تعبيرية أونيل والكشف عن الأغوار السحيقة في النفس / أديب كمال الدين
مجلة الفنون المسرحية
بحار، موظف حسابات، مخبر صحفي، باحث عن الذهب، ممثل ثانوي، موظف مبيعات، شحاذ، عامل على سطح السفن: هذه بعض من المهن التي امتهنها الكاتب المسرحي الأمريكي الشهير يوجين أونيل «1888 ـ 1953» في الولايات المتحدة، والأرجنتين، وجنوب افريقيا والتي كوّنت خلاصة تجربته الروحية التي فاضت على خشبة المسرح مسرحيات متميزة، كانت، بحق، المسرحيات التي أسست لنشوء المسرح الأمريكي بعد سلسلة من المسرحيات البدائية التي كتبها عدة كتاب أمريكان. لكن النقاد لم يعترفوا بها بداية ناضجة للمسرح هناك واعترفوا بيوجين أونيل رائداً مسرحياً لنضوج كتاباته وعمقها وفرادتها. وقد انتهت هذه المهن الغريبة العجيبة بصاحبها أن يكون فريسة سهلة لمرض السل. وهنا اعتزل العالم وانتبه إلى مأساته كفرد يبحث عن كينونته وسط هذا العالم اللاهي، العابث، المجنون.
يقول أونيل: لكن صحتي لم تحتمل كل هذه الطفرات والتقلبات فأصبت بالسل واضطررت إلى اللجوء إلى مستشفى للأمراض الصدرية حيث انعزلت عن العالم ستة أشهر أمضيتها كلها في التفكير في المستقبل الذي لم تكن معالمه قد اتضحت بعد. في عزلتي
الاضطرارية فكرت لأول مرة في الكتابة. وفي الخريف التالي عندما كنت أناهز الرابعة والعشرين بدأت في كتابة أولى مسرحياتي «العنكبوت» هكذا أدرك أونيل طريقه ككاتب مسرحي كما يقول د. نبيل راغب في كتابه «موسوعة الأدب الأمريكي» ويضيف: كانت الخبرات والمغامرات والتقلبات التي مرّ بها يوجين تمثل زاداً يستطيع أن يستمد منه المادة الخام لكثير من المسرحيات.
ولكي يصقل موهبته التي اكتشفها بكتابته لمسرحية «العنكبوت» التحق بالمدرسة التجريبية التي انشأها ج.ب. بيكر وعرفت باسم «مدرسة 47» وبعد ذلك انضم إلى فرقة «ممثلي بروفنستون» التي اخرجت له معظم مسرحياته الأولى القصيرة على مسارح نيويورك. وهي المسرحيات التي لم تنل رضا أونيل نفسه عندما رسخت قدمه في المسرح لدرجة انه أحرق معظمها ولم يتبق سوى بعض منها مثل «العطش» و«التهور» و«التحذيرات» و«الضباب». وفي عام 1920 ظهرت لأونيل أولى مسرحياته الطويلة والناضجة بعنوان «وراء الأفق» التي حققت نجاحاً باهراً وجلبت له جائزة بوليتزر فهي مسرحية زاخرة بالتهكم اللاذع والسخرية المريرة التي تنبع من التناقض بين الشخصيتين الرئيسيتين في المسرحية: روبرت الفتى الخيالي الحالم الذي ينطلق بإفكاره إلى آفاق البحار والمحيطات والقارات على أمل أن يجوبها في يوم من الأيام، وآندرو القروي البسيط القانع طيب النية الذي كان ينافس اخاه في حب ابنة الجيران «روث» التي فضلّت اخاه روبرت عليه فأضاعت عليه أحلامه وخيالاته المتوهجة. وبدافع من خيبة الامل يهجر اندرو مزرعته وحقله، ويطلق حياة الريف إلى غير رجعة لينطلق إلى البحر ويصبح، فعلاً، المغامر المغوار، وعندما يعجز روبرت عن تحقيق أحلامه وأوهامه يتحول إلى شاب بائس، وتنعكس هذه الروح على زوجته التي تكتشف بدورها حب آندرو الكامن في قلبها.
