الحكايةُ الشَّعبيةُ.. تراثٌ مَنسِيّ !موروثٌ ثَقافيّ يعانِي التَّهميش ومُهدّدٌ بالزَّوالِ
الحكايةُ الشَّعبيةُ.. تراثٌ مَنسِيّ ! موروثٌ ثَقافيّ يعانِي التَّهميش ومُهدّدٌ بالزَّوالِ
صارة بوعياد
تزخر الجزائر كغيرها من البلدان بموروث ثقافي شعبي كبير، على غرار الحكايات الشعبية المتعددة والمتنوعة بتنوع تضاريس ومناطق الجزائر، نجد معظمها ذات أبعاد إنسانية عميقة. لكن، ومع ظهور عصر الرقمنة وتطور التكنولوجيا وبروز مواقع التواصل الاجتماعي، التي سيطرت على حياة الإنسان في الوقت الحالي، بات هذا التراث مهددا بالزوال، باعتباره أساسا موروثا ثقافيا شفهيا، لم يجد من ينقله للأجيال، ولا من يدونه في كتب أو مجلدات، بينما لم تسخر الوزارة الوصّية أي جهد للحفاظ عليه من النسيان، ما عدا جهود محتشمة لبعض الأكاديميين والرّاويين للحفاظ عليه التي تبقى غير كافية.
تنتمي الثقافة الشعبية الجزائرية لبيئة متنوعة تنوع ثقافة الجزائر، فنجدها تختلف من منطقة إلى أخرى، وبالتالي الجزائر تمثل قارة ثقافيا، حيث يتميز التراث الشعبي الجزائري، سواء كان حكاية أو شعرا بخصوصيات اجتماعية وثقافية متميزة، ذات أبعاد إنسانية عميقة، والحكايات الشعبية منها ما هو خاص بمنطقة من مناطق الوطن، ومنها ما هو تراث مشترك.
ولكن اليوم، وللأسف، الحكاية الشعبية يطالها التهميش ويبقى الرّاوي أو القوال أو المدّاح في الثقافة الجزائرية يعاني هو الآخر من تهميش وزارة الثقافة والفنون التي لم تفتح له فضاءات ومساحات للإبداع، ليترك بصمة الحكاية التي تعد كموروث ثقافي، ويحافظ عليها وعلى استمرارها بكونها تمثل ذاكرة الشعوب. وعليه، من الضروري استمرار الحكاية من جيل إلى آخر، خاصة وميزتها الشفهية والارتجال، حيث تحتاج إلى إمكانيات وإستراتيجية محكمة تدعوا إلى تدوينها كتراث معنوي في الأدب الشعبي الجزائري.
ويبقى الصراع حاضرا عند الرّاوي الذي يحاول جاهدا بكل ما أوتي من إمكانيات للحفاظ عليها ورسم حظوظ لها في الخارج للتعريف بها عند الأخر، وهنّا يلعب الرّاوي دور السفير الجزائري ثقافيا وفنيا وحتى سياحيا، ومن منا لا يستحضر حكّاية قصّتها عليه أمّه أو جدّته، وهم يتوسطون كانون النّار ليلا، وفي سمّرة القمر يأتي حنين الماضي ودفئ ذلك الزمن الذي ذهب مع ناسه البسطاء، فانطفئ الكانون وصمت الجميع أمام شاشة التلفزيون أو أمام الهاتف المحمول.
الرّاوي ماحي صديق:
“الاهتمام بالحكاية الشّعبية منعدم لدى الوزارة الوصّية”
ماحي صديق رّاوي الحكّاية الشّعبية من الرّاوين المحترفين في الجزائر، تعدت تجربته في هذا الفن 40 سنة، قضاها في سرد الموروث الثقافي الشفهي سعيا منه للحفاظ عليه ونقله لجيل آخر عبر تدوينه لأول كتاب نشر على عاتقه الخاص “مولى مولى وحكايات أخرى” بدون الفاتة من الوزارة الوصّية، حيث أوضح لـ “أخبار الوطن”: “إن المصطلحات تختلف من بلد إلى آخر ففي الشرق الأوسط يقال له الحكواتي، وفي المغرب “الحلاقجي”، وفي تونس “الغدوي”، أما في الجزائر فيقال له “القوال والمداح” وأيضا “الرّاوي”.
