أستذكارا لوفاة نديم معلا محمد الناقد المسرحي السوري، وأستاذ النقد والدراما في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق والتي صادفت (03 فبراير 2014) نعيد نشر الحوار التالي :
مجلة الفنون المسرحية أستذكارا لوفاة نديم معلا محمد الناقد المسرحي السوري، وأستاذ النقد والدراما في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق والتي صادفت (03 فبراير 2014) نعيد نشر الحوار التالي :
حاورته :* سمية زباش
نديم معلا محمد ناقد مسرحي سوري، وأستاذ النقد والدراما في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق.
له عدة كتب في الدراما والنقد المسرحي، من بينها: "الجدران الأربعة" (1980)، "الأدب المسرحي: نشأته وتطوره" (1968)، "مقالات نقدية في المسرح" (1991)، "قضايا مسرحية" (1995)، "لغة العرض المسرحي" (2004)، وغيرها. كما نشر عدة دراسات أخرى في عدة مجلات في سورية والبلاد العربية. إضافة إلى بعض الترجمات، من بينها: "الكوميديا الإنسانية" لـ ويليم سارويان، و"الفكرة الإخراجية" لـ أوسكار ريمز، و"بوريس جودونوف" لـ بوشكين. عمل أستاذا للنقد المسرحي في الجماهيرية العربية الليبية (جامعة الفاتح) وفي الكويت.
شارك في ندوات ومهرجانات عربية في القاهرة وتونس والإمارات العربية المتحدة. يعكف حاليا على ترجمة الكتاب الشهير لـ ستانسلافسكي "حياتي في الفن".
من آخر كتبه "وجوه واتجاهات في المسرح" (2009).
أجريت معه هذا الحديث المسرحي بالمعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، في 11/04/2010.
_ كان التراث المصدر الذي امتاح منه كتابنا مادة مسرحياتهم حتى صار اتجاها قائما بذاته في مسرحنا العربي. هل ترى أن النص المسرحي التراثي- إذا جاز التعبير- مازال يحظى اليوم بالأهمية نفسها التي كان يحظى بها مثلا في ستينيات وسبعينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي ؟
نديم معلا: العودة إلى التراث أو البحث في التراث، من وجهة نظري، تقع في دائرة البحث عن هوية مسرحية، والبحث عن هوية ثقافية. ففي أواخر الستينيات من القرن الماضي، تعالت بعض الأصوات التي تطالب بأن يكون للمسرح العربي شكله الخاص، شكله المميّز، أي ألا يكون مجرد تقليد للدراما الأرسطية في الغرب الأوروبي، والذين دعوا إلى مثل هذه الدعوات معروفون، من ألفريد فرج إلى سعد الله ونوس، إضافة إلى عبد الكريم برشيد (في المغرب)، وقاسم محمد (في العراق). لكن المشكلة كانت هل نحن نبحث عن مجرد شكل، ونبحث عن مجرد قالب نضع فيه أفكارنا ؟ ثم بدأ الاهتمام بالتراث يتضاءل إلى درجة أننا الآن في بداية القرن الواحد والعشرين لا نجد من يكتب بقالب تراثي أو من يعود ليغرف من التراث. وهذا يعني أنها كانت مجرد تجربة، الهدف منها هو البحث عن شكل للمسرح العربي. أعتقد أن كثيرا من الذين خاضوا هذه التجربة عادوا إلى تجربة مارون النقاش عام 1847 في بيروت. يومها لم يغلق النقاش الباب في وجه المسرح الغربي (الفرنسي)، وإنما قال أنه يريد أن يمزج المسرح الغربي بالمسرح العربي، أن يسبكه سبكًا عربيًا. إذن كانت هناك محاولات، لكن هذه المحاولات بدأت تخفت فيما بعد. هل استنفذتْ هذه التجربة أغراضها؟ وهل كانت فعلا ضرورية مثلا لمرحلة ما؟ نحن لم ننجح في تكوين أو في تشكيل هوية مسرحية كما نجح مثلا اليابانيون في مسرح "النو" وفي مسرح "الكابوكي".
