جيرزي غروتوفسكي و نظريته نحو مسرح فقير / محسن النصار
مجلة الفنون المسرحية
جيرزي غروتوفسكي Jerzy Grotowski (جيشوف، 11 أغسطس 1933 - بونتيديرا، 14 يناير 1999)
وهو مُخرج ومُنظّر ومدرب مسرحي بولوني، صاحب نظرية «المسرح الفقير» Poor Theatre، ومؤسس «المختبر المسرحي» Theatre Laboratory. ولد في مدينة رزيشوف Rzeszow وتوفي في وارسو مريضاً بسرطان الدم. درس التمثيل في كراكاو وموسكو وبكين، لكنه سرعان ما تحول إلى الإخراج المسرحي، وكان أول أعماله في عام 1957«الكراسي» The Chairs ليوجين يونسكو. وبعد ذلك بسنتين أسس مع صديقه لودفيك فلاشن Ludwik Flaszen المختبر المسرحي الذي دعي آنذاك «مسرح 13 صفاً» Theatre of 13 Rows في مدينة أبوله Opole، ثم نقلاه عام 1965 إلى مدينة فروكلاف Wroclaw حيث أصبح مركزاً للأبحاث في فن التمثيل، إلى جانب الوجود الدائم للفرقة المسرحية التي قامت بجولات عروض في الدنمارك والسويد والنرويج، كما شاركت في مهرجان مسرح الأمم في باريس عام 1967. أقام بالتعاون مع مساعده تشيسلاك Cieslak «وحدة العمل الفني»، والبؤرة التي يتمحور حولها العمل المسرحي هي الممثل في أدائه الإشراقي، والمنبثق من منهج متكامل في فن التمثيل. وعندما سُئل غروتوفسكي عن المصادر التي تشكل مرجعيته الفنية والفكرية أشار من دون مواربة إلى الممثل
البولوني يوليوس أوسْتِرفا Julius Osterwa (1885- 1947)، وإلى ستانسلافسكي Stanislavski؛ ومايرخولدMeyerchold، وآرتو Artaud، وبرشت Brecht (من الدول الأوربية)، وكذلك إلى تقاليد مسرح «نو» Noh الياباني، و«كاتاكالي»Katakali الهندي، وأوبرا بكين. وأضاف بأن المنهج الذي طوره في «المختبر المسرحي» في سنوات ليس تركيباً من هذا وذاك، ففي المختبر يتم تركيز كل شيء من أجل إنضاج الممثل عن طريق توتيره إلى الحد الأقصى وتجريده الكامل، وبالبوح الذي يقدّم عارياً كل ما هو شديد الخصوصية. وكل هذا من دون شائبة من أنانية أو استمتاع ذاتي. بمعنى أن الممثل يقدم نفسه هديةً كاملةً في العرض. وهذه هي فنية (التجلي) وتكامل القوى النفسية والجسدية التي تنبعث من أغوار كيانه وغريزته، فينبثق ما هو نوع من الإشراق؛ إذ إن أشكال السلوك الطبيعي تخفي الحقيقة، ولهذا يبني غروتوفسكي الأداء على نظامٍ من العلامات التي تمثل ما وراء قناع الرؤية العادية أو جدل السلوك البشري؛ فالعلامة إذن وليس الحركة الطبيعية هي التعبير الصحيح للممثل في عروض غروتوفسكي الذي استعان بنتائج كثير من العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا الثقافية، لأن عملية تدريب الممثل عنده هي كشف مشترك بين ذاتين: المدرب والمتدرب في سنوات من التدرُب الشاق جسدياً ونفسياً، ومن جلسات تحليل مختلف الحالات التي يتعرض لها الممثل في أثناء عمله.
ويقول جروتوفسكي في مقالته " نحو مسرح فقير ":"ينفد صبري أحيانا عندما يسألني سائل : ما هو الأصل في عروضك المسرحية التجريبية؟". فمثل هذا السؤال يفترض مسبقا أن العمل المسرحي التجريبي لابد و أن يستخدم تكتيكا جديدا في كل مرة و أنه الفرع و ليس الأصل. ويفترض أيضا أن نتيجة العمل المسرحي التجريبي لابد أن تكون اسهاما جديدا في فن المسرح المعاصر و ذلك مثل المناظر المسرحية التي يستخدم المخرج في تصميمها بعض الأفكار في فن النحت المعاصر أو من الامكانات الإلكترونية، أو مثل استخدام الموسيقي المعاصرة أو أن يجعل الممثلين يؤدون بأسلوب شخصيات الكاباريه النمطية أو مهرجي السيرك. و أنا أعرف هذا الأسلوب في التجريب جيداً، و لقد كنت ذات يوم جزءا منه.