وأكد أن رؤية وزارة الثقافة والفنون بخصوص جماليات هذا التراث الشعبي المتوارث ونقله من جيل إلى أخر لا تزال غير واضحة، وهو الفن الذي ورثه من والدته التي يعتبرها ماحي من أكبر وأهم الراويين في بلدته، على عكس الغرب الذين يقدرون الحكاية ويتخذون من الأساطير خطوة لكتابة التاريخ، “ونحن بتاريخنا وثقافتنا ومكنون ذاكرتنا في التراث الشعبي تغيب عنا الرؤية للنهوض والتقييم هذا الفن والحاملين له من رّواة يتعدون على الأصابع ويعانون الكثير من العراقيل”.
وأضاف ماحي: “تعتبر الحكاية ذاكرة الماضي القادم من عمق موروثا، لكن الاهتمام بها منعدم من قبل الوزارة الوصية، لكن رغم ذلك شخصيا أشتغل ولا أنتظر الدعم لأنني العاشق لهذه الحكايات وما تحمله من تراث شفهي، وما تحمله من معاني، فالحكاية ليست تهريج أو بهرجة هي فن قائم بذاته، فالجزائر كانت الأولى في شمال إفريقيا من أقدمت على طلب من اليونيسكو لحماية التراث المادي واللامادي، لكن أين نحن من ذلك؟.
وأبرز المتحدث أن “الإرادة غير موجودة لدى مؤسسات الدولة، والرّاوي لا يحتاج الدعم من قبلها سوى أن يبرمج عبر الولايات لنقل هذا الموروث الذي يسعى من خلاله إلى أن يعيد الخيط المقطوع بين الماضي ليتذكر الجمهور المستمع حكايات أمه أو جدته. وهنا يحكي لنا عن تجربة حكاية “مولى مولى” وما تحمله من الأشياء التي تثلج الصدر، فهي الحكاية التي قدمت فيها مواطنة فرنسية إلى تمنراست لمشاهدة الطائر “مولى مولى”، “واتصلت بي تعلن أنها قدمت إلى الجزائر خصيصا لمشاهدة هذا الطائر بعد سماع حكاية سردتها في فرنسا خلال جولة هناك. وليس هذا فقط فهناك فنانة من جنيف رسمت 5 لوحات فقط استلهمتها من حكاية “الطوير لمنقارو اخضر” والتي ترجمت إلى الإسبانية.
الرّواية نعيمة محايلية:
“الحكّاية الشّعبية تعاني التهميش في الجزائر”
قالت الرّاوية للحكاية الشعبية نعيمة محايلية لـ “أخبار الوطن”: “تعدّ الحكّاية الشّعبية بأنواعها شكلا من أشكال التعبير الشفوي ومصدرا من أهمّ مصادر التراث العالمي، لما تتضمنه من معطيات اجتماعية وتاريخية، تربوية ونفسية، وما تحمله من قيم أخلاقية، وتعليمية، استعملها الإنسان منذ القديم لتوعية المجتمع والتخفيف من آلامه المرتبطة بالضغوط الاجتماعية والنفسية. والاهتمام بها اليوم هو من أهّم انشغالات الدّارسين للتراث الشعبي العالمي، حرصا منهم على عدم ضياعها أو تهميشها، والعمل على إعادة إنتاجها لأهميتها وأهمية الأدوار المختلفة التي تؤدّيها، وهي – على سبيل الذكر لا الحصر- الدور التعليمي وما يحمله من أدوات ووسائل في تنمية خيال الطفل، والدور التربوي والأخلاقي وكذلك اللغوي. والأهم من ذلك دورها في توثيق ما لم توثقه كتب التاريخ وعلم الاجتماع من عادات وممارسات شعبية، فهي بذلك تعدّ وثيقة مهمة لمعرفة صفات الشعوب”.
وأكدت تقول: “إن الحكاية عانت الكثير من التهميش منذ فترة من الزمن، حيث سيطرت عليها التكنولوجيا تدريجيا، ومن هذا التهميش ظهر الحكواتي الذي أراد أن يعيد الحكاية إلى ما كانت عليه عن طريق تجوله ونقله للحكاية الأجداد، حيث نجد أن الجزائر وبما تزخر به من ثروات ثقافية يشهد لها الجميع على بأنها قارة ثقافيا لتنوعها الثقافي الأمازيغي. كان ينظم بين سنوات 2009 و2014 مهرجان سنوي “القراءة في احتفال”، التي ظهر مشاركة الرّاوي لأول مرة في الجزائر وآخر مرة، بعدها لا دعم ولا تشجيع من قبل الوزارة الوصّية، ورغم ذلك قررت أن أشرع في تدوين ونشر قصص التي حصدتها من التراث الشعبي الأمازيغي لكي تبقى للجيل القادم”.