_ هذه الأصوات أو الدعوات التي ارتفعت منذ ستينيات القرن الماضي في البلدان العربية المختلفة تنادي بضرورة التأصيل أو التأسيس لمسرح عربي في مقابل المسرح الغربي "النموذج". بعد مرحلة البحث و"محاولات التنظير" أو ما أسماه البعض بـ "التأسيس"، وهي مرحلة معقولة نسبيا تزيد عن أربعين عاما، هل تحقّق اليوم هذا المسرح العربي المنشود؟ بعبارة أخرى هل يمكننا أن نقول وبكثير من الثقة أننا نملك اليوم مسرحا عربيا حقيقيا ؟ وفيم يتمثل برأيك ؟
نديم معلا: من الصعب القول إننا لا نملك اليوم مسرحا عربيا. فهناك تجارب مسرحية عربية في أقطار عربية مختلفة، كل قطر له تجربته الخاصة، أما أننا نكتب بلغة واحدة فهذا صحيح. ولكن هذا لا يكفي.
_ إذن لدينا مسرح عربي مكتوب باللغة العربية وليس مسرحا عربيا، والفرق بين الاثنين واضح وجلي ؟
نديم معلا: لا لا... أنا لا أقول أنه ليس مسرحا عربيا، ولكن لا يكفي أن يكون مكتوبا باللغة العربية. هناك أيضا نصوص مسرحية، وهي كثيرة، وبخاصة في مصر ولبنان تكتب باللهجة العامية.
_ هل تقصد تجربة الحكواتي لصاحبها روجي عساف؟
نديم معلا: لا. تجربة الحكواتي في لبنان، وهي مختلفة، وإن كانت من حيث اللغة، تعتمد اللهجة المحكية. إذن ليست المسألة مسألة لغة، سواء أكانت عامية أو كانت فصحى، وإنما المشكلة هي هل هذا مسرح أم لا ؟ فالمسرح يختلف عن القصة وعن القصيدة، ليس فقط لأنه عمل جماعي، بل لأن وسيلة التعبير في المسرح ليست هي الكلمة. صحيح أنّ الكلمة هي فعل، ولكن صحيح أيضا أنّ الممثل الذي يقف على خشبة المسرح لديه أكثر من وسيلة للتعبير، فهو يعبّر بإيماءاته، وبالحركة، وبحركة الوجه. وهناك، كما تعرفين، عروض خالية من الكلام. ولكن المشكلة في المسرح العربي أن كثيرا من الكتّاب تستبد بهم شهوة الكلام ويعودون إلى تراث ثقافي عربي عريق، وهو تراث سمعي. لذلك، فالقصيدة غير المسرحية، ويُحتفى بالقصيدة في كثير من الأحيان أكثر مما يُحتفى بالعرض المسرحي. العرض المسرحي ينطوي على قيمة بصرية، وهذه القيمة البصرية تعمل في كثير من الأحيان على إزاحة الجانب السمعي، ليس إزالته أو إلغاؤه، وإنما إزاحته. كما نجد في كثير من الكتابات المسرحية العربية إنشاء طويل، أي أن الحوار فيها عبارة عن خطابات على حساب دفع الأحداث إلى الأمام.
_ ألا يرجع فشل هذه التجارب التي تحدثتَ عنها إلى كون المنطلقات كانت خاطئة منذ البداية ؟
نديم معلا: على كل، أنا لا أريد أن أقسو على هذه التجارب
_ لكن علينا أيضا أن نتحدث بصراحة ؟
نديم معلا: صحيح ولكن نحن الآن نعيد تقييم هذه التجربة، وقد مرّ عليها أربعون سنة. ربما كانت الحماسة هي التي دفعت هؤلاء الناس إلى ذلك. ثم هناك بعض الكتاب المسرحيين، نأخذ على سبيل المثال الطيب الصديقي، فالطيب الصديقي وجد نفسه في مواجهة تراث غربي، وتحديدا فرنسي وبدأ يطرح السؤال على نفسه. لماذا نحن نقلّد ؟ ولماذا لا يكون لنا مسرحنا الخاص ؟ ولماذا لا نبحث عن شكل مسرحي ؟ فالمشكلة كانت مشكلة شكل أكثر منها مشكلة ما يمكن أن نسميه فكر أو مضمون. فنحن نريد أن نبحث عن قالب كما قلت لك. كيف وجد اليابانيون أو الصينيون المسرح الشرقي؟ كيف وجدوا شكلهم الثابت، الشكل الخاص؟
_ لكن الأشكال الشرقية التي تشير إليها لدى اليابانيين والصينيين كانت موجودة لديهم من قبل، وهي متجذّرة في تراثهم وليست حديثة، بينما لا يوجد في تراثنا القديم شيء اسمه مسرح. وما يمكن أن نطلق عليه "مسرحا عربيا" يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر فقط، أي أنه حديث النشأة. لذلك كانت المنطلقات في الستينيات غير صحيحة تقريبا، فجاءت النتائج كما نعرفها اليوم.
نديم معلا: قد لا أوافقك الرأي، لأنّ من بحثوا عن التأصيل أو الشكل... لنلاحظ أننا نبحث عن أصل. فهناك بعض المسرحيين أو بعض الباحثين المسرحيين الذين أوغلوا في دراسة الظواهر الشعبية معتمدين أو متّكئين في ذلك على أساس أن هذه الظواهر المسرحية ذات البيئات الشعبية هي مسرح.
_ قد تحتوي هذه الظواهر الشعبية على بعض العناصر الدرامية لكنها ليست مسرحا؟
نديم معلا: بل هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك، وحاول أن يدرس مثلا الظواهر المسرحية عند العرب.
_ لا شك أنك تشير هنا إلى الكاتب السوري "علي عقلة عرسان" صاحب كتاب: "الظواهر المسرحية عند العرب" أليس كذلك ؟
نديم معلا: نعم. ثم اتضح فيما بعد أن جانبا من جوانب الدراما، لنقل الحوار، لا يكفي وحده للقول بأن لدينا دراما. أي أنه ما كان علينا أن نعمل على لَيِّ عنق هذا التراث لكي يستقيم مع رغباتنا. فرغباتنا شيء والواقع الموضوعي شيء آخر.
_ رغباتنا بالنسبة للآخر أو في مواجهة الآخر. ولأن الآخر لديه مسرح، فلابد أن يكون لدينا مسرح أيضا. هذا هو الطرح أو المنطلق الذي قامت عليه أغلب التجارب التي تحدثنا عنها منذ قليل.
نديم معلا: صحيح. الآخر هو الذي حرّض على هذا البحث عن الهوية، وعن الشكل المسرحي.. إلخ. فنحن نقيس أنفسنا بالآخر، ننظر إلى الآخر ثم نتساءل لماذا ليس لدينا ما لدى الآخر؟ أريد أن أقول أنه ليس ضروريا على الإطلاق أن يكون لدينا كل شيء يشبه ما لدى الآخر. نحن ننتمي إلى ثقافتين ليستا مختلفتين فحسب، وإنما تكادان أن تقفا على طرفي نقيض. شئنا أم أبينا فليس ضروريا أن نكون نسخة عنهم. لهم ثقافتهم ولنا ثقافتنا. وأنا هنا أدرج أيضا الدعوات الفكرية التي خرج بها بعض المغاربة حول إعادة النظر في الفكر العربي وفي الخطاب الفلسفي وبخاصة المغربي الشهير...
_ محمد عابد الجابري ؟
نديم معلا: نعم. محمد عابد الجابري، وغيره. وأنا أعتقد أن السّجالات التي جرت على الأقل في العشرين سنة الأخيرة بين الجابري المغربي والآخر... لا أذكر اسمه
_ تقصد المصري حسن حنفي ؟
نديم معلا: نعم. حسن حنفي المشرقي وجورج طرابيشي أيضا. أنا أعتقد أنها سجالات مفيدة جدا، ومفيدة حقا، على ألا يُلغي أحد الطرفين الآخر. إنّه سجال مفيد، وأنا أعتقد من هذه الزاوية أن مسألة التراث في المسرح العربي كانت تجربة مفيدة، لأننا جرّبنا أو بعبارة أدق، اختبرنا ما لدينا والزمن كفيل بالحكم على هذه التجربة، إن كانت تجربة ناجحة أم غير ناجحة. والدليل على ذلك أننا سرعان ما عدنا إلى الأرسطوطالية أو البريختية، أي إلى الأشكال الراديكالية غير التقليدية. ويمكن أن نشير هنا إلى المسلسلات التلفزيونية أيضا، فهذه المسلسلات تعتمد قالبا غربيا مئة بالمئة سواء من حيث البناء الدرامي أو غيره. مع ذلك لم يطالب أحد بأشكال تلفزيونية تراثية، وحتى التاريخ في التلفزيون هو عبارة عن تركيبة أو بنية غربية.
_ على ذكر التجريب، لا شك أن المسرح العربي قد تأثر كغيره من المسارح بحركة التجريب المسرحي التي عرفها المسرح الغربي، فإلى أي مدى استطاع الكتاب والمسرحيون العرب أن يفيدوا من هذا التجريب؟ وفيم تمثّل برأيكم ؟ علمًا بأن التجريب عند الغرب يختلف عن التجريب عند عندنا. فعندما يجرّب الغربي، فهو يجرّب بحثا عن أشكال جديدة و"لغة مسرحية جديدة"، بعبارة "أنطونان آرتو"، بعد أن ترك خلفه تراثا مسرحيا طويلا عريضا، بينما نحن نجرّب للوصول إلى صيغة أو شكل أو هوية عربية لهذا المسرح الذي لم يكن موجودا أساسا في تراثنا، أي أننا لا نملك تراثا مسرحيا مثلهم ونحاول تجديده؟
نديم معلا: في مرحلة من المراحل كنت قد قلتُ: إنّ ما نشاهده اليوم أو ما نسمع عنه أو ما نقرأ عنه من محاولات التجريب في العالم العربي أشبه ما تكون بالضجيج، ضجيج التجريب. حتى بات الطالب في المعهد أو المخرج الفنان الشاب الذي لم يقرأ ولم يشاهد إلا قليل القليل يقول: أنا عملي تجريبي. هذه الفوضى، وهي فوضى ليست بنّاءة، جعلت الكثير من الفنانين الشباب، بشكل خاص، يعتبرون أي عمل فيه تقطيع لأوصال النص المسرحي، أو فيه تشويه أو قلبٌ للمفاهيم، يعتبرونه تجريبيًا أو يعتبرون أن ما يقومون به عملاً تجريبيًا. الآن أنا أرى كل محاولة جديدة لكاتب أو لفنان أو لمخرج هي بحث، وكل بحث سيقود فيما بعد إلى تجريب. ولكن المشكلة، كما تفضّلتِ، هي أننا مازلنا ننظر إلى أنفسنا بمرآة الآخر. هم بدأوا يتكلّمون عن التجريب منذ الفرنسي "أنطونان آرتو" والروسي "مايرهولد" وصولا إلى البولوني "غروتوفسكي" والإنكليزي "بتر بروك". فهؤلاء الآخرون لهم تراث طويل، عريض متعدد، ومتلوّن، فيه أطياف كثيرة وهو محصّلة تراكم ثقافة، وتراكم خبرة إنسانية على مدى خمسمائة سنة على الأقل. هم الذين أعادوا إحياء الكلاسيكية في القرن السادس عشر، أو ما يسمى بعصر النهضة (la renaissance)، وهم قطعوا مسافة إلى الأمام أيضا في القرن السابع عشر، حيث أعادت الكلاسيكية إحياء التراث فيما يسمى بالكلاسيكية الجديدة أو (new classicisme) حتى وصلوا إلى محاولات ديدرو (Diderot)، ثم القرن التاسع عشر من إبسن إلى برناردشو إلى ستريندبرغ (Strindberg) إلى أوجين أونيل... إلخ. هم لديهم تاريخ طويل، ونحن ليس لدينا هذا التاريخ الذي يملكونه. فعلى الأقل يجب على الفنان التشكيلي قبل أن يبدأ بالتجريب يبدأ بدراسة التشريح (l’anatomie)، وعلاقة النور بالظل، وغيرها من المسائل الأساسية، ثم بعد ذلك يمكن أن يصبح فنانا تجريبيًا، كما يمكن أن يهتم بالخط، ويمكن أن يهتم بتدرّج اللون، وبمساحة اللوحة... إلخ. أي ألاّ نقفز هذه القفزة. وبالتالي فهذا صراخ، صراخ التجريب، باستثناء بعض المحاولات، وهي قليلة جدا.
_ هل يمكن أن تعطينا بعض الأمثلة على ذلك ؟
نديم معلا: في لبنان مثلا، جرّب روجيه عساف، تجربة الحكواتي. وعندنا في سورية مثلا تجربة المسرح التجريبي، وتجربة سعد الله ونوس، وفواز الساجر في منتصف السبعينيات. كانت تجربة تستحق أن يقف المرء عندها، لأن أصحابها أعادوا طرح السؤال التالي: إلى من نتوجّه ؟ ثم انتقلوا أحيانا في بعض عروضهم إلى المتفرجين. أي أنهم لم يعودوا إلى العلبة الإيطالية، بل انتقلوا إلى المتفرجين، ثم حاولوا بعد فترة من الزمن، أي في منتصف الثمانينيات، أن يعيدوا تقييم تجربتهم، وهذا مهم جدا. أما أنْ نكتفي بالصراخ ويأتي من هبّ ودبّ ويقول: أنا مجرّب، فهذا لا طائل منه. أنا أُعيد ما قلته لك منذ قليل، وهو أن كل عمل جديد لأي فنان، ولأي كاتب، يجب أن يكون بحثا عن الجديد. وهذا البحث عن الجديد في أطوار مختلفة، قد يكون شكلا من أشكال التجريب.
_ لقد صرنا نرى اليوم فوق خشبات مسارحنا، وباسم التجريب دائما، الكثير من التهريج أو الفوضى كما تفضلّت، والقليل من المسرح. وربما هذا ما أدى إلى عزوف المتفرج العربي عن ارتياد المسارح. ما رأيك ؟
نديم معلا: العزوف عن المسرح في الحقيقة له أسباب مختلفة. قد يكون ما تفضلت به أحد هذه الأسباب، ولكنه ليس سببا رئيسا. فنحن لدينا الآن في الوطن العربي شيء اسمه عزوف عن المسرح. إن هناك عدة أسباب متداخلة، أولا هناك أسباب اقتصادية، وهناك أسباب سياسية، وهناك أسباب اجتماعية، وأسباب ثقافية... إلخ. هناك أيضا أسباب لها علاقة بانتشار التلفزيون، والمسلسلات التلفزيونية.
_ تقصد أن هناك منافسة من التلفزيون للمسرح ؟
نديم معلا: هناك منافسة قوية جدا. أنت تجلس في بيتك وتفتح الجهاز، جهاز التلفزيون طبعا، وأنت مُستلْقٍ، أو أنت جالس وتتفرّج على المسلسل دون أن تتجشّم عناء الخروج من البيت إلى المسرح.
_ عفوا. لكن الخروج من البيت والذهاب إلى المسرح هو فعل أو سلوك حضاري؟
نديم معلا: نعم. ولكن عدم الخروج والذهاب إلى المسرح، له أسبابه أيضا. قد تكون أسباب مادية في بعض الأحيان، وقد تكون كما قلت أسباب ثقافية. والآن لو بسّطنا المسألة وقلنا مثلا أن تسعين بالمئة (90%) من الأقطار العربية تعيش ما يسمى أزمة المواصلات، أي كيف تنتقل من مكان إلى آخر. هذا يأخذ وقتا طويلاً في شوارع مزدحمة، وأحيانا يكلّف ماليًا. هذه هي المشكلة. وهناك سبب آخر، وهو أنه قد لا تكون هناك مساحة من الحرية يطمح إليها الفنان ويطمح إليها الجمهور أيضا، الحرية في أن تقول ما تشاء، وأن تسمّي الأشياء بأسمائها. هذا أيضا سبب، ولكن الملاحظ أيضا أن ما كنا نسمّيه قبل خمسين سنة في أوروبا العزلة؛ أي عزلة الإنسان، أنا أعتقد أننا في طريقنا إلى هذه العزلة. ولو فحصنا واقعنا وحياتنا سنجد أننا نسير في هذا الطريق. لقد أصبح الإنسان يبتعد حتى عن أقاربه. فهناك حقيقة شيء من العزلة، قد لا تكون مثل ما هو الحال في أوروبا، أو بالقدر نفسه الذي نجده فيها، ولكنها موجودة. في حين أن المسرح يوحّد بين المتلقين، أو بين المتفرجين في مكان واحد. فهم يجلسون في مكان واحد. وهذا الجلوس في مكان واحد، وهذا التلقي من قبل مستويات معرفية مختلفة، هو ما نسميه "سحر المسرح". وهذا لا يقوى عليه لا التلفزيون ولا السينما.
_ هذه هي خصوصية المسرح.
نديم معلا: نعم. هذه هي خصوصية المسرح. يجب الكثير إذن، لكي نعيد الجمهور إلى المسرح. فعندنا في سورية مثلا، في فترة الستينيات والسبعينيات كان المرء لا يكاد يجد مكانا في المسرح. كانت المسارح ممتلئة حقيقة.
_ ولكن هذه مرحلة ازدهار المسرح العربي في كافة الأقطار العربية تقريبا، وهي مرحلة ولّت برجالها وكتّابها ومخرجيها وحتى جمهورها أيضا ؟
نديم معلا: نعم. الآن انتهى كل شيء، أي أنّ هذه المرحلة انتهت. كانت هناك رغبة في المعرفة، ورغبة في الاحتكاك بالآخر. والآن كما قلت هناك بعض العوائق، لنقل أن هناك بعض الحواجز بدأت تتشكّل بين الفرد والفرد. ثم هناك أيضا مسرحيون هجروا المسرح نهائيا. وهذا أيضا سبب. فأنا الآن مثلا لم يعد يكفيني كفرد أن أذهب إلى أي عرض مسرحي، أريد أن يكون هناك فنان يقدم قيمة ثقافية، قيمة معرفية. أريد ممثلاً موهوبًا، ولا أريد أنصاف متعلّمين يلقون عليّ مواعظَ ساذجة كما يحدث في كثير من المواقع الآن. فمنذ فترة، مثلا، شاهدتُ عرضًا لإحدى طالبات معهدنا (المعهد العالي للفنون المسرحية). كان العرض فوضى حقيقية. أنت لا تدري ماذا يجري أمامك سوى أن هناك موسيقى، هناك فوضى، وصخب. وهي تعتقد أيضا أنّ هذا تجريب.
_ الملاحظ أن كثيرا من المبدعين المسرحيين وغير المسرحيين، يعانون العزلة، وعدم الاهتمام في أوطانهم مما دفع البعض منهم إلى الصمت نهائيا أو الهجرة. ولكن نلاحظ من ناحية أخرى أنّ بعضًا من هؤلاء، يحظون خارج أوطانهم عموما، بالترحيب والاهتمام الخاص. بل إنّ هناك من استطاع حصد الجوائز. كيف تفسّر هذه الظاهرة ؟
نديم معلا: أريد أن أتوقّف هنا عند مسألة الجوائز. فبصرف النظر عمّن يمنح الجوائز...
_ تقصد الجهات التي تشرف على هذه الجوائز؟
نديم معلا: الجهات، أو الأسباب، أو لجان التحكيم، أو المعايير التي توضع لهذه الجوائز. قناعتي أنها قد تسيء أحيانا.
_ تسيء لمن ؟ ولماذا ؟
نديم معلا: تسيء لغير الموهوبين؛ لأنها تمنعهم أو تحول دون طموحاتهم في المستقبل. لأنّهم يعتقدون أنهم وصلوا إلى نهاية المطاف، وأنهم يمتلكون الآن، بعد هذه الجائزة، الحقيقة المطلقة، ويعرفون كل شيء.
_ عفوا. هل هذا يعني – برأيك - أنّ غير الموهوبين هم الذين يحصلون عادة على الجوائز؟ ! !
نديم معلا: لا، وبعض الموهوبين أيضا، ولا أقول الجميع. فبعض الموهوبين قد يشعر بأنه بعد أن وصل إلى مرحلة متقدّمة، وأصبح معروفا، قد يتكاسل، وقد لا يكتب، أو يريد أن يتّكئ على الترويج ليكتب أشياء ليست لها قيمة. ولكنه يعتقد أنه طالما أنه كُرّس، أي صار مكرّسا، إذن باستطاعته أن يفعل ما يشاء، وسوف يصفق له الجميع. أنا أريد أن أقول شيئا ولكن لن أسمّي الاسم هنا. سأكتفي بالقول أنّ مخرجا مشهورا، وكنت أحد الذين كتبوا عنه عندما خطا خطواته الأولى. شاهدتُ له عرضا في المرحلة الأخيرة. فوجدت أن هذا الرجل لا يقدم جديدا على الإطلاق، وأنه يتكئ على ماضيه. وعلى أنه كُرّس، وأنّ كل ما يمكن أن يصدر عنه يجب أن يكون عظيما. وهذا غير صحيح. لقد كان العرض أقل من متواضع. ومع ذلك، سيجد من يصفّق له. لكن عليه أن يواجه نفسه فيما بعد. يجب أن يقول ماذا قدّمتُ أنا ؟ وفي هذا السؤال تكمن الحقيقة.
_ لقد قلت في كتابك الأخير أن المسرح العربي "غارقٌ في إظلام كامل"، وأن هذه المهرجانات التي تقام من حين لآخر في هذا البلد أو ذاك "لن تقوى على تبديد هذا الظلام"، لأنها "مجرد بقع ضوء" تنبعث بشكل احتفالي وموسمي ثم ما تلبث أن تركن إلى الموت. هل هذا يعني أن المسرح العربي اليوم في أزمة، أو بعبارة أدق في حالة ميئوس منها؟
نديم معلا: أنا هنا استعرت عبارات مسرحية، وهي: "الإظلام" و"بقعة ضوء" لأصف حالة. وأنا أعتقد أن هذه الحالة مازالت مستمرة. أتمنى أن تنفق الأموال، لا على الكرنفالات والمهرجانات، وإنما تنفق على بُنية تحتية مسرحية؛ بناء مسرح مثلاً، أو تأسيس ما يمكن أن نسميه: "صندوق ثقافي مسرحي" تُدفع فيه إعانات لمساعدة بعض الشباب المسرحيين. فللشباب على المجتمع حق أيضا، لكي نشجعهم على العمل؛ أي بدلا من أن ننفق الأموال على الدعوات، وعلى الندوات، وعلى المهرجانات... لماذا لا ننفقها على تطوير البُنى الثقافية التحتية. هذا لا يعني إلغاء المهرجانات ولكن المهرجانات اليوم في جميع الأقطار العربية، وبدون استثناء هي علاقات عامة. فمن يحضرون هذه المهرجانات لهم علاقات عامة. وبوسعي أن أذكر عشرات الأمثلة على ذلك وليس مثلا واحدا. ومن بين هذه الأمثلة، أن مهرجان الجزائر (مهرجان المسرح المحترف)، وهو قريب، دُعي إليه مثلا شخصيات من سورية لا قيمة لها؛ لا قيمة ميدانية ولا حتى تنظيرية. قد يكون بعضهم مثلا، قدّم عملا قبل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة، وبعضهم قدّم عملا واحدا في حياته كلها، وبعضهم لما يعد يظهر حتى على خشبة المسرح؛ لأنه هجر المسرح إلى التلفزيون.
_ هل أفهم من كلامك أن المهرجانات المسرحية التي تقام في الأقطار العربية المختلفة سنويا، تقوم – برأيك – على العلاقات العامة، ولا علاقة لها بالمسرح وتطويره ؟
نديم معلا: نعم. ولكن مع استثناءات لا يعتدّ بها. هناك استثناءات دون شك؛ فبعض المهرجانات مثلا تبحث عمّن لهم فاعلية حقيقية على أرض الواقع. وبعض المهرجانات الأخرى لا تكلّف نفسها ذلك. فأنا أعرف مثلا أن هناك بعض الصحفيين "الخفيفين"، يخاطبون بالإيميل (e-mail)، ويلفّقون سيرة ذاتية غير حقيقية. والمسئولون في بعض المهرجانات لا يعرفون من هذا ومن ذاك، ولكنهم لا يكلّفون أنفسهم عناء البحث عمن يمثلون القيمة الحقيقية ثقافيا ومسرحيا في بلدانهم.
_ هل يرجع هذا إلى أن القيّمين أو المسئولين عن هذه المهرجانات ليسوا من أهل الاختصاص؟ أي أنّ لا علاقة لهم بالمسرح أو بالثقافة بعامة ؟
نديم معلا: هم قد يكونون من أهل المسرح والثقافة، فأنا لا أجرّدهم من الثقافة، ولكنهم مثقّفون كسالى، لا يكلّفون أنفسهم البحث عن العمق، يجدون أسماء تطفو على السطح باستمرار في الصحافة، وفي التلفزيون هنا وهناك، ويفضلون ما هو أسهل بالنسبة إليهم. وهذا ما يجري. فهم غير مهتمّين على الإطلاق بأن يحضرَ مثلا شخص له قيمة. وقد يقولون نحن لا نعرف عنوان فلان، ولا يمكننا أن نتّصل بفلان... إلخ. لأنهم لا يفكّرون إلا قبل المهرجان بشهر أو شهرين وما يأتي في طريقهم، ارتجال بالضبط.
_ إذن ما هي برأيك القيمة الحقيقية لهذه المهرجانات المسرحية السنوية أو بعبارة أخرى، ما هي الفائدة التي تقدمها للمسرح والمسرحيين ؟
نديم معلا: هي حفل تعارف. فقد لا يكون جانبًا سيّئا أن يتعارف الفنانون العرب على بعضهم البعض بوساطة المهرجانات. هذا جانب لا بأس به.
سؤال: عفوا. ولكن إذا كانت الغاية من هذه المهرجانات هي التعارف، كما تقول، فإنه يمكن التعارف بطرائق أخرى ولا نحتاج إلى إقامة المهرجانات التي تكلّف أموالا باهظة ؟
_ صحيح. يُفضّل أن نتعارف بطرائق أخرى. ولكن قد نجد في بعض هذه المهرجانات أعمالا تثير الاهتمام أو تلفت الانتباه. ولكنها تبقى قليلة جدا. فأنا لم أسمع مثلا أنّ عملاً مميزا عُرض في مهرجان ما، أو يستحق التنويه أو أنه يمثّل مرحلة جديدة في حياة الفنان أو ربما في الحياة الثقافية حتى الآن.
_ لا شك أن المسرح في سوريا هو جزء لا يتجزأ من الحركة المسرحية في الثقافة العربية، وحاله من حالها. هلاّ قدّمت لنا فكرة، ولو مختصرة، عن راهن الحركة المسرحية في سورية اليوم؟
نديم معلا: أنا لا أريد أن أبكي على أطلال الستينيات والسبعينيات في سورية. ولا فائدة من محاولة إحياء ما في الذاكرة. ولكنني أريد أن أقول إن ما يجري الآن في المسرح السوري هو استخفاف ليس بالذائقة العامة فحسب، وإنما بذائقة المسرحيين أو الفنانين أنفسهم. بمعنى أنهم لا يجهدون أنفسهم في البحث.
_ هل تقصد بذلك الكتاب المسرحيين؟
نديم معلا: لا. أنا أقصد المخرجين. أما ظاهرة الكتابة، فهي، مع الأسف، تكاد أن تكون آيلة للانقراض. وأنا أقصد هنا الكتابة المسرحية على وجه التحديد. ليس لدينا اليوم شباب يكتبون للمسرح. وإذا وجدنا بعض الشباب، فسرعان ما يهجرون المسرح ويذهبون إلى التلفزيون، لأن التلفزيون يقدم إغراءات مادية خطيرة، في حين أن الكاتب المسرحي الشاب لا يحصل إلا على مبلغ ضئيل جدا. هناك أيضا مسألة الانتشار؛ فمن يكتب مسلسلا ناجحا، ويلقى رواجا سوف يُطلب من دول الخليج مثلا ليكتب، أو ستُعرض أعماله في أماكن أخرى. وهذا يشجّعه، أو يُمنحُ جوائز في مهرجانات. وعندها سوف يغادر المشهد المسرحي السوري وهو في خطواته الأولى. فالحركة المسرحية في سورية راكدة، وليست هناك أعمال مسرحية متمايزة. وما نراه هو أن الشباب مثلا، وحتى الجيل الوسط (بين الشباب والكهولة)، هؤلاء يكتبون نصوصهم بأيديهم، أي تجربة ما يسمى بـ "الكاتب/المخرج". وهي تجربة ليس لها بواعث إبداعية بقدر ما لها بواعث أو أسباب مادية. فهم يريدون أن يحصلوا بذلك على مكافأة الكاتب ومكافأة المخرج في آن واحد. يحتاج المسرح برأيي إلى ضخّ إمكانات جديدة ووجوه جديدة. كما يحتاج أيضا إلى تدخّل إيجابي، ليس بالمعنى الرقابي، من المؤسسات الرسمية. والمؤسف أيضا أن المؤسسات الخاصة تبرهن يوما بعد يوم أنها غير معنية بالثقافة. بينما نجد المؤسسات الخاصة في الغرب تساهم مساهمة حقيقية وفعّالة مقابل إعفاءها مثلا من الضرائب. هذا لا نجده عندنا، وإذا وجدنا بعض الأعمال التي يسمونها شركة فلانية، أي المؤسسات التي تقوم بالرعاية بهدف الدعاية (sponsor)، فهي غالبا ما تذهب وراء الأعمال الخفيفة. ولا تبحث عن الأعمال الجادة.
* أستاذة قسم اللغة العربية وآدابها
جامعة الجزائر
0 التعليقات:
إرسال تعليق