يُعتبر الإنجليزي بيتر بروك الذي أطفأ أول أمس السبت شمعته التسعين، أحد آخر عمالقة المسرح العالمي الأحياء.
فعلى امتداد مسيرته الفنية التي بدأت منذ وقت مبكر جدا مقارنة بغيره من كبار شخصيات الفنون الحركية والمشهدية، ظل بروك يحفر في العمق ويخوض التجارب ويراجع المسلمات ويسائل أمهات النصوص الإنجليزية والتجارب المسرحية العالمية، واضعا نصب عـيـنـيـه بلوغ هدف واحد، وهو أن يكشف عن "روح الفرجة" في "روح الإنسان" حيثما كان عبر الزمان والمكان.
هاملت.. عبث الطفولة
صبيحة يوم 21 مارس/آذار 1925، فتح بروك عينيه على الدنيا في عائلة ذات أصول ليتوانية سبق لها أن هاجرت إلى إنجلترا واختارت العاصمة لندن مقرا لإقامتها.
وفي هذا السياق الثقافي واللغوي الجديد، وجـد بروك نفسه -وهو في سن الخامسة- وجها لوجه مع شكسبير (1564-1616) أحد أعظم كتاب المسرح في العالم وأكثرهم تعبيرا عن شاعرية اللغة الإنجليزية ودرامية نصوصها الأدبية.
لم يكن أحد ينتظر من صبي في الخامسة من العمر أن يفهم نصا يعجز عن إدراك دلالاته وأبعاده الناضجون من الكهول. ومع ذلك، وبـدل أن ينشغل مع أقرانه بـلعبة "الحرامي والشاويش" أو لعبة "العريس والعروس" أغلق بروك باب غرفته على نفسه وقام بإخراج مسرحية "هاملت" بعدما أعدها في شكل عـرضٍ للدمى والعرائس.
"بروك اهتدى بشكل فطري إلى حقيقة أن نصوص شكسبير -هذه التي غالبا ما نتعامل معها على أساس كونها نصوصا حبيسة الأدب المقروء- إنما هي في الواقع نصوص تنبض بالحياة لأن شكسبير إنما كـتـبـها لكي تُـجـسـد على الركح"
لم يكذب منظرو علم النفس التحليلي حين قالوا إن الطفل هو أبو الرجل. فمنذ لحظات العبث الصبياني البريء مع "هاملت" ارتسمت بشكل نهائي -أو يكاد- شخصيةُ بروك الفنية وتحددت ملامح رؤيته الجمالية.
فقد اهتدى بروك بشكل فطري إلى حقيقة أن نصوص شكسبير -هذه التي غالبا ما نتعامل معها على أساس كونها نصوصا حبيسة الأدب المقروء- إنما هي في الواقع نصوصٌ تنبض بالحياة لأن شكسبير إنما كـتـبـها لكي تُـجـسـد على الركح ويـنـفُـخ فيها الممثلون من روحهم ومن أدائهم كل ليلة، ما يجعلها حـيـة مع كل عرض.
كان شكسبير ورطة جميلة تفطّن بروك من خلالها إلى أن الفرجة هي جوهر المسرح وروحه، وليس النص الأدبي (بالرغم من روعته ومن القيمة التي يحملها في ذاته) إلا عــرضا زائلا من المستحيل أن يصمد أمام الحقيقة المغايرة، حقيقة العــرض المسرحي ذي الأدوات الفنية والجمالية المتفردة المخصوصة.
شكسبير.. سر الأسرار
كان شكسبير بالنسبة إلى بروك الطريق الملكية التي قادته إلى اكتشاف أسرار الفرجة وروح العرض وجوهر الفنون المشهدية.
ولكن الصبي الذي قضى شطرا من طفولته صحبة "هاملت" لم يتخصص في الدراسات المسرحية على عكس ما هو منتظر، بل اتجه إلى الأدب المقارن بحثا عن المختلف والمؤتلف في إبداعات الشعوب ونصوصها.
"بيتر بروك خرج بالمسرح عن المسرح عندما جرب إنجاز أعمال للأوبيرا مثل أوبيرا "البويهيمية" (1948) وأوبيرا "سالومي" (1949) وغيرهما. ولكن الخروج الحقيقي تجلى في اقتباسه أعمالا مسرحية للسينما"
ومع بلوغه سن السابعة عشرة (1942) أنجز أول أعماله المسرحية تحت عنوان "حكاية الدكتور فاوست التراجيدية" استنادا إلى نص من نصوص كريستوفر مارلو (1564-1593) أحد كتاب الحقبة الإيليزابيثية.
ثم تتالت مسرحياته التي توزعت على نصوص كلاسيكية، وفي طليعتها نصوص شكسبير، وأخرى حديثة ذات أصول فرنسية كنصوص جون بول سارتر (1905-1980) وجون جيني (1910-1986) وجون آنوي (1910-1987) أو ألمانية كتبها المسرحي الطليعي الشهير بيتر فايس (1916-1982).
ولعل أهم ما يلفت الانتباه في هذه الحقبة -التي امتدت من الأربعينيات إلى أوائل السبعينيات- أن معالجة بروك للنصوص التي اشتغل عليها كانت محكومة بهواجس التجديد والتجريب، وذلك ما يتجلى من خلال محاولته إعادة الاعتبار لنصوص شكسبير المجهولة التي وجد فيها بعض ما لم تفصح عنه نصوصه المستهلكة.
ثم إنه -حتى لحظة تعامله مع المستهلك من النصوص- لم يـكـتـفِ بمجرد تقديمها للعرض، بل أخضعها لقراءة جديدة مغايرة، بل لأكثر من قراءة أحيانا.
وقد دفعه هذا التوجه إلى الخروج بالمسرح عن المسرح عندما جرب إنجاز أعمال للأوبرا مثل أوبيرا "البويهيمية" (1948) وأوبيرا "سالومي" (1949) وغيرهما. ولكن الخروج الحقيقي تجلى في اقتباسه أعمالا مسرحية للسينما. ولنا أن نتوقف -بشكل خاص- عند تجربته في مسرحية "الملك لير" لشكسبير، فقد أُخـضِـعـت هـذه المـسـرحـيـة -بالرغم من كونها مستهلكة- لقراءتين مختلفتين: قراءة سينمائية اشترك في إنجازها سنة 1953مع أحد مجانين الفن الحديث في أميركا أورسن ويلس (1915-1985) وقراءة ركحية أنجزها سنة 1962 صحبة فرقة شكسبير الملكية.
وعبر التنويع في الأجناس المشهدية، ظل بروك يحفر في العمق ويصوغ النظرية التي اشتهر بها "نظرية المساحة الفارغة" التي قادته إلى ذرى العالمية وحملته إلى أقصى الأماكن عبر المعمورة.
رحلة الينابيع
في مطلع السبعينيات، قرر بروك الاستقرار نهائيا في باريس التي استقبلته سابقا أكثر من مرة، وتنبه وهو يقدم فيها أعماله أو ينجزها إلى أنها المفترق الذي يجمع كبار المسرحيين وأهم التجارب المشهدية عبر العالم.
ودخل بروك باريس فاتحا بنظرية "المساحة الفارغة" التي جعلت المسرح في صميم الحياة.
"تسعون عاما من المسرح الحي لم ينجح خلالها بروك في جعل المسرح جزءا من الحياة فقط، بل جعله الحياة كلها، فكانت قراءاته التجديدية والتجريبية تخترق الثقافات وتذهب في عمق الإنسان بحثا عن الجوهر"
ويكفي -كما يقول بروك- أن تـحـدد فضاء أو مساحة في مكان ما، أي مكانٍ، وأن تطلب من شخص ما أن يـعـبُـر تلك المساحة أو الفضاء وأن تضع أمامه شخصا آخر ينظر إليه ويتبع خطواته.. تكفي هذه الخلطة البسيطة ليكون هنالك شيء اسمه المسرح في أبسط معانيه وأعمقها. فلا حاجة لنا، إذن، بالبناءات العظيمة والركح الخشبي، والديكورات والإكسسوارات والأضواء والملابس والملقنين، وكل تلك العدة التي أثقلت المسرح وخنقته.
ويكفي الفراغ حتى نملأه بالحياة.. ويكفي النظر إلى الحياة من زاوية أخرى حتى نتفطن إلى أنها مشهد كلها ومسرح لا ينتهي.
واهتداء بهذه الأفكار، وجد بروك أن باريس نفسها لا تلبي طموحه رغم أنه أسس فيها "المركز العالمي للبحوث المسرحية" وجعل منه قبلة للفنانين.
ترك بروك باريس ومركزها، وحمل معه فرقته للقيام بـ"رحلة الينابيع"، وهي رحلة لم يكن الهدف منها تقديم العروض المسرحية بل تعلم مزيد من المسرح، فزار أدغال أفريقيا، وعوالم الهنود الحمر في أميركا، وبلدان الشرق الأدنى والأقصى، وحيثما حل قام بما يقوم به عادة علماء الأنثروبولوجيا، حيث كان يرصد كل أشكال المسرح الحي عبر الثقافات المختلفة.
وكانت نتيجة ذلك الجهد عدة أعمال أهمها مسرحية "مؤتمر الطيور" (1979) التي أنجزها فيإيران واستوحاها من ديوان "منطق الطير" لفريد الدين العطار، ومسرحية "ماهابهاراتا" (1985) التي أعدها في الهند واقتبس مناخاتها من الكتب الهندوسية المقدسة، وقدمها في مهرجان أفينيون للمسرح ضمن عرض يستغرق تسع ساعات كاملة.
تسعون عاما من المسرح الحي لم ينجح خلالها بروك في جعل المسرح جزءا من الحياة فقط، بل جعله الحياة كلها، فكانت قراءاته التجديدية والتجريبية تخترق الثقافات وتذهب في عمق الإنسان بحثا عن الجوهر.
وهل الجوهر إلا المشهد يكتبنا ويقرأنا ويعرضنا أمام أعين الجميع، وأمام أعيننا نحن الممثلين في مساحة فارغة حد الامتلاء؟
الصحبي العلاني