أما عروضنا في المعمل المسرحي فهي تسير في اتجاه آخر. فنحن نحاول في المقام الأول أن نتحاشي اتباع أسلوب واحد بل ننتقي ما نعتبره الأفضل من مختلف الأساليب، محاولين في ذلك أن نقاوم التفكير في المسرح باعتباره تجميع لعدة تخصصات فنية. ونحن نهدف الي تحديد طبيعة المسرح التي تميزه عن سائر فنون العرض و الأداء. و ثانيا فإن عروضنا هي عبارة عن بحوث مستفيضة في العلاقة بين الممثل و الجمهور. و بمعني آخر فنحن نعتبر أن تكتيك الممثل هو جوهر الفن المسرحي.
أما فيما يتعلق بالنص الأدبي المسرحي فقد توصل غروتوفسكي في عمله في مختبره إلى أن الفن المسرحي لايجوز أن يكون مطية لتقديم نص مؤلفٍ ما وتوضيحه، من زمن ما، كتبه لجمهور ما، بل النص هو أحد عناصر العرض وليس مركز ثقله. في تجاربه الإخراجية المتنوعة، تعاون غروتوفسكي على صعيد السينوغرافيا (دراسة الفضاء المسرحي) Scenography مع فنانين أوربيين معروفين مثل جوزيف شاينا Szajna، وغورافسكي Goravski. ومكان العرض المسرحي عنده لاينقسم حسب التقاليد المتوارثة إلى صالة ومنصةحيث تتحدد العلاقة الجبهية الأحادية بين المرسل والمتلقي، إنما يتغير مكان الجمهور إلى جزأين أو ثلاثة موزعة في المكان المفتوح، بما يحقق التواصل والتأثير الأمثل لفاعلية الممثل على المشاهد.
إن أبرز أعمال غروتوفسكي الإخراجية هي «قابيل» (1960) لبايرون، و«كورديان» Kordian للبولوني سلوفاكي Slovakiت(1962)، و«أكروبوليس» للبولوني فيسبيانسكي Vispianski ت(1962)، و«التاريخ المأسوي للدكتور فاوستوس» للإنكليزي مارلو (1962)، و«الأمير الصامد «للإسباني كالديرون دي لاباركا» Calderon de la Barca ت(1965)، و«القيامة في صور» لغروتوفسكي نفسه (1971). وقد أوصلته هذه العروض إلى الشهرة العالمية في أوساط المختصين في المسرح، لجدتها وخروجها على السائد المألوف في المشهد المسرحي في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وما لفت انتباه المسرحيين تحديداً إلى غروتوفسكي تعامله مع الممثل والفضاء والنص المسرحي والجمهور، حيث تتضافر هذه العناصر معاً في نسق جمالي يولّد أثناء العرض حالة خاصة تتركز وظيفتها في تحريض الممثل على خلق دوره بنفسه، وليس على إعادة إنتاج الشخصية حسبما تخيلها ووصفها الكاتب. ومن هنا فقدت النصوص الأدبية قدسيتها عند غروتوفسكي، وأضحت محض مادة خام قابلة لإعادة النظر وللحذف والتطوير وإعادة الكتابة انطلاقاً من راهنية لحظة العمل. صحيح أن غروتوفسكي يتكىء على نصوص مسرحية لكتَّاب مسرحيين معروفين، إلا أن نص عرضه المسرحي الجاهز للقاء مع الجمهور لايتطابق ونص المؤلف إلا من حيث العمود الفقري للحدوث، أي إن ما يتعرفه المشاهد في العرض هو سيناريو جديد نتج من حال الارتجال مع الممثل في أثناء التمرينات .
وفي الفضاء المسرحي يركز غروتوفسكي على الممثل وحسب متخلياً عن مكونات العرض الأخرى كافة من ديكور وأزياء ومكياج وموسيقى وإضاءة. وقد أطلق على عروضه الجديدة تسمية «المسرح الفقير» في مواجهة المسرح الثري المزود بالتقانات الحديثة. يقول غروتوفسكي بهذا الصدد: «إن تعريفات المسرح لاتنتهي، ولكي نخرج من هذه الدائرة المفرغة، لابد أن نلغي بعض التعريفات، بدلاً من أن نضيف إليها، وذلك بأن نسأل أنفسنا: ما هو غير الضروري في المسرح؟ هل يمكن أن يوجد مسرح من دون أزياء وديكورات؟ نعم يمكن، ومن دون موسيقى تصويرية ومؤثرات إضاءة وصوت؟ بالطبع ممكن، وهل هذا ممكن من دون نص؟ نعم أيضاً، فتاريخ المسرح يؤكد ذلك. ولكن هل يمكن أن يوجد مسرح من دون ممثل؟ لا علم لي بأي سابقة من هذا القبيل! وهكذا يتبقى لنا لقيام المسرح: ممثل ومشاهد، وبالتالي يمكننا تعريف المسرح بقولنا: إنه ما يحدث بين ممثل ومشاهد. أما ما عدا ذلك فمحض إضافات قد تكون ضرورية؛ ولهذا فإن «المسرح الفقير» الذي صرنا إليه في السنوات الأخيرة، لايوجد فيه سوى ممثلين ومشاهدين. إن كل ما هو بصري يقدمه الممثل بجسده، وكل وما هو سمعي يقدمه الممثل بصوته».
لا يتوجه غروتوفسكي في عروضه إلى جمهور واسع مجهول، وإنما إلى نخبة محددة في جو حميمي يهييء إمكان المشاركة المتوخاة بين الطرفين بهدف التأثير في المشاهد انفعالياً، بأداء الممثل المنعتق جسدياً ونفسياً. لكن هذه النخبة لايحددها الوضع الثقافي أو الاجتماعي الاقتصادي للمشاهد. إن العامل البسيط الذي لم يتجاوز مرحلة التعليم الثانوي يمكنه أن يخوض هذه العملية الإبداعية في البحث عن الذات، في حين يبقى أستاذ الجامعة ميتاً متقولباً جامداً، غير قادر على الخروج من ذاته.
وفي عروض غروتوفسكي
كان يعتمد على تأدية الشعائر , تدريب الممثل وفق تقنية معينة , بناء الدور , العلاقة بين الممثل و المتفرج.
من خلال تكريس فكرة "المسرح الفقير" حيث انه كان يرى بأن المسرح ليس في ثراء السينما فهو فقير ولا يستطيع أن ينفق مثل التليفزيون فلا بد أن يكون متقشفا، لذلك نادي "بممثل قديس لمسرح فقير"، فما كان يريده جروتوفسكي هو قاعة خالية تصلح لجلوس المتفرجين بينهم ممرات وفجوات لأداء الممثلين مشركين معهم الجمهور، فالمسرح بالنسبة إليه هو كل ما يدور بين الممثل والمتفرج وكل ما عدا ذلك يعد ثانويا. ويقوم منهج جروتوفسكي علي تقنية (الترانس) أي تكامل جميع القوي النفسية والجسمية التي تنطلق من أعماق الممثل وغرائزه وتنفجر بصورة تكشف عن هذه الأعماق. وتقوم تقنية (الترانس) هذه علي ثلاثة عناصر هي :الموقف الاستنباطي , الاسترخاء الجسمي , تركيز نشاط الجهاز العضوي كله في منطقة القلب.
وكان يؤكد على ما هو طقسي احتفالي، وقد لجأ منذ منتصف الستينيات إلى استخدام الأساطير الوثنية والدينية وتضمينها في ثنايا عروضه، ولكن ليس بالمعنى الجمالي أو المعرفي، وإنما بوصفه حاملاً لقضايا الإنسان المعاصر. وينسجم هذا الهدف وأسلوب العمل داخل فرقته، أي حياة التقشف المادي الجماعية التي يعيشها أعضاء الفرقة، وإبداعهم الجمالي وأخلاقياتهم الرفيعة. ومنذ عرض «القيامة في صور» Apocalypsis cum figuris بحث غروتوفسكي في الظواهر شبه المسرحية التي تعرّف بعض أشكالها في خلال جولاته في إيران ولبنان وأمريكا اللاتينية، مستفيداً من تقاليدها. ومنذ عام 1975 أسس ما يسمى «المهرجان» أو «المشروعات الخاصة» أو «الفعالية الجماعية» التي أخذت تبحث في ميادين مختلفة في آن واحد، إلى جانب الفن المسرحي كالفنون عامة والفلسفة وعلم النفس والاجتماع والأنتروبولوجيا وعلم البيئة والاقتصاد وغيرها، مما أدى ـ على الصعيد التنظيمي ـ إلى تجزيء «المختبر المسرحي» إلى فروع عدة تمارس أنشطة مختلفة. وكانت آخر مشروعات هذه الفعاليات عرض «جبل المخاطر» (1975)، و«بيت خلية النحل» (1977) إلى جانب تأسيس «جامعة مسرح الأمم التجريبية» منذ 1975 التي استقبلت أعداداً من الطلاب الأجانب من مختلف أنحاء العالم. وقد كان لمنهج غروتوفسكي تأثير كبير في عدد من كبار المخرجين المعاصرين مثل بيتر بروك P. Brook، وأوجينين باربا .
المصادر
1-المخرج في المسرح المعاصر, سعد اردش, عالم المعرفة, 1978
2- كتاب " نحو مسرح فقير " تأليف جيرزي كروتفسكي
3- الموسوعة الفنية ,جيمي ويلز , مؤسسة ويكيميديا,سان فرانسيسكو, 2001
0 التعليقات:
إرسال تعليق