاستوديو ومسرح العلبة الى مسرح البيئة الجديدة. يصبح جسد الممثل حسب قناعة ستانويسكي مع مرور الوقت مختزنا للكثير من التراث سواء في الحركة او الايماءة او الاشارة، كما يصبح غناؤه مليئا بمفردات جديدة نابعة من التراث ايضا.
هؤلاء هم بعض من اهم المسرحيين الذين ساهموا في خلق بيئة جديدة في التعامل مع جسد الممثل. الا ان مسرح فيزيائة الجسد لم يتأتى كنتيجة جهد المسرحيين فقط بل جاء كمزيج من جهودهم المندمجة مع جهود فناني الرقص الحديث ورقص ما بعد الحداثة  لنصل الى نتيجة مفادها: بأن مسرج فيزيائية الجسد هو مزيج لما بعد الحداثة في المسرح وما بعد الحداثة في الرقص. مسرح بدأ التنظير له كمدرسة لها سماتهاالخاصة فقطفي الثمانينياتمن القرن المنصرم.
تناولت في اليداية أهم المسرحيين الذين ساهموا في التأسيس لمسرح فيزيائية الجسد، وفي هذا المبحث أكمل التعريف بأهم الراقصين الذين ساهموا أيضا في هذا النوع من المسرح من منطلق أن مسرح فيزيائية الجسد ما هو إلا مزج بين جهود مسرحيين وراقصينحيث كانت قد تبلورت أفكاره وسماته في الثمانينات من القرن المنصرم.
لقد احتل الباليه الكلاسيكي المعروف برقص البلاط المرتبة الأولى بين فنون الرقص على طول ثلاثمائة سنة أي - منذ نشأته في القرن السادس عشر في ايطاليا وحتى بداية القرن العشرين – وقد حمل معه رعاية الملوك والحكام طيلة فترة ازدهاره. كما حمل معه قوانين صارمة وقاسية في التمرين وفي الحفاظ على لياقة المؤدي.
وكما حدث مع فناني المسرح في بداية القرن العشرين حين تمردوا على المذهب الواقعي والطبيعي آنذاك بدأت أيضا بذور التمرد تظهر في الرقص على فن الباليه الصارم غير النابع من الفرد اذ يخضع جسد المؤدي لأوامر وتدريبات مجهزة من قبلشخص أخر تشمل خمس حركات مع تنوعاتها. لقد سمي هؤلاء بفناني الرقص الحديث (Modern Dance) حيث نادوا إلى رقص نابع ومعبر عن الذات البشرية وقاموا بتسمية المفردات المستخدمة في الرقص بالحركات اليومية الاعتيادية والطبيعية(Natural Every Day Movement) ابتعادا وتمييزا عن الباليه. يقول روجر كوبلاند بأن هؤلاء المحدثين"بدأوا حياتهم بعمل رقصات فردية (ٍSolo) نابعة من ذاتهم يستخدمون فيها أجسادهم وليس أجساد آخرين كمادة خام لرقصهم". بمعنى آخر فإن الباليه حسب رأي كوبلاند يعبر عن مدربه حيث تنحصر وظيفة الراقصين  بالتنفيذ والإتقان. هذا الصراع بين مدربي وراقصي الباليه ومدربي وراقصي الرقص الحديث لا يزال مستمرا حتى يومنا هذا مع أنها فرز تطورا كبيرا في الرقص أدى إلى ظهور ما يسميه النقاد بالرقص الحديث(Modern Dance) ورقص ما بعد الحداثة (Postmodern Dance).
 كل من هؤلاء الراقصين قام باختبارمناطق مختلفة في الرقص مع تنوع معالجتهم في كيفية الابتعاد عن الباليه وقد نجحوا في إيجاد مفردات خاصة بهم. نأخذ على سبيل المثال الأمريكية ايزادورا دنكن 1876-1927م والذي يسميها النقاد أم الرقص الحديث (The Mother of Modern Dance)التي ادعت بأنها اكتشفت نظاما طبيعيا للحصول على مفردات الرقص وان أساس أي حركة هو الحجاب الحاجز حيث يقوم الراقص بداية بالتأثر في الطبيعة وبما حوله ومثال على ذلك: مراقبة الراقص لحركة شجرة النخيل التي تحركها الرياح ثم كيفية إدخالهاإلى داخله ومن ثم عكسها بحركات رقصة نابعة من ذاته كما يشعر أو يتأثر بها.
 أما مارثا غراهام التي مارست الرقص في العشرينيات من القرن العشرين حتى وفاتها 1991م فقد قضت سبعين عاما ترقص وتدرب الرقص على مفاهيم مغايرة للباليه حيث اذكر كلمتها الشهيرة المعبرة عن موقفها من هذا الفن إذ تقول"لقد اخذ الباليه فرصته لمدة ثلاثة قرون لذا يحق للرقص الحديث أن يتكلم لثلاثة أسابيع". أهم ما أتت به غراهام هو أن للجسد دورا كبيرا في تحقيق التوازن النفسي وان الحركة اصدق من اللغة اللسانية في ترجمة حالات النفس فهي تقول "الحركة لا تكذب". لقد تم وصف رقصها من قبل النقاد بأنه شبيه بالهندسة الحديثة وبناطحات السحاب:فهو يخلو من الحركات الناعمة الانسيابية الدائرية والخطوات السريعة التي تذكرنا بهندسة الأقواس وزخارف الأفاريز في الباليه الكلاسيكي بل على العكس نجد في رقصها الزوايا القائمة والتركيز على التعبير المسرحي. لقد بنت أسلوبها على التنفس وعلى حركتي "تقلص العضلات وانبساطها"حيث يتولد اندفاع الطاقة الحيوية في الجسد. بالطبع تخلتغراهام عن زي الباليه الكلاسيكي واعتمدت تصميم أزياء مسرحية وقد وضعت تصاميم للوحات أداها أهم راقصي العصر أمثال جورج بالانشين وبول تايلور وميرس كنينغهام.
