"رائحة حرب" عمل فني متميّز من خلال رؤية إخراجية واعية
مجلة الفنون المسرحية
المنجي بن إبراهيم
مسرحية: " رائحة حرب "
تقديم : الفرقة الوطنية للتمثيل ـ العراق
إنتاج 2017
مدّة العرض 58 د و28 ث
" رائحة حرب "
عن رواية الكاتب الفلسطيني أكرم مسلم بعنوان " إلتبس الأمر على اللقلق "
تأليف المسرحية : ـ د. مثال غازي ( العراق )
ـ أ. يوسف البحري ( تونس )
دراماتورجيا: ـ أ. يوسف البحري
إخراج ـ الفنان عماد محمد
الأداء التمثيلي : ـ الفنان عزيز خيّون دور: الجد
ـ د. والفنانة عواطف نعيم دور : الجدّة
ـ الفنان يحيى إبراهيم دور : اللقلق (الحفيد)
ملاحظة أولى:
ـ ثلاثة كتاب برؤاهم المختلفة وتجاربهم المتنوعة وطروحات أفكارهم غير الهيّنة في التناول
ـ ثلاثة ممثلين متمرّسين يفقهون ماهيات خشبة المسرح ولزومياتها ولوازمها ويدركون ما يريدون من حضور وتميز
ـ يجابههم مخرج طَموح متطلّع إلى فرض الذّات وكسب معترك الفنّ والإبداع
( الله يكون في عون الجميع )
ملاحظة ثانية:
ـ نص المسرحية مأخوذ عن رواية الكاتب الفلسطيني أكرم مسلم .. ثم تقول المرجعيات الدعائية والإشهارية أن النص من تأليف كاتبين إثنين هما د. مثال غازي وأ. يوسف البحري تلي ذلك صياغة درامية أمّنها أ. يوسف البحري (دراماتورجيا)
ـ يا حبذا توضيح هذه المعطيات
رأي في أبعاد النص الدرامي
أودّ بدايةً أن أسأل أو أتساءل بعد مشاهدة ومعاينة نص وعرض مسرحية: "رائحة حرب" ـ هل مازلنا نفكّر ؟ هل مازالت عقولنا تتدبّر أمور حياتنا؟هل مازلنا نحلم ونشتاق إلى حياة أفضل ؟ هل مازلنا نفقه معاني التوازن الإنساني ؟هل مازلنا نفكّر في الفرح وفي مشاعر وعبارات صارت واهية مثل الحياة السّعيدة والكرامة وكلِّ ما كان يسمّى قيم أخلاقية والتي تدهورت وأصبحت مدعاة للسّخرية والابتذال ؟
إنّه زمن الرداءة بامتياز..
مسرحية "رائحة حرب" هي صرخة فظيعة لا لبس فيها ولا التباس .. مسرحية تحلّق عن جدارة فوق كل الاعتبارات فيما بين القول والقيل والتنظير ورسم الشعارات الخاسرة .. مسرحية تصرخ بعمق قلب الأرض وعذابات الحياة التي دُمّرت أركانُها الأساسية وصارت حيرة والتباسا فعلا في المفاهيم وشكوكا وظنونا حتّى في المعاني البسيطة لمقوّمات العيش والتعايش فيما بين البشر ..
إنّه الضّياع والتيه والغموض وفعل الشر وقسوة البشر .. إنّه التعنّت والبلوى والتعب وروائح الحرب والحروب بأساليبها القديمة والحديثة والآتية
تلك هي مسرحية "رائحة حرب"في كل تراكيبها ومفرداتها الفكرية والفنّية والأدائية والتقنية
أستأذن في إعادة قراءة جزءا من المشهد الأول الذي تيسّر للكاتبين المبجلين والفنّان المخرج أن يستهلوا به العرض المسرحي:
(قبل الالتباس)
) يظهر ثلاثة شخصيات (الجد واللقلق (الحفيد) والجدة في بيت قديم )
الجد : أكرهه ولا اريده ، يلف جسدي ، يلف هذا الخراب ،وكأن كلَّ ما فية ينعق كالغراب ،احال كل ما في روحي سرابا، في راسي ، في صدري ألا هل من يزيح عن كاهلي ثقل كلِ التراب ؟ هو في كل مكان ، على النوافذ، على الابواب، على الوسائد، على الموائد.. تراب ،تراب ، تراب.. لما علي ان اتنفسه كل يوم ، اكاد اختنق..كان عليك ان تزيليه يا امراءة
الجدة) :: (تجلس في احدى زوايا الغرفة وهي تقرا الفنجان (الجو مغبرّ في الخارج لا فائده من تنظيف الان. ربما علينا ان ننتظر حتى يهدا الجو من العواصف.
الجد :: وهل علي ان التهمه بدلا ان تزيليه , لابد انك كبرت وهرمت وخرفت فما عدت تنفعين لشيء.
الجدة : بل أنفع لتحطيم راسك ايها الحقير :
الجد : حاولي فقط وسترين ايها الحيزبون اللعين ماذا سيكون رد ي.
الجده : اعرف لماذا تخاف التراب .. انه يذكرك بالموت
الجد : مثلي لايعرف الخوف ولا الموت ,ولايخافة
الجده لاتخاف .. هذا لانك عزرائيل بشحمه ودمه
الجد : هذا لاني رجل حرب ....
الجده : سابق ..سابق...
أحداث المسرحية
تجري الأحداث في إثني عشر مشهد إلتباس وهي ما قبل وأثناء الإلتباس وما بعد الإلتباس وقد يذكّرني هذا بما قبل الحداثة والحداثة وما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة.. لست أدري لماذا ولكني أجدها ضرورية عندما ترتبط الأحداث بالعصر الذي نعيش وبالتهاب الوقائع في كامل المحيط الإنساني على الكرة الأرضية ..
يحرّك الأحداث جدّ متقدّم في السّن محارب سابق متمرّس في شؤون الحروب فيما بين اقتتال وسجال وانهزام وغدر وخديعة وخيانة .. ذاك كل ما عرف الجد
ومعه الجدّة التي لا تنفك عن محاسبة زوجها على كل أخطائه السابقة التي أوصلتهم إلى حياة تعيسة كئيبة وإلى ضيق لا يجدون كيفية الخروج منه ..
ومعهما الحفيد الذي لا يعرف إسمه حسب ما هو معروف لدى الشخوص الطبيعيين الذين يتميزون بمرجعية هويتهم وانتمائهم وهذا حسب رأي الجد تحسبا إلى أي مكروه قد يصيبهم لو تعرف على هويتهم الأعداء والمتربصون بهم وهم في كل الأرجاء .. وسمي باللقلق نسبة إلى ذلك الطّائر المنتمي إلى القواطع المهاجرة وهو طويل الساقين والعنق والمنقار المتميزين باللون الأحمر وهو يأكل الحيات والحشرات ويوصف بالفطنة والذكاء .. كما أنه في المنام له عدّة رموز من أهمها رمز الرجل الحسيب النسيب الزاهد غير مؤذ متفكر في عواقب الأمور .. وهو رمز أيضا لشر ما قد يحل بالإنسان ..
( ويبقى هذا تفسيرَ أحلام طبعا )
يعيش الثلاثة في بيت قديم يوحي بسجن كئيب الصفات وفيه يتطاحن الثلاثة بين تداعيات ماض ولّى وغاب بمآسيه وبين محاسبة آنية قد لا تجدي نفعا لإيجاد خلاص ما وبين تطلّعات مستقبلية آلت إلى حيرة وتيه وضياع ..
وأمّا خارج المحيط فيُسمعُ دويُّ الانفجارات وقعقعة المعارك المتواصلة ..ويُفهمُ أنّ حشود الجيوش المتناحرة مستمرة في الإعداد والاستعداد لخوض الحروب والاستمتاع بإسالة الدّماء ومزيد من الدّماء ومزيد من إغلاق الأبواب والنّوافذ على شخوصنا الثلاثة خوفا من أن تبتلعهم رحى المحيط الخارجي..
ويحتد التصادم العنيف في أغلب الأحيان وفي إيقاعات متصاعدة بين الحفيد والجدّ والجدّة .. تصادم يؤدّي إلى ثورة تزعق في دواخلهم وتدفعهم إلى المطالبة بفتح الأبواب والنّوافذ ومجابهة واقعهم الخارجي .. فهل يفعلون ؟ !
العرض ـ في سطور ـ
مشاهد تبدأ بالتباس (الموضوع المحوري) وتنتهي بالفاتحة (اليأس والاستسلام والنهاية والرحيل)
ـ فتح باب السجن
ـ أصوات ومؤثرات غريبة
ـ أضواء وإيحاءات
ـ الجدّ : يتحدّث عن الخراب والسراب وتراب في كل مكان
ـ غبار مخنق حتى وقت الصّلاة
ـ لا أعرف وقتا للسّلم.. الحرب دائما
ـ أدوس الجثث
الفاتحة ( على الدنيا السلام)
ـ الأحلام والكوابيس
ـ الأحلام زجاج مكسور ..
ـ البيت والمقبرة .. المصالحة مع الموت والموتى
ـ سترث أحلام جدّك وبعدها تفهم ..
ـ رأيت الحرّية داخل السّجن لا خارجه
ـ الفهم وسوء الفهم والشك والحيرة .. هل أنا حي أم ميت ؟
ـ الفاتحة ـ
ـ المغوار ـ الهيبة ـ رجل حرب ـ عملاق .. عبارات ممجوجة ..
ـ الضحايا والأمهات الثكالى مقابل الأبطال والمجاهدين
ـ الألعاب الجميلة أمام أحزان الأمهات..
ـ الغدر والخيانة والشهيد الذبيح (العم أحمد)
ـ الاحتفال الهستيري بالحروب المتواصلة
ـ الفاتحة ـ
ـ تفكير تكفير تفجير... ( افهموا ما شئتم)
ـ الجد يقول جندي سابق والجدة تقول رجل سابق
ـ بدأ الالتباس عند اللقلق
ـ الفاتحة ـ
ـ سقوط المدن بسرعة .. الخيانات
ـ تسليم المدن بغدر وعدم اكتراث
ـ الاهتمام بعبثيات الحياة (مثال التدخين) وإهمال أمهات الواجبات (مصير الشعوب )
ـ مشهد الشّم:
ـ الحيرة والارتباك والالتباس وروائح الحرب
ـ لماذا الحرب ؟ ليقتل الناس بعضَهم
ـ إمّا يقتلك أعداؤك أو تعيش جثّة على قيد الحياة
ـ وصف الحرب ونقلٌ لحشود الجيوش وأجواء الدّماء
ـ كل المحيط الداخلي والخارجي أصبح التباسا بما في ذلك الذّاكرة والوعي والهوية
ـ البحر هنا وهناك والموت هنا وهناك والكل يغرق واللقلق متعدّد والأسماك والحيتان أكلت كلّ شئ حتى الأسماء
ـ الفاتحة ـ
ـ نصائح الجد:
ـ الوصولية والتكتيك والمؤهلات تحتاج إلى غباء الآخرين
ـ السهل الممتنع
ـ ذكاء اللغة والإقناع وبيع قوت الآخرين
ـ الموازاة بين السلطة والمعارضة
ـ جمع الغنائم
ـ معرفة كيفية الهروب
ـ الحروب المستقبلية:
ـحروب ناعمة ورقيقة ـ بكبسة زر يولد ألف قابيل ويموت ألف هابيل ـ
ـ الفاتحة ـ
ـ الإعتراف:
ـ المقتول الذي ذبحه الجد لأنه كان في مقدمة القتال
ـ تكبير
ـ المطالبة بفتح الأبواب والنّوافذ..
خلاصة
ـ "رائحة حرب" عمل فني متميّز من خلال رؤية إخراجية واعية
ـ لوحات فنّية جميلة تثبّت المشاهد بإحكام وتدير التعابير بدراية ، فيصل المعنى بسلاسة وإقناع ..
ـ عمل يمتاز بالرّقي من خلال نص جريئ في الطرح وجاد في التناول ورؤى فنّية متماسكة ومتجدّدة
ـ بناء تمثيلي متعمق في الحرفية ومتبنّي للرسالة الإبداعية الواعية بكامل المشروع الفنّي والفكري .. ( ما أجمل الممثل الذي يفقه ما يؤدّي)
ـ لغات تعبيرية متناغمة في العرض وكلّ لغة تجسّد قيمة فنّية عالية في إسناد العرض وإبراز مفاهيمه العميقة ودلالاته الفكرية التي تحاكي هذا العصر الإنساني المتشابك في العناد والجبروت والصّراع والدّمار وصنع الموت ..
رأي ختامي
مسرحية "رائحة حرب ّ
عرض أقلقني وأزعجني وأربكني وأثارني ولكنّه أسعدني بواقعيته الجريئة والتي تقول إنّ المسرحَ هو الوحيد الكفيل القادر على إدانة عصرنا الرّديء هذا..
شكرا وسلاما ÷
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المنجي بن إبراهيم
مسرحي
تونس ـ جانفي 2018
0 التعليقات:
إرسال تعليق