«طائر الشباب الجميل» لويليامز: الزمن... ذلك العدوّ العنيد
مجلة الفنون المسرحية
«طائر الشباب الجميل» لويليامز: الزمن... ذلك العدوّ العنيد
ابراهيم العريس - الحياة
في أوائل العام 1959، كان الكاتب المسرحي الأميركي تنيسي ويليامز قد أنجز كتابة مسرحية في فصل واحد بدا فيها وكأنه ينعى مفهوم الشباب نفسه ويتحدث عن الزمن الذي يحمل الينا الشيخوخة بشكل حتمي. وإذا كان ويليامز قد عاد في العام نفسه الى نفس الموضوع من خلال تطويل للمسرحية نفسها وتبديله في عنوانها، فإنه احتفظ بما هو أساسي فيها من ناحية الشخصيات وهيكلة الموضوع والحبكة، ليخلق واحدة من آخر مسرحياته الكبرى، «طائر الشباب الجميل»، على أنقاض تلك ذات الفصل الواحد التي كانت تحمل عنواناً أكثر مباشرة هو «العدو؛ الزمن». وإذا كان ويليامز قد واصل مسيرته الكتابية لسنوات بعد «طائر الشباب الجميل»، كان من الواضح أن عصره الذهبي كان قد أضحى وراءه بالنسبة الى إنتاجه المسرحي وأن ما كتبه في سنواته الأخيرة، كان يتراوح بين أعمال كوميدية تكاد تفتقر الى الموضوع الحقيقي - كما حال «مرحلة التعديل» - وأعمال - مثل «ليلة الإيغوانا» - مكتوبة بذهنية أن تتحول الى أعمال سينمائية مستعيدة جوهر الأفكار المسرحية التي كان الكاتب قد عبّر عنها في العديد من نصوصه السابقة، من «الحيوانات الزجاجية» الى «قطة على سطح ساخن» مروراً بـ «أورفيوس يهبط» أو «فجأة في الصيف الفائت» بخاصة «صيف ودخان» وبالتأكيد «عربة اسمها رغبة» وغيرها من مسرحيات صنعت الخشبة الأميركية أواسط القرن العشرين ناهيك بتأثيرها في السينما الاجتماعية في هوليوود حين كان يؤفلمها مبدعون من طينة إيليا كازان أو ريتشارد بروكس أو جون هستون.
> والحقيقة أن ما كان تنيسي ويليامز يحاول أن يقوله في «طائر الشباب الجميل» التي اعتبرت أشبه بوصية له، إنما هو غروب ذلك الشباب وانقضاء المرحلة الأجمل والأعذب من الحياة. كان من الواضح أن ثمة هنا، وأكثر مما في أي وقت آخر، قسطاً كبيراً من الذاتية في هذه المسرحية... وبالتالي لم يكن غريباً أن تدور أحداثها من حول الحياة السينمائية بشكل أو بآخر، لتبدو ولو من طرف خفي، نوعاً من الرد أو حتى التجاوب مع «صانست بوليفار» ذلك الفيلم الكبير الذي كان بيلي وايلدر قد حققه عن غروب عصر النجوم في هوليوود المكتهلة. ولسوف نرى بعد سطور، على أي حال، كيف ان ويليامز عكس الآية هنا، إذ جعل القناع والتبرج ضمانتين لبقاء عصر النجوم، معتبراً أن الواقع قد يكون هو من يشيخ أو يكتهل، بينما القناع يمكنه أن يبقى على حاله. فهل نحن هنا، في إزاء أطروحة إضافية يمكن دمجها في لعبة الصورة والحقيقة، الوجه والقناع؟ ليس هذا مؤكداً حتى وإن كان في تفسير النص الويليامزي ما يغري بذلك البعد. مهما يكن نعرف أن ويليامز دائماً ما كان يطلب من جمهوره ونقاده ألا يبالغوا في التفسير لأن ذلك قد يفقد الإبداع جزءاً كبيراً من ملذاته!
> تدور المسرحية أساساً من حول الشاب تشانس واين ابن بلدة سان كلو الصغيرة الواقعة في فلوريدا والذي يعود اليوم الى بلدته وقد أحس بأنه أخفق في تحقيق أحلام الثراء والشهرة التي كان قد غادر البلدة قبل سنوات وهو يحلم بتحقيقها. وتشانس هذا يكتشف اليوم أمام خيبته، أنه قد بالغ في الاعتماد على جماله ووسامته في مساعيه ومن هنا لم ينل طائلاً. كل ما في الأمر أنه من بين النساء الكثيرات اللواتي عرفهن وارتبط بهن محاولاً الوصول من خلالهن تبقت له تلك المكتهلة التي نعود معه الآن رغم تبرّمه بها. فالسيدة التي تقدم نفسها اليوم تحت اسم برنسيسا كوزمونوبوليس كانت ذات يوم نجمة كبيرة من سيدات هوليوود لكن تجربة أخيرة لها حاولت من خلالها العودة الى مجدها الغابر، أخفقت مخلفة لديها الألم والحسرة، ناهيك بالرغبة في الانزواء هنا في ذلك المكان القصيّ من العالم في انتظار النهاية. ونحن إذ نجدنا أمام شيء من الالتباس في علاقة تشانس بالبرنسيسا، سوف نتابع الآن محاولات ذلك الشاب وهو يسعى في البلدة الى العودة للارتباط بحبيبة صباه التي تخلى عنها ذات يوم حين ارتحل ليجرب حظه في هذا العالم. بيد أن الصبية الحسناء هافنلي فينلي ابنة السياسي المحلي بوس فينلي تبدو غير مهتمة به وقد أدركت بعد فترة الانتظار الطويلة أنه ما عاد اليها لأنه يحبها بل لأنه يرى في الارتباط بها من جديد فرصة سانحة للعودة الى أحلامه وتطلعاته، وهذه المرة من خلال النفوذ الذي يتمتع به الأب. ومن هنا، ترفض هافنلي كل طروحات تشانس وإغواءاته، فيما يقوم أبوها بمحاولة طرد الشاب من البلدة. وهو مسعى تشاركه فيه البرنسيسا التي ترى أن مصير تشانس إنما بات مرتبطاً بمصيرها وعليهما أن يرحلا معاً بعدما رفضته البلدة، وبعدما أخفقت هي في العثور على العزاء وراحة البال هنا. لكن تشانس يرفض رغم إلحاح البرنسيسا ورغم تهديدات رجال بوس الذين يلحون عليه بشكل يبدو معه وكأنه مطرود. أما تشانس فإنه يرفض مغادرة البلد حتى، أيضاً حين يعلم أن مرضاً تناسلياً نقله قبل سنوات الى هافنلي قد تسبب لها في عملية جراحية تمنعها الآن من الإنجاب وربما تكمن في خلفية إصرارها على عدم العودة إليه.
> هنا تحدث القلبة المسرحية ذات النمط الذي يحلو لتنيسي ويليامز عادة وضعه قبل ختام مسرحياته محدثاً فيها تبديلاً جذرياً ليمتحن قدرة شخصياته على التعاطي مع ذلك الأمر المستجد والخالق للقلبة المفاجئة. فالواقع أن اتصالاً هاتفياً يصل الى تشانس يخبره بشكل غير متوقع أن الفيلم الأخير الذي قامت البرنسيسا ببطولته، لم يخفق على الإطلاق بل حقق نجاحاً ساحقاً أعاد لتلك النجمة الغاربة شعبيتها وعاد المنتجون للتدفق عليها كي تواصل العمل في أفلام جديدة. هنا من جديد، لا تتخلى تلك النجمة عن تشانس، بل تلح عليه أكثر وأكثر على المغادرة معها إذ صار اليوم أقرب الى تحقيق أحلامه بمساعدتها وقد استعادت اسمها كنجمة، ألكساندرا دي لاغو، بعدما بقيت متخفية طويلاً تحت الاسم المستعار خوفاً مما كان يخيّل اليها أنه أكبر فشل في مسارها المهني. لكن تشانس يواصل رفضه المغادرة. فلا تجد ألكساندرا مهرباً من مبارحة البلدة وحدها الى حيث تنتظرها حظوظها الجديدة. أما تشانس فإنه يبقى... ولكن في انتظار رجال بوس الذين يستعدون لخصيه من ناحية عقاباً له لرفضه أوامر بوس بالرحيل، ولكن من ناحية ثانية انتقاماً لهافنلي التي كان هو من تسبب ماضياً في حرمانها من حياتها الطبيعية!
> واضح هنا أن تنيسي ويليامز، في هذه المسرحية القاسية وذات الشخصيات السلبية في نهاية الأمر، يلحّ من جديد على فكرة الزمن التي كانت تهيمن على مسرحياته السابقة بعدد من الأشكال المتنوعة. بيد ان أبرز ما كان يحاول قوله هنا هو كم أن الزمن يعمل على تحطيم كل ما هو جميل في حياتنا. فما هو الحل؟ من المؤكد أن النهاية، المتفائلة بالنسبة الى البرنسيسا/ ألكساندرا على الأقل، هي ما يقترح علينا الحل. الوسيلة التي يمكننا بها مقارعة ذلك العدو الذي يبقى من أخطر الأعداء: الزمن. إنه الفن. الفن الذي يقول المثل اللاتيني إنه يبقى طويلاً بعدما تنتهي الحياة القصيرة: «آرس لونغا فيتا بريفي». الفن ينقذنا لأنه الوحيد بين مكونات وجودنا ومتكونات هذا الوجود، من يمكنه أن يبقى قائماً خارج الزمن. الفن هنا هو الذي يمكن تلك النجمة السينمائية التي تكتهل بسرعة تحت وطأة العيش نفسه، من أن تعود الى الشاشة (الفن)، لتحقق تواصلاً في نجاحها يضمن لها ما يسميه الباحثون: الخلود الفني. فبما أن ألكساندرا هي هنا الفنانة الوحيدة الحقيقية، نجد أنها الوحيدة من بين شخصيات المسرحية التي سيكون لها غد ونهاية «سعيدة» ولو من خلال قناع الشخصيات التي تؤديها وبهرجها. وحسبنا هنا، عند هذه النهاية التي تبدو للبعض تبسيطية الى حد ما، أن نقارن بين مصير النجمة الهوليوودية، العائدة مظفرة الى الشاشة، ومصير الفتى تشانس الذي كان يحاول ان يجعل من عودته الى بلدته قمة انتصاره فأخفق، يكفي أن نقارن بين المصيرين لندرك مدى أهمية الدور الذي يسبغه تنيسي ويليامز (1911 - 1983) على الفن كوسيلة أخيرة للخلاص من ذلك العدو الذي يحدده بكل وضوح في فصول المسرحية الثلاثة: الزمن ولا شيء غيره.
0 التعليقات:
إرسال تعليق