لقد نجح هؤلاءالرواد في طرح مفردات عن مفهوم الطبيعي مقابل الاصطناعي (غير الطبيعي) ومفهوم غير المألوف مقابل المألوف للتعبير عن ذاتهم.  كما نجحوا أيضا بتغيير حالة المشاهد من متلق سلبي إلى متلق مشارك في العرض الإبداعي إضافة إلى أنهم ساهموا في رفع مستوى الرقص من وظيفته الترفيهية إلى فن محترم يحمل محتوىيحتاج إلى التأمل والتفكير.
أما ميرس كنينغهام تلميذ غراهام والذي انشق عنها ليؤسس مدرسته الخاصة فقد عاد إلى مفردات الباليه إلا انه تعامل مع مزجها بالحركة اليومية الاعتيادية ليأتي بجديد آخر، واهم ما يميز أسلوبه في التصميم هو أسلوب الحظ بمعنى انه يقوم بتصميم وإخراج مجموعة من المشاهد ثم يرمي قطعة نقدية (الفنة بالعامية) ليقرر أي مشهد يأتي بالأول وأيهما يليه، لقد أثار أسلوبه الكثير منالعاملين معه  وأفرزالنقاد الكثير من الدراسات في محاولة لفهم كنينغهام وأسلوبه.
أماستيف باكستون فقد جرب ما سماه الارتجال ألاتصالي (ContactImprovisation) الذي يعتمد على مفردات حركية تؤدى بثنائيات وتتنوع حركاتها المستمدة من الحركة اليومية الطبيعية الاعتيادية كالسلام باليدين إلى حركات الأكل والنوم الطبيعيين ولكن بأسلوب مغاير حتى يعيد المتلقي قراءتها قبولا أو رفضا. إضافة إلى حركات مستمدة من الرقص الاجتماعي ومن حالات التأمل.
لا نستطيع أن ننسى في الحديث عن المساهمين في التأسيس لمسرح فيزيائية الجسد الأمريكية انا هالبرن التي أكدت أن استخدام الحركات الطبيعية واليومية الاعتيادية في الرقص ستؤدي إلى اكتشاف الفنان لأسلوبه الخاص بدل استخدام أسلوب شخص آخر. كما أن الفنان سوف يتعلم المزيد عن نفسه من خلال هذه الحركات، وكيف أنه من خلال هذه الحركات يستطيع أي إنسان أن يعالج نفسه من أمراض مزمنة وان يتطور على المستوى الشخصي والذاتي.
أما الألمانية بينا باوش مؤسسة المسرح الراقص (Dance Theatre) والراقصة والمصممة لأعمال تحتوي على كل من الرقص والغناء والتمثيلفإنها تبدأ عملها دائما مع مؤديها من فكرة صغيرة جدا ومن خلال طرح مجموعة من الأسئلة الحياتية الخاصة بالمؤدين ليقوموا بترجمتها أثناء التمارينبالرقص أو الغناء أوالتمثيلوتستمر العملية بين البناء والهدم وتحديد اختياراتها حتى يوم العرض. باوش أيضا اعتمدت الحركة الطبيعية اليومية الاعتيادية ولكنها أعادت صياغتها بطريقة تستهدف صدم المشاهد لتحرك الساكن فيه.
بعد هذا الاستعراض السريع لأهم المساهمين مسرحيا ورقصا في التأسيس لما يعرف الآن بمسرح فيزيائية الجسد لا بد من التنويه إلى انه حتى سنة 1986م كان هذاالفن الأدائي مقسوما بين فن الرقص وفن المسرح إلى أن جاء الاسترالي لويد نيوسن وأطلق على فرقتهاسم (DV8 Physical Theatre).اعتمد هذا المصمم والمخرج على مفهوم غروتفسكي للتأسيس لعمله وقدأعطى من خلال اسم فرقته وعمله الفرصة لكثيرين يقدمون مسرحا يكون الجسد فيه معبراأكثر من اللغة وهكذا تواجدت الفرصة ليطلق هؤلاءعلى أعمالهم الممزوجة من فني الرقص والمسرح اسم مسرح فيزيائية الجسد. قام النقاد والباحثون في مجالي المسرح والرقص بالتقييم والتنظير لهذا المسرح مما أدى إلى إدخاله إلى الجامعات الغربية كعلم منفصل في التسعينيات من القرن المنصرم وما زال البحث والتنظير له قائما حتى هذه اللحظة.
في الختام لا يسعني إلا أن آتي على ذكر أهم سمات وميزات مسرح فيزيائية الجسد وهي كما يلي:
أولا  :يؤكد مسرح فيزيائية الجسد بأن المؤدي هو خالق ومبدع العرض وليس مفسرا أومترجما له.
ثانيا :إن عملية الخلق الإبداعي ليست فردية بل جماعية.
ثالثا :العملية الإبداعية تركز على جسد الممثل أكثر من عقله.
رابعا :إن العلاقة بين المشاهد والخشبة علاقة مفتوحة وعلاقة مشاركة إبداعية.
خامسا:تتغلب في هذا النوع العناصر البصرية والسمعية علىغيرها.
سادسا :مسرح فيزيائية الجسد لا يعني عدم استخدام الحوار بل يمكن استخدامه إلا أن لغة الجسد هي الغالبة.
سابعا :الحركة المستخدمة للتعبير هي الحركة الطبيعية اليومية الاعتيادية إضافة إلى حركات تجريدية ولكنها تستخدم بشكل مغاير للمألوف يعيد المشاهد قراءتها ليتخذ موقفا منها قبولا أو رفضا.
ثامنا :الوجه الطبيعي الخالي من الماكياج هو السائد في مثل هذه العروض ويستخدم الماكياج فقط في حالات نادرة أما الملابس فهي من الملابس اليومية الاعتيادية إلا أن ألوانها وتناسقها مدروس لخدمة فكرة العرض المسرحي، كما أنها تستخدم بشكل مغاير للواقع على الرغم من واقعيتها. كما تكون الملابس سهلة لحركة الممثل وانتقاله في الفضاء المسرحي.
تاسعا : استخدام الديكور والإكسسوارات غير تقليدي.
آملة في نهاية حديثي عن هذا النوع القديم الجديد أن يكون جمهورنا عند مشاهدة التجارب المسرحية القادمة والمتخذة من مسرح فيزيائية الجسد أسلوبا لها للتعبيرعن المضمون وإيصال الرسالة قادرا على التلقي بانفتاح وإدراك كيف أن الفن المسرحي فن متجدد ومتطور وقادر على الحياة وإيصال رسالته مهما اختلفت الأساليب والمدارس، ولولا هذا التطور لانقرض المسرح ولما استمر لمدة ألفين وخمسمائة سنة حتى يومنا هذا.

14. ب ايزادورا دنكن

Isadora Duncan
تقول الكاتبة " آن دالي" في كتابها (Done Into Dance) بأن الجميع يعرف شيئا ولو صغيرا عن"ايزادورا دنكن"، وحيث ان هذا التعميم قد يكون صحيحا في العالم الغربي الا أننا في العالم العربي لا نعرف حتى القليل عنها باستثناء الاقلية التي تعرضت للثقافة الغربية من خلال الدراسة او السفر  او مشاهدة الافلام الغربية. السبب في قلة المعلومات حول هذا الموضوع كما في غيره يقبع في قرارات تتجنب المكاشفة الثقافية وتخشى المواجهة المباشرة خوفا من او درءا لمفاهيم اجتماعية قائمة تنتقص في هذا المجال من فن الرقص وتضعه في زاوية الترفيه المعيب المرتبط بهز البطون والاسفاف واثارة الغرائز. لذا تقاعس الكثير من الكتاب ودور النشر بالاضافة الى وسائل الاعلام المرئية والمسموعة عن القيام بالكتابة او نشر وترجمة الكتب او البرامج التي حملت مفاهيم جديدة لفن الرقص ودوره في عملية التغيير الاجتماعي المنبثقة عن اعمال الرواد في هذا المجال، فبتنا نجهل الكثير عن تطور المئة سنة الاخيرة في مجالات عديدة ابتداءا من الباليه ومرورا في الرقص الحديث (Modern Dance) وانتهاءا بما بعد الحداثة في الرقص (Post Modernism)، ومن المفارقات الغريبة انه عندما "تحرر" الاعلام المرئي عندنا في العقد الحالي وقعنا فيما كنا نخشاه من الاسفاف ولم نتجه بدلا عن ذلك الى عرض ما كنا نتجنبه من الاعمال والافكار التي ادت الى تطوير مفاهيم اجتماعية وفنية غابت عنا طيلة القرن الماضي.
"ايزادورا دنكن"،الايرلندية الاصل والامريكية المنشأ والجنسية وأحدى اهم رواد الرقص الحديث والمسرح الراقص (Dance Theatre)، ولدت في سنة 1878 وتوفيت في سنة 1927 في حادثة مأساوية قد يعرفها البعض من خلال مشاهدتهم لفيلم "ايزادورا" التي قامت ببطولته "فانيسا ريدغريف" حيث نرى كيف تموت "دنكن" في نهاية الفيلم حين التف شالها الذي يزين رقبتها على مقود سيارتها مما ادى الى اختناقها. اهمية "دنكن" لم تأت من حادثة الموت المأساوية بل اتت من كثافة العمل والمثابرة على اجتهاداتها في عصرها. لقد قامت بالبحث عن الجديد وانتهت بالتمرد على رقص الباليه الذي احتل  وتصدر فن الرقص في اوروبا لما يزيد عن ثلاثمائة سنة في حينه. من المعروف ان فن الباليه بدأ في ايطاليا في القرن السادس عشر وقد تمت رعايته من الطبقات الحاكمة واصبح بمرور الوقت فنا معبرا عن الطبقة الارستقراطية فكرا وشكلا وتمت تسميته بفن البلاط. لقد رفضت "دنكن" الاتية من بيئة شعبية وفقيرة نسبيا هذا الفن شكلا ومضمونا: شكلا من حيث الالتزام بالازياء وباملاءات الاداء التي انتقلت من جيل الى جيل عبر تكريس حركات معينة ومحددة (الخمس حركات الاساسية للباليه)  ولم تعتبره فنا نابعا من الذات ومعبرا عنها،  من خلال رفض مفهوم ان الفن يمثل طبقة معينة ولا يمثل الشعب بكافة طبقاته. 
وجدت "دنكن" في الميثولوجيا اليونانية وفي المسرح الاغريقي مصدرا تستمد من منابعه سلاحا للتمرد عل فن الباليه وبدأت تستمد منه خطواتها الراقصة وايماءاتها لتعبر فيه عن نفسها. وحيث اننا نعرف أن الرقص والمسرح قد بدءا عند الاغريق في القرن الخامس قبل الميلاد متمثلين على التوالي بطقوس "الديثيرامب" (Dithyramb) وبالتراجيديا والكوميديا ومع اعتبار "دنكن" ان رجوعها الى الاغريق هو بمثابة الرجوع الى الشئ الفطري والطبيعي، فقد وجدت فيه الخلاص من خلال العودة الى الجذور، تستقي منها الكثير من المفردات لتعيد صياغة فنها للتعبير عن واقع معاصر، ولكي تحقق "دنكن" ذلك  قامت بعملية بحث مضنية ودراسة مكثفة للاعمال الاغريقية سواء الادبية منها او النحت او الرسم فقامت بزيارة متحف لندن ومتحف اللوفر في باريس اولا وزيارة اليونان لاحقا لقراءة ومشاهدة المنحوتات واللوحات ثم العودة الى الاستوديو خاصتها وهي تحمل في جعبتها الكثير من فينوس وافروديت وعابدات باخوس وغيرهن، لتتحول خطواتها انعكاسا لما قرأته وشاهدته، وتصبح ايماءاتها مشابهة لايماءات واشارات الالهه الاغريقية، فكأنها ارادت ان تعطي شيئا من القدسية والغموض على فن الرقص الحديث. انعكس ذلك ايضا على ما ترتديه سواء في حياتها الخاصة او على المسرح حيث اختارت ملابس الرداء الاغريقي (Tunic) - الفستان اليوناني الفضفاض والذي يربط بحزام - كزي لها في الحياة وعلى المسرح.
لم تكتف "دنكن" بتقديم لوحاتها التعبيرية بل قامت ايضا بتقديم مسرحيات اغريقية مثل "اوديب ملكا" و"ايفيجينيا" و"اورفيوس" بشكل تندمج فيه الكلمة والمشاهد التعبيرية الراقصة. اختلف النقاد في حينه في تقييم هذه الاعمال فمنهم من اعتبرانها قد تمادت على النصوص الكلاسيكية القديمة ومنهم من اعتبر أنها قد قدمت شكلا جديدا معاصرا لهذه النصوص، وفريق آخر يرى انها  تفوقت في المشاهد التعبيرية الراقصة وفشلت في المشاهد التي تعتمد الحوار. كل هذا يعطينا دلالة بان هذه الاعمال قد اثارت الكثير من الجدل والذي هو شيء سليم ومطلوب لاي عمل فني.
قامت "دنكن" بعد ذلك بتطوير اسلوبها ليصبح تعبيرها مستمدا من منحوتات معاصرة للتعبير من خلال الجسد والاشارة والايماءة عن مفاهيم مرتبطة بالحرية،  فعلى سبيل المثال، في رقصتها المسماة (Marseillaise) عام 1915قامت باستعارة وضع المرأة المجسدة لتمثال الحرية في نيويورك مستخدمة جسدها كوسيلة للتعبير عن هذا التمثال الذي يجسد قيما متعددة للامريكيين تتعلق بالتحرر والحرية والامومة، بالاضافة الى مفاهيم اخرى. لقد قامت "دنكن" بخلق الحماس وحث الشباب الامريكي في هذه الرقصة على الانضمام للفرنسيين في الحرب العالمية الاولى، وفعلا استطاعت ان تشعل النيران في قلوب الشباب وانضم الكثيرون منهم للمساندة في الحرب.هنا نرى بأن الرقص التعبيري عند" دنكن" قد اخذ مفهوما سياسيا ووظيفة اجتماعية مثله مثل الفنون الراقية الاخرى .
لم يقتصر هذا الدور للرقص للمساهمه في عملية التغيير الاجتماعي ولم ينحصر فقط في الخطوات والحركات بل تعداها الى الشكل واعني بذلك الزي . ان ارتداء الزي الفضفاض الذي يكشف الكتفين قليلا والذي اعتمدته "دنكن" في عروضها وحياتها اليومية والمستقى من الازياء الاغريقية القديمة كان ايضا تمردا على الزي السائد في العصر الفيكتوري والذي كان يصر على ان ترتدي المرأة المشد الضاغط على الصدر (Corset) والجوارب السميكة، حيث كان يعتبر كل ذلك هو النمط السائد في تلك الحقبة، وكما تقول "ارفات تسيلون" كان  كشف القدم في العصر الفكتوري يعتبر مخلا بالاخلاق". كانت "دنكن" ايضا تقوم بالرقص حافية القدمين وبالتالي فان قدميها كانتا مكشوفتين اضافة الى ان اجزاءا صغيرة من كتفيها كانتا مكشوفتين وهكذا فقد اعتبر ذلك في حينه كسرا للتقاليد وخروجا على السائد. من الجدير بالذكر ان مصممي الازياء الحديثة يرجعون الفضل لها في تحرير المرأة من زي معيق للتنفس والذي ادى في حينه الى الكثير من الامراض اوالموت احيانا لعدد غير قليل من النساء.
نرى مما سبق بأن الرقص الهادف يستطيع ان يكون قادرا على توصيل رسائل اجتماعية وسياسة واخرى متنوعة ومختلفة، وليس كما انطبع في اذهان الكثيرين عندنا بانه عمل مخل بالأخلاق هدفه اثارة الشهوات والغرائز والذي ترفضه جميع الفنون. لذا نحتاج الى ترجمة لاعمال هؤلاء الرواد ونحتاج الى اعادة القراءة لهم حتى نرى كيف استطاع الغرب ان يطور فنا تمت عندنا ادانته مسبقا كان قد حمل عندهم رسالة موجهة لسعادة البشر وحريتهم.  الرفض المسبق قبل الدراسة والبحث في الاسباب والنتائج لا يحقق فائدة لعدم اعتماد اي امر بل يبقي الامر في دائرة الممنوع، والممنوع كما قالوا مرغوب فالاولى ان نتحقق منه لرفضه او قبوله سواء بسواء.
ختاما فان "دنكن" هي واحدة من الكثيرات والكثيرين الذين اسسوا للمسرح الراقص وحركة تحرر المرأة في بداياته،ا وما تقدم ما هو الا نبذة صغيرة عن حياة امرأة تمردت على التقاليد القديمة واوجدت تقاليد جديدة واسست للرقص المعاصر وناقضت نفسها قليلا بين اعتماد المبادئ والممارسة، والمعرفة عنها تحتاج الى المزيد من الدراسة والاستقصاء.   

14. ج  آنا هالبرن والرقص كعلاج لمرض السرطان
الامريكية آنا هالبرن المولودة عام 1920، الراقصة ومصممة حركات الرقص التي لا تزال تعمل في مجال الرقص حتى يومنا هذا،قامت بتاسيس استوديو مخبري لتطوير فنها الذي تدعي بأنه "اي  الرقص" عبارة عن مادة حية يستطيع الفرد استخدامها للتخلص من امراض عضال كالسرطان وغيره. لقد اتخذت هالبرن من تجربتها الشخصية، حين تم تشخيصها بالاصابة بسرطان في منطقة الورك في عام 1972، نقطة ارتكزت عليها في عملية البحث للوصول الى نتائج منها بأن الرقص قد يخدمالانسانللتخلص من هكذا امراض. ان اكتشاف مرضها له قصة غريبة ومشوقة.
في الفترة التي سبقت تشخيصها بالمرض كانت هالبرن تعمل في الاستوديو خاصتها على اختبار طريقة جديدة تحاول من خلالها التوصل الى مصادر جديدة تستقي منها خطوات جديدة تعتمدها في لوحاتها الراقصة التي ستقوم بتصميمها لاحقا. تتلخص هذه الطريقة بأن يقوم كل شخص تدرسه برسم صوره شخصية لنفسه ليعبر من خلال الرسم عما يعتمل في نفسه وبعدا كم الجزء من الرسم يقوم الشخص ليرقص كانعكاس لهذه اللوحة التي رسمها ثم يتوقف ويعاود الرسممن جديدومن ثم يرقص مجددا،وهكذا حتى يتوصل الى الشكل المطلوب. وفي احدى المرات وبينما كانت ترسم صورة شخصية لنفسها اكتشفت بعد انتهائها بأنها قد رسمت دائرة حول منطقة الورك خاصتها، وبعد تأمل عميق للرسم قررت في اليوم الثاني ان تذهب الى طبيبها الخاص وطلبت منه ان يجري فحوصات في نفس المنطقة التي رسمت فيها الدائرة، وتبين بعد الفحوصات بأنها مصابة بالسرطان في هذه المنطقة بالذات. على ضوء ذلك اجريت لهالبرن عملية جراحية وتم استئصال الورم من  منطقة الورك، وقام طبيبها بطمأنتها بأنه اذا لم يظهر الورم خلال خمس سنوات فستكون قد تخلصت من المرض الى الابد. الا ان الورم عاد للظهور ثانية بعد ثلاث سنوات حيث خضعت هالبرن لعملية جراحية ثانية.
 بدأت هالبرن مباشرة بعد تماثلها للشفاء عملية بحث مكثفة هدفها ان تفهم كيف يستطيع الانسان ان يتلقى رسائل من عقله الباطني لدراسة جسده من خلال الرسم. لم تتمكن هالبرن من الوصول الى نتائج تقوم على العقل والمنطق ولكنها توصلت الى ان تبادل العملية بين الرقص والرسم تحتوي على دلالات واستنتاجات.
 قررت هالبرن بعد ذلك ان تجري تجربة على نفسها فتقوم بالرسم ثم الرقص مع وجود بعض من تلاميذها واصدقائها وافراد عائلتهاالذين عهدت اليهم مراقبة خطواتها لتزويدها بالملاحظات. قامت في البداية برسم نفسها بهيأة امرأة جميلة تفيض حيوية، ثم حاولت الرقص كانعكاس لهذه اللوحة الا انها لم تستطع ان تخطو اية خطوة. بعد هذا الفشل قامت برسم لوحة ثانية اظهرت فيها جانبها الاسود المظلم اضافة الى حالة الغضب والعدوانية التي تشعر بهما، حيث شعرت بان هذه اللوحة هي التي يتوجب عليها رقصها. تصف لنا هالبرن في كتابها"السير نحو الحياة" (Moving Towards Life) كيف رقصت لوحتها:لقد بدأت الرقص كحيوان مجروح واصبحت مع مرور الوقت تصدر بعض الاصوات الغاضبة ومن ثم تطورت خطواتها لتتحول الى انعكاس لشلال من المياه وكانت تتخيل المياه كأنها تدخل الى جسدها تطهره وتنظفه. تستمرهالبرن في كتابها وتصف شعورها بانهاكانت تشعر كشلال من المياه يبدأ من اعلى الجبل لينتهي ويصب في المحيط.
 تعتقد هالبرن بأنها في تلك الخطوات كانت تختبر قوة الطبيعة في جسدها. تواصل وصف خطواتها التي بدأت كخطوات بطيئة وصغيرة لتصبح مع استمرار الرقص تكبر وتتسع الى ان وصلت الى مرحلة اصبح فيها كامل جسدها مجسدا لشلال المياه. بعد ان انهت الرقص شعرت براحة نفسية كبيرة، واحست بحاجتها الى اصدقائها وعائلتها وجلست اليهم تستمعالىالملاحظات وتتبادل الحديث معهم واخبرتهم بأن شيئا غامضا قد حدث معها اثناء ادائها للرقصة وكأنها قد زارت عالماقديما يتوقف فيه الزمان والمكان، وان هذه التجربة قد تركتها وهي ترتعش الا انها شعرت بالتطهير.
يعد هذه التجربة المخبرية خرجت هالبرن منها بطريقة تدريب جديدة مارستها ولا تزال حتى ايامنا هذه تقوم بتطبيقها في مدرستها مع افراد مصابين بأمراض عضال فمنهم من شفي تماما ومنهم من استطاع مواجهة الموت بمعنويات اقوى وصلابة أشد. اطلقت هالبرن على طريقة التدريب هذه "الخمس خطوات للعلاج". تتلخص الخمس خطوات كما اوردتها في كتابها المذكور اعلاه كالتالي: اولا كيفية تشخيص القضية وتحديد التباين بين الجوانب المضيئة والمظلمة،ثانيا المواجهة مع المرض،ثالثا الراحة الناتجة عن المواجهة والقبول بالمرض وبعد ذلك تأتي الخطوةالرابعةالمتمثلة في ايجاد طريقة لتوحيد ودمج المتغيرات في الجسد، وهذا ما فعلته من خلال رقصة الماء،اما الخطوة الاخيرة وهي القبول في العودة الى المجتمع المتمثل بالاهل والاصدقاء وغيرهم والاندماج فيه.
