أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الاثنين، 26 يناير 2015

المسرح سبيلاً لوعي الذات: إبداع الفريد فرج نموذجاً

مدونة مجلة الفنون المسرحية
 
ينتمي الفريد فرج إلى كوكبة من المسرحيين العرب في مصر ممن انعطفوا بالكتابة المسرحية انعطافة هامة صارت إلى تحول واضح في الإبداع المسرحي مختلف عن المسرح الذهني الذي مثّله منذ عشرينيات القرن العشرين توفيق الحكيم (1902-1987) وأقرانه أمثال محمود تيمور (1894-1968) وعزيز أباظة (1898-1973) وعلي أحمد باكثير (1910-1969)، ومختلف أيضاً عن المسرح التجاري أو المتغرب عند نجيب الريحاني (1891-1949) ويوسف وهبي. وقد شكلت هذه الكوكبة حساسية فكرية وفنية مغايرة نهضت بالمسرح العربي نهضة شاملة في فهم المسرح وفي ممارسته، ومن أعلامها البارزين، على تباين اتجاهاتهم وطرائقهم، الفريد فرج ونعمان عاشور ويوسف إدريس (1927-199) وصلاح عبدالصبور (1931-1981) وعبدالرحمن الشرقاوي (1920-1987) وسعدالدين وهبة ومحمود دياب وميخائيل رومان.
1ـ التفكير الأدبي والمسرحي:
برز الفريد فرج أديباً ومسرحياً واعياً بشؤون إبداعه نظرياً وتطبيقياً، ولعله من الكتاب القليلين الذين يصدرون عن رؤية إبداعهم وفهمه في مصادره وطبيعته ووظائفه، فرافق الإبداع اشتغال يقظ على ترشيد الممارسة الأدبية والمسرحية في زمنها وفي تطلعاتها الفكرية والفنية، بل إن فرج طمح إلى ترسيخ المسرح جنساً أدبياً حديثاً ليصير مثل الشعر والرواية ديوان العصر، وقد حرص على أن يؤصل هذا الجنس الأدبي في الثقافة العربية بوعي التقاليد الحكائية والمسرحية في فنون العرض والفرجة والأداء الصوتي والحركي مما ميز الظاهرة المسرحية العربية طقساً أو شعيرة ما لبثت أن انغمرت بالأعراف والتقاليد الاجتماعية، محتفظة غالباً بمنشئها الديني ونزوعها الاتصالي شفاهاً أو كتابة. ونتلمس في هذا البحث عناصر التفكير الأدبي والمسرحي عند فرج للتعرف إلى طوابع التأصيل في تجربته العريضة والعميقة والثرية.
بدأ فرج مسرحياً معنياً بتجسيد نصوصه على خشبة المسرح، وقضى قرابة عقدين من الزمن مخلصاً لإبداعه المسرحي، تأليفاً وبحثاً وإدارة ومخاطبة للراشدين والناشئة في آن واحد، ثم لتأليفه في أجناس أدبية أخرى راسخة في الحياة الثقافية العربية مثل الرواية والقصة القصيرة والمقالة، على أن فعالية الأديب أو الكاتب أو الفنان لا تقتصر على خطاب جنس أدبي بعينه، وعلى أنّ الأجناس الأدبية متعددة أساليب البلاغة والإبلاغ.
أما أبرز شواغل التأصيل عند فرج فهي:
1ـ1ـ فهم الأصالة من خلال التقليد القومي:
أدرك فرج مبكراً وهم التليد الغربي والانهماك فيه، على أن أهمية الأدب والفن تنبع من طوابعه القومية، ولاسيما جماع الخصائص المعبرة عن هويته، فرأى أننا نختلف عن أوربا:
«لذلك كله، فإن التطلع إلى أن يكون لنا مسرح يزدهر على النمط الأوربي هو من أوهام الواهمين» (م12 ص38).
وثمة من يناهض الدعوة إلى الهوية في الأدب والفنّ من منطلق أن المسرح ظاهرة أوربية ونتاج عمليات التحديث، وعلى الرغم من مجاوزته لمثل هذا النقاش، إذ ربما كان صحيحاً بتقديره، إلا أنه يعمل النظر والمحاججة في استمرار التقليد العربي للأدب والفن وفي تطوره الكبير مع النهضة القومية:
«فقد كان المسرح العربي يتكون في منتصف القرن التاسع عشر في جو من الفنون الشعبية الجماهيرية في المقهى وفي السوق.. فنون الأراجوز والمحبظين والشاعر والحكواتي وحفلات الطرب والرقص وطقوس الاحتفالات ومغاني الأفراح والأعياد» (م12 ص43).
لقد تكون المسرح العربي عند فرج من تقاليده في مناخ التأثير الأوربي، واستنكر المغالاة في قول القائلين إن المسرح العربي «مبادرة من مبادرات التحديث الاجتماعي على النسق الغربي» (م12 ص33)، مثلما رفض مقايسة المسرح العربي على ما يجري فوق منصات المسارح الأوربية: «لهذا ينبغي دحض هذا المعيار والكشف عن عيوبه، مهما كان ذلك محفوفاً بالمزالق، أو خارجاً عن المألوف» (م12 ص35).
وأورد فرج اختلافات بينة بين المسرح الأوربي المستقر والمسرح العربي الناهض، وأولها نزوع الأول إلى العالمية ومخاطبة الإنسانية الشاملة ومجاوزة الفوارق المحلية، بينما ينزع الثاني إلى تكريس القومية وتوكيد عناصر الشخصية الوطنية بمعناها الضيق الذي يصل في أقصى تطرفه إلى الطائفية المحدودة، لأنه يتحرك بدواعي الهوية:
«وإن تأكيد الهوية الوطنية في حياتنا الفكرية والاجتماعية، حياتنا الفردية والجمعية، قوة نافذة لا تدع لجماهيرنا مجالاً كما في أوربا لأولوية الشعور بالعالمية أو أولوية الإحساس بالشمولية الإنسانية» (م12 ص37).
وأوضح فرج أن أولى المحاولات المسرحية في القرن التاسع عشر كان تأطيرها العربي على أيدي الرواد أمثال القباني والنقاش، وهو ما كان في صلب ازدهار المسرح في ستينيات القرن العشرين باكتشاف الصلة بين المسرح العربي والفنون الشعبية العربية تذكر جهود التأصيل النظرية مثل كتاب توفيق الحكيم «قالبنا السمرحي» ودراسة يوسف إدريس في مقدمة مسرحية «الفرافير» عن مسرح السامر الريفي والمسرح الشعبي عموماً، وكتب علي الراعي المتعددة، ولاسيما كتابة «الكوميديا المرتجلة» .ورهن فرج تطور المسرح العربي بجمهوره ضمن التنمية الثقافية الأعم وجماهيرية الثقافة التي تستند، فيما تستند إليه، إلى الخصوصيات الثقافية وتأصيلها:
«المسرح العربي يجب أن يقوم بالرحلة إلى جماهيره، ليكتسب أسلوبه الأمثل وشرعيته القومية، ولينطلق في مسار تطوره الطبيعي، ويصبح الشكل والمضمون واللغة موضوعاً اختياراً جماهيرياً واستفتاءً شعبياً واسعاً وانتخاباً طبيعياً حقيقياً» (م12 ص46).
1ـ1ـ1ـ الأدب قومي:
عزز فرج فهمه للظاهرة الأدبية والفنية بأنها قومية واجتماعية في الوقت نفسه، فقد دلت الدراسة النظرية والجمالية على أن «اكتشاف الشكل الفولكلوري البدائي للمسرح هو الشكل الضروري للمسرح الطليعي في بلادنا» (م12 ص21).
ثم ربط فرج جماليات الأدب والفن بمثل هذاالاندغام بين بعدي المسرح الاجتماعي والقومي، ودعا إلى تأصيل فن المسرح اجتماعياً، «أي إلى مداومة البحث من أجل تحقيق هذه العلاقة بين المسرح والجمهور ـ أوسع ما تكون، وأوثق ما تكون ـ فهي الأساس لكل نهضة مسرحية حقيقية، وهي حجر الزاوية في جماليات فن المسرح» (م12 ص31).
وجعل فرج البعد القومي للظاهرة الأدبية والفنية محك النظر في التجربة الغربية، وهو منطلق كتابة «شرق وغرب: خواطر من هنا وهناك» الذي يرهن فيه على أن وعي الآخر مرتهن بوعي الذات حين أعاد إلى الذاكرة حقيقة أن العلوم العربية هي التي أضاءت ظلمات أوربا، مما يستدعي دوام التفاعل الثقافي: «وأفكارنا التي أنارت أفكارهم، فلا محل للتحوط أو النكوص عن استردادها وأن ننعم بثمارها وبتطوراتها. إن ذلك ليس تغريباً أو اغتراباً، فقد نبعت العلوم من أصالتنا، وأصالتنا قديرة على استيعابها واستقبالها بقلب مفتوح» (م12 ص220).
إن وعي الآخر مرتهن بوعي الذات، ولعل كتابه «دائرة الضوء» تعبير عن محاولات هذا الوعي من خلال شخصيات ثقافية مؤثرة أسهمت، العربية منها، في تأصيل الأدب والفن في الحياة العربية مثل الحديث عن أول وزير للثقافة (فتحي رضوان) وأول أوبرا عربية (جهود كامل الرمالي) والموقف من الفولكلور (يحيى حقي) ومسيرة الواقعية بوصفها مسيرة الصدق (نعمان عاشور) والتماس قيمة الفنان من جمهوره (يوسف وهبي) وأهمية ترسيخ دور الخواص في التنمية الثقافية (الموقف الرائد لمحمد محمود خليل وحرمه) والتوكيد على أن تقدير الفن نابع بالدرجة الأولى من بعده القومي والمحلي (نوبل نجيب محفوظ)..الخ. وثمة موقف أو حالة شديدة الدلالة في التعبير القومي للفن فيما انتاب صلاح جاهين من اكتئاب بتأثير الهزيمة العربية في عام 1967 حين قال: «كانت هزيمة 67 قد ألقت بي في هاوية من الحزن لا قرار لها»، ولقد أمعن مرض الاكتئاب في تعطيل إبداع هذا الفنان المتألق:
«إنني أشعر بالحزن والأسف مضاعفاً، لأننا نحن أصدقاءه لم نستطع أن نواسيه، ونخفف عنه بقدر ما أسعدنا وواسانا» (م10 ص167).
ويؤيد نظرة فرج لقومية الأدب والفن حفاوته البالغة بتجربة شيخ البنائين حسن فتحي الذي خصص له أول فصل من كتابه «دائرة الضوء»، لأنه انطلق في العمارة، وهي مجموعة طوابع ثقافية وفنية، من التزام الخصائص القومية والمحلية فيما سماه «المعمار التقليدي»، ورآه معبراً عن اشتغال عام بالهوية القومية في الأدب والفن:
«وهكذا مثلت العمارة بصورة فصيحة حوار الفكر المصري في فترة النهضة الوطنية واختلاف تياراته حول الأصول والانتماء. وفي دراما هذا الحوار كانت إضافة المهندس حسن فتحي رائدة إذ أنه توجه إلى الفولكلور، واعتبره خلاصة الطابع العربي للتاريخ المصري بكل مراحله. وبذلك التحق حسن فتحي فكرياً، وكان رائداً للمدرسة التي ضمت سيد درويش في الموسيقى، وكمال سليم في السينما، وبيرم التونسي في الشعر، ويحيى حقي في القصة، ورشدي صالح في الدراسات الأدبية، وعلي الراعي في الدراسات الفنية» (م10 ص26).
1ـ1ـ2ـ مواجهة الأجنبي:
ندد فرج بالأجنبي، على أنه مناقض للوجود، فخص مسرحيات كثيرة لفعل مقاومته وتحرير الذات القومية، كما في «سقوط فرعون» و«صوت مصر» و«سليمان الحلبي» و«النار والزيتون» و«عودة الأرض» و«وألحان على أوتار عربية»، ولم يقف تنديده بالأجنبي عند الاستعمار أو احتلال الأرض أو العدوان السملح، بل نبه إلى مخاطر الغزو الثقافي مبكراً وما يشيعه من مشاعر الاستلاب والاغتراب، ولم يصدر في تنديده عن تعصب قومي، فالعربي، كما تؤشر ملاحمه الشعبية، يميز بين الأجنبي والقومية الأخرى:
«والقاريء يلحظ أن القصص تنتظمها مسحة سخرية ظاهرة بالعجم والترك والروم، بينما لا تتجه القصص إلى التنديد بالقوميات الأخرى كالهنود أو الصينيين، فالعجم والترك والروم كانوا هم التحدي التاريخي في ذلك الوقت للقومية العربي» (م12 ص57).
وأعمل فرج مبضع النقد في التغريب الذي أثر طويلاً على تطور المسرح العربي في مصر: «وبدلاً من أن يكون المسرح مرآة تعكس حياة الناس، أصبح مرآة تعكس نزوع قياداته إلى التغريب والانبهار بالنموذج الفني الأوربي» (م12 ص79).
وقد فهم فرج الأصالة على أنها نبذ للتبعية، فحكايتنا مع العالم هي حكايتنا مع النفس ومع الماضي الحي بصراع الأصالة مع معوقاتها الاستعمارية الخارجية والداخلية:
«إن الغاية والمطلب هما اكتشاف الذات، وتحرير القدرة الذاتية القومية والاجتماعية مع كافة الظروف المقيدة والمعوقة ـ تحرير الروح.. من الواقع الذي نعيش فيه ضعفاء متخلفين ـ من رواسب الانقياد لثقافة قوية جعلها الاستعمار في مركز عالمي قوي ومؤثر بالضرورة، ومن رواسب ماضٍ ضعيف ومظلم مع ذلك» (م8 ص302-303).
وآلت مواجهة الأجنبي وكشف مخاطر الغزو الثقافي من خلال الاستلاب والتغريب والتبعية وسواها إلى ضرورة التعريب والتفكير باللغة العربية:
«فالتعريب ليس مجرد عملية تهدف إلى تسهيل التعليم. إنه حجر الزاوية في انطلاق هذه الأمة إلى آفاق العصر. اللغة أداة تفكير. يستحيل التفكير بغير اللغة» (م8 ص326).
1ـ2ـ استلهام التراث:
عدّ فرج استلهام التراث حجر الأساس في تحقيق الهوية القومية في الأدب والفن، ووجد ذلك في سحر القصّ الشهرزادي أو سّرد الليالي معبراً إلى وعي الخصوصيات الثقافية في الممارسة الأدبية والفنية، فاستلهم الليالي في عدة مسرحيات، هي «حلاق بغداد» و«بقبق الكسلان» و«علي جناح التبريزي وتابعه قفه» و«رسائل قاضي إشبيلية» و«الطيب والشرير والجميلة»، ثم مدّ مجال استلهام الليالي إلى الرواية «أيام وليالي السندباد» والقصة «ليالي عربية»، على أنه استلهم التراث العربي في المقامة والسرد الأدبي الجاحظي والملاحم والسير الشعبية، ونفى في هذا المجال التأثر بالتقليد الغربي عندما اتجه المسرح العربي إلى الملحمية بتأثير التراث، ولاسيما الليالي، «فهو أقرب إلى سرد الحكايات منه إلى تركيز الموقف، وتأثرنا في هذا المجال كان بالقصة العربية وليس ببريخت. وإذا تشابه توجهنا مع نظرية بريخت، فليس معناه أننا استلهمنا أسلوبنا من بريخت، ولكن توجهنا جاء من باب ألف ليلة» (م12 ص67).
وحدد فرج بدقة خصائص استلهام التراث الملتصق بالبعد القومي للأدب والفن، «فالرجوع إلى التراث العربي العام كان هو التوجه القومي العربي. حيث أن الفنان لم يقنع بالتراث القطري، وإنما امتد نظره إلى التراث القومي الذي يجمع الأمة العربية، لا التراث الذي يجزؤها. ومن ثم كان استلهام التراث مرتبطاً باللغة العربية الفصحى» (م12 ص66).
لا يتوقف استلهام التراث لدى فرج عند الشكل وحده، بل يجعل المحتوى الفكري بما هو منظومة قيمية تتصدرها قيم الجوهر العربي الأساس، لأن الطرح الفكري الواقعي والعصري شديد الالتصاق بإطاره الجمالي، «فحين نتحدث عن فكرة الحرية والعدالة الاجتماعية، أو نطرح رأياً عصرياً ومستقبلياً في إطار من ألف ليلة وليلة إنما نوحي للجمهور بأصالة فكرة الحرية والعدالة في تاريخنا وأصولنا الثقافية، ونضفي على الفكرة مصداقية تاريخية وتراثية» (م12 ص69).
ورأى فرج في استلهام التراث سبيلاً تربوياً للتلقي الثقافي مما يعين على شؤون التأصيل، وقد ثمّر هذا السبيل في مسرحياته، وفي روايته وقصصه التي تستلهم الليالي، من مفهوم الكتاب القصصي الذي ينوع الأشكال السردية إلى مزايا التشكيل وجماليات اللغة وتعبيرها عن الجوهر العربي والمنظومة القيمية وفي مقدمتها مواجهة الأجنبي:
«وألف ليلة حافلة بهذا المعنى الكبير، وهو معنى المواجهة بين العربي وغير العربي سواء في السندباد أو في غيرها من القصص تجد دائماً ذلك اللقاء مع الروم والهند والزنج وأهل الصين العجم» (م12 ص73).
ويفيد تثمير هذا البعد القومي رشاد الموقف من التراث، لا إعادته أو الانتقاء منه، بل استعادته بروح نقدية مؤمنة بالمستقبل:
«إن استخدام التراث كإطار مسرحي أو انتهاج الأسلوب الشعبي القديم في ضرب الأمثولة ينطوي على قصد واضح لإعادة صياغة الحاضر عن طريق إعادة صياغة التراث. وهو بذلك موقف نقدي وجدلي من التراث، كما أنه موقف نقدي وجدلي من الواقع. هو موقف للواقع ناقد للماضي، وموقف للماضي ناقد للحاضر.. هو موقف نقدي وحر من الواقع ومن الماضي معاً. ولعل هذه هي حكاية الأدب التقدمي مع الماضي ـ المسرح والقصة والشعر... إنه، كان في فنّ الأقنعة الزنجي استخدام لقناع الماضي بفرض التطهر من سطوة الماضي ومن سلطة الماضي». (م8 ص221).
واللافت للنظر أن فرج واع لمعاني الاستلهام ووظائفه من مستوى الحكاية في المسرحية وأصلها الروائي أو الشفاهي إلى مستوى الخطاب، وقد قال في نهاية سبعينيات القرن العشرين عن زياراته الأربع آنذاك لليالي:
«حلاق بغداد» مسرحية في حكايتين الأولى يوسف وياسمينة من ألف ليلة. والثانية زينة النساء من المحاسن والأضداد للجاحظ؟
شخصية أبو الفضول التي تربط بين المسرحيتين هي إحدى شخصيات ألف ليلة وليلة، وهي شخصية مزين بغداد (في الجزء الأول من ألف ليلة).
المسرحية الأخرى من فصل واحد (بقبق الكسلان) وهي مسرحية للأطفال وهي أيضاً مستوحاة من ألف ليلة وليلة.
«على جناح التبريزي وتابعه قفه» مسرحية مستوحاة من ثلاث حكايات، وفيها طابع تركيبيي من الحكايات الثلاث وليست استحياء مباشراً من قصة واحدة. الحكاية الأولى هي المائدة الوهمية وهي قصة مزاح بين صاحب قصر وطفيلي فقير. وصاحبي الجراب التي أوردتها بين الفصلين في إطار مستقل لتؤكد المغزى العام للمسرحية على منوال الكوميديا (ديلارتي) التي تتصف بفاصل بين الفصلين، وهذا الفصل هو لحظة تنوير بالنسبة للمسرحية.
الحكاية الثالثة هي معروف الإسكافي، وهي قصة رجل فقير في بلد غريب ادعى الغنى لكي يحظى بكرم أهل المدينة. وهذا جزء من قصة معروف الإسكافي. وقد عملت على تركيب هذه القصص الثلاث في قصة واحدة ذات مغزى جديد تتعلق، أو تصور حدود الوهم وحدود الحقيقة أو الواقع، وهي قصة نقدية للعقل البشري.
المسرحية الرابعة التي استلهمتها من ألف ليلة هي مسرحية «رسائل قاضي إشبيلية»، وتتضمن ثلاث حكايات مستوحاة من ألف ليلة وليلة وليس لها علاقة مباشرة بألف ليلة، وهي قصص مبتدعة ومتأثرة جمالياً وشكلياً بألف ليلة. وهذا أسلوب مختلف وحالة متقدمة متدرجة في مسيرة الاستلهام من التراث (حيث أن التأثر والاستيحاء قد أخذ شكلاً تدريجياً من التأثر المباشر ونقل القصة كما هي مع إضافة الرؤيا أو فكرة فلسفية، إلى استغلال قصص عديدة ومزجها في تركيبة واحدة مكونة مسرحية واحدة، إلى التأثر بالأسلوب فقط من الناحية الشكلية والجمالية في الليالي.» (م12 ص62-64).
ثم رهن فرج خلاص المسرح من أزمته ومواصلته لازدهاره ولفاعليته في الثقافة الجماهيرية باستمرار وعيه لهويته، ولاسيما استلهامه للتراث، بوصفه ينبوع التقاليد وحصن الأصالة في اللغة والسرد المفتوح على التجربة القومية جمالياً ومعرفياً:
«التغيير في الفكر السائد أيضاً كان بذاته سبباً في ظهور التناقضات.. في مجال المسرح مثلاً.. «الصفقة» مسرحية الحكيم كانت بشرى بظهور اللغة الثالثة التي ستحافظ على مقومات اللغة القومية الفصحى مع الالتزام بلغة الناس الواقعية، حلاً لمشكلة الازدواج اللغوي في المسرح والحياة. و«فرافير» يوسف إدريس كانت علامة كبرى في طريق الأصالة المسرحية القومية والشعبية لإبداع مسرح عصري قومي يستند إلى تقاليد السامر الريفي والمسرح الشعبي» (م8 ص345).
1ـ3ـ التحديث:
انطلق فرج في تحديثه من التقاليد القومية لأن «اكتشاف الذات هو اكتشاف علاقة الذات بالآخرين، اكتشاف الذات القومية هو تحديد موقفها من العالم وموقعها في الزمن» (م8 ص283)، وهذا ما دعاه لوضع كتب برمتها عن فهم الحداثة والتحديث داخل التجربة الذاتية، فكان كتابه الأول «دليل المتفرج الذكي إلى المسرح» وقد استهدف فيه القاريء من أجل يحب المسرح، وليضيف إلى خبرة المتفرج وعياً بفن أصيل وحديث هو المسرح، فحوى شروحاً تعريفية موجزة لأهم عناصر العمل المسرحي: فنّ المسرح، الديكور، الخلفية التشكيلية، الممثل، أدواته، تيارات فن التمثيل، فن اللعب، فن الضحك، أنواع الملهاة، المحلية والإنسانية، الملهاة الواقعية الحديثة المأساة، المسرحية، عناصر التأليف المسرحي، الحوار، لغة الحوار، الفصحى في المسرح، النجوى، الحائط الرابع، المسرح من زاوية نظر حديثة، العقل المحض، شكل المنصة، المخرج، العنصر الفكري للمسرحية. ومن الملحوظ أن كتابة فرج عن هذه العناصر الحديثة في تكوينها الناجز اقترنت بأمثلة واقعية من التجربة المسرحية العربية (ص23- ص41 - ص54 - ص57 - ص75 - ص101 - ص105- ص126 - ص127 - ص176 - ص177 - ص193 - ص200 - ص225 - ص227)، مثلما خصص فصولاً برمتها عن التجربة المسرحية العربية (ص76 - ص93 - ص109 - ص119 - ص151)، وختم رؤيته بحوار مع الحكيم حول مسرحه وفكره وفنه.
لقد بات جلياً أن فرج ينظر إلى الحداثة والتحديث من واقع التجربة المسرحية العربية، كما في افتتاحيته عن الخلفية التشكيلية:
«إذا كان الحديث قد ساقنا لمقارنة عابرة بين مزاج وفن كل من نبيل الألفى وحمدي غيث، فلا بأس من أن نسترسل في هذه المقارنة بعض لاسترسال بقصد التفريق بين اتجاهات طليعة مخرجينا المسرحيين في صدد تكوين الخلفية التشكيلية المسرحية.
الديكور يصممه رسام بالطبع. ولكن عمل الرسام محدد بعدة اعتبارات:
أولها: أسلوب المسرحية، سواء أكانت رمزية أو سيريالية أو واقعية أو طبيعية أو خيالية «فانتازيا». إلى آخر هذه الألوان..» (م8 ص22).
ولطالما استغرق فرج في التطبيق العربي على فهمه للمسرح، كما هو الحال مع تأملاته حول أصل الملهاة وأصولها:
«إن القدرات الخلاقة لممثلينا في مجال الكوميديا قد دفعت مسرحنا خطوات إلى الأمام. ونجومنا الساطعة: عبدالمنعم ابراهيم في «حلاق بغداد» وشفيق نور الدين في «القضية» و«السبنسة» وحسين رياض في «تاجر البندقية» وسعيد أبوبكر في «مسمار جحا» وفؤاد شفيق في «مضحك الخليفة» وتوفيق الدقن وعبدالسلام محمد في «الفرافير» وفؤاد المهندس في «السكرتير الفني» وصلاح منصور ومحمد توفيق في «الزلزال».. وغيرهم من الأبطال الموموقين دعموا فن الكوميديا في بلادنا وأتاحوا له بجدارة إمكانيات وآفاقاً لا حدود لها.
إن فن الكوميديا قد سبق الفنون المسرحية الأخرى في بلادنا، من حيث الرواج، فنحن شعب يحب النكتة، ولا جديد في ذلك. ولكن الجديد هو ما يقرره الفيلسوف الفرنسي برجسون من أن الشعب المولع بالنكتة شعب مولع بالمسرح..
إن الصلة بين الاثنين ظاهرة وهي صلة ـ كما هي جديرة بالتأمل ـ فهي مثيرة للأمل جداً..
أما الأمل فهو في قلوبنا. أما التأمل فهو يشحذنا لمزيد من البحث في أصول الكوميديا في بلادنا..» (م8 ص75).
ثم تتبع في فصل آخر تحديث الكتابة المسرحية الواقعية الملهاوية في ممارسة جيل المؤلفين المسرحيين الذي ينتمي إليه فرج نفسه:
«بعد أن أشرنا إلى المنحى الخاص الذي تتميز به مسرحية الفرافير، لابد أن نصل إلى وصف تيار فن التأليف المسرحي المصري الحديث، ذلك التيار الذي أثر طابعه على ذوق الجمهور وعلى الحركة الثقافية بوجه عام في السنين الأخيرة. ومع أن كلا من مؤلفينا يتميز بطابعه الخاص، فإننا نستطيع أن لمس في مسرح نعمان عاشور وسعدالدين وهبة ولطفي الخولي بشكل خاص تلك الصفات الخاصة التي تميز تيار الكوميديا الواقعية الحديثة..
إننا نريد هنا فقط أن نطل على هذا التيار الجديد الممتع، أن نتقصى خطوطه العامة، أن نكشف مزاياه الشعبية والفنية، ليكون هذا الفصل دليلاً للمتفرج إلى العالم المسحور الذي يصفه معظم الكتّاب الجدد في المسرح.. ومعيناً على الاستمتاع والفهم لفنهما الذي لاقى ويلاقي رواجاً عظيماً من الجمهور..» (م8 ص101).
وعندما تكلم عن المسرح من زاوية نظر حديثة، فإنه احتكم إلى تجربة المسرح العربي وتجربته بالذات:
«رأينا اتجاهاً للمدارس الحديثة يعمد إلى اختزال الحوائط والأبواب والإكسسوار والاقتصاد في زخرفة تفاصيل الأشياء والملابس فوق المنصة، والاستغناء عن تفاصيل التفاصيل بقصد تخفيف ثقل التركيبات في بناء الديكور، وضمان أن يكون الممثل البشر ركيزة التكوين التشكيلي كله فوق المنصة.
ورأينا أن هذا الاتجاه في الوقت الذي يضمن التوازن التشكيلي بين الممثل وبين الأشياء الجامدة فوق المنصة، إنما يصدر عن فهم عميق دقيق لحقيقة جلية: هي أنه لا يمكن خداع المتفرج عن مكانه (في مسرح الأزبكية مثلاً) وزمانه (في الساعة العاشرة مساء) وإيهامه إيهاماً كاملاً بأنه في عاصمة الدانمرك حيث سقط هاملت مطعوناً بسيف مسموم.
ورأينا أن الإيهام والتوهم في المسرح ليس إلا عقد اتفاق غريب بين الفنان والمتفرج تكلفه الإشارة المقتصدة من الديكورست إلى المكان والزمان المفترضين واستعداد طيب من المتفرج للتصديق بالإشارة المقتصدة والاندماج في الموضوع.» (م8 ص193).
لقد وضع فرج عدة مؤلفات عن متابعته الدؤوبة للمسرح الحديث والتفاعل الثقافي العربي مع اتجاهاته وتياراته المتعددة، مثل «أضواء على المسرح الغربي» و«شرق وغرب: خواطر من هنا وهناك».
1ـ4ـ اللغة:
شغل فرج باللغة في المسرح منذ بداءة تجربته فدعا إلى توافر شروط جمالية وتعبيرية للغة الحوار تنفع في تحقق الوظيفة الاتصالية والإبلاغية، ويستلزم لذلك أن تكون اللغة فصيحة أو مفصحة:
«ولغة المسرح لها غير هذه الشروط الأدبية العامة، شروط خاصة أخرى كلغة لفن من نوع خاص.
يذهب بعض الباحثين إلى أن الشعر أوفق للمسرح من النثر. وبغض النظر عن صحة هذه الدعوى، فإنها تصدر عن نفس المفهوم القائل أن المسرح يقتضي لغة فنية من نوع خاص ـ سواء في اللهجة العامية أم الفصحى.
إن المسرح يقتضي لغة ذات طابع مركز ومعبر تعبيراً مباشراً بلا تعقيد أو لف أو دوران.. بلا استطراد أو تطويل، لغة تنأى عن التراكيب المتداخلة المعقدة.. فالمتفرج لا يملك الفرصة ليلاحق المعاني في مثل هذا اللون من التعبير..» (م8 ص163-194).
2ـ التأليف المسرحي:
وضع الفريد فرج سبعاً وعشرين مسرحية متفاوتة الطول، ومتباينة الموضوعات والاهتمامات والأشكال والتقانات، هي:
                                                                                                                                  صوت مصر (فصل واحد)       1956
                                                                                                                                  سقوط فرعون      1957
                                                                                                                                  حلاق بغداد 1964
                                                                                                                                  سليمان الحلبي      1965
                                                                                                                                  الفخ (فصل واحد) 1965
                                                                                                                                  بقبق الكسلان (فصل واحد)       1966
                                                                                                                                  عسكر وحرامية    1966
                                                                                                                                  الزير سالم  1967
                                                                                                                                  علي جناح التبريزي وتابعه قفه   1969
                                                                                                                                  النار والزيتون      1970
                                                                                                                                  الزيارة (فصل واحد)      1970
                                                                                                                                  زواج على ورقة طلاق    1973
                                                                                                                                  الحب لعبة  1975
                                                                                                                                  أغنياء فقراء ظرفاء       1977
                                                                                                                                  رسائل قاضي إشبيلية      1975
                                                                                                                                  رحمة وأمير الغابة المسحورة (للأطفال)  1975
                                                                                                                                  الغريب (فصل واحد)      1993
                                                                                                                                  العين السحرية (فصل واحد)      1978
                                                                                                                                  دائرة التبن المصرية (فصل واحد)        1979
                                                                                                                                  ألحان على أوتار عربية   1988
                                                                                                                                  هردبيس الزمار (للأطفال)        1989
                                                                                                                                  الشخص (فصل واحد)     1989
                                                                                                                                  عودة الأرض      1989
                                                                                                                                  مي زيادة (تمثيلية تلفزيونية)      1986
                                                                                                                                  غرابيات عطوة أبو مطوة 1993
                                                                                                                                  اثنين في قفة       1993
                                                                                                                                  الطيب والشرير والجميلة  1994
ولعلنا نتلمس علامات هذا التفاوت وهذا التباين في الملاحظات التالية:
2ـ1ـ الاستجابة للواقع:
شغل الفريد فرج، مثل أبناء جيله من المسرحيين الآخرين، بالمتغيرات السياسية والاجتماعية، فصارت مسرحياتهم، في الغالب الأعم حتى مطالع سبعينيات القرن العشرين، وهي المرحلة الناصرية وامتدادداتها في مدّ وجزر على وجه التقريب، استجابة مباشرة أو غير مباشرة للأحداث والتبدلات التاريخية القومية والوطنية السياسية والاجتماعية العاصفة والغامرة حركة الواقع وشروط التاريخ، فكتب «صوت مصر» احتفاء بفعل المقاومة في بورسعيد (حازت ميدالية الفنّ في المعركة)، وضع مسرحيته التاريخية «سقوط فرعون» لمعالجة فكرة الحياد الإيجابي والسلام المسلح، وهي إحدى أطروحات النظام آنذاك تساوقاً مع مؤتمر باندونغ، وكتب «حلاق بغداد» في مناخ فانتازي يستلهم الموروث السردي وبعض المؤثرات التعبيرية والانطباعية والملهاوية لمعالجة سياسة الحكم، ووضع «سليمان الحلبي» في فترة انتشار قيم الشعبية وتصاعد المدّ الثوري العالمي والعربي إشاعة للفكر الثوري القومي في مصر عبدالناصر وانطلاقة رصاصة المقاومة الفلسطينية واشتداد عود الإرادة العربية على أن المسرحية بتعبير الفريد فرج نفسه «إجابة شافية على أول تحديات الاستعمار الأوربي للشرق في عصرنا الحديث» (م2 ص18)، كتب «عسكر وحرامية» عن تحالف قوى الشعب العاملة والنضال من داخل «الاتحاد الاشتراكي»، تنظيم السلطة الحاكمة، لمواجهة الفساد والإفساد، وكانت مسرحية «الزير سالم» دعوة لمجاوزة الخلافات القومية والجراح العربية النازفة في أكثر من بقعة والانخراط في ائتلاف قومي ينفع في مواجهة التحديات، ووضع مسرحية «علي جناح التبريزي وتابعه قفه» عن حتمية الحل الاشتراكي وانتصار الأفكار الاشتراكية وأفكار العدل الاجتماعي وإشاعة حلم التغيير، بالعدل المادي، وألف «النار والزيتون» إيماناً بانتصار المقاومة الفلسطينية وبالحل النضالي المقاوم سبيلاً لهذا الانتصار، ووضع مسرحية «زواج على ورقة طلاق» استتباعاً لمعالجة الحل الاشتراكي والتلاقي بين الطبقات المتصارعة.
وتميزت كتابة الفريد فرج بالاستجابة غير المباشرة، بينما كانت الاستجابة لدى مسرحيين آخرين مباشرة يظهر فيها صوت الأحداث والوقائع والأطروحات والشعارات مما يستعصي على التجلي الفكري والفني أحياناً، وقد تعاضدت صيغ التعبير عن الاستجابة المباشرة بعناصر الصوغ المسرحي، ولاسيما التحقق الفني لأفكاره ورؤاه بين التاريخي والراهن، بين المطلق والمتغير، بين الجوهري والعرضي...الخ.
2ـ2ـ الأفكار والموضوعات:
عني فرج في مسرحياته بأفكار تاريخية لطالما تناقضت مع أفكار وجودية، إذ عاين في مسرحيات كثيرة أفكاراً سياسية واجتماعية شديدة الارتباط بالتاريخ العربي في مصر وفلسطين وبقاع أخرى.
شغل على الدوام بأفكار العدل الاجتماعي والمقاومة والتحرير والاشتراكية على إطلاقها ثم ما لبث هذا المطلق إن انتابته أو تناوشته وطأة المتغير، وهذا واضح في مسرحياته «علي جناح التبريزي» و«سليمان الحلبي» و«الزير سالم»، ثم دخلت هذه الأفكار اشتراطات أو استحقاقات هذا المتغير مثل أن يكون السلام مسلحاً في «سقوط فرعون»، أو أن يمايز بين حلم العدالة ووهمها أو توهمها في «علي جناح التبريزي»، أو أن يتداخل الزمان والتاريخ في فهم العدالة المستحيلة في مسرحية «الزير سالم»، أو أن يتوارى الخلاص الفردي الممكن وراء الخلاص الجماعي المفترض في مسرحية «عسكر وحرامية»، أو أن يُغطى اللقاء الطبقي بشعاره في مسرحية «زواج على ورقة طلاق»، أو أن تربط الديمقراطية بتطبيقها وبظرفها تمييزاً بين الزمن المطلق والزمن المتصل أو الراهن في مسرحية «حلاق بغداد»، أو أن يربط الصراع بين الخير والشّر بالمواضعات الاجتماعية والوضع البشري في مسرحية «الطيب والشرير والجميلة».
وقد اختار فرج لأفكاره موضوعات متعددة قومية واجتماعية من منظورات سياسية وأخلاقية وإنسانية صريحة. وقد بدأ كتابته المسرحية بالموضوع القومي الذي عولج بأشكال متعددة وبرؤى ثرية عن الوجود العربي الكريم في مراحل حاسمة للتأزم الذاتي القومي ومعضلات مجاوزته وتحققه، كما في مسرحياته: «صوت مصر» و«سقوط فرعون» و«عسكر وحرامية» و«النار والزيتون» و«سليمان الحلبي» و«ألحان على أوتار عربية» و«عودة الأرض».
وثمة مسرحيات ذات طابع احتفالي يستجيب للموضوع القومي مثل «صوت مصر» المكتوبة تحية لفعل المقاومة ضد العدوان الثلاثي على مصر، و«عودة الأرض» المكتوبة حفاوة بالوفاق الوطني حول النصر في حرب تشرين الأول عام 1973.
وغالباً ما اندغم الموضوع القومي بالاجتماعي، عندما تُرى القضية الاجتماعية في بعدها العام كما في رؤية التطبيق الاشتراكي للأفكار المطلقة كالعدل والديمقراطية في بناء المجتمع وإنتاجه.
2ـ3ـ استلهام التراث:
نظر فرج إلى استلهام التراث مجالاً رحيباً للأصالة ووعي الذات القومية، فاستعمل السرد الشهرزادي في عدة مسرحيات، إذ زاوج لأول مرة في مسرحية «حلاق بغداد» بين حكايات من «ألف ليلة وليلة» وإحدى قصص الجاحظ في كتابه «المحاسن والأضداد»، ثم استوحى مسرحية «علي جناح التبريزي» من حكايات ثلاث من الليالي، هي حكاية المائدة الوهمية وحكاية الجراب وحكاية معروف الإسكافي، وبنى مسرحيته القصيرة «بقبق الكسلان» من فضاء حكائية الليالي، وتأثر في مسرحيته «رسائل قاضي إشبيلية» بحكائية الليالي وحوافزها السردية الواقعية الممتزجة بالفنتازيا. وكانت آخر مسرحياته «الطيب والشرير والجميلة» مستوحاة من إحدى حكايات الليالي أيضاً.
ويلاحظ أن اشتغال فرج على التراث موصوف بالطوابع التالية:
ـ التصرف في البنية الحكائية على سبيل التأثر النفسي والذهني، فلا يعاد المتن الحكائي في الحكايات المستلهمة، بل يستعاد نسقها في الفضاء السردي وعلاقاته الجمالية والدلالية، وتبدو مسرحيتا «حلاق بغداد» و«علي جناح التبريزي» مثالاً لهذا التصرف الذي يوائم في الأولى بين حكايات من الليالي ومن السرد الأدبي الجاحظي.
ـ النزوع النقدي والتعليمي في استعادة التراث السردي، فتصبح المسرحية مداراً للنقد والتأمل النقدي لأفكار الأرض والعقاب والسوق في مسرحية «رسائل قاضي إشبيلية»، بينما تلح المسرحية على التعليم وتقدير العمل والعطاء، وهو ما توجزه نبرة الختام في مسرحية «بقبق الكسلان»، وكأنه صوت الجوقة:
«الجميع: (يتقدمون ناحية الجمهور) رأيتم بأنفسكم أيها السادة هذه الصورة التي صاغها المؤلف الشعبي العظيم في ألف ليلة وليلة منذ ألف سنة. ومغزاها أن أحلام اليقظة تحطم النفس كما حطمت الأباريق. وأن الكسلان يعوض فشله وقلة الحيلة، وأن الحياة والرخاء والسعادة أبناء العمل لا الأحلام. ونشكركم» (م1 ص216).
ـ الصوغ على نسق حكائية الليالي دون الالتزام بالبنية السردية تثميراً لقابليات حكايات الليالي الثرة، ولاسيما الدوران في شكل التحفيز الحكائي وخصائصه التخييلية مثل منطقها الخاص وتداخله المدهش بين الواقع والفنطزة، فلا تخفي الغرائبية أو العجائبية معقوليتها الخاصة، كما في مسرحية «الطيب والشرير والجميلة» التي تمتح من معين حكائية الليالي سيرورة تقليدية لمعاينة فكرة الصراع الرئيسة في المسرحية بين الخير والشّر، وقد كشف فرج عن أسلوبية مثل هذا الاستلهام في افتتاحية المغني في الشهد الأول من الفصل الأول الذي يحمل عنوان «دكان الحلاق» بقوله:
«المغني: كل جيل كتب حكايات ألف ليلة وليلة على هواه.. ألف ليلة هي هذه وتلك من الحكايات.. ألف ليلة هي صيغة تروى بها الحكايات.. كل جيل روى بهذه الصيغة حكايات جيله على مقتضى احتياجاته الأخلاقية والروحية، واستخلص منها الحكمة التي يريدها ويطلبها.. ألف ليلة سفينة أحلام ركبها الناس من كل الأجيال.. وكل من ركب فيها حملته إلى ما يريد من البلدان.. فقد ذهبت بالراكبين إلى كل زمان ومكان وعلى كل المقامات الموسيقية وبكل الألحان (موسيقى مصاحبة)، ولو كان الأجداد يكتبون النوتة الموسيقية، ويدونون الموسيقى بالنقط كما نفعل اليوم.. لكانوا قد كتبوا حكايات ألف ليلة وليلة على أوراق الموسيقى المسطرة بالخطوط الخمسة كل سطر، كما تكتب الأوبريتات والمسرحيات الغنائية، فحكايات ألف ليلة مزينة دائماً بالصور والأشعار والأغاني والرقصات التي غناها وخيّلها الراوي دائماً لمستمعيه، ليجذبهم للدخول من أبواب الخيال والتصور إلى العالم الجميل الساحر لألف ليلة وليلة.. وسنبدأ حكايتنا كما كانت تبدأ القصيدة العربية في الزمن الخالي بالإنشاد للحب والغزل.. فنقول: هذه هي الليلة السابعة والعشرون بعد التسعمائة.. فاضرب الوتر» (الطيب... ص22).
وثمة تجربة فريدة في استلهام التراث الشعبي في مسرحية «الزير سالم» تتبدى في إعمال المخيلة إنطلاقاً من الوقائع المتداولة عن الراوي الشعبي المجهول، فتُبنى المسرحية على هدي نسق تنضيد جديد للحوافز تضيئه عملية الاشتغال على تفسير خاص، لتلتحم بعد ذلك جمالية التكوين المسرحي بمضاء الدلالية أو ما نسميه وحدة الأغراض أو فاعلية القصد، لأن المعول دائماً هو «الفكر في المسرح» بتعبير فرج نفسه (م2 ص166)، فاستبعدت التفاصيل أو الوقائع غير الدالة أو الوظيفية، وأُمعن ملياً في تركيب شبكة العلاقات السردية نفوراً من الاستطراد أو الحشو، مما يسعف ضبط البنية وإحكام نسيجها بالأغراض المتعددة من الإضمار إلى التصريح، ولعل هذا الولع بتمتين المنظور السردي هو مسوغ اختيار البناء الدائري حين تبدأ المسرحية بمشهد هجرس وتردده في الاقتراب من كرسي العرش بعد مخاض الدم والانتقام والكراهية الطويل، فيوجز هجرس القصد في المشهد الأخير الذي كانت المسرحية مسوغ البنية برمتها انتظاماً في تعليل الحوافز وإشباعها بدلالات التجربة:
«هجرس: وهكذا تدور اللعبة فتشملني أنا أيضاً في إعصارها الدوار. أين الفكاك من الدم؟ هاأنذا أتقدم إلى العرش برئياً من كلّ ذنب. صافي النفس نظيف اليد، بدافع الشرف، ورغم تحذيرات الشرف، لأجلس فوق المستنقع مزمعاً أن أتجنب التلوث جهد طاقتي، وأنا غير متأكد أني أستطيع. وقاني الله ارتداد بصركم أن يدفعني. أن يزجني في أيام مقبلة.. اللهم اجعلني رحمة ولا تجعلني لعنة على قومي» (م2 ص282).
2ـ4ـ التاريخ:
عمد فرج إلى الاشتغال المسرحي على التاريخ في بعض مسرحياته على سبيل المسرحية التاريخية في مسرحيتيه «سقوط فرعون» و«سليمان الحلبي»، وعلى سبيل التخييل للوقائع التاريخية في تمثيلية «مي زيادة»، وعلى سبيل الاستخدام التسجيلي المطلق في المسرحيته «النار والزيتون»، والاستخدام التسجيلي المحدود في مسرحيتيه «ألحان على أوتار عربية» و«عودة الأرض».
استند في المنحى الأول على التاريخ الفرعوني القديم استناداً رئيساً إلى كتاب سليم حسن «الأدب المصري القديم» قاصداً إلى معالجة أفكاره الفلسفية عن الصمود في وجه الغزاة والأعداء والمتآمرين خلال مرحلة أخناتون التي صارت إلى رحابة الأسطورة في رؤية التنازع بين الطبائع المتعارضة أو المتناقضة داخل الذات الواحدة.
يتركز الاشتغال التاريخي في المسرحية على فهم الحساسية السياسية واتبعات الرفق المروع بالمصائر المأساوية لشخوصه في ظل عنتهم الصارخ لمراودة الفعالية العامة بوصفها محط رهان الرؤية كقوله:
«وفرعون مصر يأبى أن يشنّ الحرب، والصلوات في معابدك، تترنم بكلمة السلام» (م6 ص320).
تستند فكرة المسرح عند فرج إلى تحويل الواقعة التاريخية إلى مدار طقس هو تخييله لمتتالية الحوافز في عملية الصراع نشداناً للقصد النهائي: بطولة سليمان الحلبي في مواجهة الأجنبي المحتل باعثاً في هذه البطولة المرامي البعيدة والعميقة لتكوينه العربي الأزهري (اندغام العروبة بنسق ثقافي تقليدي) فرداً من جماعة معبراً عن تطلعها مدركاً لخياراتها ضمن لحظة تاريخية حاسمة، محكماً وعيه حين يغوص في تشابك مكوناته الأصلية ومؤثراته الراهنة والضاغطة انطباقاً لمدى العقل على الخنجر، فليس فعل البطولة طارئاً يندرج في المصادفة، بل هو نتاج تصميم العارف «بمصيره طول الوقت، يخوضه بعيون مفتوحة وذهن حاضر ممتليء بالتوقعات» (م2 ص18)، ولعل الكناية الدالة عن أفق البطولة في إمكانية مقاومة العين لمخرز هي التعليل الأقرب للدوران في مدار الطقس، ونسيجه تلك الحوافز التاريخية التي يُعاد تنضيدها وكأن التاريخ مؤطر لاستعارة فعل الفداء عن سابق تصميم، أي أن المسرحية تغدو وعياً بالتاريخ في اشتغال عقلاني ووجداني داخل ذوات خاصة ما تلبث أن تصير إلى وعي الذات القومية العامة.
ويمضي فرج عميقاً في تخييل الوقائع التاريخية في تمثيليته التلفزيونية «مذكرات لم تكتبها مي زيادة»، فقد مازج بين ما كتبته وما توميء إليه هذه الكتابات استبطاناً لسيرة مناضلة مؤثرة في مجتمعها نداء متواصلاً لحربة الفكر وشجاعة الرأي، وقد وازى فرج بين الوقائع التاريخية وتعليقه عليها بصوت الكاتب الذي يستنطق هذه الوقائع الدلالات الأعمق للمعنى الوجودي الغامر لهذه الأديبة المبدعة الشجاعة، كمثل تثميره لحديثها عن رسالة الأديب في المشهد ما قبل الأخير الذي أفلح فرج في ألا يكون مقحماً على السياق، ونقتطف منه هذا المقطع:
«رسالة الأديب تعلمنا أن العالم العربي على تعدد أقطاره من المحيط إلى الخليج وحدة واحدة. رسالة الأديب تعلمنا أن نفاخر بلغتنا العربية الممتازة على سائر اللغات. رسالة الأديب تعلمنا ألا نخشى كارثة، ولا نتهيب مغامرة. فكل زمن خطير في التاريخ كان زمن اضطراب وكوارث. وأعظم فوائد الإنسانية تجمعت عن عصور العذاب والخطر. العاصفة لا تقتلع إلا ضعيف الأغراس أما الأشجار ذات الحيوية العصية فالأعاصير لا تزيدها إلا قوة ومناعة» (م11 ص296).
ولجأ فرج إلى الاستخدام التسجيلي المطلق في مسرحية «النار والزيتون»، على أن تسجيل وقائع حياة فرد لا تكفي لتسجيل حياة شعب، فعاد إلى الوثائق التاريخية لبعث نضال الشعب الفلسطيني من خلال التفاصيل الدالة في مجرى الصراع العربي ـ الصهيوني: «العنف الصهيوني، العذاب الفلسطيني، المقاومة الصلبة، التآمر البارد للقوى الإمبريالية العالمية» (م6 ص149).
وقد جمع فرج مادة المسرحية من مصادر متعددة ودعمها بالمشاهدة من خلال زيارة مواقع العمل الفدائي والاتصال عن قرب بأبطال المقاومة الفلسطينية وضحايا العدوان الصهيوني، على أن فرج حوّل هذه المادة إلى غناء شعبي للقضية الفلسطينية استخداماً أوفر وأوسع لمعطيات المسرح الشامل من أشعار وأغان وحركات إيقاعية وتشكيلية ومعروضات وسواها، ليقل بعد ذلك استعمال الوثائق التاريخية كالأقوال والإحصاءات والنصوص والمذكرات وسواها، وثمة ملاحظة هو العناية بوثائق شائعة ومتداولة والاشتغال الغنائي عليها بأقل من الاشتغال الدرامي بالاعتماد على وثائق من الشعر الفلسطيني أو الغناء الشعبي الفلسطيني، كمثل استقبال جثمان الشهيد حيث نجوى الأم المفجوعة وصوت الجميع يردد الأغنية الشعبية:
«الأم: لا تقولوا لي ولدي مات. ولدي حي.. اتبرع بنفسه. الله يرضى عليه. الله يجعله فدو عن فلسطين. الله يجعله فدو عن كل فدائي. أنا غاب عني ولد واحد، وربنا أعطاني كل فدائي ولد لي. كلكم أولادي. الله يرضى عليه. الله اختاره من بيننا لها الموتة الشريفة. وأخواته يتزفه. (تزغرد وهي تمسح دموعها)
(يلتف الفدائيون حولها والقائد يسلم لها وسام أم الشهيد والأغنية يرددها الجميع)
الجميع: هاتوا الشهيد هاتوه
هاتوا العريس هاتوه
وبعلم الثورة لفوه
يا فرحة أمه، وأبوه
أنا أمه يا فرحة أمه
يا عرسه في ليلة دمه
يا تراب الحرية ضمه
يا أخواته للثورة انضموا
زغروته ياللا حييوا
هاتوا الشهيد هاتوه
هاتوا العريس هاتوه
وبعلم الثورة لفوه
يا فرحة أمه وأبوه.» (م6 ص138-139)
وستخدم فرج بعض تقانات المسرح التسجيلي على نحو جزئي، مستحضراً وقائع من التاريخ القريب مثل موكب اللورد البني غداة اقتحام القدس ودمشق سنة 1917، وخريطة الوطن العربي وبجانبها سايكس وبيكو يؤشران إلى الاتفاقية السرية لتقاسم الأرض العربية واحتلالها، ومائدة اجتماعات الأمم المتحدة وقائمة قرارات الحقوق الفلسطينية، واستعراض القوة بشخص كيسنجر، واستعادة صورة زنوبيا التي تأبت على الاحتلال الروماني وقاومته، واستعراض أطراف المؤامرة الاستعمارية المستمرة بحق العرب، وإسناد نبوءة النصر إلى إحياء ذكرى صلاح الدين، لتكون هذه الوقائع التاريخية جميعها تعضيداً لموقف المقاومة الباسلة لزنوبيا ذلك المثل الحي للبطولة العربية:
«أصوات العامة: زنوبيا ملكة العرب.. الساحرة. ارجموها. اخفضي رأسك يا امرأة، انظري تحت قدميك يا أسيرة الرومان واذرفي الدموع في موكب النصر للأمبراطور أورليان..
الفتاة: بل انظر في الشمس وفي ضياء السماء. وأرى بالعين واللب والفؤاد ما ينتظر موكب الأمبراطور من خسران. فمن زرع الجريمة لا يحصد إلا الثأر، ومن بدأنا بالعدوان لا يجني غير الهوان في آخر المطاف، ومن رمى الناس بظلامه أعماه نور النهار.. انظر في عين الشمس أنا وأرى ملء عيوني ضياء عربياً آتيا من المشرق، أرى شمساً ساخنة تنبت الرجال في رحم الرمال.. وأرى روما! ويلاه.. تضج تحت أقواس نصرها تطلب من أعدائها رحمة هي بددتها! ويلاه أرى بدراً في الشمال وبدراً في اليمين يحملان سياط عذابهم فوق رؤوس ومعذبيهم. أرى دماً يجري على سلم الكابيتول يكتب على بلاطة بألسنة ساخنة: ويلك روما فقد زرعت الرياح ولا تحصدين غير العواصف.. زرعت النار لا تحصدين غير الطوفان.. أرى رجالاً فوق التلال وعلى ضفاف الأنهار.. أخوتي وأبنائيوآبائي حياة وعمراناً عربياً من قبلي ومن بعدي، فيا عرب.. هاأنذا أنتظر. أتعذب على أبواب بيوتكم، وفي بيوتكم وفي جلودكم أتعذب، وأنتظركم. امنحوني قدرتي وقدري وأيامي وشمساً في سمائي تبدد الظلمات امنحوني وحدة أمتي وحرية القرار وشرف الانتصار.. هاأنذا أصيح ليصلكم صوتي في كل البقاع: واعروبتاه!..» (ألحان على ص60).
وقد استعاد فرج طريقته الجزئية في استخدام المسرح التسجيلي وتقانات تطويع الوثيقة التاريخية لمعطيات المسرح الاستعراضي الشامل في مسرحية «عودة الأرض» مثلما فعل في «ألحان على أوتار عربية»، بل إنه أعاد بعض مشاهد بنصها مثل مشهد سايكس وبيكو واتفاقية تقسيم الوطن العربي بين المستعمرين، ومشهد صلاح الدين محاوراً العزيمة العربية للاستنهاض والمقاومة إشارة إلى دروس التاريخ العربي ذاته:
«صلاح الدين: ويزعزع ثقتكم في قدرتكم وفي عزائمكم، ويقعد بكم عن استفار رجال زمنكم.
الفتاة: لقد تصورناك كما أحببناك.
صلاح الدين: حب الضعيف وهيام العاجز وتعلقه بالتعاويذ والخرافات. وكان أولى بكم أن يكون حبكم للحياة والأحياء. وأن تكون نجدتكم لهم وأن يكون صمودكم بهم. ومن ثم تصنعون التاريخ.
الفتاة: علمني مولاي. كيف نصنع التاريخ؟
صلاح الدين: وهل تصنعون التاريخ إلا بالرجال المعاصرين؟ اطلبوا رجالكم واحتشدوا حولهم. اصنعوا أيامكم برجالكم. لن تصنعوها برجالي. التاريخ قد يكون فيه لكم حكمة أو تجربة. ولكن ليس فيه لكم فرسانكم وجندكم. فاطلبوا رجالكم واحتشدوا حولهم. اطلبوا رجال زمانكم واحتشدوا حولهم.» (م11 ص33).
وأضاف إلى الوثائق التاريخية المستخدمة مسرحة وصية الملك الصالح أيوب الداعية إلى النصر أو الموت، ثم مزج ذلك كله ببناء مسرحي يبعث فيه الأمل بالنصر الذي تحقق في حرب تشرين الأول 1973 والمقدرة على تحققه محدداً فيما سماه «عودة الذاكرة».
«المصور: عودة الأرض. عودة الروح. عودة الذاكرة. عودة العزة والكبرياء الوطني يرجع الفضل فيه إلى حكمة القيادة وشجاعة الجند وصلابة الشعب المصري العريق.. هم صنعوا النصر وأحنا صورنا الصورة» (م11 ص79).
2ـ5ـ التنوع والتجريب:
لا يكاد نص مسرحي عند فرج يشابه نصاً آخر في بنيته وشكله، فهناك المآسي مثل «سليمان الحبي» و«الزير سالم» و«سقوط فرعون»، وهناك الملاهي مثل «حلاق بغداد» و«على جناح التبريزي وتابعه قفه» و«عسكر وحرامية»  و«أغنياء.. فقراء.. ظرفاء» و«الحب لعبة»، وثمة الدراما الحديثة مثل «زواج على ورقة طلاق» و«الطيب والشرير والجميلة» أو المصاغة بروح التراث مثل «رسائل قاضي إشبيلية»، وثمة المسرح التسجيلي والسياسي القائم على تقانات المسرح الشامل والوثائق المختلفة، مثل «النار والزيتون» و«ألحان على أوتار عربية» و«عودة الأرض»، مما تتوسع فيه المسرحية لستارة الضوء والموسيقى والأغاني والحركة الإيقاعية التشكيلية والمعروضات المساعدة.
وهناك المسرحية الطويلة وعددها خمس عشرة مسرحية أولها «سقوط فرعون» وآخرها «الطيب والشرير والجميلة»، وثمة مسرحيات قصيرة من ذوات الفصل الواحد هي: «صوت مصر» و؛الفخ» و«الغريب» و«العين السحرية» و«دائرة التبن المصرية» و«الشخص»، وثمة ثلاث مسرحيات للأطفال هي «بقبق الكسلان» و«رحمة وأمير الغابة المسحورة» و«هردبيس الزمار»، وهناك تمثيلية تلفزيونية واحدة يتوازى فيها السرد الروائي والسرد الدرامي.
ومثلما استلهم التراث العربي في مسرحيات كثيرة، استوحى بعض مسرحياته من تراث الإنسانية، فصيغت «أغنياء فقراء ظرفاء» على غرار فكرة المسرح الشعبي كما هو الحال في صياغة الإسباني «بينا فنتي»، ومثلها مسرحية «الحب لعبة» التي تستند إلى قصة شعبية أيضاً، وكان سبق إلى صياغتها الفرنسي ماريفو في مسرحيته «لعبة الحب والمصادفة».
وبلغ التجريب شأواً عالياً في مسرحية «الشخص» المبنية على تقانات مسرح اللامعقول ولاسيما لعبة الوقت تعبيراً عن ضيعة الأحلام وخناق الوحشة، كمثل قول الشخص في لوحة «الساعة اتناشر»، وهي المشهد الأخير:
«الشخص: أنا تهت. وقبل ما أتوه نسيت. وقبل ما أنسى ماكنتش عارف.. الساعة كام الميعاد. الإنسان منا دايماً أحلامه في ناحية ودنيته في الناحية التانية. إن مشى في سكة الأحلام مش ممكن يوصل للدنيا، وإن مشلا في دنيته مهما طال بيه الطريق مش ممكن يحصّل أحلامه. لكن أقسى شيء ممكن يبتلي بيه هو الوحدة.. العزلة. الانقطاع.. وعلشان كده اللي بيوصل خير من اللي بيقطع، لكن يعمل إيه بني آدم في انقطاع دنيته عن أحلامه، وانقطاع سكته عن غرضه، وانقطاع اللغة عن التعبير، وانقطاع الذاكرة، وانقطاع المعرفة عن الفهم، وانقطاع الذكاء عن المصلحة، وانقطاع الوالد عن ولده.» (م11 ص178-179).
وتستفيد على العموم مسرحيات الفصل الواحد وبعض المسرحيات الاستعراضية والموسيقية والسياسية من تقانات المسرح التعبيري مثل تجريد الوقائع والتسمية بالصفة أو بالدلالة، لا بالاسم، فلا تحمل أي شخصية في مسرحية «الشخص» أي اسم، لتقتصر التسمية على «الشخص»، و«الشبية»، و«الطبيب»، و«الشابين مفتولي العضلات»، و«الممرضة» و«الثري» و«الراقصة» و«البواب» و«البوسطجي» و«الشرطي».
أما شخصيات مشرحية «الغريب» فهي «الغريب» والسيدة وضابط الشرطة والممرضان، ولا تفترق التسمية في مسرحية «العين السحرية» عن عدم تسميته وكأن التسمية هنا علامة أو رمز، مثل «حسن» و«حسنين» «وشلضم»، لأن التسمية لا تعيّن صاحبه بعلامات فارقة كالنسب والماضي والهيئة والتكوين الخاص..الخ، لتنتهي المسرحية إلى تأمل بعض الشروط الإنسانية القاهرة، في مآل المسرحية:
«حسين: أنا حسين حسين المحامي، أثريت من حسن الدفاع عن جرائم شخصية، أعلم أسبابها الاجتماعية وأسخط عليها، ويلح على شرفي وكبريائي بفكرة الدفاع عن الإصلاح وحل التناقضات الاجتماعية.. أنفي الفكرة المفزعة التي تلاحقني من أيام الصبا والدراسة.. الفكرة تقتحمني.. فتسخر منها نفسي وتقول: أنت كالبكتريا لا تحيا ولا تسمن إلا في الجروح فكيف تداوى أنت الجروح؟! أحس بغربة قاسية وهذا جنوني..
حسن: أنا حسن حسن، الممثل، النجم السينمائي.. في صباي تدربت على أداء الأدوار التمثيلية المجيدة، وأطلقت أسراباً من الكلمات الشريفة.. اليوم ألهث وراءة الكلمات المزيفة. أنافق التفاهة والغباء والثراء. ألفق للجمهور في كل يوم قصة، بينما لا أعبأ بالاستماع إلى قصة كومبارس حقيقية وأليمة، وأنكرها. الناس في الشارع وجوههم ناطقة تقول وتحكي، ولكني أحيا حياتي بوجه يلفقه الماكياج.. أعمى وأبكم وأصم.. وأحس بقلق يدمرني. وهذا جنوني.» (م11 ص140-141).
2ـ6ـ اللغة:
شكلت اللغة إحدى معضلات التأليف المسرحي لدى جيل فرج، غير أنه حسم خياره باتجاه الكتابة بالفصحى أو بلغة مفصحة، وعدّ هذا الخيار علامة تأصيل ينفع في تعضيد الهوية القومية في الأدب؛ ثم جاوز هذا الانشغال إلى تثمير الفصحى أو المفصحة في مسعاه الإبداعي، فاللغة حاجة فكرية وفنية، وليست مجرد زينة أو التزام خارجي، فعني فرج بمواءمة اللغة لطبيعة المسرحية في نوعيتها، تاريخية أم سياسية أم تسجيلية أم مأساوية أم تجريبية..الخ، وفي خطاب شخوصها وبيئاتهم...الخ، ولعله صدر في ذلك الخيار أو الاحتياج الفكري والفني عن فهم اللغة في العمل المسرحي تواضعاً متفقاً عليه، لا نقلاً عن واقع، لأننا في الفن محاكاة صريحة ومباشرة للواقع أو استغراقاً في اتجاهات حداثية وسواها لا نصف الواقع أو ننقل عنه، بل نعيد إنتاج علائقه، نصوغ مجتمعاً خاصاً هو مجتمع المسرحية، فاستفادت اللغة من نصوص الأدب المصري القديم في مسرحية «سقوط فرعون»، وهي لغة تقارب الشعر في مواقع كثيرة، وتألقت اللغة الأدبية التي تستفيد من فخامة التراث الأدبي العربي القديم في مسرحيات متعددة مثل «علي جناح التبريزي» و«الزير سالم» و«سليمان الحلبي» و«رسائل قاضي إشبيلية» و«الطيب والشرير والجميلة»، فطاعت اللغة الفصحى لحاجات المسرح.

[مجلة «الكاتب العربي» (دمشق)، ع53، 2001]

المصدر:

كتاب المسرح العربي المعاصر
قضايا ورؤى وتجارب

د.عبدالله أبو هيف

منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ 2002

الربيع العربي في مهرجان المسرح العربي بالمغرب

مدونة مجلة الفنون المسرحية

مثلما كان لانتفاضات (الربيع العربي) تأثير ملموس على الساحة السياسية منذ عام 2011 وحتى اليوم يرى مسرحيون عرب يشاركون في مهرجان المسرحي العربي المقام في المغرب حاليا أن هذه الانتفاضات أثرت على فن المسرح وإن اختلفوا على التأثيرات الايجابية والسلبية.

وقال محمد عبازة استاذ الفنون المسرحية في تونس إن "ثورات الربيع العربي التي بدأت في تونس أضرت بالمسرح أكثر مما استفاد منها."

وأضاف لرويترز على هامش الدورة السابعة لمهرجان المسرح العربي المقامة حاليا في الرباط إنه فيما سبق "كانت تمارس علينا رقابة من نخبة متسلطة لكنها مثقفة اما اليوم فاصبحنا محط انتقاد ومحاصرة من فئة شعبوية جاهلة."

وتابع أن المسرح العربي لا يزال أمامه الكثير ليتجاوز معوقاته المتمثلة في ثالوث "الدين والجنس والسياسة."

ومضى قائلا "يجب أن تختفي المحرمات من المسرح والثقافة العربية عامة للوصول إلى العالمية."

ويرى المؤلف والكاتب والمخرج المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد أن الربيع العربي كانت أول مطالبه "الرحيل" لكن "رحل الطاغي ولم يرحل الطغيان كما رحل المستبد ولم يرحل الاستبداد."
وقال "الثورة يجب أن تكون جذرية عقلية جديدة وفكر جديد حتى ينعكس كل هذا على الثقافة والفن بصفة عامة."

وفي المقابل يرى حسن عطية أستاذ نظريات النقد المسرحي وعميد المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة سابقا أن (الربيع العربي) له آثار ايجابية من حيث حرية الإنسان وحقه بالكرامة.

وقال عطية لرويترز يوم الأربعاء "لكن على المسرح العربي أن يلتصق بهموم المواطن ولا يقدم أعمالا نخبوية ولكن يخاطب المواطن العربي البسيط."

وأضاف "يعني أن نقدم أنفسنا إلى العالم لكن بشكل غير عنصري وغير شوفيني ولكن بشكل يساعد المواطن في ايجاد عالم إنساني في شكله المطلق."

وتختار الهيئة العربية للمسرح مدينة مختلفة كل عام لإقامة المهرجان السنوي للمسرح العربي. واستضافت المهرجان من قبل كل من القاهرة وبيروت وتونس وعمان والدوحة والشارقة.

وتقام الدورة السابعة لمهرجان المسرح العربي في الرباط في الفترة من 10 إلى 16 يناير كانون الثاني. وتشارك في الدورة الحالية فرق من الأردن وفلسطين وتونس والجزائر والكويت ومصر والإمارات والعراق والمغرب.

وشارك في افتتاح المهرجان على مسرح محمد الخامس في الرباط وزير الثقافة المغربي محمد الأمين الصبيحي وإسماعيل عبد الله رئيس الهيئة العربية للمسرح والكاتب السوداني يوسف عايدابي.

رويترز

عشرون عاما على رحيل جبرا

مدونة مجلة الفنون المسرحية


















في 11/12/1994 رحل عن دنيانا الأديب والمترجم والناقد المبدع، جبرا إبراهيم جبرا، بعد أن عاش نحو 74 سنة، وهو من مواليد العام 1920 في مدينة بيت لحم الفلسطينية، وأنتج نحو 70 كتابا بين مؤلف ومترجم، في شتى فنون المعرفة والإبداع، فهو فنان تشكيلي، وله لوحة تم عرضها منذ العام 1946، كما إنه كتب الشعر والقصة منذ يفاعته، وحمل معه أثناء توجهه للدراسة في جامعة كامبردج البريطانية، رواية كتبها باللغة الإنكليزية في العام 1946، هي «صراخ في ليل طويل» ترجمها لاحقا إلى اللغة العربية.
قبل ذلك درس جبرا في بيت لحم والقدس، وهناك تعرف على مجموعة من أهم الأدباء الفلسطينيين، وعندما تخرج في جامعة كامبردج، وحصل على الماجستير في النقد الأدبي، توجه إلى الولايات المتحدة، وتابع تخصصه في النقد الأدبي في جامعة هارفارد.
بعد احتلال فلسطين وطرد أغلب الفلسطينيين من ديارهم، لجأ جبرا إلى العراق، وأخذ يمارس العمل الأكاديمي ويدرس مادة النقد الأدبي، ثم تعرف على جواد سليم في بداية الخمسينيات، وهو من أبرز فناني العراق التشكيليين آنذاك، وأسسا مع غيرهما من الفنانين «جماعة بغداد للفن الحديث»، وتعرف في تلك الفترة على لميعة برقي العسكري، وتزوجا وأنجبا سدير وياسر. تعرف في بغداد على أبرز المبدعين العراقيين، وساهم وإياهم في توفير المناخات والنتاجات الإبداعية التي أخذت تكرس الحداثة والتنوير والعقلانية والتمدين. ومن بين الأدباء الذين عقد علاقة وثيقة معهم: بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ولميعة عباس عمارة وغيرهم، وهم من شعراء الحداثة والتجديد.
أصدر جبرا عدة دواوين شعرية، كانت من ضمن تيار الشعر الحديث. وتوالت إصداراته في القصة والرواية والنقد والكتابة، والمساهمة في الفعاليات التشكيلية والسينمائية، كما وأخذت كتاباته النقدية ومساهماته في هذا المجال المعرفي تتوالى تباعا. وقد جُمعت في كتاب صدر بعنوان «أقنعة الحقيقة.. أقنعة الخيال». ومن بين رواياته التي أثارت إشكاليات ونقاشات، كانت رواية «البحث عن وليد مسعود» لأن جبرا هو من عائلة مسعود في مدينة بيت لحم، وهي من العائلات السريانية الأرثوذكسية، وجبرا أجاد السريانية والعربية والإنكليزية أثناء دراسته في بيت لحم والقدس، وقد سعى بعض من كتب عن الرواية للمزج أو إيجاد علاقة تشابه بين وليد مسعود في الرواية وبين جبرا في الحياة، واعتبار ذلك من نوع « سيرة حياة ذاتية».
كما أن إشكالية أخرى أثارتها الرواية التي صدرت في العام 1978، وكانت المقاومة الفلسطينية قد دخلت في منعطفات وصراعات مصيرية، نأى جبرا في إبداعاته عن الدخول في أجواء الشعاراتية، وموجة أدب «الواقعية الاشتراكية» التي سادت في تلك المرحلة، وابتعد عن ضجيج المماحكات العقائدية، وشدد على حرية المبدع وتخففه من الحسابات التي تقع خارج الإبداع، وتخلصه أيضا من سلطة الثقافة السائدة وعدم مسايرتها أو السير في ركاب من يسيّرها ويوجهها ويهيمن عليها، كما اجتهد بعض الكتاب.
واستمر الهاجس التنويري هو الدافع الأساس لمشروع جبرا في الكتابة الإبداعية وفي الترجمة والنقد وفي محاضراته وندواته، وفي المحافل الأدبيةوالمعرفية التي استطاع الوصول إليها. وعندما سئل ذات يوم: لماذا يغيب المكان في أغلب ما كتبت؟ أجاب إن السؤال عن جدوى المكان، إذا كنت مسكونا بهاجس مكان آخر، أي المكان الأصل الذي تم اقتلاعك منه في وضح النهار.
من الأعمال النادرة في سلسلة رواياته الإبداعية، كانت روايته «عالم بلا خرائط» التي كتبها مع صديقه الروائي عبد الرحمن منيف، وهي حالة نادرة في عالم التأليف الإبداعي، كون الإبداع ما هو إلا حالة ذاتية فردية في أغلب الأحيان.
قرص في كل عرس إبداعي
من أهم إنجازاته في المجال التعريفي التنويري، هي تلك الترجمات لمجموعة من المؤلفات المهمة للحياة الثقافية من الآداب المعرفية والثقافية العالمية، وهي احتلت جانبا مهما في مشروعه المعرفي. فترجم فصولا من كتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر، التي تركت تأثيرا كبيرا في مجريات الحركة الشعرية العربية، خصوصا لدى السيّاب وأقرانه في مجال التموزيات، ثم توالت ترجماته لإبداعات مهمة في الشعر والرواية والقصة والنقد والمسرح وغير ذلك. من ذلك رواية «الصخب والعنف» للأمريكي وليم فوكنر الذي فاز بجائزة نوبل للآداب عن هذه الرواية، ووضع جبرا مقدمة مهمة لها، شرح ووضّح الكثير من رموزها، وما يمكن أن يخفى من أسرارها وخفاياها. وقد تركت الرواية وأسلوب كتابتها تأثيرها المهم في أجيال من المبدعين العرب، ومن بينهم الأديب الفلسطيني غسان كنفاني في روايته «ما تبقى لكم» الذي اعترف في مناسبات عدة بذلك. كما أن ترجماته ومقدماته لمجموعة من مسرحيات الكاتب الانكليزي وليم شكسبير، كهاملت ومكبث وعطيل والعاصفة والملك لير والسونيتات، تركت أثرها المهم في الحياة الأدبية العربية، ونال على ترجماته تلك وعلى غيرها من إبداعاته جوائز وحفلات تكريم وتقدير من قبل الأوساط الثقافية العربية.
وأتذكر أنه جاء إلى الكويت بدعوة من المجلس الوطني للثقافة والفنون في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن تم نشر أعمال شكسبير ضمن سلسلة «من المسرح العالمي» التي كانت تصدر شهريا من قبل وزارة الإعلام، وانتقل إصدارها إلى المجلس الوطني تحت عنوان «إبداعات عالمية». وألقى وأقام جبرامحاضرات وندوات ولقاءات عدة في قاعات المؤسسات الثقافية، ونال ثناء وتكريما لافتين من قبل الجمهور والمسؤولين.كما إنه ترجم مسرحية «بانتظار غودو» لصموئيل بيكيت التي كان لها تأثيرها في الحياة الثقافية، خصوصا المسرحية منها، وجعلت لمسرح العبث واللامعقول حضوره في الحياة الثقافية العربية، وربما كان ذلك من قبل التكرار القول بإنه كان لا يترجم بإبداع فقط، بل كان يرفق الأثر المترجم بمقدمات وإشارات وتعليقات، تُغني النص وتعطيه استساغات مقبولة ومطلوبة.
من بين إنجازاته أيضا التعريف بالمذاهب والمدارس الأدبية الحديثة، كترجمة لكتابي «ما قبل الفلسفة» و»الرمز والأسطورة» كما إنه لم ينس في ترجماته الالتفات إلى أدب الأطفال والفتيان، فترجم «الأمير السعيد»لأوسكار وايلد، وقصصا للأديب الفرنسي لافونتين. كما وترجم قصائد مختارة لبعض الشعراء الإنكليز الرومانسيين، كوردزورث وكوليردج. كما كان قد بكتابة دراسة عن مسرحيات غسان كنفاني، إلا أنه توفي قبل أن ينجزها.
ومن دواوينه الشعرية، يمكن الإشارة إلى «المدار المغلق» و «تموز في المدينة» و «لوعة الشمس». أما عن إصداراته في المجال القصصي والروائي، فيمكن الإشارة إلى»عرق» أولى مجموعاته القصصية،وروايات «صراخ في ليل طويل» و»صيادون في شارع ضيق» و»السفينة» و»البحث عن وليد مسعود» و»يوميات سراب عفان» و»الغرف الأخرى»، وتميزت الرواية الأخيرة بأجوائها الكافكاوية، و»عالم بلا خرائط» روايته المشتركة مع زميله عبد الرحمن منيف.
أما في مجال السيرة الذاتية، فإنه كتب «البئر الأولى» و»شارع الأميرات» وذكر في مقدمته للبئر الأولى «أن مرحلة الطفولة هي أصل الكينونة» وهو في كتابته للسيرة الذاتية، استدعى أجمل وأرق ما تحتويه جعبته وحصيلته اللغوية وركبها باقتدار على ذكريات ووقائع وشخصيات بسيطة وفقيرة، ولكنها مترعة بالدراما والسخرية والحس الإنساني العميق.
منح جبرا الجنسية العراقية، لكنه بقي فلسطينيا عربيا، من دون الانغماس في التنظير السياسي أو الانتماء الفصائلي، وبقي واستمر ينادي بحرية المبدع والابتعاد عن الشعاراتية السياسية، ولا يجعلها بديلا أو ركيزة لهيكل الإبداع ومفاصله وكينونته.
جبرا إبراهيم جبرا، أديب قيل عن نتاجاته أنها تركت أثرا كبيرا في الأجيال، وترجمت أعماله إلى 12 لغة عالمية، وهو الذي أكد على أن التغيير الحقيقي لا يأتي إلا بعد أن نفهم العالم على حقيقته، وأن يتم ذلك بإرادة حرة. وأن علينا نقل أغنى وأجمل ما في التراث، ووصله بأغنى وأجمل ما في الحداثة. أديب لم يترك مجالا إبداعيا إلا وساهم فيه وأغناه بما ملك من مواهب، وكان له «أقراصا في كل الأعراس» الثقافية والإبداعية، وتحول إلى مؤسسة إبداعية متنقلة قائمة بذاتها، لم أجد في ذكرى رحيله العشرين إلا ما ندر من كتابات عنه وعن أعماله وتوجهاته.

وكالات 

الأحد، 25 يناير 2015

تساؤلات توفيق الحكيم عن المسرح العالمي؟ / نبيل فرج

مدونة مجلة الفنون المسرحية
علي الرغم من أن توفيق الحكيم لم يكتب في حياته كلمة واحدة عن الحركة المسرحية في بلادنا‏,‏ التي عاصرها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي
 ولم يرد في كتاباته اسم أحد من الكتاب الذين لمعوا في هذه المرحلة وكانوا علي صلة حميمة به, إلا أنه كان يتابع هذه الحركة وهؤلاء الكتاب متابعة دقيقة. بل ان بعض هؤلاء الكتاب الذين تأثروا بأدب توفيق الحكيم, كانوا يقرأون عليه نصوص مسرحياتهم, قبل أن يدفعوا بها للعرض, ثقة منهم في أن صاحب هذه القامة المثقفة العالية في المسرح المصري, الذي تقدم أعماله في أوروبا, هو خير من يحتكمون إليه.
تشهد بذلك حديقة المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب في الزمالك, التي كان الحكيم يجلس تحت شجرتها, عندما كان يعمل في هذا المجلس, في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات يستمع إلي المؤلفين الذين يقرأون عليه نصوصهم المخطوطة, كما يشهد بها مكتبه في الدور السادس في الأهرام بعد أن انتقل إليه مستشارا للجريدة, ثم عضوا في مجلس إدارتها.
ولهذا كان الحكيم يستجيب بقلمه لأنشطة المسرح حين يدعي إليها, سواء بالأعمال التي قدمت له مثل أهل الكهف, الصفقة, إيزيس, شمس النهار, شهر زاد وغيرها, أو بنشر المقالات والكتب عن المسرح وتاريخه من أهم هذه المشاركات علي المستوي الفكري الكلمة التي كتبها في يوم المسرح العالمي الذي احتفل به المركز المصري للهيئة العالمية للمسرح, في السابع والعشرين من مارس1972, واختير أستاذ الباليه الفرنسي الحديث موريس بيجار لإلقاء كلمة الهيئة العالمية عن فن المسرح ورسالته, التي تترجم إلي كل اللغات الحية, وتقرأ من فوق خشبات المسارح في أنحاء الدنيا.
أما كلمة وتساؤلات توفيق الحكيم التي كتبها في هذه المناسبة, فلم تنشر في الدوريات الصحفية أو في كتبه, رغم قيمتها الفكرية البالغة التي تؤيد المسرح الشامل الذي تغدو فيه الكلمة إحدي عناصر العرض المسرحي, وليس العنصر الرئيسي فيه, حتي تتوفر للمشاهد المتعة بجمالياته العديدة, ويتحرر الفن من تقاليده المتوارثة, دون أن ينفصل عن ثقافة العصر العلمية والأدبية, ويتطور في العالم وفي بلادنا, في ضوء هذه الثقافة التي تري أن التقدم محتوم.
ولأهمية هذه التساؤلات التي تفصح عن إحاطة توفيق الحكيم بالمسرح العالمي, وبحاجة المسرح المصري الي البحث عن حلول لنقط ضعفه وقصوره, يعيد ملحق الأهرام نشرها في الذكري115 لميلاده في9 أكتوبر1898, والذكري26 علي رحيله في2 يوليو1987, وهذا نصها:
تساؤلات
المسرح الشامل, فكرة وتنفيذا, ليس بالشيء الجديد. فقد عرف في القرن الماضي, يوم رأي فاخبر أن المسرح يجب أن يجمع كل الفنون في صعيد واحد, الشعر أي الكلمة والدراما والموسيقي والرقص ثم التصوير والنحت والعمارة ممثلة في الديكور. ونفذ في أوبراته. ولكن القرن التاسع عشر في جملته وعمومه كان ينفتح علي ثقافة علمية ناهضة وعلي ثورات عقلية واجتماعية مبشرة, فاعتمد علي قوة الكلمة, وجعل النص هو قوام المسرحية, يخاطب به جمهور المثقفين. وكان المثقف حتي ذلك العصر شأن المثقف في زمن الأغريق والرومان والعصور الوسطي, ذا نوعية واحدة, وليدة الأعمال والكتب الكبيرة. اذ لم تكن قد وجدت أدوات اتصال جماهيرية تفنت هذه النوعية مثل السينما والإذاعة ثم التليفزيون... فالعودة اليوم إلي فكرة المسرح الشامل تثير التساؤلات الآتية.
هل هي علاج لأزمة المسرح التجارية بجذب جماهير جديدة اليه, جماهير لاتهمها الكلمة أو لا تفهمها. خاصة ونحن اليوم في عصر السياحة الكبري بتقدم الطيران. والسياح جمهور مهم للمسارح. وأكثرهم لا يفهم جيدا لغة البلد. فجعل الكلمة عنصرا ثانويا إلي جانب عناصر أخري كثيرة ومهمة مما يجعل المسرحية قابلة للإمتاع للاجنبي والمقيم علي كل المستويات ؟..
هل هي تأثر بالسينما التي تجعل الكلمة أي الحوار محدود الحيز ثانوي القيمة بالنسبة الي عناصر أخري مهمة ومثيرة تمتع العين والأذن, مما يحدو بالمسرح أن يتخلي عن فكرة الكلمة الي فكرة العرض, أي ترك فكرة المسرح الممتع للعقل وحده بالكلمة والأداء الي فكرة العرض المنوع الممتع للعين والأذن ولكافة الحواس ؟..
وأخيرا هل المسرح علي حق في اتجاهه الجديد هذا أو أن له رسالة خاصة به وحده تتصل بمستوي عقلي وثقافي معين, عليه أن يحافظ عليه مهما يتعرض لضيق نطاق جمهوره, وعليه أن يستعين في بقائه بتدعيم الأمة أو الدولة كما تدعم هياكل ثقافتها وحضارتها العليا, وكما تقدم الاعانات للطيران أو الصناعات الضرورية التي لا تغطي مصروفاتها ؟ أو أنه علي المسرح أن يعتمد علي نفسه ويبحث عن موارده وجمهوره بالطريقة التي توصله الي جذب المشاهدين من مختلف الطبقات والجنسيات ؟.. أو أنها بالفعل رسالة المسرح في هذا العصر الحاضر أن يغير مفهومه ونظرته, ويري أن الكلمة لم تعد هي كل شيء, وأن العقل لم يعد هو المصدر الوحيد والأهم للمعرفة ؟؟..
كل هذه تساؤلات تنتظر الإجابات, أو علي الأقل تستحق أن تعرض للبحث والدراسات والمناقشات, حتي نعرف موضع أقدامنا من قضية المسرح في العصر الحاضر, إلي بلادنا نحن علي وجه الخصوص.



النص المسرحي وجدل الأصالة والمعاصرة / عباس الحايك

مدونة مجلة الفنون المسرحية
441
الأزمان تتغير، وتغير، تتبدل الأشياء، وملامح السنوات، فلكل زمن حكايته، ولكل دورة حياة ظروفها، يتغير البشر، يتطورون، وما كان مستحيلاً يصبح ممكناً، كل تفاصيل حياة البشر يطالها التغيير، تفكيرهم ونظرتهم لما حولهم، وممارساتهم الحياتية والإبداعية، ومنها الفن والأدب، فهما مرتبطان بالكائن البشري، ويطالهما التغيير إذاً، وتتبدل ملامحهما، ضمن صيرورة تطور المجتمعات الإنسانية، والمسرح-وهو موضوعنا- أحد تلك الفنون الذي مر بمراحل زمنية، لكل مرحلة شكلها، منذ بدايته الطقوسية في اليونان، وحتى وصوله إلى صيغته الحالية التي تعددت فيها الاتجاهات والمدارس. فالمسرح تشكل عبر حركة الزمن وتأثر بما طال المجتمعات التي احتضنته من تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية وتقنية، وهذا ما أعطاه القدرة على البقاء دون أن يطاله الذبول أو الفناء كما طال فنون أخرى، فالمسرح يستوعب التغيرات ويتسق معها لدرجة الاستفادة من كل متغير. فخروجه من دائرة الطقس وتحوله لفن مستقل عن سياقه الديني، وظهور وظيفة المخرج وتحول سلطة العرض من المؤلف إلى المخرج، وتعدد المدارس والاتجاهات، واستغلال جديد التكنولوجيا الجديدة ينسجم مع مبدأ استيعاب هذا الفن للمتغيرات.
الزمن أيضاً كفيل بتغيير المسرح العربي الذي ظهر متأخراً بشكله السائد بالمقارنة مع ظهوره المبكر حول العالم، فالبدايات مع مارون نقاش في مسرحيته (البخيل)1847، تختلف عما وصل إليه المسرح العربي الآن، ومحاولاته اللحاق بالتجارب المسرحية التي تحتضنها خشبات العالم. فالنقاش قدم نسخة مقلدة عما كان يقدم في أوربا للجمهور العربي الذي لم يعرف هذا الفن سابقاً، دون مراعاة للطبيعة الإنسان العربي البسيط، لذا توجه بمسرحه للطبقة البرجوازية التي وجدت ما يشبهها في مسرحياته، بينما استطاع أبو خليل القباني 1903-1833 أن يقترب من الطبقة الشعبية التي كان يراهن عليها في تكريس هذا الفن المستورد الجديد، فقدم مسرحيات من التراث العربي بدأها بمسرحيته (الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح) مستخدماً الغناء في المسرح لفهمه مدى شغف الناس بالأغاني. بعد البدايات توالت العروض وتنوعت وانتشر المسرح رغم الرفض الاجتماعي والديني لهذا الفن، وصلنا للوقت الحاضر والمسرح العربي يقدم ما يتوازى مع ما يقدمه المسرح حول العالم، خاصة بعد ظهور موجة التجريب التي تحولت إلى فضاء رحب للتجريب على المفردات والعناصر المسرحية، وتوالي دورات مهرجانات عربية بصبغة عالمية كمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي ومهرجان قرطاج اللذين مثلا فرصة للمسرحيين العرب للاقتراب من التجارب العالمية، بالإضافة للعروض المستضافة، أو عبر المشاركات العربية الخارجية.
بعد مرحلة البدايات والتأسيس، وجد بعض المسرحيين أنفسهم مدفوعون نحو فكرة (تأصيل المسرح)، من خلال البحث عن جذور عربية لهذا الفن، للتخلص من التبعية الغربية للمسرح العربي، فصنفوا بعض الفنون التي كانت رائجة في الماضي كظواهر مسرحية، كخيال الظل، الكراكوز، المقامات الشعبية، الحكواتي، وغيرها مما يمتلك عناصر الفرجة الجماعية، لدرجة اعتبار حتى تلك الطقوس الوثنية في الجاهلية ظاهرة مسرحية كما يرى علي عقلة عرسان “كانت الشعائر الدينية تقتضي الرقص حول هذه الأصنام، والغناء أمامها، والطواف بها، وكانت أعظم أصنام العرب في مكة، وموسم حج القبائل إليها يقتضي ارتداء ملابس معينة، والانتظام في جماعة، في زمان ومكان معينين، وهذه الاحتفالات الدينية الجماعية تحتوي على مظاهر ومقوّمات مسرحية” (1)، إضافة لطقس الشبيه في عاشوراء عند الشيعة التي ركز عليها باحثون مسرحيون كأكثر الظواهر المسرحية ‏اقتراباً للمسرح بشكله المعروف، من نص، وممثلين ومخرج، ومكان.. كما يقول محمد عزيزة في كتابه (المسرح والإسلام) “الاستثناء الوحيد لقاعدة الغياب المسرحي هذا، هو التعازي الشيعية التي أعطت الإسلام، اعتبارا من القرن السابع، الشكل الدرامي الوحيد الذي يعرفه” (2)، دون الاعتبار بأصول هذه الظاهرة التي تأسست في عهد السلطنة البويهية في إيران، ووصلت إلى العرب في مطلع القرن العشرين وإلى مدينة النبطية اللبنانية على يد تجار إيرانيين.
هذه الظواهر، نظرياً مسرحية، وتمتلك بعض مقومات المسرح التي وجدها فيها البعض من الباحثيين المسرحيين، ولكنها لم توجد لتكون مسرحاً عربياً مستقلاً، فلم توجد التشابيه لتكون مسرحاً، فالقصد من وجودها هو ممارسة شعيرة دينية تسعى للتقرب إلى الله عبرها، باستحضار حادثة استشهاد الإمام الحسين بن علي، ولم يؤسس على هذا الطقس الديني ليتحول إلى مسرح عربي أو اتجاه مسرحي خاص، كما أُسس على الطقس الوثني الذي ذكره عرسان، ليتحول إلى فن خالص كما حدث في الطقس الديني الإغريقي. فعلاقتها بالمسرح كانت نظرية حسب رؤى الباحثين، أو تطبيقية محدودة عبر توظيفها في العروض المسرحية.
وعلى المستوى التطبيقي، فتبدو دعاوى التأصيل والعودة للتراث هي الأكثر جدية في هذا السياق، منها “جهود يوسف إدريس في أشكال الفرجة والسامر، وتوفيق الحكيم في دعوته لمسرح عربي له خصوصيته المحلية من خلال التوجه نحو التراث العربي والشعبي، والدكتور علي الراعي في كتابه الكوميديا المرتجلة ودعوة سعد الله ونوس في (بيانات لمسرح عربي جديد) وجماعة المسرح الاحتفالي في المغرب والمسرح الحكواتي في لبنان وجماعة فوانيس في الأردن ومسرح السرادق في مصر”(3). وقد سادت هذه الدعاوى خاصة بعد هزيمة حزيران 1967، حيث يعتقد بأنها جاءت كردة فعل تجاه الهزيمة، وبحثاً عن عروبة المسرح، وانعتاق من تبعية المسرح الغربي، وكان التراث العربي والتوكأ عليه هو السمة السائدة في العروض التأصيلية، ويحصر الناقد المغربي جميل حمداوي التعامل مع التراث في أربعة أشكال:
1- تأصيل المسرح العربي اعتمادا على المضمون التراثي: توظيف التراث في قالب غربي، لأجل الحفاظ على الهوية العربية وأصالتها من خلال استقراء الموروث الأدبي والتاريخي والديني والصوفي والشعبي والخرافي، مثل، مارون النقاش الذي استوحى تراث ألف ليلة وليلة في مسرحيته (أبو الحسن المغفل) أو (هارون الرشيد)، أو أبو خليل القباني في (هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب).
2- تأصيل المسرح العربي اعتمادا على الشكل أو القالب التراثي: توظيف القوالب التراثية درامياً، مثل: السامر لتوفيق الحكيم في مسرحيته (الصفقة)، ويوسف إدريس في (الفرافير)، وقالب الليالي عند ألفرد فرج ومسرح المقهى والسهر عند سعد الله ونوس في مسرحيته (سهرة مع أبي خليل القباني)، مجالس التراث أو شكل الديوان الدائري عند قاسم محمد، وفن المقامات عند الطيب الصديقي، وخيال الظل الذي وظفه عبد الكريم برشيد في مسرحيته (ابن الرومي في مدن الصفيح)، والحلقة التي استعملها أحمد الطيب العلج في (القاضي في الحلقة) والطيب الصديقي في (ديوان عبد الرحمن المجذوب) و(القوال) عند عبد القادر علولة بالجزائر.
3- التأصيل النظري: حيث قدم عدد من المسرحيين بيانات تنظيرية حول العودة للتراث والسعي نحو تأصيل المسرح العربي، منهم توفيق الحكيم الذي قدم تصورا تأصيليا جديدا للمسرح العربي تحت عنوان (قالبنا المسرحي) المتمثل في بعث المداح والمقلداتي والحكواتي في بناء النصوص الدرامية وعرضها، ويوسف إدريس الذي بحث عن قالب مسرحي جديد، فوظف السامر في مسرحيته (الفرافير)، وفي المغرب ظهرت الاحتفالية التي كان ينظر لها عبد الكريم برشيد، وهي كما قال في بيانه “ليست مجرد شكل مسرحي قائم على أسس وتقنيات فنية مغايرة، بل هو بالأساس فلسفة تحمل تصوراً جديداً للوجود والإنسان والتاريخ والفن والأدب والسياسية والصراع”، وكان لهذه النظرية امتداد عربي، حين باركها مسرحيون وانشغل بها آخرون، إذ صادق على بيانتها الدكتور علي الراعي وسعد أردش وأسعد فضة وعز الدين المدني ومنصف السويسي وغيرهم، وانشغلت بالاحتفالية فرقة الحكواتي اللبنانية وفرقة سوسة التونسية وفرقة الفوانيس الأردنية وجماعة السرادق المصرية.

4- التأصيل التطبيقي للنظريات الدرامية العربية: في مساهمات المسرحيين في التأصيل بالإخراج والتأليف والتطبيق الميداني دون حاجة إلى إصدار كتابات نظرية، كما فعل الطيب الصديقي في مسرحياته كـ(أبو حيان التوحيدي)، (ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب)، (مقامات بديع الزمان الهمذاني)، وألفرد فرج في مسرحيته (جواز على ورقة طلاق)  وممدوح عدوان في (كيف تركت السيف) و(ليل العبيد)، ومحمود دياب في ( ليالي الحصاد)، وتطبيقات عز الدين المدني وعبد القادر علولة وكاكي الجزائري وقاسم محمد في (بغداد الجد والهزل) و(مجالس التراث) ويوسف العاني في (المفتاح)، وغيرهم.(4)
من المسرح المغربي
من المسرح المغربي

وكل أشكال التعامل مع التراث هذه تنطلق من الرغبة الملحة في إثبات علاقة العرب بالمسرح وإلباس ظواهر تراثية وشعبية صفة المسرح، وتنطلق من أسئلة الهوية التي تعرضت لهزة، وشك خاصة بعد الأحداث السياسية نهاية الستينيات والتي أثرت في طبيعة التعاطي مع المسرح، وكانت هي تلك هي الفترة الذهبية للكتابة المسرحية العربية التي قدمت للمكتبة نصوصاً مسرحية لا زالت حاضرة كونها تناولت الشأن العربي بحساسية، من خلال الإسقاط السياسي أو توظيف التراث العربي في هذه النصوص. والمفارقة أنه لم يلحظ هذا الاهتمام الكبير بالبحث عن أصول للمسرح في تاريخ الأمم بقدر الإهتمام الذي أخذ من عمر المسرح العربي.
وبالعودة لتأريخ هذه الدعوات للبحث عن مسرح عربي أصيل، نجد أنها تسيدت المشهد المسرحي لسنوات ثم بدأت تدريجياً بالخفوت، فانحصرت ضمن منظري هذا الاتجاه والمنشغلين بها من الرواد المسرحيين، دون أن تنتقل إلى جيل جديد يواصل عملية البحث وتشكيل مدرسة مسرحية عربية مستقلة، ويواصل ما بدأه الرواد، فلا نجد من يشتغل أو يضيف على هذه النظريات من جيل المسرحيين الشباب، وكأن عمر هذه الدعوات متصل زمنياً بعمر المنظرين لها والمؤمنين بها، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن هذه النظريات وقدرتها على البقاء في زمن المتغيرات، وقدرتها على مواكبة كل زمن وما يتغير فيه.
عند ملاحظة ما يقدم على خشبات المسرح العربية والمهرجانات العربية، نجد أن التراث بشكله التي تناوله دعاة التأصيل لم يعد حاضراً في عروضهم التي انحازت للهوية العالمية الجديدة التي تشكلت بفعل التواصل الآني الذي أتاحته شبكات الانترنت، ومواقع وبرامج التواصل الاجتماعي التي صارت بين الأصابع، الهوية التي فرضتها علينا طبيعة الحياة في هذا الزمن السريع، الزمن الاستهلاكي. فهل يبدو التراث مغرياً للجيل المسرحي الجديد للبحث في مفرداته عن ظواهر يمكن توظيفها مسرحياً، أو استخدامها كقوالب مسرحية، ويحظى باهتمام هذا الجيل الجديد؟.
يمكن قراء القصور في الاهتمام بالتراث في العروض المسرحية الشبابية، فما يقدم من نصوص مسرحية انحازت للهم الإنساني العام، حيث لا زالت نصوص كتاب عالميين تحفز المسرحيين لتنفيذها، ولا زالت النصوص العربية التي يكتبها شباب المسرح أغلبها تذهب جهة قضايا إنسانية عامة، تصلح لكل مكان، لا تتقيد بمكان ولا هوية محددة.
هذا الزمن الذي نعيشه بكل متغيراته، غير النظرة للنص المسرحي، فتأسست اتجاهات أبعدت هذا النص عن قائمة الأهمية، وجعلت منه مجرد فكرة ينطلق منها العرض، إذ ظهرت –مثلاً- نظرية (موت المؤلف)، ونص الورشة، وحتى تلك المسرحيات التجريبية التي انتصرت للجسد وللمشهدية البصرية على حساب النص والحكاية والبناء الدرامي، فالمسرح العالمي الجديد الذي بدأت عدواه تتسرب للمسرح العربي صار يؤسس “لتعامل جديد مع النص المسرحي”، حيث “لم يلغ النص المسرحي ولم يتمرد عليه ولم يخرب أهميته بل أنه قدم تصوراً جديداً للنص  المسرحي ولدور المؤلف المسرحي، واقترح خطاطة جديدة للجهاز الذي ينجز الفرجة المسرحية” (5) كما يقول الدكتور سعيد الناجي، فإذا كان هذا ما يواجهه النص المسرحي من تشكيل علاقته الجديدة بالعرض، فهل يمكن أن يبقى للتراث محل في المسرح الشبابي؟. وهل تشكل مسألة التأصيل والتعامل مع التراث هاجساً لدى هذا الجيل الذي انفتح على العالم، ورأى وشاهد واندمج؟.
تساؤلات لا بد منه للدخول في جدل الأصالة والمعاصرة في المسرح العربي، جدل بين نظريات وبيانات ومحاولات إثبات أصالة المسرح وبين وضع المسرح في سياقه الزمني والاجتماعي، بين التراث كمنطلق، وبين المعاصرة بكل تفاصيلها، بين هوية عربية خالصة وبين هوية كونية مفروضة. ولكن التساؤل الأهم، ماذا حقق هذا الجدل للمسرح العربي؟، ألم يضيع المسرحيون العرب الحبر الغزير الذي سال على الورق وهم يناقشون علاقة المسرح بالتراث، ويناقشون بيانات التأصيل أو رفض نظرياته. كم كان يحتاج المسرح إلى الشغل والابتكار والتواصل مع التجارب العالمية، والاستفادة منها في حركة التجديد والتجريب، وكم كان يحتاج لرؤية أكثر شساعة في سبيل تكريس هذا الفن الذي يواجه الرفض في بعض الدول ويواجه التهميش في بعضها.

إحالات:
  • لظواهر المسرحية عند العرب-دراسة- علي عقلة عرسان-منشورات اتحاد الكتاب العرب 1981.
  • الإسلام والمسرح-محمد عزيزة- ترجمة: رفيق الصبان-منشورات عيون-الدرا البيضاء 1988.
  • المسرح العربي وجدلية الأصالة والمعاصرة-جاسم العايف-جريدة المستشار 6 فبراير 2012.
  • المسرح العربي بين الاستنبات التأصيل-الدكتور جميل حمداوي عمرو- arabworldbooks.com
  • بصدد مسرح “عصر المخرجين” و “ما بعد الدراما”-الدكتور سعيد الناجي-مجلة المسرح-العدد6-صيف2011

ورقة قدمت في ملتقى كتاب المسرح الثالث في الشارقة -نوفمبر 2013

الدكتورة ماديسون: الجمال، التطبيق العملي، والاثنوغرافيا في الأداء



محاضرة مهمة تحدثت فيها الدكتورة ماديسون وسننشر الترجمة الكاملة لها في العدد القادم من مجلة المسرحيون العرب – ناقشت فيها من واقع الخبرة العملية النقد للانثوغرافيا 
الأداء وكيفية سنت تجارب الشعور والاستشعار من البحث الميداني وترجمتها على حد سواء على الساحة العامة وداخل الحميمة، لقاءات الإثنوغرافية من تلك اللحظات اليومية في هذا المجال. المزيد والمزيد من الناس، في مختلف التخصصات لأكاديمية والمبادرات الشعبية، ملتزمون العمل الإثنوغرافية أنهم مضطرون لتبادل الخبرات، ليصبحوا دعاة اعتذار، والتواصل الدروس المستفادة من البحوث الميدانية الخاصة بهم عبر المناظر الطبيعية والحدود، والبعيدة، القريبة إلى أماكن مكان وطنهم وكذلك للآخرين، على سبيل المثال، والأصدقاء والزملاء والمتعاونين، والغرباء يمتد وتحويل التحقيق الإثنوغرافية قدما إلى دوائر متعددة وأشكال التعبير الفني. الكلمة الرئيسية سوف تتقاسم أمثلة على الاثنوغرافيا الأداء باعتبارهاالحالة الوجدانية، ورؤيةالاستشعار عن نظم السياسة عبر المساحات الإثنوغرافية الخاصة والعامة. فإن الحديث يقود الى الجمال من التجارب التي تجسد والنقد.
D. SOYINI ماديسون (دكتوراه عام 1989، جامعة نورث وسترن) هو أستاذ للدراسات الأداء في مدرسة جامعة نورث وسترن الاتصالات، كما عملت في قسم الدراسات الأفريقية الأمريكية وقسم الأنثروبولوجيا. المهمة على الترابط بين الدين التقليدي، والاقتصاد السياسي، والتكتيكات في الأداء المسرحي الفلكلوري الأصلي.


المسرحيون العرب

صدور ترجمة حديثة لمسرحية "في انتظار جودو" تأليف صامويل بيكيت

مدونة مجلة الفنون المسرحية

صدر حديثا ضمن سلسلة “المائة كتاب”- عن الهيئة العامة لقصور الثقافة- أحدث ترجمة عربية لمسرحية “في انتظار جودو” للروائي والمسرحي الأيرلندي صامويل بيكيت، الحائز على جائزة نوبل في الآداب، من ترجمة رانيه خلاف، وتقديم الدكتور محمود نسيم
“في انتظار جُودُو” لصامويل بيكيت (نوبل 1969) علامةٌ فارقةٌ في المسرح العالمي بالقرن العشرين، ربما لم تنل مكانتها مسرحيةٌ أخرى. هي رؤية للوجود الإنساني الراهن، الملتبس والمشوَّش، البائس والأعمَى، الذي لا يملك- في بؤسه وعماه - سوى الإصرار على انتظار ما لا يدري، انتظار المجهول، باعتباره الخلاص الكُلي، النهائي.
وهذه الترجمة هي أحدث ترجمة عربية للمسرحية التي لم تنل ترجماتُها السابقة حظها من الدقة المسئولة، والرهافة اللائقة بمكانتها الفريدة.
يذكر أن صامويل بيكيت روائي ومسرحي أيرلندي طليعي (1906-1989). ويعتبر أحد الرموز الإبداعية للقرن العشرين، وأحد أعمدة ما يُسمَّى بـ”مسرح العبث”. كتب أعماله بالإنجليزية والفرنسية. وتقدم أعماله رؤية مأساوية-كوميدية للطبيعة الإنسانية، ممتزجة بالدعابة السوداء. مُنح جائزة نوبل في الآداب عام 1969.
من أهم أعماله الروائية: “ميرفي” (1938)، “موللوي” (1951)، “مالون يموت” (1951)، “ما لا يُسمَّى” (1953)، “وات” (1953)، “كيف ذلك” (1961). ومن أهم أعماله المسرحية، فضلاً عن “في انتظار جودو”: “فصل بلا كلمات” (1956)، “نهاية اللعبة” (1957)، “الأيام السعيدة” (1963)، “ذلك الحين” (1976).
أما المترجمة رانيـة خـلاَّف ، فهى كاتبة ومترجمة، مساعد رئيس تحرير ومحررة في الصفحة الثقافية بجريدة “الأهرام ويكلي” ، من أعمالها المنشورة: “جسد آخر وحيد” (مجموعة قصصية، 1998)، “حكاية الحمار المخطط” (رواية-سيرة ذاتية، 2009) ، ومن ترجماتها المنشورة: “الطفل المنبوذ” لميلان كونديرا، “الإسلام رمز الأمل” لهانس كونج، “مذكرات جارة طيبة” لدوريس ليسنج، “راحلة من أفريقيا” لإيزاك داينسن.

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption