أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الجمعة، 1 أكتوبر 2021

طائر أنطوان تشيخوف وبندقيته بين الهنا والهناك / كريم رشيد

مجلة الفنون المسرحية 
طائر أنطوان تشيخوف وبندقيته بين الهنا والهناك 

غمرني شعور غريب لا يخلو من نشوة وسعادة وأنا أشاهد قبل أيام عرض الأفتتاح لمسرحية طائر البحر  يوم 18 من شهر سبتمبر2021  وأرقب رشاقة أداء االممثل الشاب ( الكسندر جوبيل  Alexander Jubell )  وهو يتألق في تجسيد شخصية تربيليوف وهو الدور نفسه الذي مثلته أنا عندما كنت شابا ، في المسرحية التي أخرجها المخرج العراقي المبتكر د. صلاح القصب وكانت واحدة من تجاربه الرائدة بأسلوبه الفني  المعروف بمسرح الصورة . طاف أمامي تيار من الصور رأيت فيه أصحابي أقبال نعيم ، ثورة يوسف ، خالد علي ، فارس دانيال ، ناصر طه والناقد المسرحي عواد علي الذي كان يرافق تلك التجربة عن قرب والفنان د.نجم عبد حيدر مصمم الديكور والأستاذة أمتثال الطائي مصممة الملابس ، وآخرون . ولهذا وددت ان أشارككم هنا هذا التجوال بين العرضين. 
كانت البداية هادئة كما هو معتاد في عروض المسرح السويدي ، جلس الممثلون أمام الستارة المغلقة في مواجهة مباشرة مع الجمهور الذي ملأ أحدى صالات مسرحنا البلدي في مالمو والتي تحمل أسم المسرح الحميم (   Intiman)  . ثم قادتنا تلك البداية الهادئة إلى مشهد من نمط ( مسرح داخل مسرح ) حيث نرى  نينا ، حبيبة كونستانتين تربيليوف ،  معلقة في فضاء المسرح محاطة بسحابة من الدخان فيما يمسك هو بالميكرفون ليخلق بفمه مؤثرات صوتية مرافقة للمشهد الذي أراد تقديمه لأمه الممثلة المحترفة أركادينا ولعائلته ليكشف فيه عن تطلعاته لنمط جديد من المسرح غير ما هو سائد ومألوف .
مائدة للعشاء الأخير .
 تُفتح الستارة الأمامية بعد ذلك لتجذبنا بقوة نحو فضاء جديد تظهر فيه ثلاث ثريات ضوئية معلقة فوق  طاولة طويلة وكراسي مختلفة وكأنها مائدة تم أعدادها على عجل لجلسة عائلية ودية لكنها بدلا عن ذلك تتحول إلى مائدة العشاء الاخير حيث البوح والمكاشفة المحتدمة أمام البحيرة التي هي صالة الجمهور ، فيما تنتصب ستارة بيضاء شفافة في الخلف لتحيط المكان كله وكانها أجنحة طائر النورس. 
في قسوة وعنف مفاجيء يدخل تربيليوف مخترقا ذلك الهدوء ممسكا بيده الطائر الذي أصابه ببندقيته ( وهنا نتذكر بالطبع الدرس التشيخوفي البليغ في الكتابة المسرحية والمعروف ببندقية تشخوف التي لا تُرى إلا في بداية المسرحية ثم يُسمع صداها في نهاية المسرحية ) ويلطخ وجه نينا بدمه وهو يردد :
 ساقتل نفسي بالطريقة ذاتها . وكأنه يريدها أن ترى عذابه الداخلي الذي لايراه احد.  مثله مثل هاملت يختطفه القلق والأحساس بالخذلان في مواجهة الطموح العالي الافق .
                                                                                       (Grotesque )
 وهنا تبدو ملامح غروتسكية واضحة لمشهد يريد أن يكشف عن العوالم النفسية المستترة لتربيليوف دون ان تبخل عبقرية تشيكوف على باقي الشخصيات بمساحة للكشف عن ذواتها بطريقة مكثفة لتكون معاناتهم موازية لمعاناة تربيليوف ، وهذا بعض ما يجعل من ذلك النص المسرحي  قطعة أدبية خالدة ومأساة كلاسيكية عميقة  رغم ان تشيكوف أراد لها أن تكون كوميديا .
في الفصل الأخير وبعد مرور سنتين من أحداث الفصل الأول يتحول احد أطراف الطاولة  إلى مكتب لتربيليوف وطرفها الآخر الى غرفة نوم وسرير للخال سورين  الذي بدى وكأنه يحتضر، لكن تلك الطاولة تظل تحمل ظلال وأثار المشاجرلت الحادة التي حفل بها الفصل الأول  لتذكرنا ان كل ما يحصل فيما بعد ما هو إلا تبعات لا فكاك منها لقصص محتدمة بعذابات العشق والعزلة والطموح المتقد والعلاقة المتأزمة بين تربيليوف وأمه الممثلة المسرحية المشهورة التي لم تقرأ ابدا شيئا من مما كتبه أبنها من نصوص . 
يلتقي تربيليوف بحبيبته نينا بعد سنتين ويكشف لها عن مقدار (( الحقد والكراهية )) التي أحس بهما بعد جفائها له ، حيث حرق صورها ورسائلها ، وهو بذلك لا يعبر في حقيقة الأمر إلا عن بؤسه وعزلته المتواصلة  التي تدفعه لاحقا لتمزيق كل ما كتبه من نصوص لينتحر شنقاً في عزلته فيما كان الآخرون منشغلين بلعب الورق .
 
الحب بوصفه طاقة حضور وغياب ! 
يقدم عرض المخرجة السويدية ايفا داهلمان (Eva Dahlamn) قطعة فنية رائعة عن فن العشق الذي يتحكم بحياتنا ويقودنا الى مصائر دراماتيكية ، عن العناد والفردية وسوء الفهم الذي يحطمنا ويحطم أحلامنا . تقول المخرجة  في كلمتها في دليل العرض ما معناه أن هذه المسرحية  تتحدث عن الحب بوصفه طاقة وأمكانية متاحة ولكنه أيضا غياب . فلطالما تغنى الأنسان بالحب عبر الشعر والغناء والموسيقى والرسوم وحاول أن يفهم ويشرح ويحلل معناه وفحواه . لكن لا البحوث ولا النماذج والأساليب السياسية والأجتماعية والدينية  ولا العلاجات الدوائية نجحت الى الآن بأن تفصح بوضوح عن ماهية طبيعته / مقتبس عن دليل العرض . 
ولهذا فقد صاغت العرض ليكون قطعة تشيخوفية عميقة الأنفعالات ومثيرة للتأمل ، وتضيف في كلمتها أنها تأمل أن العرض سيثير أحاسيس وأفكار المشاهد حول ماهية الحب فيغوص في تأملاته الفلسفية بعد أن يغادر المسرح وحيدا او برفقة من يُحب.

