"ولاد البلد".. ست لوحات مسرحية تعري الواقع ومشكلاته
مجلة الفنون المسرحية
سماح السيد
مسرحية "ولاد البلد" مزجت بين اللغة العربية الفصحى واللهجة العامية والأغاني والرقص والاستعراضات التي دعمت أفكار العرض.
بالكباريه السياسي كمسرح راديكالي ثوري يعترض على الوضع الحالي ويثور عليه بهدف تغييره. وقد طوّعته المبادرة المصرية "المواجهة والتجوال" لتقديم أعمال مسرحية تعرض العديد من القضايا وتتصدى للأفكار المتطرفة من خلال الطواف بها في المدن والقرى، وآخر أعمالها كان مسرحية "ولاد البلد".
تحمل مسرحية “ولاد البلد” المعروضة ضمن مبادرة “المواجهة والتجوال” التي تتبناها وزارة الثقافة المصرية روح مسرح الكباريه السياسي بشحنات توقظ وعي المشاهد وتشركه في العرض ليعلن عن رأيه الصريح والمباشر في القضية المثارة.
يبدأ العرض بظهور مجموعة من الممثلين على خشبة المسرح يوجهون حديثهم للمتفرجين بقولهم “نحن بكم ومنكم، نناقش قضاياكم معكم، وسنتكلم عن تعويم الجنيه والإرهاب والهجرة غير الشرعية وقضايا كثيرة تخص كل المصريين”.
اللوحة الأولى تعتمد على التقطيع السينمائي باستعراض مقتضب للأنظمة الاقتصادية والسياسية المتعاقبة
يمثل التمهيد الأول مصادرة صريحة لرأي الجمهور في نظر البعض، لكن محمد الشرقاوي مخرج العرض ورئيس مبادرة “المواجهة والتجوال” بالبيت الفني للمسرح يؤكد أن المباشرة متعمدة لتوضيح فكرة العرض لقطاعات كبيرة من المتفرجين الذين ينقسمون إلى مستويات ثقافية متباينة في ظل عرض المسرحية بقرى ونجوع ومراكز شباب ومجتمع ثقافة أهلها محدودة.
قضايا شائكة
يوضح الشرقاوي أن فكرة المسرحية نبتت في ذهنه عام 2017 عند بداية الإصلاح الاقتصادي بمصر، ففكر في عرض أشبه بمنتدى ثقافي يناقش أفكار الأمة ويعرض قضايا وملفات اقتصادية وسياسية هامة مثيرة للجدل، وعرض أفكاره بعد بلورتها على وزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم ورحبت بالعرض ودعمت المبادرة.
يطرح العرض مجموعة من القضايا الرئيسية التي تنبثق منها أخرى فرعية يتم تقديمها في صورة لوحات متكاملة ترتبط في ما بينها برابطة درامية واحدة، وتتحدث عن مشكلات حياتية مع تطعيمها بفقرات من الاستعراضات والغناء.
اللوحة الأخيرة تحمل عنوان "حكايات على الحدود"، وتبرز دور القوات المسلحة في الدفاع عن الوطن
تعرض اللوحة الأولى قضية تحرير سعر الصرف كبداية للإصلاح الاقتصادي بمشهد لسوق الخضروات يتضمن جدالا بين بائع وصاحب مقهى، فالأول يصر على بيع كيلو الطماطم بجنيه واحد تخفيفا على كاهل الزبائن الفقراء والثاني يرى ترك التسعيرة للعرض والطلب ما يدر ربحًا أكبر.
يغيب البائع بعد إصابته بوعكة صحية مفاجئة لينتقل إلى غرفة الإنعاش لمدة أسبوعين، ويعود ليفاجأ بتعويم الجنيه ليصبح كيلو الطماطم بـ16 جنيهًا في إسقاط واضح على أن الشعب لم يشارك في قرارات الإصلاح الاقتصادي، وهو الدواء المر الذي أقدمت عليه الحكومة لعلاج مشاكل مصر الاقتصادية، لتظهر بعدها فكرة الميكنة والثورة الرقمية جلية بعد قرار التعويم في استخدام الباعة الهواتف المحمولة الحديثة، والدخول على الإنترنت، واستعمال البطاقات الائتمانية في المعاملات المالية.
تعتمد اللوحة الأولى على التقطيع السينمائي باستعراض مقتضب للأنظمة الاقتصادية والسياسية المتعاقبة منذ الملكية وحتى الآن، بداية من الرأسمالية ثم الاشتراكية، فالانفتاح الاقتصادي وتحرير سعر الصرف، وتنتهي باتجاه مجموعة من الممثلين في مشهد السوق نحو الجمهور في صالة العرض ومناقشة القضية معهم بتوجيه أسئلة مثل هل أنتم مع أو ضد تعويم الجنيه، ولماذا؟
المسرحية تتناول في لوحتها الثالثة قضية إلغاء خانة الديانة في بطاقة الرقم القومي
في اللوحة الثانية يقتحم العمل المسرحي منطقة الجهاز الإداري للدولة المتخم بالموظفين بنقاش حول قانون الخدمة المدنية عبر مؤسسة ترفع شعارا يرحب بالرشوة نصه “خليك بحبوح الدرج مفتوح”، في تلميح بأن أدراج الموظفين مفتوحة لإنجاز الأعمال بسهولة بشرط دفع الرشاوى، وإلا استغلوا الروتين في تعطيل المصالح.
وتنطلق في تناولها للفساد الإداري برصد مواطن وخطيبته يحاولان استخراج بدل فاقد لبطاقة تأمين صحي، فيتعرضان لزمرة من الموظفين يطالبونهما بالرشوة لاستخراج البطاقة، وكاد الشاب يستجيب لهم في البداية لولا رفض خطيبته ومطالبتها بمواجهة الفساد والتصدي للمرتشين.
يواجه من يتصدى للفساد عقابًا، فكرة أخرى تطل عندما يصر الشاب على عدم دفع الرشوة، ويلجأ إلى مديرهم بحثًا عن الإنصاف، لكن الأخير يطلب المال أيضا، فيفقد الشاب أعصابه ويضرب المدير، ليحضر الأمن ويقبض عليه بتهمة ضرب موظف حكومي أثناء تأدية عمله ليكون السجن في انتظاره، فيعلق ساخرا موجها حديثة لخطيبته “مبسوطة، أنا رحت في ستين داهية” (هل أنت سعيدة، لقد دمرت مستقبلي).
تعتبر المسرحية تلك الحادثة مدخلاً لتبرير مقاومة الموظفين لقانون الخدمة المدنية باعتباره يكشف سوءاتهم وعوراتهم بإجبارهم على توقيع مواعيد العمل عن طريق نظام البصمة اليدوية، ما يمنعهم من الهروب وتقييم مستوى أداء الخدمات بشكل دوري، وتنتهي تلك اللوحة بنزول الممثلين للمتفرجين في صالة العرض لسؤالهم: هل هم يؤيدون قانون الخدمة المدنية أم لا؟ وماذا لو تعامل الموظفون بضمير وبلا رشوة وبشفافية تامة؟
في اللوحة الثانية يقتحم العمل المسرحي منطقة الجهاز الإداري للدولة المتخم بالموظفين
اشتباك فني
تتناول المسرحية في لوحتها الثالثة قضية إلغاء خانة الديانة في بطاقة الرقم القومي من خلال شخصيتي مسلم ومسيحي يتعرضان لمداهمة أفراد تنظيم داعش الإرهابي لمنزلهما في سيناء، وللهروب منهم يمنح المسلم بطاقة زوجته ونقابها لصديقه ليرتديه هربا من انتقام أفراد التنظيم وإمكانية قتله بسبب ديانته.
وقد أثارت تلك الفكرة جدلا مع وجود أضرار كثيرة لإلغاء الديانة، مع إمكانية استغلالها في عمليات الاحتيال والنصب والزواج من غير الملة.
وينتقل العرض إلى لوحة الشغب في الملاعب والتعصب الرياضي وروابط الألتراس المتطرفين في تشجيعهم الكروي بمقهى لتشجيع مباراة بين قطبي الكرة المصرية الأهلي والزمالك، ويشهد مشاجرة كبرى يستخدم فيها المولوتوف والعصي والأسلحة البيضاء تنتهي بالقبض عليهم وإيداعهم في حجز أحد أقسام الشرطة.
جاءت الهجرة غير الشرعية كخامس لوحات العمل تقدمها المسرحية كحل يائس لمشكلة البطالة التي يعاني منها الشباب المصري بوسيط يتفق مع عدد من الشباب على الهجرة للخارج ويغرق بهم المركب في عرض البحر لتنتهي اللوحة وسط تساؤلات هل الهجرة الشرعية هي الحل وهل الشباب متقاعس عن العمل أم لا توجد وظائف متوفرة بعد أن سدت الحكومة شرايين التعيينات في كثير من المؤسسات المكتظة بالموظفين؟
وحملت اللوحة الأخيرة عنوان “حكايات على الحدود”، وتبرز دور القوات المسلحة في الدفاع عن الوطن وتفريخ جيل جديد يعرف معنى الوطنية عبر أحد مراكب خفر السواحل الذي ينتشل الغارقين من شباب الهجرة الشرعية قبل أن يلقوا حتفهم في قاع البحر المتوسط، ويتضح أنهم جميعًا هاربون من تأدية الخدمة العسكرية.
يؤكد العمل أن القوات المسلحة مصنع الانتماء والرجولة، فكرة دعمها العرض من تأهيل الشباب الهارب من تأدية الخدمة العسكرية وتعليمهم حب الوطن حتى يشتد عودهم ليسهموا في بناء بلدهم، ويتطرق إلى بانوراما الاستشهاد ومن ضحوا بأرواحهم بمشاهد سينمائية تدعم فكرة التضحية بالروح فداء للوطن.
مسرحية
تنتهي المسرحية بترديد كل الممثلين الذين شاركوا في اللوحات الست أبيات شعر تدعم الوطنية ويقولون فيها “يا نعيش ونحلم بالنهار.. يا نفض ليل الانتظار.. أوعى تموت جبان وبلدك محتاجة الأمان (إما أن نعيش حالمين بالنهار أو نفض ليل الانتظار.. إياك أنم تموت جبانا وبلدك تحتاج الأمن)”.
ويشير الشرقاوي إلى أن هناك لوحات استثنائية إضافية تواكب الأحداث الجارية يتم إضافتها للعرض مثلما حدث في حادث قطار الصعيد مؤخرا وراح ضحيته عشرات من المصريين.
مزجت المسرحية بين اللغة العربية الفصحى واللهجة العامية والأغاني والرقص والاستعراضات التي دعمت أفكار العرض، وبدت أشبه بالمعارضة المستأنسة، فلم تصل إلى جرأة بعض مسرحيات الكباريه السياسي التي قدمت في تاريخ المسرح المصري مثل “خيبتنا” للفنان محمد صبحي التي عرضت عام 2004، ولا مسرحية “على الرصيف” التي قدمها الفنان الراحل حسن عابدين والنجمة سهير البابلي عام 1987 وكانت تحمل سخرية مباشرة ولاذعة من سياسة الدولة.
تظهر فكرة الممثل الشامل بقوة في العرض من خلال قيام الممثلين أصحاب المواهب من خريجي أكاديمية الفنون ومنهم أحمد الرمادي، وليد الفولي، إسراء حامد، أميرة عبدالرحمن، نورهان سالم، كريمة أحمد ونجاة محمد الذين جمعوا بين بالرقص والغناء والاستعراض والتمثيل، وساعدوا في الديكورات المسرحية البسيطة التي لم تتجاوز حقيبة كبيرة بها بعض اللوحات والأقمشة يضعونها على خشبة المسرح للتعبير عن اللوحة والفكرة التي يجسدونها في العرض.
العرض يطرح مجموعة من القضايا الرئيسية التي تنبثق منها أخرى فرعية يتم تقديمها في صورة لوحات متكاملة
نجح المؤلف مصطفى سليم في بناء عرض فني متكامل وابتعد عن المباشرة إلا في مشاهد قليلة جدا لتوضيح أفكاره الأساسية، لكنه في النهاية مؤلف متمكن من أدواته يعرف متى وكيف ينتزع الضحكة بكوميديا سوداء من خلال أبطال المسرحية.
وبدت استعراضات فاروق جعفر موفقة إلى حد كبير مع استغلال المشاركين في العرض بالرقص بشكل احترافي يحسب له، باستثناء الاستعراض الأخير من المسرحية حيث فشل بعض الممثلين في ضبط التناغم الحركي على المسرح.
وكانت الإضاءة التي وضعها أبوبكر الشريف مقبولة عند عرضها على مسرح الطليعة، لكن بالطبع تاهت وبدت ضعيفة جدا عند عرض المسرحية في بعض القرى والنجوع لعدم توافر الإمكانيات المادية والمسرحية وتم التغاضي عن قوة الإضاءة وجودتها تبعا لفضيلة الاستغناء مقابل أن تصل الفكرة لقطاع عريض من المتفرجين حتى لو كانت الإضاءة غير جيدة.
واتسمت الملابس التي ظهر بها الممثلون في اللوحات الست بالتشابه، إلا من بعض التغيرات الصغيرة لتوفير ميزانية للبيت الفني للمسرح، وتوصيل رسالة هامة أن الفقر المادي أو ضعف الإمكانيات لا يقفان عائقا أمام تقديم مسرح جيد يحمل رسالة هادفة.
وقد حرص المخرج محمد الشرقاوي بعد نهاية كل لوحة على مشاركة مشاهدي العرض كشريك أساسي في مناقضة القضايا المطروحة من خلال اتجاه الكورس من الممثلين نحو المتفرجين لسؤالهم: هل أنتم مع أو ضد القضية المطروحة ولماذا؟ وهو ما يولد أفكارا وآراء جديدة تثري العرض وقابلة لتطويره باستمرار.
-------------------------------------
المصدر : العرب
0 التعليقات:
إرسال تعليق