ويعود آندرو من رحلاته البحرية فتكتشف «روث» أنه نسيها تماماً بينما يصارح آندرو اخاه بحقيقته وهي انه مجرد شاب خامل يقضي حياته مجتراً اوهامه.
بعد ذلك كتب أونيل عدداً من المسرحيات المتميزة التي اكسبته، إضافة إلى الشهرة المحلية، شهرة عالمية. من أهمها مسرحية «الغوريلا» ومسرحية «الإمبراطور جونز».
في هاتين المسرحيتين يكون حس الاضطهاد طافياً على السطح بمرارة. فالإمبراطور جونز الذي استطاع، من الناس البسطاء خالقاً لنفسه هالة المجد، هو، كما سيرنا المؤلف إنسان مضطهد. و«يانك» الغوريلا الوقاد، رغم قوته الجسدية العظيمة مضطهد كذلك، ربما بشكل أكثر عنفاً من الإمبراطور. ومن خلال كشف الحقيقة يرسم يوجين ملامح بطلي مسرحيته ليستخلص النتائج التي تنير داخل الإنسان بكل ما هو متوحش وغامض باسلوب مسرحي تعبيري.
تبدأ «الغوريلا» من عنبر الوقادين في السفينة، حيث يانك محور الحدث والحديث: يانك الساخر من كل شيء: ظروف العمل القاسية، اللهيب العنيف، رفاقه العمال الذين يحاولون الطرق على معدن الحقيقة، وليس على معدن السفينة، فقط، كما يعمل يانك . ولكن الوقاد يسخر بمرارة مزهواً بقوته وعنفوانه رغم دمامته المرعبة. حتى إذا ما التقى «ميلدرد» الفتاة الشاحبة المتمردة التي يعجبها التعرف، مدفوعة بتطفلها، إلى حياة الوقادين في السفينة، فإنه سيكتشف على حين غرة، أن كل هذا الزهو والاعجاب ما هو إلاّ هراء!
فميلدرد ستصرخ: «احملوني بعيداً عن هذا الحيوان القذر» بعد أن فوجئت بوحشية يانك وبشاعة منظرة سترن هذه الصرخة في اذني يانك طويلاً إنما بألم متجذّر قاسٍ يمتد إلى كل خلية من خلايا جسده لتتحول إلى حقدٍ صلدٍ كالماس. ويأخذ الوقاد بالبحث عن ميلدرد في المدينة.
ولعل الحوار الذي يدور بينه وبين زميله: «يونج» عن البرجوازيين الخارجيين للتو من القدّاس، الممتلئين بابهتهم الفارغة وملابسهم الثمينة ونظافة شوارعهم «التي قال عنها يانك بأنه يستطيع أن يلعقها أي الشوارع ـ بلسانه مسروراً جذلاً» هو من أجمل حوارات المسرحية: حوار نابض، صادق حتى النخاع، متناقض لدرجة العويل. وينتهي المشهد بمشادة بين يانك وأحد المارة، ليودع خلف قضبان السجن ليمتليء خيط المرارة أسى. وفي السجن يسخر السجناء من هذه الجثة الضخمة التي لا تكفّ عن التهديد والوعيد، ويخبرونه بأن ميلدرد الفتاة التي أحبها بصدق وسخرت منه اشدّ السخرية إنما هي ابنة دوكلاص صاحب السفن والمعامل والمليارات الدولارية البديعة!
وتكون المحطة الأخيرة ليانك هي حديقة الحيوان، حيث الغوريلا بانتظاره، الغوريلا التي تشبهه ويشبهها، ولم لا؟ ربما ستكون افضل من يفهمه بعد أن يئس من فهم البشر الأوباش الأجلاف له. بيد أن الغوريلا هذه رحبت به على طريقتها الخاصة المرعبة: احتضنته بقوة حتى هشمت رأسه!
إن مسافات الدهر والعذاب والخوف التي مشاها يانك، هي ذاتها، التي سيمر بها الإمبراطور جونز، مع اختلاف بسيط تفرضه طبيعة الحبكة المسرحية. أعني ان الألم، في أغلب مفاصله، سيكون موحداً ما بين الاثنين.
لقد ضحك الإمبراطور طويلاً من ابناء جنسه السود واستغلهم ونهب كل ما يمكن أن ينهب منهم من أجل ملذاته التافهة، ويبدو أن ساعة الحساب قد أزفت فها هو «سيمزرز» التاجر الابيض يعلمه بالتمرد الحاصل عند رعيته، حتى عند حراسه الذين كانوا أول الهاربين. ويبدأ مسلسل العذاب والمطاردة حيث يهرب الإمبراطور الأسود إلى الغابة مع وقع طبول الثوار التي تعلو لتمزق قلب الهارب تمزيقاً. ،حين تكل القدمان الإمبراطوريتان من التعب، ويأخذ الجوع مأخذه المخزي، تتفشى هلوسة الروح عنده.
فبعد مشهدين يصف فيهما أونيل بطله ينتقل إلى الموقف الاصعب: ها هو جونز يرى مجموعة من الزنوج بملابس السجناء المخططة يتبعهم رجل ابيض. فيأخذ الإمبراطور مكانه بينهم. إلا ان الرجل الأبيض يلهب ظهر جونز بالسياط، فيضربه جونز، بالمقابل، بجاروف وهمي ثم يسارع إلى مسدسه ليضرب طلقة يختفي على اثرها الرجل الأبيض والزنوج السجناء.
في المشهد التالي: يُباع الإمبراطور تماماً كما يُباع ابناء جنسه الزنوج. وهو كما في المشهد السابق، يلتحم مع الآخرين، وكأنه تحت تأثير منوم معناطيسي. لقد ضحك جونز من قبل طويلاً، من أبناء جلدته، حين زعم لهم أنه لن يُقتل إلا برصاصة فضية. والرصاصة الفضية هذه يحملها في مسدسه.
من يقتله إذن؟
لا أحد سوى الأشباح التي تبدأ بمطارته هي الاخرى، جنباً إلى جنب مع الطبول البدائية التي لم تكف لحظة واحدة عن الصراخ: صوتها يعلو ويعلو فيهرول جونز مأكولاً بالذعر. فيقابله في الغابة ساحر شيطاني يمزق قلبه الإمبراطوري بالموسيقى التي ينسج معها، ويتلوم مع إيقاعها لحظة بلحظة. وينادي الساحر التمساح، فيخرج الأخير من البحيرة بعينيه الخضراوين المليئتين برائحة الدم. ليس هناك حل آخر أمام جونز غير الرصاصة الفضية ليطلقها على التمساح المسحور. وأخيراً يصل المطاردون، وتكون ضحيتهم سهلة. فكبر المطاردة وعمق عذابها كانا كافيين لتهيئة الضحية للرمق الأخير. ويقتل جونز برصاصة. إنما بأية رصاصة؟ إنها رصاصة فضية صنعها أبناء جلدته السود ظنا منهم حقاً أنه لن يُقتل إلا بمثل هذه الرصاصة تماماً كما أوحى لهم من قبل!
تقوم فكرة أونيل الأولى في المسرح على ما كتبه هذا الكاتب في مذكراته قائلاً: الخطيئة قدر مكتوب على الإنسان، ولكن باطنه يزخر بقوى العذاب المتمثلة في ضميره الذي يلهبه دائماً بسياط الندم. فهو دائماً الضحية بين شقي الرحي: الخير والشر. ولكي يرتفع الإنسان من مستوى الضحية إلى الشهيد، فهو يملك الندم الذي يرفعه فوق الخطيئة، والعذاب الذي يؤدي إلى الغفران في النهاية.
يقول د. نبيل راغب: على أساس هذه النظرة الأخلاقية أقام أونيل بناء مسرحيته «رغبة تحت شجرة الدردار» عام 1924 وهي المسرحية التي تصوغ أسطورة فيدرا في شكل عصري حين يعشق شاب زوجة أبيه العجوز التي لا تلبث أن تقع في غرام الأبن بسبب أنوثتها المتفجرة. وفي عام 1922 كتب أونيل مسرحية «الإله الكبير براون» وفيها يثبت مقدرته المستمرة في التجريب والتجديد، فيستخدم الأقنعة لكي يجسّد مشكلة الصراع بين شخصية ناجحة ذلك النجاح المادي الذي يحول صاحبه إلى صنم من الذهب، ومع ذلك لا يستطيع أن يشتري بكنوزه قليلاً من المحبة أو الحنان.
يكتب الناقد فرانك جوتران في كتابه «المسرح الأمريكي الجديد» ـ ترجمة ولي الدين السعيدي: في عام 1936 قدّم أونيل إطاراً لإحدى أكثر تراجيدياته قتامة «قدوم رجل الثلج» وهي تراجيديا أمريكية يتخذ الأمل والموت فيها صورة تاجر جوّال ثمل، وصاحب حانة. وكما هو الأمر عند الاغريق، فإن اكتشاف خطأ خفي يؤدي إلى يقظة الوعي لدى مجموعة أفراد واحساسها بقدرها. ولكن السماء فارغة هنا، ولا يتحكم العقل بخطى الرجال، اذ تتألف الجوقة من مجموعة سكارى.
أما في مسرحية «الابحار إلى كارديف» فنجد بحاراً جريحاً مشرفاً على الموت، وحيداً مع واحد من أصدقائه لا يستطيع إسعافه بشيء. ويستعيد الرجل المحتضر عبر هذه الرحلة الليلية الطويلة سيرة حياته، وصورة الجريمة التي اقترفها عن غير قصد منه. ونحس، في قلقه، قلق الإنسانية جمعاء.
كانت غزارة إنتاج يوجين أونيل سبباً في حيرة النقاد واختلافهم في حكمهم عليه، يقول ايريك بنتلي: إنه نجح في استخدام الواقعية والميلودراما بينما فشل في بلوغ روح المأساة.
ويعتقد جون جاستر أن أونيل نجح في بلوغ هذه الروح في مسرحية «الحدا يليق بألكترا» التي كتبها عام 1931. أما مارتن لام فيعترف بمكانة أونيل في المسرح العالمي المعاصر برغم هفواته المتعددة. بينما يوضح الاردايس نيكول أنه لا جدال في الإنجازات التي أضافها أونيل إلى التراث الأمريكي وإن كان لا يرقى إلى مستوى الفن الرفيع الخالد.
أما فرانك جوتران فهو أكثر النقاد اتخاذاً للموقف السلبي من أونيل رغم اعترافه بأهمية هذا الكاتب، ذلك انه يؤكد على ما قاله الناقد المسرحي روبرت بروستاين قائلاً: على الرغم من نجاح ثورة أونيل المسرحية، فإنها لم تنل موافقة جميع النقاد، ففي مقالة نشرت سنة 1959 في مجلة «هاربرز» أبدى روبرت بروستاين أسفه لأن أبناء وطنه لم يبلغوا مستوى أدبياً مماثلاً لما وصل إليه الكتّاب الأجانب أمثال: سارتر وكامو وبيكيت ودورغات. إذ ينتقل هؤلاء، بحرية تامة، بين فن وآخر، من المقالة إلى الرواية، ومن النقد إلى الملهاة. ويتابع بروستاين مقالته: إذا ما استثنينا تنيسي ويليامز فسنجد غالبية كتّابنا المسرحيين، حتى أشهرهم: يوجين أونيل، اتباعاً مخلصين لمنهج الغموض، فهم ينقلون إلينا لحظات عالية من الفكر والشعور لا بوساطة اللغة، بل من خلال ومضات وإشارات تعجب!
0 التعليقات:
إرسال تعليق