مسرحية " الرحمة يا أمي " تأليف : *فاطمة يوسف عبد الرحيم
مجلة الفنون المسرحيةالشخصيات:
الأم
الأب
ولاء
رفاه
الشرطي
الضابط،
شخصيات الضمير
خلايا التفكير
بعد فتح الستارة تُتلى الآية {بسم الله الرحمن الرحيم...وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْكِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كرِيماً... الإسراء23}
تظهرالأمّ في بقعة الضوء: ولاء، أيتها الحمقاء أين أنت، تعالي؟ (تكلم نفسها) ما أصعب التعامل معها، ليتها مطيعة أو جميلة مثل أختها رفاه، ليتني سميتها بلاء لأنّه يليق بها أكثر، أين أنت؟
تظهر صبية في بقعة الضوء تحكي بتأتأة: أنا،أنا جئ جئ تك، أأ، أأمريني؟
الأم بحزم: سترافقك أختك إلى بيت جدك، لأنّك غبية وتغرقين في شبر ماء، وربما تتوهين في الطريق.
تعالى وجيب قلبها والتفتت بنظرة حانية، ولاء: بل سأ،سأ،سأذهب وحدي، دائما أختي هي المميزة ، كل شيء لأجلها، مع إني الكبيرة.
الأم: (غاضبة) لم الجدل العقيم، "رفاه" أكثر وعيا منك.
ولاء بتوتر: أكملي أهزوجة مديحك الخرافي لأختي، هـ، هـ، هي أكثر ذذكاء وأكثر جم.. جم.. جمالا ورقة وووعذوبة وووو....
الأم: (باستهانة ولؤم) هذه حقيقة! أتغارين منها؟
ولاء (بثقة): لن أكون ظلا لأحد، سأحقق ذاتي لأعبر عن وجودي لتدركوا حقيقتي، لن أكون علاقة الملابس البالية.
الأم (تتمتم بعبارات غاضبة): اذهبي وحدك حيث شئت، لا أريد رؤيتك، هاك أجرة الطريق، ما أقسى التيه حين يباغت الغبي. (تنسحب الأم).
تلاحق الإضاءة ولاء التي تتحرك بعشوائية سريعة لتبين توهانها، تصرخ: أنا تائهة، تائهة، لا أستدل على طريق بيت جدي، سأسأل عن مكان مركز الشرطة، لعلهم يرشدونني إلى بيت جدي.
تلوح لامرأة من بعيد: يا خالة هل تعرفين مكان مركز الشرطة ....إنها تشير يمين يسار يسار.
يسلط الضوء على مكتب ضابط الشرطة (يردد متذمرا): الموظفون في معظم الوزارات مرتاحون، يتحدثون مع صديقاتهم على الهواتف، يشربون القهوة، يثرثرون يضحكون، كأنّ الوظيفة نزهة للترفيه، نحن نحترق في غضب المدينة وانهيار الأخلاق: نزاعات، سرقة، اغتصاب، ممنوعات، قضايا آداب، ليتني أعرف سبب ضياع الأمان في مدينتنا.
الضابط للشرطي باستياء: (ولاء ترتجف) من هذه؟ هل هي قضية سرقة أو مشاحنة أو آداب فمعاصي النساء كثرت في هذا الزمن؟
الشرطي: لا، سيدي، إنّها صبيّة تائهة عن منزل ذويها.
نظر إليها بوجه متغضّن الملامح... الضابط (مغتاظا): تائهة! هيّا افتح ملفا للتائهات.. ما اسمك؟
نظرت إليه بعين تتأهب لانسياب دمعة.. ولاء (مضطربة): لا أعرف، لا أعرف من أنا ... لا أنا عبق زهرة يضوع في مدى الذاكرة، بل أنا دمعة تشتهي طعم الفرح!
الضابط: ماذا تقولين! هل أنت بلهاء! ما عنوان بيتك... يجب ان نوصلك قبل الظلام؟
ولاء متلعثمة: لا أعرف المنزل أو الحي أو اسم الشارع، لا أعرف شيئا، ذاكرتي غائمة.
الضابط (متوترا): إلى أين كانت وجهتك؟
ولاء: لا أذكر شيئا، لا أذكر شيئا، ودفق ريق لسانٍي المرار، (تغطي وجهها بكفيها... تبكي بتوجع)
الضابط يزفر حائرا: احجزها للصباح بانتظار بلاغ عن تائهة.
الشرطي: هل أحجزها مع المجرمات والسارقات والعاهرات؟
الضابط متذمرا :هل آخذها إلى بيتي! ضعها في أيّ مكان آمن.
يُطرق الشرطيّ مفكرا ثمّ يأمرها: تعالي لمطبخ المخفر، إنه أكثر أمانا لا يدخله أحد، ستجدين أريكة تنامين عليها.
المشهد الثاني (في المطبخ)
تظلل المسرح عتمة برهة، ويضاء بأكمله، ليظهر مطبخ مركز الشرطة بمكوناته، علاقة ملابس، غسالة، ثلاث مكانس بيد طويلة، خزّان ماء صغير معلّق فوق مغسل للأطباق، (طشت) غسيل بلاستيكي، أواني زجاجية.
تظهر على المسرح ثلاث فتيات، وهي شخصيات وهمية ابتدعها خيال ولاء المضطرب وكأنّها خلايا الذاكرة، مرسوم على أذرعهن ووجوههن خطوط حمراء وزرقاء كأنّها أوردة وشرايين. تتصاعد الموسيقى تدريجيا وتتسارع حركات الدمى لتناسب صخب الموسيقى، تسير الدمى بخطوات واسعة منتظمة مثل عسكر ملكي ويحركن رؤوسهن واذرعهن بحركة رخوية لأعلى ولأسفل يمينا ويسارا ببطئ، وملامح وجوههن جامدة.
ولاء مستلقية أرضا مغطاة بملاءة من رأسها إلى أخمص قدميها وترتجف تحت الملاءة بعصبية، إيقاع نقاط الماء من خزان الماء تتوائم مع حركة الفتاة تحت الملاءة، تحمل دمية طشت الغسيل الممتلئ ماء من تحت الحنفية) تتقدم بخطوات بطيئة، يداها ترتجفان، تنثر الماء على الملاءة وتعيد الطشت إلى مكانه، تجلس على طاولة المطبخ، وتتناوب الدمى بنثر مياه الطشت باتجاهات متباعدة ومتعاكسة على أرض المسرح.
تتحرك الدمى حول الفتاة المغطاة وحين تلتقي الدمى تصفق يد الواحدة بيد الأخرى، تستعرض الدمى حركات منتظمة،(تصفق، تقفز تتشقلب على إيقاع موسيقي. تتحرك ولاء بعصبية تحت الملاءة، وتزحف من تحت الملاءة وتنادي بلهفة العطشان: ماء هواء، ماء هواء، ماء هواء.. أنا بلا ماء وبلا هواء... سأنطلق بعد لحظات، الحزنُ سوّرَ معصم روحي، تنظر في معصمها وتسأل: كم الساعة؟
ترد خلايا الذاكرة:الساعة تك تك تك.
تجلس، تقف، تقول باهتمام: سأقول لكم سرا خطيرا، الساعة الآن صفر، من هنا سأنطلق لبيت جدي وحدي، لا يمكن، لأنّ أمّي أمرتني"خذي أختك الشقراء معك، فأنت بلهاء لا تعرفين شيئا، هي تعرف كلّ شيء" تواطأت مع نفسي، غافلتها ذهبت وحدي، لا أريد لأختي أن ترافقني لأيّ مكان في العالم، لكني تهت والآن صرت تائهة، تائهة.
يستمر التصفيق وطرق الأواني ورميها من قبل الدمى، تجلس ولاء متربعة وتصفق على فخذيها، لتقول بحزم: عند حصولي على الماء ستتبدل الأشياء، وتضيع العقول.
تدور حول نفسها وتجلس القرفصاء محدّقة بالفراغ: القضية بسيطة، أنا متمركزة في الاتجاه الصحيح، لا تخبروا أحدا! لقد أرسلت بعضا من خلايا دماغي لجلب الماء، ولم يشعر بها أحد، أف، أف، أف، لأني سأبدل لون جلدي الأسود الذي تلعنه أمي ويتقيأ منه أبي. (تقف مرفوعة الرأس وتتجه للأمام وتتمايل يُمنة ويُسرة): كلّ شيء في البدايات صعب والحصول على الماء ليس سهلا، فهناك قراصنة الماء وقراصنة الهواء، يعلقون الأوسمة ويثيرون زوابع الدمار في العالم، ماذا سأفعل، أأغني أو أبكي أو أضحك؟ تضحك بهستيريّة ثمّ تغني: أسير وحدي في عالمي، عالم غريب، في عالم عجيب أريد حنفة ماء أو نفحة من هواء، تصرخ:أين أنت أيتها الخلايا اللعينة؟
تردد الدمى صدى الصوت: نحن الخلايا اللعينة، نقر ونعترف رفاه الأجمل والأكثر ذكاء. (3مرات)
ولاء بعصبية: إن تأخرتم سأحرقكم بالنار،أين أنتم؟
يرددن كآلة: نعلن التمرد، نعلن العصيان، نعلن الثورة. (3مرات)
ولاء (باستهجان): أفكاري تعلن الثورة، ماذا؟ إلهي ربّ الكون، أغثني بقطرة ماء لأغير لون هذا الجسد، (تلطم) كفاني نحيبا وبكاء،(تحتضن دمية الأم... وتمسك بمنديل رأسها) أمي أين أنت، كنتُ نطفة في رحمك المزيف، أنت تزدادين تعفنا في ذاكرتي (بتوسل حزين) أعيدي إليّ ذاكرتي، ذاكرة الزمان، أمي أمي، كنت أراك فوق الأريكة تداعبين شعر أختي الأشقر وتغنين لها "هييي هييي،هييي حندقة شعرا أشقر ومنقا"، أنا في الركن البعيد المعتم ورغم القضبان الوهمية التي أمقتها، أتوسل منك لمسة حنان ودفء، أمي أنا تعبة منذ وجودي.
دمية الخلايا: هيه هيه ...أتقصدين أنّك تعسة منذ الولادة؟
تصرخ مضطربة: آه آه، رأسي يكاد ينفجر، يخيل إلي أنّ بوادر الجنون تغزوني، أريد شرطة التفكير.
تردد خلايا الدماغ كلمات مبهمة (ها هيي، ها هيي، هم هم) وتقوم بأفعال غوغائية لأصوات تكسير في المطبخ وبعثرتها ليدوّي الضجيج.
ولاء: أمي أرجوك اسمعيني، أنا تعبة،(تتلعثم) سي سيدي الشرطي سجّل، أنا تا..تا.. تائهة، لم أقصد بل هم تائهون، بل أنا، كلا، أنتم، لكن، من أنتم؟
ترد خلايا الدماغ بحزم: نحن الشرطة نقرر أنّك تائهة.
الخلية تأمر غاضبة: ولاء، أين تسكنين، في أيّ شارع أو أيّ حيّ أو أيّ مدينة أو أيّ صندوق؟
ولاء بثقة: أسكن في كأس ماء راكد في ضاحية الخزان.
خلية 2: هه هه ها، تقصدين ضاحية الأحزان.
عين ولاء تتأهب لانسياب دمعة،(باستعطاف): أرجوكم، أين حيّنا، دلوني على بيتي.
يستمر تكسير الأواني وبعثرتها، خلية التفكير: ههههههه، نحن أفكارك نعمل بشكل دائم، ضاحيتك حولها الدمار لمقبرة بل إلى صحراء، أأنت جائعة أو عطشى!
ولاء (قلقة): كفى، كفى السراب في كلّ مكان، هل أنا حية أم ميتة؟ مؤكد ميتة، وجودي سراب، حياتي وهم، احتاج إلى والدين طيبين ليكون لديّ عائلة، لكن هل يمكن للإنسان اختيار والديه، سأفكر، لو خيرت لفعلت، قرروا معي.
تمد خلية (1) يديها للأمام وترتدي قبعة وتحكي بنبرة واثقة: سأكون ذاكرة أبيك، ألست فاقدة لحس الأبوة، أنت أعطيتني صفة أبيك.
خلية(2): تسير عكس خلية الأب وتضع على رأسها منديلا: أنا ذاكرة أمك ألست فاقدة للحب والحنان.
ولاء بإصرار: أنتما لستما والداي، لستما والدي.
خلية1: الوثائق تؤكد أنّنا والداك والصبغة الوراثية تؤكد ذلك.
خلية 2: الإنسان لا يمكن أن يختار والديه، وهناك روابط ووثائق تحدد العلاقة بين الآباء والأبناء، ولزاما عليك القبول بنا.
ولاء بتحدٍ سافر:قبل أن أقبل بكما، أريد أ أريد محاسبتكما؟
الخلايا: أنت مجنونة وتهذين، كيف تحاسبيننا؟ ألا تعلمين ... يجب الّا تقولي لهما أفِ! أفِ! أفِ!
تتحرك على خشبة المسرح في حركة عشوائية مضطربة توزع نظراتها بغباء ثمّ تقفز تضحك وتصرخ: أنا لا أهذي، أنا لست مجنونة، يا ويلاه، هل أنا مجنونة! نونة، نونة... أنا مجنونة!
تتوجه نحو خلية الوالد (بحزم: والدي، والدي، أتسمعني أنا ابنتك التي ضيّعتَ حقوقها، أين حقي في العدل والمساواة مع أختي، كانت كلماتك خناجر في صدري، بسبب ظلمك لي، هل لأنكما والداي وجب عليّ تحمّل أبشع صور ظلمكما؟
تصرخ ولاء باستهبال: ياي، ياي، أريد الموت، الحياة مستحيلة، صدقوني عليكم أن تبحثوا عن حل، أنا كجيش مهزوم، الموت حقيقة، الجنون حقيقة مهزومة، هل جنوني قضيتكم.
دمى الوالدان تعلن: بماذا تهذين؟نحن والداك، عليك إطاعة أوامرنا، لا نقبل النقد! لا نقبل النقد!
ولاء(بحزم): أنا لا أهذي، لقد خرجت من قم قم ...القمقم... الص..ص...صدئ
الوالد بقسوة: أيّ محاسبة؟ لا تقل لهما أفٍ، أفٍ، أفٍ!
ولاء بصوت مختلج: فلنبدأ منذ البداية، منذ ولادتي، أنا أعلم أن وجودي كان مرفوضا منذ الولادة، لقد سمعت حواركما سماعا افتراضيا، حين أخبركما الطبيب بحدسه أنّ الجنين الذي تنتظرانه على أحر من الجمر "صبي"، فرحا، زغردتما (برويّة) حان موعد الولادة، كانت لهفة أبي حارقة لرؤية الصبي، خرجت من رحمك بعد ولادة عسرة، غضب والدي، أنت يا أمي، حملتني بين ذراعيك ولعنتني، صرخت غضبا بوجهي "أنت سبب تعاستي" وضعتني جانبا كشيء منبوذ، ما ذنبي لأتحمل العذاب والمعاناة.
خليّة الأم تدافع بقوة: هذه هلوسات،هذيانك ليس صحيحا، أنت أطفأت فرحتنا، كان وجودك ثقيلا علينا، لكننا أحببناك من اللحظة الأولى.
ولاء بأسلوب تقريري: أسمعتم منذ اللحظة الأولى، حنان مزيف، شفقة مذلّة. (ساخرة): يي،يي عليها سوداء، (بأسىً): ما ذنبي لأتحمّل المعاناة، لأنّي سوداء تنوء بقبحها، تحمّلت أعباء المنزل، أختي الشقراء تتدلل، وتزداد جمالا وتحبينها... وأنا تكرهينني.
خلية الأم متحدّية: هذه مراوغة للحقيقة، حقدك جعلك واهمة.
تفرك ولاء جسدها بليفة وبطريقة هستيريّة كأنّها تستحم: ما ذنبي أن اغتسل يوميا عشرات المرات لأزيل قتامة جلدي الذي تبقّع باللون الأحمر والدم ينزّ من عروقي، (تشير للبرميل المعلق)، من ذاك المزراب ترجلت ساحرة تحمل عصا مزركشة،- مدت لسانها لتسخرمني- لونك الأسود يتحلل من عفونتك، ويجب تقديم ثمن لتصبحي شقراء، لكي يهتم بك والديك؟
ولاء: أتساومينني لأجل سلب ما بقي لدي من حياة، سأعطيك كلّ الكؤوس والأطباق التي في خزائني ( ويعلو صوت التكسير لتحطّم كل ما يقع تحت يدها)
تصرخ الساحرة:"ستظلين سوداء، سوداء، سوداء، ها ها ها"
ولاء (بقوة): لكني سأتغلب عليك لأدحرك، (تسرع نحو الغسالة) سأقبع هنا لأكون أنصع بياضا (تدفع الغسالة وتجرها دورة كاملة على المسرح) أنا أنصع بياضا، سأتحول إلى شقراء ذات عينين خضراوين، سأكون رفاه جديدة، (تغلق أذنيها)، صارخة:أوقفوا هدير الغسالة الذي صرعني سأظل سوداء قاتمة.
خلية الأب بتذلل: هل جريمة أن أحلم كالآباء بولد يحمل اسمي!
خلية الأم: في صوتها شرخ مثل فحيح أفعى لحظة احتضار: الحل الأمثل، الصمت، لا تصغي لها.
ولاء بسخرية: أسمعت دائما تقول لك، أصمت أنت، أصمت أنت!!
تواجه الجمهور تتحرك بهستيرية، تضع الأصباغ على وجهها ترتدي باروكة شقراء تمشي كعارضات الأزياء: أصبحت شقراء، ألست جميلة! ما رأيكم لن أظل سمراء مع قليل من البهارات أو الطلاء وقليل من الجاذبية أصبح قمحية، ألست جميلة! شقراء أو قمحية، (تكرر كلمات أمّها بقسوة) "أحبّ رفاه لأنها الأجمل" لن أكون شقراء أو بيضاء بل سأظل سمراء، "تسأل الجمهور:لم تضحكون؟ أعلم لماذا، لأنكم تريدون إحالتي إلى مستشفى الأمراض العقلية، ما أدراكم ما مستشفى الأمراض العقلية، ما أشد برودتها، المخلوقات تتعفن فيها ورائحتها كريهة (ترمي الملابس والأواني) الأطباء شخّصوا حالتي: بنا، بنا، رو، يا، وآخر يقول"شي، شي، زوف رينياااااااااا" وهناك من يقول: مجنونة مجنونة، أنا المجنونة، كل شيء جميل مهيّأ لابنتك الشقراء،(تأخذ خرطوم الماء تسلطه عليها كبندقية) سأزيل جمالك ستكونين سمراء مثلي ،تش، تش، تش،(تختبئ في الخزانة لتخرج مرتدية مريلة أطفال) وتردد عبارات غير مفهومة كالأطفال:"أرورورور مرنونة... مجنونة، مجنونة" (تمتطي عصا المكنسة وتقوم بدورة كاملة على المسرح)، تخاطب الجمهور: هل أنا مجنونة! يا ويلاه، أأنا مجنونة، إيه مجنونة، أمي، أبي، هل أنا مجنونة؟
الأم محتدة: ما تقولينه وهم وخيالك مريض يصور لك أشياء وهميّة.
الأب بانفعال شديد: لا،لا، بل أمك المجنونة!!
الأم بنبرة آمرة: أصمت أنت، لقد عانيت منك طوال حياتي، صوتك يثير غيظي، اصمت أنت!
ولاء بتحد عابث: كاذبة، كاذبة، الساعة تدق تك تك تك، (تتحرك بطريقة عبثية) جرس المدرسة يرن رن رن رن، الريح تعووووي.. تقلد أمها ساخرة: رفاه حبيبتي استيقظي لإضاءة الكون بجمالك، هيا للمدرسة، (بقسوة) أما أنت يا سوداء إلبسي.. لتزدادي قبحا.
تستنكر الأم: خيالك المريض أثار حقدك وتستحقين اسم بلاء.
ولاء بقهر: إنّها تدعوني بلاء، أليس هذا حقدا واستخفافا بوجودي.
تخاطب خلية الأب: أثبتت شهاداتي تفوقي الدراسي، كنت ابتلع الكلمات لتنخر المعلومات رأسي، منتظرة منك نظرة رضىَ، قبلة جافة، مباركة باهتة، (برافو برافو) لكنّ صمتك يحرقني، وحين تسأل "هل نجحت الشقراء"، لحظتها أتقيأ حروفي أذيبها في ذاكرة النسيان.
خلية الوالد بدهاء: كاذبة، كاذبة، أنا أشفق عليها لأنّها تعاني صعوبة تعلم، لكنّ تفوقك مطمئن.
تركع ولاء وتمسك بساقه،)يسير القهقرى(: دعوتك يوم حفل تخرجي، وانتظرتك طويلا، حدّقت في الساعة التي خلتها بحجم الكرة الأرضية، عقاربها تدق رأسي تك تك تك، تصرخ بأذني"لن يأتي، بل سيأتي، تك، تك، لن يأتي، بل سيأتي، تك تك" بدأ الحفل ناديت "أبي تعال لتشاركني فرحة نجاحي" وانتظرتك طويلا ولم تأتِ، الكلّ بحث عن خيبتي وعن كسيرة ذاتي، غاب هرج المحتفلين عن أذني ودفعني لآخر صفوف الصمت الأزلي، وخلتك قادما من ثنايا الضباب تلملم بقاياي، لتدحرجني كومة في درج مكتبك بل في سلة نفاياتك، عبست الوجوه حولي، عوى عريف الحفل: ولاء متفوقة، دوّى تصفيق بارد وكتبوا اسمي في لوحة الشرف بحروف طين لزج، فتحجر الطين حزنا علي مأساتي، وانسحبت من مكاني مثل بزّاقة رش عليها ملح خشن، حرّق جروحي وسوّد جلدي وأذابني فوق سطح ثلجيّ، النشيج خنقني والغبار ملأ عينيّ.
خلية الأب: أنت تهذين مريضة نفسيا، كاذبة ...كاذبة
عاتبتك بحنو جارف صرخت بي: "أأترك عملي لأجلك"، ثمّ سألت باهتمام :"متى حفل تخرج رفاه؟" لتضبط زمنك عند حفلها، درت في مقعدي دورات صاخبة وتناثرت أشلائي بالأرجاء، أبي ستظل دافقا حبّا لدميتك الشقراء الجميلة ومنحازا لها (تتكوم مرتجفة) السماء قاتمة والبرد قاسِ، انتقاداتكم تمزقني وأنتم تائهون وسط الزحام كجيش مهزوم، صدقوني، اللون عقدتكم ولكنّي سأرتفع للأفق واسترح، الحقيقة الكبرى، إنّي أنثى قبيحة ولن تتغير ملامحي لو أحضرتم بحار الدنيا.
خلايا الدماغ(بصوت متقطع): لا، تنسي، أننا، أفكارك، نعبر، عمّا بداخلك، نحلل، عقدك، وأمراضك العصبية.
الأب بكياسة: أنت حاقدة تحتجين دائما، لا تريدين إظهار حبّا لأختك.
ولاء (ساخرة): يييييييه، كلمات نسمعها كلّ يوم في الصباح والمساء، هل تعلم أني أعرف رأي أمي بك، سمعتها وهي تؤنبك:" اصمت، فأنت ضعيف الشخصية، كرماد هامد، لا توقد منه نار". وكنت تردّ عليها:"أنت غيمة سوداء بلا مطر بل ريح عاصف". وظل شجاركما يطن في أذني كبرق مرتد نحو الأرض، مكونا زاوية حادة.
خلية الأب: هذا حوار لا شأن للصغار به، عيب عليك التنصت علينا
ولاء (متحسرة): أتذكر كيف كنت تعرّف أصدقائك على رفاه،... تقول بلطف:"ابنتي رفاه... قنديل حياتي"،وتلتفت إليّ:" أمّا هذه السوداء جاءت على غير رغبة منّا.. بالغلط"، كلماتك شرذمت روحي، كيف أكون غلط، وقد خلقت بمشيئة الله.. كلام فارغ، إلى متى أظل أعاقب بالنكران والجحود في حياتي.
الأم بتهكم جارح: الغيرة تلوّن روحك بالسواد الذي ينعكس على ذاتك.
الخلايا: لا تنسي أننا أفكارك، السوداء جاءت بالغلط ..لط.. لط ..وهم وهم .
تعلو خزانة المطبخ: سأختبئ في هذه الخزانة التي قد تخفي قهري.
تختفي خلف الخزانة، تخرج لتحكي (معاتبة): انظروا... في خزانتي ثوبان لا يصلحان لأي فصل، بلا لون ولا رونق، أمّا خزانة رفاه المدللة، فساتين للربيع والخريف وملابس البحر، لأنّ رفاه جميلة تجمّل الأثواب، وفساتين للحفلات والأفراح، كلما ارتدت رفاه ثوبا تحضنينها، وتزغردين ليتطاول لسانك كزلومة فيل، يلفني ويرميني في قيعان الحزن والقهر(تعتلي المجلى وتتدثر بالنايلون الشفاف تسدله على جنبيها) انظري اختبأت في خزانتي الزجاجية، أراكم، أستصرخكم، وأنتم تهربون كجيش مدحور، مد..حورررر (بابتهال): أبي اليوم غدا بالأمس.. عيد ميلادي.
خلية الأب (ضحكته مكتومة):هل أقيم لك حفلا في قصر الإليزيه، وهل أدعو لجان العبث الدولية لتحتفل بميلادك، قد أحضر لك دمية.
ولاء بصوت قمعيّ: تخيلوا اليوم عيد ميلاد رفاه، ستتماهى الزينة على الجدران فرحا، تتدلى من الشقوق جذلا، الدمى تقعي في الزوايا وعلى السرير، أمي منهمكة في إعداد الحلوى والمعجنات والأشربة وتصرخ بي،"اغسلي الأطباق لأجل عيد ميلاد رفاه، لا تعمل؛ لأنّها سيدة الحفل، عروس الموسم" الشموع تضاء في كل مكان، نباتات الزينة هنا وهناك، المدعوون يستهلكون أعمارهم في التهنئة، الهدايا تملأ الخزانات الزجاجية، حفلها يسحرني ويذهلني حدّ الاكتئاب، رعود العويل في أعماقي، براكين الغيرة تشتعل وتثور وتفوررر، أريد ماءً، أريد ماءً، آه آه (ترشق الماء على رأسها وترش المكان) أطفئوا نيران قلبي (ثم يعتريها هدوء فتسترخي).
الأم بمكر: نويت إقامة حفل فخم لميلادك لكني مرضت فلم استطع!
ولاء يائسة: تفتعلين الأسباب والمسببات، أفكارك دائما سرية كراهب في صومعة كهوف أزليّة، لا أسمع منك إلا كنت، نويت، أردت، ولكن اعذريني لم استطع، وعودك واهية، متناسية وجودي
الأم برقّة: مسكينة رفاه ينقصها أشياء كثيرة، عمتك تغدق عليك حبّا.
تتدافع كلمات ولاء:لقد لجأت لحضن عمتي لأنّ حضنك مشغول بدفء رفاه تغنين لها تدللينها تداعبينها وأنا أجلس بالركن باكية، تحملين الطعام إلى سريرها وأنا تأمرينني "اذهبي للمطبخ لتأكلي"، وعلى مائدة الطعام تخصّانها باللحم والدجاج والحلوى وتغدقان عليها بالمصروف المدرسي، أريد حبا مثل رفاه، أتوق إلى صدرك الرحب، الذي يضيق إذا اقتربت منك. وأنزوي بعيدا انتظر لمسة حنان من يديك لكنك ترمينني بعيدا بنيرة قاسية: "إليك عني، الدنيا حر، ولا أطيق وهج أنفاسك"، الحرارة ترتفع في كل مكان، وأنا عطشى إلى قطرة حب وقطرة دفء، أريد ينبوع ماء، أنتم منشغلون وتتشاغلون عني، إلا عمتي أحبها تحبني وتشفق على غربتي في بيتكم.
الأم برقة : رفاه نحيلة وتحتاج إلى التغذية وأنت دبّة متدحرجة.
ولاء: الأكل متنفسي غيظا من تصرفاتكم.
خلية الأم :رفاه هادئة لا تطلب شيئا.
ولاء (شاكية): رفاه تزدري صحبتي وتسرق حلواي وشرائطي ولعبتي الوحيدة رغم وفرة ألعابها، في المدرسة تستولي على كلّ صديقة تألفني، أنانيتها مثل ريح جارفة، أو مثل برق صاعق يحرق كل شيء وتكسرني حين تقول:"ابتعدي،لست أختي"،سأخرس قلبي الملعون إن هتف باسمها، وسأخلعه وسأرميه في مهاوي الحقد والكره والقطيعة.
الأم بلؤم: ها أنت تعترفين، قلبك يغلي حقدا وكراهية لذا نفر منك الجميع.
ولاء بحقد: سأفتح الملفات،انظري، لقد وسمت جلدي بلسع السياط، أتذكرين يوم كان لديك ضيوف ودخلت إحدى صديقاتك مرحاض المنزل، حشرني قضاء الحاجة في بؤرة الضيق، رجوتك استخدام حمامك الخاص، رفضتِ، هل أتسبب بنجاسة المكان! صرختُ "أريد قضاء حاجة" وعملتها عنوة عني، ضربتني بسوطك كمجنونة وتخبطت بألمي وقرفي ونبذتني في الزاوية لساعتين أقف على قدم واحدة عقابا على فعلتي.
الأم متبرمة: افتراء، المرحاض خاص بي وأرفض أن يستخدمه غيري.
ولاء تنظر مليا في عينيها: أتذكرين يوم اقتحمت خالتي وعائلتها بيتنا ضيوفا قادمين من المهجر، احتلت ابنة خالتي سريري، طلبت منك أن أنام في سريرك، وكان حضنك حلما، قلت متقززة" لا أطيق أحدا قربي، افرشي بأي مكان أرضا"، لكن ابنة أختك لم يريحها سريري قلت لها بفرح:"ابنة أختي الجميلة تعالي لتنامي بحضني".
خلية الأم حائرة مضطربة: كذب، كذب، لكني أكرمتها لأنها ضيفة.
ولاء بحزن شديد: أذكر يوم جاءت عمتي لتصطحبني وأختي إلى السوق سرحت شعر رفاه، وألبستها فستاني الأحمر، وضربتني لأتركه لها، لأنه يناسبها، رافقتهم وشعري منكوش والأوساخ تطبع ساقاي أرقت من ريقي لأنظف جلدي الأسود.
خلية الأم: أختك شعرها مسترسل سهل التسريح، والترتيب يزيدها جمالا لكن شعرك أكرت، وقذارتك قد تختفي في لون جلدك أما أختك يضايقها النقد.
ولاء متأسية: كم تمنيت أن تبتسمي بوجهي، لكنك دائما غاضبة ومستاءة ، لأني عبء ثقيل على روحك، لقد خبّأت حبك في شراييني، لكني سأقطعها وأسفك حبك أرضا أو في الصحارى لأتحرر منك، أريد حياة مثل أي بنت، حياة عادية بسيطة تتسم بأقل الحقوق، أريد عدل الأبناء، عدل رب العباد، (تجرّ كيسا خيشيّا بصعوبة)، هنا كلّ معاناتي، هل أسامح؟ هل أحملها إلى مشفى الأمراض العقلية. أو أحارب دموية هذا العالم وتكريسه للظلم في كل مكان.
تجلس ولاء أرضا مقرّبة ساقيها من صدرها، وتقف الخلايا ساكنة بلا حراك (1/2دقيقة)، ثمّ تعلن: العطاء على قدر المحبة، لا للظلم، لا للبغضاء، نرفض القسوة، نرفض ظلم العالم، أشعلوا شمعة حب في هذا العالم، ثم تقف معاتبة بصوت ذليل: أنا المظلومة يا أبي، الرحمة يا أمي.
تعلو الموسيقى الهادئة ببطء لتغني ولاء:
"أمي أمي أمي أمي
أحن إلى دفء اللمسة بين يديك
أحنّ لنظرة حب من عينيك،أمي
خذيني طيرا بنشوة طير
دمعي فوق الدمع يسيل
خذيني طيرا بنشوة طير
دمعي فوق الدمع يسيل
أمي أمي أمي آ آ آ آه ه ه ه
أحن إلى دفء اللمسة بين يديك،
نظرة حب من عينيك،أمي
خذيني طيرا يغرد أملا بلا أحزان.
أمي أمي أمي أمي آ آ آ آه ه ه ه
أنيري ضوءا يسافر سرا في المحراب.
يناجي حبا للإنسان
هيه هيه هيه يلا هيه هيه.
خذيني طيرا بنشوة طير
قلبي قد مزقه الشوق قلبي قد ينهار
آ آ آ آه ه ه ه آه يا أمي.
ويغني الكورال:
لو ساد العدل بين الناس
وتلاشى الظلم ورقّ الإحساس
لعمّ الفرح وارتاح الحال
لو رفرف علم العدل
وعلا وعلا وعلا
لارتقى الكل آفاق العلا
غنوا،غنوا، للحبّ الجميل
( تستدل الستارة )
*أديبة وعضو رابطة الكتاب اﻷردنيين
0 التعليقات:
إرسال تعليق