تدعي هالبرن بأنها بعد ان قامت بالرسم ورقص رقصة شلال المياه بأنها قامت باجراء الفحوصات الدورية المطلوبة منها، وتبين بعد الفحص بأنها قد تخلصت من مرض السرطان نهائيا.
مما تقدم ذكره ومن تجربة هالبرن، هل يستطيع الفرد منا التصديق بان الرقص قادر على علاج السرطان او غيره من الامراض العضال؟ ان الشيء الذي نستطيع ان نفهمه انه بعد الايمان بالله تعالى وقدرته على كل شيء، نستطيع ان نحاول سبر اغوار طبيعة الرقص وعلاقته بالجسد وبالطاقة المنبعثة من اداء الخطوات، فربما عند ذلك نستطيع ان ندركبأن الجسد قادر على علاج نفسه منمرض السرطاناو غيره عبر ارجاع التوازن بين الكريات الحمراء والببضاء.هذا من ناحية ومن ناحية ثانيةيمكن ادراك ان عدم الاستسلام للمرض ومواجتهه من الممكن ان يقود الى العلاج. نسمع بأن الشخص الذي يقاوم المرض يستطيع ان يقهره وسمعنا عن حالات كثيرة نجحت في ذلك، ربما عندهذا المفهوم  يكون الرقص احد وسائل المقاومةالعضوية اوالنفسية من مرض يفتك بالبشر باعداد لا يستهان بها يوميا.
14. د  المسرح الراقص
Dance Theatre
لقدتم التأسيس للمسرح الراقص منذ بداية القرن العشرين ابتداءا من الامريكية "ايزادورا دنكن" و"مارثا جراهام" و"مرسي كننغهام" وصولا الى الالمانية "بينا باوش". تجدر الاشارة هنا انه قد يختلط الامر على البعض فيتصور ان المسرح الراقص هو نوع من انواع المسرح الاستعراضي الترفيهي (Revue) او باختصار المسرح الذي به رقص وبذلك قد يرتبط المسرح الراقص في ذهن البعض بمسرح الرقص الحديث او الرقص المعاصر، بينما هو مختلف تماما عن كليهما.
عرفت الكتورة  منى ابو سنة المسرح الراقص بانه "مسرح درامي في المقام الاول، بيد ان الذي يميزه عن الدراما بشكلها التقليدي والحديث هو ان المسرح الراقص يختزل الدراما في التعبير الجسدي الراقص الذي يعتمد الجسد، مستعرضا بذلك تاريخ الجسد ورموزه وايماءاته باعتباره عالما معرفيا قائما بذاته له كيانه المستقل"
المسرح الراقص يتمحور حول تحرير الجسد من خلال التعرف على الجذور والطقوس الفطرية والبدائية، وقد تبدو هذه مفارقة ونحن في القرن الواحد والعشرين ان يرتكز مسرح نهاية القرن العشرين على تلك الجذور والطقوس، ولكن هذه العودة كانت بهدف التجريب والتطوير لطرح شكل جديد للفن المسرحي والبحث عن مادة خام جديدة للابداع المسرحي في اطار رؤية مستقبلية تنشد تجاوز الواقع من اجل تغييره وانسنته، حيث يقوم المسرح الراقص في هذا الاطار بتحويل المادة الخام الى مادة درامية من خلال جسد المؤدي على المسرح على اختلاف انواعه الحركية والصوتية وتواجده في الفضاء المسرحي.
لقد عرفنا كمسرحيين مفهومين للمسرح تمت معالجتهما على مدى التاريخ: أولهما المسرح الأرسطي، وثانيهما المسرح اللاأرسطي المتمثل بالملحمي الذي تم التنظير له من قبل الالماني بروتلد بريخت، والعبث الذي قاده العديد امثال بكيت ويونسكو. الا ان المسرح الراقص قد افرز لنا مفهوما او تيارا مسرحيا جديدا يطلق عليه الان "ما بعد اللاأرسطية" Post-Non-Aristotelian)). هذا المسرح الذي يرتكزعلى الجسد المستخدم كأداة رئيسية على الخشبة  معبرا عن ثنائيتين هما الوحدة بين الجسم والعقل، والوحدة بين الرجل والمرأة.
يختلف المسرح الراقص "ما بعد اللاأرسطي" جوهريا من خلال التعبير عن هاتين الثنائيتين عن نظيريه المسرح الارسطي والمسرح اللاارسطي المتفقين على تكريس ثنائية القسمة بين الجسم والعقل وبين الرجل والمرأة، حيث نرى ان المسرح الارسطي يسعى الى تكريس المحرمات الثقافية التي تصب في الثنائيتين من خلال المحافظة على الوضع الراهن، بدعوى انه يحقق الخير الاسمى او الخير المطلق على حد تعبير ارسطو، ساعيا الى تحقيق هذه الغاية لتثبيت النظام القاهر للجسد من خلال استخدام الجسد نفسه كوسيلة، في حين ان المسرح اللاأرسطي وان كان في فلسفته  ينشد الى تجاوز الوضع الراهن وتغييره، الا انه ايضا يكرس ثنائية العقل والجسد، اما لصالح العقل كما في مسرح بريخت او لصالح الحواس كما في مسرح العبث، وحيث ان المفهوم العام المتواتر الذي اعتمده كثير من المفكرين بان الرجل هو المعادل الموضوعي للعقل وان المرأة هي المعادل الموضوعي للحواس، فان النتيجة المنطقية لهذه الثنائية هي ايضا تكريس للقسمة الثنائية بين الرجل والمرأة. وهكذا نرى ان المسرح الراقص ينشد تجاوز هذه القسمة من اجل تحقيق السعادة للبشر حيث يتمسك في هذا الاطار برؤية ناقدة للمجتمع الرأسمالي الذي يكرس التقسيمات الثنائية في مجال تحويل الانسان الى سلعة وتحديدا المرأة. انطلاقا من هذه الزاوية النقدية اطلق على المسرح الراقص مسرح "ما بعد اللاأرسطية".
واذ يتمحور ان المسرح الراقص حول تحرير الجسد فانه يطرح على المتفرج شكلا جديدا لا يعتمد على السرد القائم على التسلسل المنطقي للاحداث، بل يعتمد شكلا من اشكال "الكولاج" (Collage)  لنماذج وانماط اجتماعية يقدمها باسلوب ساخر (Sarcastic)ويفرض على المتلقي نوعا جديدا قائما على ايجاد العلاقة بين النماذج والانماط المعروضة والواقع الذي يتم التعبير عنه بشكل ساخر.
وفي الختام لا بد من تسليط الضوء على نقطة جوهرية تتعلق بالارضية التي انبثق منها المسرح الراقص لنرى انعكاساتها على المسرح العربي وقدرة الجمهور على فهمه.
من المعروف بأن المسرح الراقص قد جاء نتاجا لحركة تحرير المرأة  وهي وان كانت احد النتاجات المتاخرة لحركة التنوير التي سادت في القرن الثامن عشر في اوروبا التي دعت الى إعمال العقل وتحريره  من كل سلطان واسست المشروعية للعقل لنقد الوضع القائم، الا انه كان قد تم اغفال حركة تحرير المرأة في البدايات نتيجة لممارسات المجتمع البطريركي (الابوي) الذي يمارس القهر والتمييز ضد المرأة.
وعليه فهل يستطيع المشاهد العربي في ضوء هذه النشأة ان يتفهم ويتمثل المسرح الراقص، الذي هو احد منجزات الحضارة الاوروبية، دون اختبار حركة التنوير ومواكبة حركة تحرير المرأة لها؟
ان الاجابة على هذا السؤال يحتاج قطعا لدراسة موسعة، ولكن مع ذلك او بدونه ولمواكبة التطور المتسارع .يبقى لزاما علينا ان نكون على اطلاع كمسرحيين على اخر نتاج الغرب مع الاحتفاظ بحقنا لقبول او رفض هذه الافكار.

14. ه "بينا باوش" والمسرح الراقص

العشرينيات من القرن العشرين افرزت ما كان يدعى في حينه الرقص التعبيري (Ausdrucktanz) باللغة الالمانية او (Expressive Dance) بالانجليزية. لقد ساد هذا الرقص ولاقى قبولا كبيرا في تلك الحقبة معتمدا على الحركات اليومية الاعتيادية للتعبير عن التجارب الشخصية، الا ان هذا الرقص اختفى نتيجة ظهور الحكم النازي في ذلك الوقت، حيث ركزت رموز النظام على ترسيخ فن الباليه وتغييب المدارس المسرحية الاخرى. في الستينيات وبعد التخلص من آثار النظام النازي وانعكاساته عاد الكثيرون من الفنانين الى المانيا وبدأوا يبحثون عن لغة جديدة مستقاة من مفردات الرقص التعبيري الوارد ذكره اعلاه واسسوا لما نسميه الان "المسرح الراقص" وذلك في محاولة جديدة لكي ينأوا بانفسهم عن الباليه. لقد تتلمذت "بينا باوش" المولودة في مدينة سولنجن (Solingen) الالمانية عام 1940 على يد "كيرت يوس" (Kurt Jooss) احد العائدين الى المانيا وابتدأت "باوش" حياتها المهنية كراقصة باليه حيث كانت قد تتلمذت ايضا على يد الامريكيين "انطوني تيودور" (Anthony Tudor) و"بول تيلر" (Paul Taylor) وهم من كبار العاملين في هذا المجال في حينه.
لقد عملت "باوش" في فن الباليه ما يقارب الخمس عشرة سنة وقد شعرت أن هذا الفن لا يلبي تطلعاتها فاخذت تبحث عن مفردات جديدة للتعبير عن نفسها، فلجأت مع الاخرين الى مفردات الرقص التعبيري القديمة، ولا تزال "بينا باوش" حتى يومنا هذا تعمل في هذا المجال من مسرحها المسمى "مسرح فوبرتال الراقص – بينا باوش" الذي قامت بتأسيسه في منتصف السبعينيات من القرن العشرين.
قدمت باوش الكثير من الاعمال المتميزة في المسرح الراقص، والمتفحص لاعمالها يرى ان بعض المشاهد هي مشاهد رقص منفرد (Solo) او ثنائي (Duet) او مجاميع(Ensemble) حيث يقوم جميع افراد الفرقة بأداء لوحات تعبيرية درامية راقصة، والبعض الاخر يتكون من مشاهد تمثيل مسرحي ياخذ شكل البوح، وقد تم تعريف هذه المشاهد عند باوش بمصطلح "مشاهد الاعتراف" (Confessional Scenes). لقدجاءت هذه التسمية نتيجة لطبيعة نشأة هذه المشاهد حيث اعتمدت "باوش" طريقة خاصة في عملها مع فريقها تقوم على استجواب العاملين معها عن ذكرياتهم وماضيهم والحوادث المؤثرة في حياتهم والطلب اليهم ان يقوموا بتجسيدها ومن ثم تنتقي المناسب وتقوم بتطويره ليتم تقديمه في العرض ليشعر المشاهد بأن الممثلين قريبين اليه كأنه صديق يؤخذ رأيه او يشارك في الحدث. تتميز هذه المشاهد ايضا بأن المؤدي يتوجه الى الجمهور ويبدأ الحديث معهم وهو شكل مستوحى من الاسلوب الملحمي عند "برخت" ونظرية التغريب لديه، وبهذا نرى ان مشاهد البوح تعتمد كسر الحاجز الرابع – الستارة - اي رفض فصل العلاقة بين ما يجري على المسرح والجمهور.
ان مشاهد البوح ليست هي الطريقة الوحيدة عند "باوش" لكسر الحاجز الرابع ففي بعض  المشاهد نرى الممثلين ينتشرون في الصالة بين الجمهور يبيعون على سبيل المثال صورا ويقبضون ثمنها اثناء العرض،  وفي مشاهد اخرى نرى احدى الممثلات تطلب من الجمهور قطعة نقدية لاستخدامها لتشغيل الة ميكانيكية من الديكور الموظف على  خشبة المسرح.
بالاضافة الى استجواب الممثلين عن ماضيهم، تعتمد "باوش" كليا على الارتجال فليس هناك نص جاهز تقوم بالعمل عليه، بل تبدأ الاشياء عندها كما تقول "من فكرة صغيرة جدا ثم تكبر"  وينتج عن هذا الارتجال مجموعة من المشاهد المسرحية الحوارية والتعبيرية الراقصة. تقوم باوش باختيار الافضل وتنسيق العرض بشكله النهائي حسب رأيها.  يلاحظ العامل مع باوش اوالمراقب لعملها انها لا تستقر بسهولة على المشاهد فتقوم بالتغيير المستمر - ما يسمى في المسرح "الهدم والبناء" - ليس فقط اثناء التمارين بل تستمر في التغيير حتى بعد عرض العمل على الجمهور. تحتاج اعمال "باوش" الى متلق خاص لأنها لا تقدم نصا تقليديا له بداية ووسط ونهاية بل مجموعة مشاهد كولاج (Collage) يستطيع معها هذا المتلقي ان يكمل الصورة في مخيلته.  تؤكد "باوش" على انها تعطي اشارات ورموزا دقيقة لا تقبل الا تأويلا واحدا اذا كان المتلقي يلتقط هذه الاشارات بدقة.
تتميز اعمال "بينا باوش" بديكور غير تقليدي  تضعه بمساعدة مهندسي الديكور بشكل يقطع الانفاس، واحيانا يثير الرهبة في النفوس. لا تدع "باوش" شيئا غير تقليدي الا وتضعه على خشبة المسرح، وامثلة على ذلك، التراب، الطين، اوراق الشجر اليابس، الماء من بحر ونهر وبحيرة وشلال  ودلو وصفائح بلاستيكية كبيرة ممتلئة بالماء الى اخره، والورود والازهار المختلفة، فعلى سبيل المثال في مسرحيتها "القرنفل" (Carnation) والذي نفذت عام 1982 استخدمت الالاف من زهر القرنفل الحقيقي وفي مسرحية "منظف النوافذ" (Window Cleaner) والتي نفذت عام 1996 استخدت عشرة آلاف رأس وردة جورية حمراء شكلت منها تله يخرج منها طريق مفروش بالورد حيث كانت هذه الكتلة هي فضاء العرض المسرحي.
تعتبر "باوش" استخدامها لديكورات غير تقليدية المصدر الاساسي لرسم الحركة الراقصة والمسرحية على الخشبة فعلى سبيل المثال فان وجود آلاف من زهر القرنفل الحقيقي استدعى استخدام حركات القفز لتجنب الدوس على الازهار المثبتة على ارضية المسرح،  واستخدام ورق الشجر اليابس وفرشه على كامل ارض المسرح في مسرحية "بلوبيرد" عام 1977(Bluebeard) استدعى ان تكون معظم حركة الممثلين ملتصقة بالارض حيث نرى احيانا زحفا على الارض ونرى المكان بعد الزحف يعاد تشكيله بجسد الممثلين بحيث يشكل لوحات تشكلية على الأرض مكونة من الفراغ وورق الشجر اليابس.
لم تكتف "باوش" بالديكورات غير التقليدية بل استخدمت ايضا حيوانات مختلفة على خشبة المسرح من اغنام وكلاب وفرس بحر وتمساح وفأر وقطة الىاخره، فعلى سبيل المثال في مسرحية "القرنفل" (Carnation) استخدمت مجموعة من الكلاب البوليسية مع حراسها لتشكيل دائرة تحيط بالممثلين والراقصين وتدور جميع الاحداث والكلاب تصرخ او تنبح او تتقدم او تبتعد عن الممثلين.  لم تنس "باوش" حماية الممثل فقامت بعمل تدريبات مضنية ادت في نتيجتها الى اكمال العمل دون ان يصاب احد بمكروه، وقد جاء توظيفها للكلاب البوليسية ادانة للقمع السياسي الذي يواجهه الانسان.
لا تتردد "باوش" في استخدام اي مفردة على خشبة المسرح طالما انها تساعد في ايصال رسالتها الاجتماعية او السياسية من خلال خطابها الابداعي.
 تبقى الاشارة الى ان "باوش" لم تكتف بما هو موجود امامها بل قامت هي وفرقتها بزيارة الكثير من المدن لجمع المعلومات عن هذه المدن حيث قامت باخراج اعمال تم استلهامها من وحي مدن كبيرة مثل "منظف النوافذ" (Window Cleaner) وهي مسرحية شكلت خارطة جديدة لهونج كونج كما تخيلتها باوش وفريقها وكذلك مسرحية "انت فقط" (Only you) متأثرة بمدينة لوس انجلوس واربعة اعمال اخرى متأثرة بمدن مختلفة.
وفي الختام، تعتبر "بينا باوش" واحدة من اهم العاملين والمؤسسين للمسرح الراقص الحديث. لقد جلبت الشهرة العالمية الى مدينتها الصغيرة "فوبرتال" على عكس المألوف، فعادة الممثلين والراقصين لا يحصلون على الشهرة العالمية الا اذا لجأوا للمدن الكبيرة الا ان تجربة "باوش" خرقت المألوف لتثبت لنا بأن المثابرة والعمل والبحث الصادق تستطيع ايصال الفنان الى الشهرة العالمية. لقد اصبحت مدينتها الصغيرة مكانا يأتي اليه مشاهير العالم للاطلاع عن قرب على مدرسة "باوش" او للعمل معها او لمؤازرتها.

أ. مجد حمدي القصص

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption