مسرح الخبز والدمى حاجة ام ضرورة
مجلة الفنون المسرحيةالباحث : مجيد عبد الواحد النجار
عند القراءة الاولى للعنوان، يخترق سطح الذهن سؤال عن علاقة(الخبز) في المسرح، فمن الاصول ومن الاحترام، بل ومن قدسية المسرح ان لا يشغل المتفرج اي شيء سوى الموضوع المطروح على خشبة المسرح، وخصوصا اذا ما عرفنا ان المسرح يمتلك القدسية فيما يقدم، فهل يصح ان يوزع الخبز مثلا في الكنيسة اثناء اقامة القداس، او في الجوامع أثناء الخطب او الصلاة؟، انه مجرد سؤال؛ لكنه يحتاج الى عدة اجابات، حتى لو كان هذا الخبز يوزع قبل العرض، لأنه في النتيجة سيؤكل اثناء العرض، ولماذا يعتقد (شومان) صاحب هذا المسرح ان القادمين لحضور العرض انهم جياع؟، وهل يعتقد ان تركيز المشاهد يزداد اثناء الاكل؟ وماذا يعني بمقولته(نريد ان نكون قادرين على اطعام الناس) ؟، لماذا لا يخصص مكان للأكل خارج المسرح مثلا؟، او لماذا لا يعطي نقودا للمشاهدين وهم يختارون الاكل على مزاجهم، لماذا الخبز تحديدا؟،انا حقيقة لا اعرف كيف يستمتع المشاهد بالعرض، وذهنه مشغولا بمعدة.
اما كلمة(دمى) التي هي المكمل للعنوان، فلا يحتاج القارئ للعنوان البحث كثيرا، فهو يعرف مسرح الدمى، ومسرح العرائس، ومسرح خيال الظل وما يُقدم عليهما، واين نشأة هذه المسارح وما هي اهدافها، هنا ينقلنا (شومان) الى عالم اخر، يختلف عما عرفناه من خلال متابعاتنا ودراساتنا لهذه المسارح، فهو يقصد هنا،(الممثل)، نعم يحول الممثل الى دمية، من خلال لبسة الى دمية كبيرة، او تكبره بكثير فهو يصنع دمى تتجاوز الاثني عشر مترا، ولا اعرف كيف يمكن للمثل ان يتمرن وهو في داخل هذه الدمية؟، ولا اقول كيف يتمكن من العرض المسرحي، كم يحتاج من العضلات لحملها، وتحريكها بطريقة صحيحة دون خطأ؟، حتى لو كانت مصنوعة من مواد خفية مثل الكارتون، ولا اعرف ما الغاية من هذا الحجم ما دام ان الهدف من تقديم هذا العرض هو نفس الاهداف التي حملها المسرح الاغريقي والرماني؟، هل اراد شومان ان(يجرب) مقدرة الممثل على حمل هذه الاثقال؟،هل كان(يجرب) طاقته النفسية وقواه العقلية؟ لا اعرف كيف تكون مشاعر الممثل اثناء العرض، هل تتوزع بين الثقل الذي يحمله بكل جسده ام على الثيمات التي يجب ان تصل الى المشاهد الذي حضر العرض من اجل المتعة والاثارة، والمعرفة؟، وكيف يمكن للمثل ان يظهر انفعالاته وحركاته اذا كان(مقمطاً) في علبة من الكارتون(الدمية)؟ هل كان شومان يقصد من وراء حجم الدمى الكبيرة ان يخلق(الدهشة) لدى المشاهد اثناء دخوله صالة العرض؟، او يفاجئ بوجودها على خشبة المسرح في الاماكن العامة؟ اذا ما عرفنا ان شومان قد ركز على( الدمى) وأعتبرها الركيزة الأساس في عمل هذا المسرح، فكانت الأداة التي تستخدم للنقد، والسخرية للظواهر السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية .
مسرح الخبز والدمى من المسارح التي ظهرت في الستينات، وهذه الفترة قد سبقتها ظهور مسارح عديدة، وبأهداف متشابهة فيما بينها، وهذه الفترة لم يكن الشعب الامريكي في وضع اقتصادي متردي، لكي يطعمه شومان في مسرحة، وان جمهور المسرح لا يعرف تقاليد المسرح وقدسيته، وجمهور المسرح في العالم يعرف ان المسرح مكان مقدس، وهذه القدسية لا تسمح له بالأكل والشرب في حضرته- اقصد حضرة المسرح-،فهو حضر من اجل التزود بالمعرفة، قبل التسلية، ومسرح شومان من المسارح التي حاولت ان تعبر عن المجتمع واهتماماته في الجانب السياسي، حالها حال المسارح التي ظهرت في العشرينات، فكل المسارح كان لها الدور في التعبير عن المجتمع وطرح معاناته الاقتصادية والسياسية، فلم يكم في تلك الفترات شيء ثابت، فالتطور والتدهور مستمران وممكن ان يكون في اي لحظة وفي اي زمن، لذا يعده شومان مسرحا سياسيا، لما قدمه وفرقته من معالجات لقضايا سياسية عدة، وذلك بعد ان حمل هموم المواطن الأمريكي ، ومعاناته ونقد السياسة والسياسيين، هذا اذا ما عرفنا ان مسرح الخبز والدمى جاء نتاجا طبيعيا للمسرح الاسود الذي ظهر في امريكا في الستينات من القرن العشرين، والذي توقف هذا المسرح بسبب توقف دعمه من قبل مشروع المسرح الفيدرالي، لكنه عاد فيما بعد واسس فرقة(معهد فنون الزنج) ومن ثم فرقة(الطاقم الزنجي)، ونتيجة لهذا الحراك ظهرت مجموعات تسمى (المسرح المتطرف)، والذي كان مسرح(الخبز والدمى) نتاجها الطبيعي الذي اسسه بيتر شومان عام 1961،وكانت هذه الفرقة عبارة عن فرقة للرقص، ولم تأتي هذه الفرقة بمواضيع، او افكار جديدة، فقد تناولت نفس المواضيع التي طرحت من قبل الفرق التي سبقتها، لذلك ابتكر شومان ما ابتكره من اجل التجريب والتجديد.
لقد فرضت ممارسة المسرح اسمه الذي اشتهر به مسرح( الخبز والدمى) ، حيث الدمى الكبيرة ، والخبز الذي يوزعه (شومان) مؤسس المسرح على المتفرجين من اجل هدف سامي يسعى له، حيث يقول(بيتر شومان) "نريد ان نكون قادرين على اطعام الناس"()، وان يصل الى الهدف الاسمى وهو ان المسرح والفن اساسيان في الحياة مثل الخبز، نعم ان الخبز هو مهم لحياة الناس، وكذلك المسرح، ولكن لكل منهم مكانه الذي يستلذ ويستمتع ويستفاد منه مُريديه، فللأكل مكان خاص خارج قاعة المسرح، وبالإمكان ان توجد كافتيريا في بناية المسرح من جل ذلك، وايضا بإمكان شومان ان يوزع بنفسه الاكل على الجمهور القادم، ليتفرغ الى العرض المسرحي عند جلوسه في قاعة العرض، وبإمكانه ان يخصص مكان خارج التجمهر للعروض الخارجية، وليس هناك مسوغ او ضرورة ملحة على توزيع الاكل داخل القاعة واثناء العرض.
كان (شومان) يعدُ مسرحه اقتصاديا ، وذلك لأن كل ما يستخدمه من مكملات العرض والدمى يصنع من المواد المستهلكة او المتروكة، مثل الخشب والورق والمقوى والمعادن، ويحاول هذا المسرح دائما ان يشارك الجمهور في الفعل او العمل، عن طريق مساعدة الممثلين في لبس الدمى او تنظيم العرض المسرحي) (، وكذلك المسرح الفقير الذي اسسه المسرحي البولوني جيرزي كروتوفسكي Grotowski، كان اقتصاديا ايضا في الوسائل المسرحية ، ويعتمد كلياً على الممثل، كون فكرة كروتوفسكي قائمة على رفض المسرح الذي يتطلب تكاليف كثيرة، وهذا ما اشره في مختبرة الذي اسسه عام 1959، وكذلك مسرح البيئة المحيطة، الذي عمد الى ازالة الحواجز بين الممثل والجمهور، وبناء علاقة بينهما، حيث كان الممثل يؤدي ادواره بين الجمهور ويعتبره جزءا من العرض، ومسرح الحجرة قائم اساسا على النقيض من المسارح التقليدية، ورفضه لتكاليف الانتاج للعرض المسرحي، وكانت بعض التجارب قامت بمساعدة الجمهور()، وكثير من المسارح التي كانت اهدافها ومبادئها سبقت اهداف ومبادئ شومان، اذن مما تقدم هل يحق لنا ان نسال اذا كان هذا ما دفع شومان الى الاقتصاد في تقديم اعماله المسرحية، ام هو اراد تجريب المواد المستهلكة والمتروكة في صناعة الدمى ولوازم العرض؟.
كان شومان مهتما بالخداع السياسي المادي، ويذكرنا دائما بالقيم الازلية البسيطة ، وهو دائما يركز على ان المسرح ضرورة مثل ضرورة الخبز، فالمسرح يوجه الموعظة للجمهور ويخلق طقسا يدعو للثقة بالنفس()، نعم هكذا عرفنا المسرح منذ الاغريق انه ضرورة حتمية للمجتمعات، في تربيتهم وتهذيبهم، فلو درسنا الاعمال المسرحية التي كُتبت منذ نشأة المسرح لحد هذه اللحظة لوجدنا فيها من القيم والتعاليم الشيء الكثير الذي يغذي الفكر ويطور الانسان، انه حاله حال الخبز الذي يحتاجه الانسان يوميا، نعم، الأنسان لا يمكنه الاستغناء عن الاكل، ولكن ليس لدرجة انه يوزع اثناء العرض، ان الحاجة للخبز لا تعطينا الحق في خرق قدسية المكان، بل يجب المحافظة على هذه القدسية وان كنا جياعا، كما ويمكن لنا الحق بطرح سؤال مهم للغاية، ان الانسان يمكنه الاستغناء عن الخبز مدة طويله، لكن لا يمكنه الاستغناء عن الماء، اذا ما خير بذلك، اذن لماذا لم يذهب شومان الى تسمية مسرحه(الماء والدمى)؟فكان الاولى ان يوزع الماء اثناء العرض او قبله، وهذا الفعل لا يخدش قدسية المكان، بل من الممكن ان يكون طبيعيان، ومقبولا بعض الشيء، وطبعا انا ادرك جيدا اذا كان قصد شومان ماديا، او معنويا، باسم الفرقة.
اهم دوافع شومان بتوزيع الخبز اثناء او بعد انهاء العرض المسرحي على المتفرجين وبشكل طقسي؛ هي ان يصل بالممثل الى حالة النشوة ونقاء الانفعال، وحالة النشوة لدى الممثل لم تأشر في العلوم المسرحية اثناء ادائه لشخصية معينة، ولا حتى ارسطو ذكر لنا شيئا عن نشوة الممثل والحاجة اليها، بل هناك(تقمص، وتماهي، ومصداقية، واسترخاء، وتنوع في الالقاء...) هذا ما يحتاجه الممثل على خشبة المسرح، ونتيجة هذا كله تنتج المتعة واللذة في اداءه، وليس بتوزيع مواد او اكل على الجمهور، فالممثل لديه رسالة تثقيفية وتوعوية، يحملها على عاتقه بمسؤولية كبيرة من اجل ايصالها الى المتفرج، الذي جاء اساسا لهذا الغرض وليس للأكل والشرب.
كما استخدم شومان في مسرحة التماثيل المتحركة وبمختلف الاحجام، والتي كان بعضها يتجاوز طوله اثنا عشر قدماً، يقوم الممثلون بتحريكها وفق الأفعال المطابقة للحدث المسرحي()، فهل كان هذا ما يحتاجه الجمهور من اجل الاستفادة، واستيعاب المواعظ، والعبر التي كان يطرحها شومان، لم نجد هذا حتى عندما استخدم المسرح من اجل نشر تعاليم السيد المسيح، لم يكم الرومان بحاجة الى تغيير شكل الممثل من اجل توضيح هذه التعاليم، ولم يستخدموا اي وسائل توضيحية لذلك، فكيف بنا ونحن في النصف الثاني من القرن العشرين، هل نحتاج الى تعذيب الممثل من اجل ايصال افكارنا، وفي(محطات الصليب) التي قدمها شومان ترى مجسمات للبيوت، والمعادن، والمصانع، والمستشفيات، والكنائس، والحيوانات، ويظهرون الممثلون كما هم او يلبسون ثياب الشخصيات، ويضعون على رؤوسهم (رؤوس) ضخمة من الكارتون، تجعلهم هذه الرؤوس اشبه بالقردة، واحيانا يقدم شومان عروضه في الشارع، او في مساحة صغيرة، واحيانا أخرى على مساحة كبيرة من الاف الأمتار، وهو يستخدم الأقنعة بكثرة، لا يوجد جديد على صعيد العرض في مسرح شومان، فقد سبقة الكثير في ذلك ، ومنهم على سبيل المثال(جوزيف باب)مؤسس (فرقة العامة) حيث قدم عروضا في الخمسينات في (البارك المركزي)،وفي عام 1964 قدم عروضا في الملاعب والصالات العامة.
كما واعتمدت شومان مواضيع المطروحة على القصص الخرافية والاساطير وقصص الانجيل او من مواد مألوفة()، ينبغي على كل من يدخل معترك التجريب ان يتميز بالشيء الجديد الذي يطرحه، معنى ان نجرب هذا يعني انني أأتي بجديد لم يسبقني به احد، والا ما فائدة ان استخدم نفس المواضيع التي كان يستخدمها قبلي، او ما الفائدة ان انهل من نفس المنهل الذي نهل منه السابقون، الم تعتمد هذه المواضيع من قبل المسارح التي سبقت مسرح الخبز والدمى؟، من اين كانت تستمد افكارها اليس من هذه القاعدة العريضة التي كان جميع الكتاب يملئ بطون اوراقه منها.
وشومان لا يحبذ الجمهور الذي يرتاد المسرح، يجب ان يذهب هو بنفسه للجمهور ويتنقل اين ما كان، يحب ان يكون الجمهور من الذين يذهبون الى أعمالهم او الذين خرجوا في نزهة الى الحديقة()، وهل يوجد سيمات في وجوه الجمهور الذي يرتاد المسرح، كيف لشومان ان يميز حتى وهو في الشارع او المعمل او اي مكان عام ان يعزل بين مرتادي المسرح وبين الذين لا يرتادونه، ولماذا هذا الاجحاف بحق مرتادي المسرح؟، لماذا يمنع المرتاد من الارتياد لمسرحة؟ هل هو درس شاهدة ولا يحق له مشاهدته مرة ثانية؟، ام المرتادين لهم تقاليد في استقبال العرض تختلف عن غير المرتادين؟، البعض من المفكرين لا اعرف كيف يضع قواعدا لابتكاره او لصنعته، لماذا هذا التحديد؟ ، هل يضع مثلا شخصا مختصا في علم الاجتماع او التنجيم في باب قاعة العرض لكي يميز لنا بين المرتادين للمسرح وسواهم؟ لماذا هذه العقدة وهذا اللغز الذي يصعب حله، المسرح وجد للمجتمع، ولم يمنع من مشاهدة المسرح حتى المجنون لأنه يصلح جنونه.
ومن اشهر اعمال شومان ( صرخة الناس من اجل الطعام ) وهي حكاية ساخرة تتحدث عن زواج اله السماء بالأرض الام ، وقد استخدم فيها دمية طولها عشرون قدم ترقص على انغام موسيقى ذات اصوات خشنة().
مسرح الخبز والدمى يدفعنا الى سيل من الاسئلة التي تحتاج الى بحث ودراسة، منها: كيف لمخرج ان يكون على خشبة المسرح، يساعد الممثلين على اداء تمثيلهم، واحيانا يأخذ دورا في المسرحية، ومرة اخرى نراه يعزف مع الموسيقيين، وفي لحظة اخرى، نراه يوزع الخبز على المتفرجين؟ كيف يمكنه القيام بهذا العمل كله؟ وماهي الجدوى من ذلك؟ ما هو الجديد؟ واين التجريب؟ اسئلة كثيرة تتخاطف في الذهن عند مراجعتنا لكثير من المسارح التي دخلت معترك التجريب، ولعدم الجدوى من بعض هذه المسارح فقد تهدمت بعد مدة قصيرة، ولم تستطيع المقاومة في مسايرة تقدم العلوم المسرحية، وقد راينا كيف تشتت اعضاء هذه الفرقة عام 1974،رغم تقديمهم اعمالا عالجوا فيها بعض من القضايا المطروحة في المجتمع الامريكي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق