حنان بومالي: المسرح الشعري عند بسيسو يشكل الحلم والهاجس والجرح
مجلة الفنون المسرحية
حنان بومالي: المسرح الشعري عند بسيسو يشكل الحلم والهاجس والجرح
عزيزة علي
ترى أستاذة التعليم العالي في جامعة عبدالحفيظ بوالصوف بمليلة-الجزائر الدكتورة الجزائرية حنان بومالي، أن الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو، أضاء بمسرحياته الشعرية حيزا وحجما في المسرح الشعري للمقاومة العربية في هذا العصر بدءا من “مأساة جيفارا”، “ثورة الزنج”، “شمسون ودليلة”، “الصخرة”، “العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع”، وانتهاء بـ”محاكمة كليلة ودمنة”.
كتب بسيسو الحرف الحارق ورسم الصورة المشعة، ورش قطرات الدم بين المسرحية والأخرى ليرسم طريقا ملتهبا يشع بروح النضال والثورة إلى القدس.
وتضيف بومالي، في مقدمة كتابها “جدل السياسي والجمالي في مسرح معين بسيسو الشعري”، الصادر عن دار الفينيق للنشر والتوزيع- عمان، أن بسيسو دافع عن القضية في أعماله الشعرية التي كانت تعج بنزوعه القومي، غير أن الهم السياسي دفعه إلى ممارسة المسرح الشعري واتخاذه أداة لتجسيد القضية بصورة أخرى وبشكل أقرب ما يكون ذوبانا في طريقها عبر ست مسرحيات شعرية تشكل خصوصية مهمة ضمن المسرح الشعري العربي المعاصر.
وتشير المؤلفة الى أن المسرح الشعري عند بسيسو لن يكون غير الحلم والهاجس والجرح والخنجر وجواز السفر الأخضر المخضب بالدم الساخن، ليسمح له أن يسافر الى كوكب الخالدين في مقدمة الهوادج قطفا قبل أن يكتب الوصية، مشيرة الى أن بسيسو نهل من ماء تصبب فيه دم المقتولين وتنفس من هواء ينسل من خصاص حيطان الزنزانات وقاتل في صف قبل الأول مع كوكبة المحرضين.
وتقول بومالي إن بسيسو جعل مسرحه الشعري ساحة للجدل السياسي وتعامل مع الأحداث التاريخية بإسقاطها على الواقع الفلسطيني المعاصر، مبتعدا عن الشكل التقليدي، متأثرا بالتجارب المسرحية الجديدة التي صارت معروفة في ذلك الوقت، والتي استهوت عددا من كتاب المسرح بنوعيه النثري والشعري، لافتة الى أن بسيسو أمسك بأدوات الإبداع المسرحي كافة، فكتب الحوار بلغة السياسة واستحضر الشخصيات التراثية الحقيقية منها والأسطورية، لتحمل السيف والرصاص والأحزمة الناسفة والمتفجرة وتشق الطريق إلى التحرر، كما قدم بسيسو بأسلوب رمزي ممعن في السخرية والأسى العميق صورة فلسطين المعاصرة.
وتشير المؤلفة إلى أنها انطلقت في كتابها من تتبع “جدل السياسي والجمالي في مسرح بسيسو الشعري بدءا من الأرض وحوار الهوية”، التي تكشف عن بؤر التوتر فيها عبر حوار الشخصيات وصراعاتهم ومعاناتهم أيضا، وتفاعل الشاعر مع الحدث السياسي وجسدته لغته الشعرية عن طريق استحضار التاريخ وتقديمه وفق رؤية معاصرة، ولم تعدم نصوصه المسرحية تقنية القناع وصناعة الرمز ما دام التراث يمثل أحد الإلهامات الرئيسية، وكان للمكان حضوره المتميز في مسرحة، فكان الإطار المحدد لخصوصية اللحظة الدرامية المعالجة.
وتنوه المؤلفة الى أن كتاب المسرح يعون أن العمل المسرحي ليس مجرد أداة تسلية ومتعة، وأن له إضافة الى ذلك وظيفة مهمة في حياة المجتمع، بما يعرض من مشكلات وقضايا تأخذ بخناق المجتمع وتعوق مسيرة تطوره، فقد انبرى جملة من كتاب المسرح للالتصاق بالواقع السياسي والاجتماعي والتعبير عنه بلغة مسرحية نثرية وشعرية من هذه المسرحيات؛ “(الفرافير) يوسف إدريس، (السلطان الحائر) توفيق الحكيم، (حفلة سمر من أجل 5 حزيران) سعد الله ونوس، (العرش والعذراء) خالد محيي الدين البرادعي، (ثورة الزنج) معين بسيسو، (تحولات عازف ناي) علي عقلة عرسان وغيرهم”.
وتوضح بومالي أن أولى القضايا التي كانت تطرح هي نكبة فلسطين، ثم صارت قضية تحرير فلسطين، إلى أن صار يطلق عليها في المرحلة الأخيرة قضية السلام في الشرق الأوسط، مبينة أن القضية التي شغلت كتاب الأدب في مختلف أجناسه؛ أهم ما كتب في القضية تأتي “الرواية، القصة، المسرح الشعري”، وبخاصة الشعر الذي قدم فيه بسيسو شاعرا ومسرحيا في آن مجموعة كاملة من المسرحيات الشعرية كانت فلسطين هي القضية التي تؤرقه وتشغل قلبه وهاجسه.
وترى المؤلفة أنه عندما تتفاعل الموهبة الفذة مع موضوع كبير بحجم القضية الفلسطينية، فإن الرهان على ولادة نص إبداعي مسرحي جيد هو رهان مشروع، فقد عرف الشاعر والكاتب المسرحي بسيسو بنزوعه القومي التحرري الذي يظهر من انخراطه المبكر في العمل الوطني وسجنه في المعتقلات المصرية أكثر من مرة.
وتنوه بومالي الى أن المسرح الشعري العربي المعاصر يحتل مساحة كبيرة في ساحة الأدب العربي المعاصر، فقد جعل الشعراء المعاصرون منه مطية الى الانتقال بالقصيدة العربية من الغنائية الى الدرامية، وذلك بتحويل الشعر في المسرح الى حوار مركز وسريع، يعبر عن حالاتهم ومعاناتهم في صورة درامية موضوعية تعمق الموقف ولا تعطله، فكان خروج القصيدة العربية المعاصرة من جو الغنائية المفرطة التي طغت عليها ردحا من الزمن، الى جو الموضوعية والبناء المسرحي والنزعة الدرامية هو موضوع هذه الدراسة، مع التأكيد أن التجريب في المسرح الشعري العربي المعاصر يعد صيغة تميز الحضارة العربية في سيرها نحو المستقبل، لأنها صيغة تعارض صيغ التقليد.
وتشير بومالي الى أن العلاقة الجدلية بين السياسة والإبداع تمتد الى فن المسرح الذي يلمس التتبع التاريخي للسياسة كعنصر أساسي فيه، فمن الصعوبة أن نجد عصرا خلا فيه المسرح من التأثر بالأوضاع والظروف السياسية القائمة، ولما كانت هذه العلاقة الجدلية مرتبطة بتطور حركة المجتمع فقد بدأت مرحلة البحث عن صيغ مسرحية جديدة تقرب المسافة بين المبدع والمتلقي، عندما أدرك المؤصلون المسرحيون دور الفن المسرحي وأهميته في بناء المجتمع وبناء الحضارة، أكدوا أن جماليات فن المسرح تقوم أساسا على علاقة بين المنصة والقاعة، وتلك الجماليات التي يمكن أن نستنبطها ونقيسها بمدى التفاعل بين المبدع والجمهور.
وتزيد المؤلفة أن المسرح في المرحلة التأصيلية لم يعد يخاطب العواطف، وإنما يحرص على مخاطبة العقل، ثم إنه لا يستهدف التطهير وإنما التفجير، وإنه لا يقوم على الاندماج الوجداني بين أحداثه ومشاهديه، وإنما على المباعدة الوجدانية وأعمال العقل، فهو لا يحقق تطهيرا للنفس، وإنما يعد إقلاعا فكريا وتوعية عقلية، وتحريضا ودعوة الى فعل ومشاركة وانخراط فأصبح المسرح مؤسسة تثقيفية تنويرية تضاف الى باق المؤسسات.
وتخلص بومالي الى أن الشاعر يختلف عن رجل السياسة وعالم الاجتماع والمؤرخ، مبينة أن رواد الشعر العربي الحر اتفقوا على أن الواقع السياسي والاجتماعي مصدر أساسي في عملية الإبداع، منه يأخذون مادتهم ليعيدوا تشكيلها من أجل الوصول الى عالم فني أغنى، وهم يشيرون الى أن أثر هذا الواقع فيما يكتبون وإن كانوا لا يتقيدون بما فيه، إذ يتجاوزونه الى ما ينبغي أن يكون، فالواقع الاجتماعي والسياسي بهذا القاموس أو المعجم يوفر المعطيات الأولية، أو المواد الخام، أما الشعر فهو خلق وإبداع يعيد تشكيل المادة الأولى جماليا، ومن ثم فإن التأثير الفني هو التأثير الحاسم في عملية الإبداع، أما التأثير السياسي والاجتماعي فهو غير مباشر، ولا يمكن عزل النص الشعر عن السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي.
كتب أستاذ الأدب في جامعة الأزهر غزة-فلسطين، ورئيس جمعية النقاد الفلسطينيين د.محمد البوجي مقدمة للكتاب، يقول فيها “إن جدل السياسي والجمالي في مسرح معين بسيسو الشعري، مدخل مثير للجدل يتناسب وشخصية بسيسو، ذلك السياسي المتوهج، المثير للجدل، تمركزت الجماهير كلها بجميع أطيافها حول شخص بسيسو المخلص، رغم ذلك فهو محب للحياة وللجمال، كان يحب الزهور في بيته، ويحب أصناف الطعام بألوانه الزاهية فيدعو الرفاق الى طعامه، بل كان بيته مركزا لمعظم الرفاق، كما قالت زوجته صهباء البربري”.
يشير الى أن روح بسيسو تمثل الوحدة العربية، وكانت العروبة فيضا روحانيا واستراتيجيا جميلا في ذهنية تحاول الهروب من الهزيمة والتفكك نحو القومية وإزالة الأسلاك الشائكة بين الأقطار العربية، فكتب شعرا رائعا في شخص الزعيم القومي جمال عبدالناصر، رغم معاناته في السجون المصرية.
يقول البوجي إن شعر بسيسو المسرحي يمتاز بتكثيف مذهل، فهو ينهل من حرائق الغضب والإحساس بالحزن والضياع، يعبر عن شظايا المرايا التي تعكس انكسارات الروح، إنه الأمل الفلسطيني في مقاومة المذبحة، بحجم تراجيديا النكبة والخروج من الأندلس بحجم الكلمة بين الفراشة والرصاصة، يقول “لكن علم الثورة في حشائي، نسجته يداي.. خيطا من دم.. وخيطا من نور.. فعلم الثورة هو علم الله”، من مسرحية “ثورة الزنج”.
وينوه الى أنه رغم اقتراب لغة بسيسو من مفردات الحياة ومرارة الواقع، فإنها مشبعة بالشعرية والظلال والإشعاعات، إنها بحق سجية الواقع وحريرية النسيج ذات قيمة دلالية عميقة ومثيرة، تكشف مقدرة بسيسو على توظيف ثقافته في الخلق الفضي العميق، ويترجم بمنجز مسرحي ورؤية تقود نحو وظيفة سياسية وإيديولوجية، هذا ما جعل مسرحه إعادة إنتاج الواقع بعناصره ذاتها، إنه يهدم برؤية جديدة، ويعيد تشكيلة نحو عالم جديد وأفق إيديولوجي، ليس خاصا في حدود المأساة، لكنه يتجاوزها الى التجربة العربية، فهو يجيد التعامل مع الموروث.
-------------------------
المصدر : الغد
0 التعليقات:
إرسال تعليق