وناشدت الحكواتية نعيمة وزارة الثقافة والفنون أن تعطي الحق للحكواتي الجزائري واسترجاع هذا الموروث الشعبي الشفوي، بقولها: “التراث الشفوي أو التاريخ الشفوي هو ذاكرة الناس، وهذه الذاكرة إن لم تجد مستمع ومستمعين تبقى سجينة بالذاكرة وتموت مع موت صاحبها، ولا نخفي أن الحكواتي يعاني الكثير في الجزائر”.
الناقد والباحث في الثقافة الشعبية عبد الحميد بورايو لـ “أخبار الوطن”:
“الحكاية الشّعبية تراث غير مُدرج في المجالات البحثية الأكاديميّة”
قال الناقد والباحث في الثّقافة الشّعبية عبد الحميد بورايو لـ “أخبار الوطن”: “إن الحكّاية الشّعبية وما تحمله من موروث ثقافي شفهي تعاني تهميش المؤسسة الجامعية وفي الوسط النخبويّ الجامعي، وما زالت غير مُدرجة في المجالات البحثية الأكاديميّة.
حوار: صارة بوعياد
كيف تجد واقع الحكّاية الشّعبية في الجزائر؟
كانت الحكّاية الشّعبية في المجتمع التقليدي الجزائري زادا ثقافيّا له مكانته الأساسيّة في الممارسات الثقافية الشفاهيّة في الحياة اليومية. له مناسباته المتعدّدة، فهو وسيلة تواصل لا تخلو منها أية مناسبة تجمع بين شخصين فأكثر. تُروى في البيوت ليلا للأطفال من طرف الجدات والأمهات والأخوات (الحكاية الخرافية)، باعتبارها أداة للتنشئة الاجتماعية ومساعدة بسيكولوجية لاجتياز مرحلتي الطفولة والمراهقة ووسيلة لتنمية الخيال ونقل المنظومة الأخلاقية. تكون أداة للتندّر والسمر في جلسات الفتيان والشباب والبالغين في كل مناسبة اجتماعية.
يمكنها أن تكون موضوعا بين اثنين مترافقين في طريقهما أو سفرهما، كما يمكن أيضا أن تكون أسلوبا لاحتواء ما يجري في المحيط الاجتماعي من أحداث، عن طريق الروايات المحلية المتعلقة بحياة السكان وما يجري فيها من تطورات. إلى جانب ذلك تُعَدُّ هي الوسيلة لتسجيل التاريخ المحلّي من وجهة نظر الناس العاديّين، كما أنّ مدوّناتها ظلت حاضرة بين أوساط المتعلّمين والمتمثلة في كتاب “ألف ليلة وليلة” و”المغازي الإسلامية” وبعض الملاحم إلخ.. كان يرويها الإنسان العادي المتمكن من أساليبها الشفوية، كما يرويها الراوي شبه المحترف الذي يتجمع حوله أفراد الأسرة أو سكان الحيّ والمعارف والأصدقاء، ويحظى بالتقدير ويُنادى عليه في كل مناسبة يكون فيها شوق إلى الإبحار في عالم الخيال.
ما الذي أبعد الجزائري عن الحكاية الشّعبية؟
منذ أن انتشر التمدرس وظهرت وسائل التثقيف والترفيه الحديثة والمتحكّم فيها من طرف السلطة المركزية مثل الإذاعة والتلفزيون وقاعات السينما والمسارح والمهرجانات والاحتفالات الرسمية، بعد منتصف القرن العشرين، وبصفة متدرّجة بدأ يتقلّص مجال ممارسة الحكي الشعبي وينحصر في مساحات ضيقة، ويلقى منافسة ضارية من لدن هذه الوسائل. حاولت بعض هذه الوسائل أن تستثمر في الرأسمال الثقافي السردي، فقدمت برامج ثقافية وترفيهية نقلت بعض ما كان متداولا من حكايات وقصص عن طريق الرواية الشفهية أو التمثيل الإذاعي والمسرحي.
غير أنها لم تتمكن من استيعاب هذا التراث وتعويض فاعليته، نظرا إلى خضوعها لإيديولوجيا مركزية انتقائية ونخبوية ذات توجّه محافظ ومدرسيّ، كان الفاعلون فيها أناسا متوسطي التعليم ذوي توجه إصلاحي ديني، لا يعترفون بقيمة الثقافة الشعبية وتشرئبّ أعناقُهم نحو الشرق والغرب ولا يلتفتون كثيرا لخصوصية المجتمع الجزائري وللثقافة الوطنية بمكوناتها المتنوعة وبثرائها وبما حقّقته من تراكمات في ممارسات ثقافية عديدة، وقد تولّد عن ذلك التقليص التدريجي لممارسات الحكي الشفوي التقليدي، فاختفت رواية الحكايات الشعبية من البيوت ومن الأسواق ومن الأماكن العامة ليحل محلها التعليم والتثقيف الرسمي المؤسساتي الذي نمّط العملية التربوية والتثقيفية والترفيهيّة وحصرها في قوالب جاهزة، فقيرة وعاجزة عن تلبية احتياجات المجتمع.
وما السبيل إلى الحفاظ عليها بصفتها موروث ثقافي شفهي؟
ظهرت عن طريق الوسائط الرقمية محاولات لبثّ الحكاية عن طريق الفيديوهات، كما ظهر نوع من احتراف رواية الحكاية من طرف أشخاص متعلّمين هواة لطرق الحكي التقليديّة من أمثال ماحي الصديق (سيدي بلعباس)، ونعيمة محايلية (الجزائر العاصمة) وغيرهما. مثل هذه الممارسات منبثقة من صلب التراث، تسعى جاهدة للتلاؤم مع روح العصر وتلبية احتياجات ثقافية وطنية من خلال اليوتوب والإذاعة والعروض والمهرجانات. لكنها تظل في حاجة ماسّة إلى المعرفة الواسعة والعلمية بالتراث السردي الجزائري، وأن يتعمق أصحابها في معرفة احتياجات المواطن الجزائري الثقافية الحالية، وتحقيق تطلعه نحو الاندماج في العالم المعاصر والثقافة العالمية انطلاقا من التراث المحلّي والقيم الجوهرية ذات الطبيعة الإنسانية المبثوثة في هذا التراث.
للمجتمع المدني دور كبير في تأطير مثل هذه الممارسات عن طريق عناية الجمعيات الثقافية الخاصة بهذا المجال، إلى جانب ضرورة التفات المؤسسات الثقافية الوطنية مثل الإذاعة والتلفزيون والصحف والمسرح ودور الثقافة والمراكز الثقافية إلى أهمية مثل هذه النشاطات وتقديمها وعرضها ونقدها وتأطيرها.
وأين وصل البحث الأكاديمي للمساهمة في الحفاظ على هذا التراث؟
للبحث الأكاديمي دور كبير، أولا: في دراسة التراث السردي ومن حمله وروجه من الرواة، وبالخصوص المحترفين والمعروفين في محيطهم الاجتماعي، فيكشف عن طبيعته وأصوله ودوره في تاريخ الثقافة الوطنية. ثانيا: في الوقت نفسه عليه أن يتابع الممارسات المعاصرة للتحوّلات التي حدثت في ممارسة الحكي باعتباره نشاطا احترافيّا لابدّ من أن تكون له أهميته ودوره في المجتمع الجزائري اليوم، وفق الشروط الجديدة المفروضة على المجتمع وتبعا لتطور وسائط التواصل.
لقد قام بالدور الأول جزئيا من خلال البحوث والكتب التي تناولت ظاهرة الحكي في التراث الجزائري ومازال يفعل ذلك، رغم ما يمكن أن يُلاحظ من تهميش له في المؤسسة الجامعية وفي الوسط النخبويّ الجامعي. وقد قام كذلك بدراسة بعض الأعمال الإبداعية الحديثة التي وظفت هذا التراث. غير أن الدور الثاني المذكور أعلاه لم يُشرع بعد في العناية به، وما زال غير مُدرج في المجالات البحثية الأكاديميّة.
-------------------------------------
المصدر : اخبار الوطن
0 التعليقات:
إرسال تعليق