الرواية... من عزلة القراءة إلى الفرجة المسرحية .. بداية المسرح الجزائري تعود لسان أوغسطين وليس لجورج أبيض
مجلة الفنون المسرحيةالرواية... من عزلة القراءة إلى الفرجة المسرحية
بداية المسرح الجزائري تعود لسان أوغسطين وليس لجورج أبيض
ربيعة جلطي
لا يزال الدرس التاريخي للمسرح في الجزائر يعج بالأسئلة الكثيرة، أسئلة تواجه الباحثين في هذا الحقل الذي ينتظر المزيد من الأسئلة عن البدايات والخواتم، فالبداية عريقة مثل عراقة المدن الشاهدة بقاياها بمسارحها الأثرية المدهشة «تيمقاد» و«جميلة» و«مداوروش» و«تيبازا» المتربعة على جغرافيا حضرية متعددة، من مدينة تيبازا إلى شرشال وسكيكدة وباتنة وسطيف وسوق أهراس وقالمة وغيرها، إنها مسارح لا تقل إدهاشاً وأسراراً عما تمنحه المسارح الإغريقية والرومانية الأثرية، من هنا تبدو ساذجة تلك الفكرة المتداولة والقائلة إن المسرح في الجزائر قد بدأ مع قدوم اللبناني المصري جورج أبيض (1880 - 1959) في زيارة للجزائر سنة 1921... ربما يكون قد انتعش بتأثير الزيارة تلك على بعض رموز مسرح تلك المرحلة من أمثال محيي الدين بشتارزي وعلالو ورشيد قسنطيني. إن المسرح في الجزائر أعرق من ذلك التاريخ ومن تلك الزيارة، لقد كان القديس والفيلسوف سان أوغسطين المولود في طاغاست (سوق أهراس حالياً شرق الجزائر) عام 354 والمتوفى في عنابة سنة 430 من ممارسي المسرح، ويسجل ذلك بوضوح في كتابه الشهير (الاعترافات) الذي يعتبر واحداً من الكتب الأولى في كتابة السيرة الذاتية في العالم.
إن علاقة المسرح بالأدب ظاهرة قديمة وليست وليدة العصر، قادمة من تاريخ عريق يعود إلى المسرح الإغريقي الذي كان يقتبس مسرحياته من الأساطير الملحمية ومن الحكايات الشعبية وغيرها. تظل الحكاية هي السحر الذي يشد به أهل المسرح من مخرجين وممثلين انتباه جمهور الخشبة على المسارح العالمية وجماهيرها باختلاف اللغات والثقافات، لقد دأبت أسرة المسرح في العالم على اقتباس مسرحيات من الأدب الروائي العالمي، مثل أوليفير تويست لشارل ديكنز وتعيد إنتاجها وعرضها جيلاً بعد جيل دون أن تسقط في التكرار أو الملل الجمالي، ورواية البؤساء لفيكتور هوغو التي ما زالت تصنف من أكثر الروايات في العالم اقتباساً وتمثيلاً مسرحياً وسينمائياً، وغيرهما...
لا يُستثنى المسرح الجزائري الحديث والمعاصر من هذه الظاهرة، إلا أنه قبل أن يشتغل على النص الروائي سواء المكتوب منه بالفرنسية أو بالعربية، فقد ارتبط في فترة معينة بفن الحكاية الشفوية، كشكل من أشكال المقاومة الثقافية والحضارية والسياسية، واستثماراً في كنوز الذاكرة الشعبية بجمالها اللغوي، ومتعتها السردية المدهشة، القادمة من التراث الأمازيغي والأفريقي والمتوسطي والعربي، وإن تجربة المسرحي «عبد الرحمن ولد كاكي» (1934 – 1995) من أكثر التجارب الناجحة والعميقة التي التصقت بالتراث الشعبي بأشكاله الجمالية المختلفة كـ«الحلقة والديوان والمداح والسوق...»، وقد اشتغل على ذلك أيضاً كل من الرواد: رشيد قسنطيني (1887 - 1944)، وبشطارزي (1897 - 1986)، وعلالو (1902 - 1992) في مسرحيته «جحا» على سبيل المثال.
في الجزائر مخرجون مسرحيون متميزون جمعوا بشكل مبدع وخلاق ما بين جماليات المسرح الأوروبي والمسرح الأفريقي والعربي، وفنانات وفنانون ذوو طاقات إبداعية مسرحية مدهشة، لا يقلون قيمة فنية عن غيرهم من أهل المسرح في العالم، وإن كنت أشعر بأن اختيار النصوص التي يلبسونها على الخشبة ضيقة على لغة أجسادهم، وغير قادرة على أن تساعدهم على صنع اللهفة والفضول وجذب الجمهور، ولا تساعد على اكتشاف قدرات الممثل والمخرج أيضاً.
نظراً لمستجدات المحيط الثقافي العالمي، وما يساقط يومياً من خيرات ثقافية مرئية عبر وسائل التواصل الاجتماعي على المهتم بالمسرح، فقد تغير جمهور المسرح الجزائري إلى حد ما، كما هو الجمهور في كل مكان، إذ نلمس ارتفاع الوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي والجمالي الفني لديه، وهو بذلك يبدو أكثر طلباً ومطالبة بمشاهد نصوص مسرحية مدهشة، نصوص تمثل هذه المرحلة بكل أحلامها وانكساراتها، وتُسائل واقعه، وواقع عصره، مستقاة من فلسفة الوجود وأسئلتها التي تؤرقه، عمل على ذلك كاتب ياسين في تجربته المسرحية الطويلة، وهو الروائي الذي خلخل بروايته العظيمة (نجمة 1956) كل المفاصل العتيقة للفن الروائي في شكله القديم، إلا أنه اختار - لشرط تاريخي - أن يخاطب العامة بلغتهم ومرجعيتهم، فنجح فيما يسمى «المسرح الشعبي السياسي»!
إلا أن هذه المرحلة الجمالية، تم تجاوزها من خلال تجارب جديدة قدمتها مجموعة من المخرجين والمخرجات من الجيلين الثاني والثالث من أمثال عبد القادر علولة وامحمد بن قطاف، وعمر فطموش، وعز الدين مجوبي، وزياني شريف عياد، وسليمان بن عيسى، ومحمد أدار، ومخلوف بوكروح، وعلي جبارة، ومراد السنوسي، وملياني مولاي، وحميدة آيت الحاج، وفوزية آيت الحاج، وشوقي بوزيد، ومحمد شرشال، وأحمد رزاق وغيرهم. ومع هذا الجيل بدأ البحث عن نصوص داخل الرواية. وهي مرحلة جديدة في مقاربة النصوص الروائية والقصصية، فاشتغل بعضهم على نصوص للطاهر وطار، وعبد الحميد بن هدوقة، ورشيد بوجدرة، ومحمد ديب، والطاهر جاووت، ورشيد ميموني، وأمين الزاوي وغيرهم، وتحويلها إلى الخشبة. وجميع هذه الأعمال تركت أثراً طيباً لدى عشاق المسرح، وأخرجتهم من مسار تجربة إلى أخرى؛ ولكنها تجارب قليلة، ولا تعطي فن الرواية حقه.
حضرتُ منذ فترة عرضاً أنتجه المسرح الجهوي لـ«سوق أهراس» مدينة سان أوغسطين على ركح المسرح الوطني بالعاصمة، تجربة حديثة للمخرجين علي جبارة والمسرحي مولاي ملياني في اقتباس لرواية «الملكة» للروائي أمين الزاوي بعنوان (سكورا)، وشاهدت تفاعل وتجاوب الجمهور الكبير مع العرض من رفع الستار حتى إسداله، أمام هذا تأكد لي أن المسرح الجزائري فتح باباً جديداً نحو تاريخ جديد أتمنى ألا يغلق أبداً. فليهتم صناع المسرح ومهندسو مشاهده وعروضه بالنص السردي الجزائري كما يفعل الآخرون، فالمسارح في أوروبا، وفرنسا خاصة، تهتم كثيراً بالنصوص الروائية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية وتحولها إلى المسرح، أكثر من اهتمام المسرح الجزائري بها. كم من العروض شاهدنا مقتبسة من روايات كل من محمد ديب، وآسيا جبار، ورشيد بوجدرة، ومايسة باي، وكمال داود، وعبد القادر جمعي، وعزيز شواقي، وياسمينة خضرا، وأمين الزاوي وغيرهم...
فإذا كان المسرح يستفيد من جهته من النص الروائي الناجح في الانتشار فإن الرواية تستعيد كثيراً من ديناميكيتها بين القراء من جمهور المسرح من جهة ثانية. ثم إن ريبرتوار الرواية الجزائرية أصبح غنياً بالنصوص السردية الجميلة والمتنوعة والقوية، سواء بالعربية أو الفرنسية أو الأمازيغية، فقد تحقق تراكم كمي ونوعي مهم، بقي أن يتجاوز المثقفون والمبدعون الجزائريون من روائيين ومسرحيين وسينمائيين وتشكيليين وموسيقيين حالة الشتات التي عاشوها لسنوات، وذلك لغياب فضاءات مشتركة متاحة يلتقون على اختلاف حساسياتهم الجمالية والفكرية والسياسية. فضاءات للقاء حقيقي أو افتراضي تكون بمثابة منطقة (سوق إبداعية مشتركة)، يتم فيها تبادل الرأي والنقاش حول الإبداع من الأدب إلى المسرح إلى السينما إلى الفن التشكيلي إلى الموسيقى، حول الإخراج والسينوغرافيا والاقتباس وحول الإصدارات الروائية. سيجد المسرحيون، لا محالة، ما يبحثون عنه لخلق الفرجة المسرحية العالية في الجزائر مهد أول رواية في العالم (الحمار الذهبي) للجزائري أبوليوس، مروراً بروايات كاتب ياسين ومولود معمري وعبد الحميد بن هدوقة ونبيل فارس ونور الدين عبة والقائمة تطول، إلى أحدث نصوص بأقلام جديدة من الأدباء الجزائريين الذين تتعدد تجاربهم السردية بشكل لافت وإيجابي.
إنه أمر - لعمري - يدعو إلى التفاؤل رغم كل شيء. فارفعوا الستار باسم الرواية!
-------------------------
المصدر : الشرق الأوسط
0 التعليقات:
إرسال تعليق