طائر القصب وبحيرة الأسرار . 
ذلك العرض السويدي الشفيف قادني الى أستذكار العرض الذي قدمناه في بغداد عام 1994 من أخراج المبدع المسرحي العراقي د.صلاح القصب حيث قدم فيه تنويعات جمالية للصورة البصرية تمحورت حول العوالم النفسية المعقدة لشخصية تربيليوف وأمه أركادينا والتي رأى القصب فيهما مستودعا معقدا من التركيبات النفسية جسدها في إنشطار كلا الشخصيتين ، ثم أحاطهما بمجموعة من الشخصيات التي بدت وكانها ظلال بنفسجية لهواجسهم وقلقهم ، وبذلك تبنى العرض وجهة نظر تربيليوف للعالم الخارجي ،  والتي تجسدت في أحالته حفرة المسرح الدائري الى بحيرة يرقد في باطنها كم كبير من لُقى متنوعة ، مغطاة بقماشة  شفافة زرقاء اللون ، بدت وكأنها سطح الماء الذي يغطي بحيرة اللاوعي تلك . وبذلك أستبدل العرض غرفة تربيليوف ومكتبه ببحيرة أو بالأصح جمع بين البحيرة بكل مدلولاتها في النص والعوالم النفسية للشخصية الرئيسية في المسرحية . ويبدو هذا تجسيدا حقيقيا لما يعبر عنه القصب نفسه بقوله في كتابه مسرح الصورة بين النظرية والتطبيق :  ((الصورة تستبدل شعر الحوار بشعر الفضاء وجمالياته ، وانها تعتمد على طقسية العرض المسرحي لهذا فان التشكيل الذي تعتمده وتوظفه هو سحر الطقوس والأساطير والميثولوجيا والرموز))
 فقد هيمنت البحيرة لا على التشكيل المكاني العام فحسب بل على خطوط الحركة فيه . ومن جانب آخر كانت  تكرارا أفقيا لدائرة أخرى أنتصبت عموديا في مركز الجدار الخلفي لحيز التمثيل وكانت مصنوعة من أطار حديدي دائري يتفرع الى خلايا تشبه شكل خلايا الدماغ البشري ( الديكور من تصميم الفنان نجم عبد حيدر ) .
 وبالرغم من ان الوحدة الفنية للمكان في هذا العرض كانت تميل الى كونها وحدة بسيطة غير معقدة ولا متناقضة بحكم هيمنة اللون الأزرق وخلو المكان من المفردات البنائية المتعددة التي تخلق التضاد في اللون والحجم والمادة والشكل ، وبالرغم من أحتكامه الى نظام توزيع المساحات التي يضمن تحقيق الوحدة الفنية وتحقيق سيادة العنصر المهيمن (البؤرة) على المكان ، وبرغم محافظة المكان في العرض على سكونه إلا انه لم يكف عن بث الأحساس بالحركة الداخلية الصاخبة الناتجة عن التناقض والتنافر الذي تعيشه الشخصيات . حافظت السياقات المكانية في هذا العرض على أستقرارها العام مما أنتج أيقاعا مكانيا ساكنا متوافقا مع أيقاع الأحداث طوال العرض ولغاية المشهد الأخير وهو مشهد انتحار (تربيليوف ) فترتقي المعالجة الأخراجية الى ذروتها ،  حيث دخلت جوقة ممثلين أضافها المخرج الى العرض لتمثل مجموعة من الرهبان والراهبات الملونة وجوههم وملابسهم وأياديهم  بلون واحد ليحملوا قطعة القماش الزرقاء التي كانت تغطي سطح حفرة المسرح الدائري من أطرافها ويسحبوها نحو المسطح الخشبي الذي يعلو البحيرة حيث كان  (تربيليوف) مستلقيا ، ويغطونه بها ، وكأنها قدرا عاتيا قاد الموت الى (تربيليوف) لا العكس . فاضت مستودعات اللاوعي ليموت فيها تربيليوف غرقا بدل ان ينتحر بأطلاق الرصاص على نفسه كما كان من المفترض أن يفعل حسب نص المسرحية . غرق منتحرا لا بألقاء نفسه في البحيرة بل بألقاء البحيرة فوقه . وما ان تغادرالبحيرة ، مكانها حتى تكشف  عن انها كانت مستودعا خفيا لعدد من المخلفات التي بدت علاقتها واضحة ب(تربيليوف) مثل الكتب ، آلة موسيقية معطلة ، صورة لشكسبير ، أوراق نص مسرحي ، قناع ، زجاجة مهشمة ، لوحة متهرئة للموناليزا ، حذاء قديم ، صور لمشاهد مسرحية ، كلها غاصت في خزانة اللاوعي التي نقفل أبوابها حتى تفيض فتغرقنا فيها.

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption