مجلة الفنون المسرحية
بناء الدور المسرحي والنصف الغائب من طريقة ستانسلافسكي !
عرض وتحليل : صالح سعد
" خلال بحثنا المستمر عن طريقة لمعالجه المسرحية والدور معالجه داخليه ، حدسية ، طبيعية ، مباشرة ، اهتدينا إلى وسيله جديدة غير متوقعه ، خارقة للعادة ! ..، إن طريقتي هذه تقوم على أساس الصلة الحميمة بين الروح والجسد ، وتستدعى مشاعر الدور بمساعدة خلق حياة جسمنا الإنساني الطبيعي (الفيزيولوجي) ..!" ستانسلافسكي
لا شك بأننا غير ملزمين بديهيا بالتعريف لشخصيه كوستانتين ستانسلافسكي ، شخصية المخرج العملاق الذي يقف أمامنا واحدا من أعمدة المسرح الغربي الحديث ، تلك الشخصية التي وضعت حجر الأساس تقريبا لوظيفة المخرج في المسرح باعتباره أستاذ ومعلم فن التمثيل أولا ، قبل اعتباره فقط صاحب الشكل أو الرؤيا المنظرية التي تهالك إليها فن الإخراج مؤخرا..
وسواء كنا على اتفاق مع منهج ستانسلافسكي أو كنا مختلفين معه ، فان الأمانة العلمية تقتضي ضرورة التعرض إليه عرضا أمينا غير مخل ، خاصة إذا علمنا أن ما قد وصلنا من تراث ستانسلافسكي العظيم ليس سوى شذرات لا تقاس بالنسبة إلى حجم ما خلفه من آثار وكتابات يكفى لبيان ضخامتها أن نعلم أن اللجنة الأكاديمية المشرفة على تراث ستانسلافسكي في الاتحاد السوفيتي قد عملت على نشرة كاملا في ثمانية مجلدات كبيرة.. غير أن هذه المادة الضخمة قد غابت في معظمها عن أيدي وعيون الباحثين والمسرحيين العرب، وبخاصة أولئك العارفين باللغة الروسية ممن انهوا دراساتهم العليا بمعاهد الفن السوفيتي وعادوا إلينا يحملون الدكتوراه خلال الأربعين سنة الماضية..!
* كوستانتين سيرجيفيتش ستانسلافسكي ( موسكو 5 أو 17 يناير 1863ـ 7 أغسطس 1938):
هو الممثل الروسي، والمخرج، والمعلم المسرحي، ومؤسس ومدير مسرح موسكو الفني، والحائز على لقب فنان الشعب (بالاتحاد السوفيتي) 1936، وهو مفكر عظيم ومنظَر مسرحي. وقد لا ترتبط الواقعية كاتجاه في الفن المسرحي بكاتب، أو مخرج، من رجال المسرح الحديث (مسرح القرن العشرين) مثلما ترتبط باسم ستانسلافسكي، وطريقته، أو منهجه في الواقعية السيكولوجية. فهو أكثر من حققوا عن جدارة صفة العالمية بصورة عملية، وليس مجرد لقب يضيفه إلى اسمه مواطنوه أو معجبوه افتخارا. والأمر الهام هنا هو أن ستانسلافسكي حاز مكانته تلك ليس بسبب عروضه التجريبية الرائعة، أو آرائه السياسية الساخنة، ولكن لأنه كان وبحق أول معلم تمثيل حقيقي، أي أول من امتلك طريقة أو منهجا في تدريب الممثل.
وقد كان ميلاد منهج ستانسلافسكي هو خطوة مهدت لها كافة خطوات التطور السابقة للمُثل الجمالية للواقعية الروسية خلال القرن التاسع عشر، فقد جاء إبداع المنهج تأسيسا على أفضل ما في التقاليد الفنية الروسية (تقاليد إبداع الفنانين الروس العظام: بوشكين، جوجول، شبكين، اوستروفسكي، ل. تولستوي..) إلا أنه يبدو أن التأثير الخاص على الصياغة الجمالية لنظرة ستانسلافسكي هو ما كان لكتابات تشيخوف وجوركي الدرامية. وهي الواقعية التي تختلف بالمرة عن الطبيعية التي كانت قد سادت المسرح الأوروبي حتى ذلك الوقت، والتي فرضت على الكل مناهضتها لما فيها من سطحية وشكلية فارغة.. وكما يشير ستانسلافسكي فهذه الواقعية التي يقدمها: " لم تعد هي واقعية البيئة، أو الصدق الخارجي السابق، بل واقعية الصدق الداخلي في حياة النفس الإنسانية، واقعية المعايشة الطبيعية التي تتماس بطبيعتها مع مشارف المذهب الطبيعي الروحي.."
في أولى مراحله الفنية كان ستانسلافسكي (ككل المبتدئين) يقلد لعب العديد من الممثلين الكبار، فقد لعب في صباه عشرات الأدوار الكوميدية الغنائية الراقصة في الفودفيلات، والأوبرتات التي كانت تقدمها حلقة الهواة التي كونتها عائلته.. وكان لهذا ميزة أته سرعان ما أدرك أن تقليد النماذج الأخرى مهما يكن فإنه يقود إلى الأكليشيهات، وأن البحث في الحياة والطبيعة هو ما يقود الفنان ـ عبر طريق واسع ـ إلى الفن الحقيقي المتسع..
وهكذا قرر ستانسلافسكي رفض الأسلوب الحماسي ـ الخطابي للتمثيل من أجل مدخل أكثر واقعية، يركز على القواعد النفسية لتطور الشخصية، وعلى هذا الأساس أقام منهجه/طريقته، من خلال عمله في مسرحه..مسرح الفن (1898) في موسكو. ولكن ما هي حقيقة هذا المنهاج، الذي أورثه ستانسلافسكي تلامذته في العالم أجمع، وليس في روسيا وحدها..؟
يتألف المنهج (الذي نشرته اللجنة العلمية المشرفة على تراث ستانسلافسكي في ثمان مجلدات باللغة الروسية) وفق الخطة التي وضعها ستانسلافسكي نفسه لمؤلفاته من مدخل وقسمين: المدخل: وهو كتاب (حياتي في الفن) حيث يعرض فيه منطلقاته الأساسية في الفن المسرحي، معتمدا على تجربته الذاتية..
القسم الأول: ويتألف من جزأين بعنوان (عمل الممثل مع نفسه) وهما:
1. إعداد الممثل في المعاناة الإبداعية [الداخلية]. 2. في المعايشة والتجسيد [الخارج].
القسم الثاني: وهو كتاب (عمل الممثل مع الدور) أو (إعداد الدور المسرحي)..
هذا عدا أبحاثه وكتاباته النقدية في الفن المسرحي، وفن الأوبرا، وأيضا رسائله.
وتختلف الطريقة، أو المنهج، عن غالبية الطرق المسرحية السابقة عليها في كونها لا تطمح إلى دراسة النتائج النهائية للإبداع ، ولكن إلى تفسير الدوافع المؤدية إلى هذه النتائج أو تلك.. فمن خلالها تحل مشكلة السيطرة الواعية على العملية الإبداعية اللا واعية وتتبع خطوات عملية التجسيد العضوي التي يجريها الممثل للشخصية.. والمهم أنها لم تكن مجرد نظرية صرف بمعزل عن التجربة الكلية الإبداعية والتعليمية لـ ستانسلافسكي نفسه ومسرحه، وقد سماها ستانسلافسكي "فن المعايشة".. ولا يعني هذا المصطلح، الذي عانى من التباسات كثيرة، أن يفقد الممثل نفسه في الشخصية، بل يعني ما أشرنا إليه من عملية ولادة، أو خلق الممثل " شخصية إنسانية جديدة، على أساس من صفاته الفردية الخالصة., أي أن يُخضع الممثل ذاته، وأفكاره ومشاعره لجميع دقائق، وخصائص إنسان آخر.."ـ كما يقول كيدروف ـ فالصدق الذي يسعى إلى تحقيقه الممثل وفقا لهذه الطريقة، ليس هو بالمرة الصدق الواقعي، بل هو الصدق الفني: " الذي يؤمن الممثل بوجوده في نفسه، وفي أذهان وقلوب غيره من أعضاء الفرقة.. فالصدق والإيمان متلازمان في الوجود، وبدونهما لا وجود للعمل الخلاق على المسرح.."
هكذا نجد أنفسنا ملزمين بالتعريف لمنهج ستانسلافسكي تعريفا سريعا ومختصرا ، ولكن يسبقه فقط ، تنويه لازم ، بالجهد الكبير الذي بذله المرحوم (د. شريف شاكر ) وهو ناقد مسرحي سوري الأصل ، حيث أخذ على عاتقه مهمة ترجمة وتراث ستانسلافسكي إلى العربية عن الأصل الروسي ، وليس عن طريق الترجمات الإنجليزية ، التي وصلتنا عن طريقها الترجمات القليلة عنه!، ولكن القدر لم يمهله ليستكمل مشروعه الكبير، وسوف نستعين في هذا المقال بترجمته مرشدا وهاديا.، وهناك أيضا جهد فقيد المسرح العربي السوري ، المخرج (فواز الساجر) ، الذي اعد أطروحته للدكتوراه عن (مشكلات العمل وفق نظام ستانسلافسكي مع الممثل العربي).. حتى نتعرف على حقيقة هذا التراث العظيم الذي أورثه (ستانسلافسكي) تلامذته لا في الاتحاد السوفيتي فقط ولكن في كافه أنحاء العالم ! ؟
وسنبدأ من اللحظة التي اكتشف فيها ستانسلافسكي قصور طريقته القديمة في تدريب الممثل اعتمادا على الدوافع السيكولوجية الداخلية ، وعلى طاقته الروحية ، التي تتبدى عند التطبيق العملي شيئا غائما ، لا يمكن الإمساك به ، وهى الطريقة التي مازلنا نعرف بها (ستانسلافسكي) حتى اليوم ! ففي عام 1910م وبعد انتهائه من إخراج مسرحيه (شهر في القرية) للكاتب الروسي (تورجينيف) يشير ستانسلافسكي أول مرة إلى مشكلة الدور وبنائه بواسطة الممثل فيقول : " إن أهم ما توصلت إليه في هذا العرض هو أنني تعرفت على حقيقة معروفه منذ القدم.!، فالممثل ليس بحاجة فقط للعمل في إعداد نفسه ، بل وللعمل في إعداد دوره أيضا.، وهذا مجال واسع يتطلب دراسة خاصة ، وتقنية مستقلة.! "
وخلال السنوات التالية ، كان هذا الموضوع هو ما يشغل بال ستانسلافسكي على الرغم من استمراره في العمل وفق الأسلوب السيكولوجي الخالص الذي اشتهر به ، وهكذا بدا يكتب إعداد الدور المسرحي على أساس مسرحية (صاحب العقل يشقى) ل جريبودييف ، ثم (رواية تربوية) ، وقد توصل ستانسلافسكي بعد هاتين المخطوطتين إلى اكتشاف انه لا يمكن إخضاع المشاعر والأحاسيس الداخلية للمثل لمراقبة العقل وتأثيره على طريقة (أنا أريد أن احزن .. إذن ، فلتدر التروس الداخلية ! ، ولتحترق أعصابي.!) ، فحتى لو تمت هنا معايشة من أي نوع ، فإنها غالبا ما تكون شكليه ، ضعيفة ، لا يمكن الاعتماد عليها ، ولكن حتى في هذه المرحلة كان عمل ستانسلافسكي ما يزال مرتبطا بوجهة نظره الأولية حول عمل الممثل ، التي لم تكن قد وصلت بعد إلى تمام نضجها ، وقد أعرب هو نفسه عن عدم رضاه عن هذه المرحلة.
أما ما يعتبر انه مرحلة النضج الحقيقي في تطوير منهج ستانسلافسكي ، فهو مخطوط إعداد الدور المسرحي على أساس مسرحية (عطيل) شكسبير ..، فهي هذه المرحلة (سنوات الثلاثينات) أدرك ستانسلافسكي أهمية العودة لتقديم نتائج عمله السابق وتعديل منهجه بما يتفق واكتشافاته في الواقع العملي ، التطبيقي مع الممثلين فما هو هذا الجديد الذي توصل إليه ؟ والذي أصبح بمثابة نقطة التحول في منهجه كليه ؟ وهو الذي نزعم انه الجزء الغائب عن أبدى معظم العاملين على طريقته لدينا !؟
هذا الجديد هو (الفعل البدني ـ الفيزيولوجي) باعتباره نقطة الانطلاق في عمليه خلق الشخصية ، بدلا عن المعايشة السيكولوجية الداخلية ، التي اصبح موقعها تاليا منذ الآن ..وهو ما يعنى استجابة ستانسلافسكي لمعطيات التطور في الفن الدرامي آنذاك ، وتوافقه مع الاتجاهات المسرحية الجديدة التي راحت تظهر متتابعة ، وتلقى بآثارها على كل ما هو موجود أصلا ، باعتبار الشكل المثالي ، داعية إلى تغييره ، ولا ننسى أن هذا كله كان يحدث في روسيا التي كانت تعيش مرحلة صاخبة من التغيير بعد نجاح ثورة أكتوبر وتسلم البلاشفة مقاليد الحكم. ، ويكفى أن نعرف انه في عام 1927 كان في روسيا وحدها حوالي 24 ألف مجموعة مسرحية تجريبية ، لها من الورش المسرحية والمعامل والمسارح ، ما لم يكن له مثيل في غيرها من البلدان ..!
وإذن فقد تخلى ستانسلافسكي عن طريقته السابقة في تحليل المسرحية من وراء الطاولة (الترابيزة) واضطر إلى اللجوء إلى لغة الحركة الفعلية مباشرة على الخشبة جنبا الى جنب مع شرح الترابيزة ، مكتشفا أهمية (الارتجال) كقوة دافعة لخيال الممثل الحركي ، يمكن أن تساعده في تحليل دوره وفهمه بشكل عميق وجدلي ! وهو ما سماه ستانسلافسكي (الإحساس الواقعي بحياة المسرحية والدور) وهى الطريقة التي رأى أنها قادرة على تحليل المسرحية بسهولة ، باجتذابها للطبيعة العضوية ، والقوى الإبداعية الداخلية بالتالي ، نحو الإيماء بالأفعال المادية والخلق الفعلي للشخصيات من اجل اكتشاف طبيعة هذه الشخصيات وسلوكها وحقيقتها الداخلية ، لا بمجرد النظر والتعبير الصوتي الزائف ، وإنما برؤيتها في مواقف فعلية ، حركية تستدعى استجابات حقيقية ، صادقة وتكشف عن ماضيها واحتمالات سلوكها وتصرفاتها في المواقف المختلفة ، وهكذا يتم استدعاء المادة الإنسانية الحية الضرورية للإبداع من داخل الممثل ، ويتضح منذ البروفات الأولى إلا حساس بالجو العام للمسرحية ومزاجها. وكما يقول ستانسلافسكي نفسه: " إن جميع هذه الإمكانيات الإبداعية الجديدة ، والمهمة للغاية التي تتمتع بها طريقتي ، تجعل منها وسيلة عملية ذات فائدة كبيرة " !!
على إننا لا يجب أن نمضي إلى ابعد من هذا في الحديث عن نظرية (الأفعال) التي صورناها هنا باعتبارها الركن الأساسي الناقص في معرفتنا بمنهج ستانسلافسكي ، قبل أن نشير إلى ملاحظتين هامتين:
أولا: ما يؤكده هذا القول الذكي لرجل المسرح المعاصر (بيتر بروك) عن النظرية بأنها (حين تصاغ في كلمات فانه كثيرا ما يصيبها الخلط والتشويش). فمنهج ستانسلافسكي في النهاية عبارة عن وحدة واحدة ، وان كان هو قد عمد كثيرا إلى بيان أجزائه كل على حدة ، لكنها أيضا لا يمكن فهمها بمعزل عن وحدتها الكلية ، تماما مثل فكرته عن تقسيم الدور إلى أجزاء أو وحدات منفصلة ، فان تجاهل فكرة الوحدة والفعل الكلى الذي يربط هذه الأجزاء ، يؤدى إلى ضياع ملامح الدور والى ضياع الممثل نفسه ، وهذا يعنى أن ما نعرضه هنا من أسلوب عمل ستانسلافسكي في بناء الدور لا ينفصل في ذاته عن بقية منهجه في التحليل الباطني للمسرحية وعن مفاهيمه الأساسية المعروفة مثل الهدف الأعلى والذاكرة الانفعالية، ولا عن الشروط الأساسية التي وضعها لعمل الممثل مع نفسه (في التجسيد الإبداعي ): مثل الخيال ـ التركيز ـ الصدق ـ الإيمان ـ الاسترخاء ، فما نعرضها هنا يمكن أن يكون على علاقة بكل من هذه الشروط على حدة من ناحية ، وبها جميعا مجتمعة من ناحية أخرى ، بالإضافة إلى كونه يضيف إليها شرطا جديدا هو (الفعالية).
ثانيا: لا يمكن ونحن نتحدث عن الارتجال وتحليل المسرحية واقعيا عن طريق الفعل الفيزيولوجي ، أن نغفل الإشارة إلى أن كل ما يقدمه الممثل في هذا المجال، لابد وان يكون مرتبطا بالدرجة الأولى بمفهوم (الظروف المعطاة) المعروف في منهج ستانسلافسكي، وكما ترى (نينا زفيريفا) فإن المخرجين والممثلين يميلون إلى الانشغال أما بصيغ الأفعال (البحث عن أفعال لغوية طريفة)، وإما بالبحث عن وسيلة التعبير الخارجي ، غافلين عن الشيء الأساسي ، أي البحث عن الدوافع الشعورية الفعالة للأفعال ، واللازمة من اجل تنفيذها .، ويغفل في خضم التهافت على الأفعال المعبرة ، أنها يجب أن تولد من المجموعة المعقدة من الظروف الاجتماعي، والمعيشة، والجو ، والعلاقات المتبادلة ، والشعور. والظروف المعطاة هي ماضي ومستقبل الشخصيات المسرحية ، وهى الجو الذي تعيش فيه ، وهى النظرة إلى الحياة ، والتربية ، والميول والعادات ، وأعمارها ، ومظهرها ، وهواياتها ، وعلاقاتها ببعضها البعض ، وهى ذروة الأوضاع المفجعة أو المضحكة ، العادية أو الخارقة ، والصاخبة، والمتآلفة ، أو الهادئة ، والتي لا يكاد يلحظها الناس المحيطون بها، وبمعنى آخر فانه ينبغي على الممثل عند العمل في إعداد دوره ، أن يبرز الصراع بين " الوجود القائم" لبطله ، وبين حياته الواقعية وكيف يجب ويمكن ويريد ويسعى إلى أن يعيش.
وإذن.. يمكننا الآن العودة لتفصيل مخطط ستانسلافسكي حول "بناء الدور المسرحي" ، والذي اكمل به المعلم الأول جدران منهجه في العمل "داخليا ـ خارجيا" على خشبة المسرح ، وكذلك ـ وهو الأهم ـ العمل "بشكل مبرر وهادف ومثمر"...
وحتى يكون عملنا واضحا ، وغير مخل بالكتاب الاصلى (والذى ترجمه د. شريف شاكر إلى العربية تحت عنوان (إعداد الدور المسرحي)..) فإننا سنختار جزءا بأكمله منه لنعرضه مختصرا ، وهو عبارة عن مخطوطة عمل الممثل في إعداد الدور حسب الطريقة الجديدة على أساس مسرحية (عطيل)، والتي يرجح المؤرخون أنها لم تكتب قبل عام 1937، وهى الوثيقة الوحيدة في هذا الموضوع.
خطة العمل في إعداد الدور المسرحي :
1 ـ التعرف الأول بالمسرحية والدور عن طريق سرد سير فعل المسرحية سردا عاما وليس تفصيليا ، ويتم هذا بالطبع بعد القراءة الأولى للمسرحية التي يوصى ستانسلافسكي بأهميتها ، وضرورة مراعاة أصولها مراعاة كاملة ، تلك الأصول التي يمكن تلخيصها فيما يلي :
- التمهيد للقراءة بصورة تفصلنا عن الشيء اليومي العادي ، وتركز انتباهنا كله على ما نقرا (لا أن نقراها في أي مكان وكيفما اتفق...!)
ـ ضرورة أن نكون نشيطين لحظة القراءة ، سواء من الناحية الروحية أو الجسمانية ، بصورة لا يعيق معها شئ عمل الحدس أو حياة المشاعر .
ـ قراءة المسرحية قراءة تقريرية ، بسيطة ، مفهومة.. دون استخدام أي تعبير فني ساطع ، ولكنها قراءة تكشف في الوقت نفسه عن إدراك حقيقي لجوهر المسرحية الأساسي ، وخطة تطورها الرئيسي ، وميزاتها الأدبية .
2 ـ أداء سير الفعل الظاهري (الخارجي) حسب الأفعال البدنية (الحركية )...
على سبيل المثال يدخل الممثل إلى غرفة .؟ ، طبعا لا يمكنه الدخول هكذا وبصورة صحيحة إذ كان لا يعرف من أين ؟ والى أين ؟ ولماذا ؟ ولذلك فقد يسال الممثل عن الوقائع الخارجية المباشرة (المادية) التي قد تبرر أفعاله ، وهكذا يجرى تبرير الأفعال الفيزيولوجية المباشرة ، بالظروف المقترحة الظاهرية والمباشرة أيضا ، على أن يتم اختيار هذه الأفعال من المسرحية نفسها ، وما لا يكفى يمكن ابتكاره من روح المؤلف. والمهم هو الإجابة على السؤال: ماذا يمكنني أن افعل إذا وجدتُ أنا (الآن) (اليوم ) (هنا) ..في ظروف مشابهة لظروف الدور.
3 ـ القيام بدراسات تجريبية على الماضي والمستقبل (فالحاضر هو المشهد نفسه) من أين جئت ؟ والى أين اذهب ؟ وماذا حدث بين الذهاب والمجيء ؟
4 ـ سرد الأفعال الفيزيولوجية وقصة المسرحية سردا تفصيليا اكبر ، من جانب الممثلين ، وتحت إشراف المخرج ، وفى هذه الخطوة يجرى تدقيق الظروف المقترحة ، وكلمة لو بصورة تفصيلية اكثر عمقا.
5 ـ تحدد المهمة العليا التقريبية المادية للدور بصورة مؤقتة.
6 ـ يتم تحديد خط الفعل المتصل التقريبي (والمادي) على أساس المادة المتلقاه من النص .،
ويستمر السؤال الدائم (الأساسي): ماذا يمكنني أن افعل "لو"...
7 ـ ومن اجل تحديد خط الفعل المتصل ، لابد من اللجوء إلى تقسيم الدور إلى أجزاء فيزيولوجية كبيرة ...
فيكون السؤال هو: ما هي الأفعال الفيزيولوجية/البدنية الكبيرة التي لا وجود للمسرحية بدونها !؟
8 ـ أداء هذه الأفعال (الأجزاء ) الفيزيولوجية على نفس الأساس: ماذا يمكنني أن افعل "لو"...
9 ـ إذا كانت الإحاطة بالجزء الكبير متعذرة ، يمكن التقسيم إلى أجزاء متوسطة ، وإذا احتاج الأمر إلى أجزاء اصغر نوجدها.
ملحوظة : تجرى دراسة طبيعة الأفعال الفيزيولوجية باستخدام أدوات متخيلة ..، ويراعى الحرص على منطق الترابط بين الأجزاء الكبيرة ومكوناتها مراعاة دقيقة توحدها في أفعال كبيرة تامة.
10ـ وضع خط منطقي مترابط للأفعال الفيزيولوجية مترابط للأفعال الفيزيولوجية الظاهرية.، يسجل هذا ويتم تثبيته بالممارسة.. فيؤدى هذا الخط عددا اكبر من المرات ، ويثبت بقوه بعد التحرر من كل ما هو زائد فيه ، ولتحذف منه 95 % ـ لو احتاج الأمر ـ لنصل إلى الصدق والإيمان .، فان منطق الأفعال الفيزيولوجية وترابطها يوصلان إلى الصدق والى الإيمان بهذا الصدق (وهذا بالطبع غير طريقة الصدق في سبيل الصدق !)
11 ـ يجرى تدعيم المنطق والترابط بين الأجزاء وكذا تدعيم الصدق والإيمان في الحالة المذكورة (هنا ـ اليوم ـ الآن ) وتوطيد ذلك كله توطيدا اكبر .
12 ـ نجاح هذه الخطوات كلها يؤدى إلى خلق حاله " أنا موجود ".. وحيثما توجد مثل هذه الحالة ، توجد الطبيعة العضوية وعقلها الباطن.
13 ـ كنا نؤدي حتى الآن بكلماتنا الخاصة ، فلنبدأ بقراءة النص جماعية اون..فالممثل سيلقى الآن من النص كلمات وجمل معينة يكون في أمس الحاجة إليها ، تدهشه بدقتها ، فليسجلها ويدخلها إلى نص الدور بين كلماته الخاصة والعفوية التي تخلقت حتى الآن..
14 ـ بعد مرور وقت قصير تجرى القراءة الثانية ، والثالثة .، مصحوبة بتسجيلات أخرى لكلمات جديده ، تدخل في نص الدور العفوي اللاإرادي ، وهكذا بالتدريج ، في البداية بمساحات منفصلة ، ثم بمراحل طويلة كاملة ، تملأ فيها كلمات المؤلف الدور.، ولا يبقى بعد ذلك سوى ممرات ووصلات صغيرة سرعان ما تمتلئ هي الأخرى بنص المسرحية تبعا لإحساس الممثل بالأسلوب واللغة والعبارة.
15 ـ يحفظ النص ويثبت ..ولكن يجب ألا يلفظ بصوت عال ، حتى لا يفسح مجالا للثرثرة الآلية ، والتلاعب اللفظي (وهو ما يحدث لدينا في البروفات الأولى مباشرة ـ !.) ..والميزانسين أيضا لا يُثبت حتى لا يفسح المجال لاتحاد خط الميزانسين مع خط الثرثرة الآلية.
16 ـ يعاد أداء خطوط الأفعال المنطقية المترابطة ، بالصدق ، والإيمان بهذا الصدق ، وتأكيد حالة (أنا موجود) والطبيعة العضوية للممثل وعقلها الباطن ، ويكرر هذا لفترة طويلة حتى يتم توطيدها بقوة مع نص الدور ، فهكذا تتولد أثناء تبرير الأفعال ، بصوره تلقائية ، ظروف مقترحه اكثر دقه ، وينشا خط للفعل المتصل اكثر عمقا واتساعا وشمولا ..
17 ـ وأثناء هذا العمل يستمر سرد مضمون المسرحية بصورة تفصيلية اكبر فاكبر ، ويبرر تدريجيا بصورة غير ملحوظة خط الأفعال الفيزيولوجية بظروف مقترحه سيكولوجية معمقه ، وبخط فعل متصل ، وبمهمة عليا.
18 ـ الاستمرار في أداء المسرحية حسب الخطوط المقررة ، والتفكير بكلمات النص واستبدالها أثناء الأداء بالنبرات !
19 ـ الآن وقد تحددت معالم الخط الداخلي الصحيح من خلال عمليه تبرير الخط الفيزيولوجي الظاهري وغيره من الخطوط ، فانه ينبغي تقويه هذا الخط الداخلي ، حتى يصبح النص المنطوق خاضعا له فلا يصبح نصا آليا..
20 ـ يستمر أداء المسرحية بالنبرات ، وفى الوقت نفسه العمل على تأكيد خط ما وراء النص الداخلي .
21 ـ يعاد السرد لمضمون المسرحية ، ولكن بكلمات الممثل الخاصة :
أ ـ حول خط الفكرة
ب ـ حول خط الرؤيا.
فيشرح كل ممثل لزميله هذين الخطين ، من اجل خلق خط داخلي عام (جماعي) للفعل ، وهذه الخطوط الأساسية لما وراء نص الدور لابد من توطيدها بقوة اكبر وتعميقها.
22 ـ تتم الخطوة السابقة على الطاولة، ثم يقرأ الممثلون نص المؤلف وهم جالسين (أياديهم تحت مؤخراتهم حتى لا تتحرك) معبرين فيما بينهم ، بدقه قصوى عن جميع الخطوط ، عن الأفعال والتفصيلات ووحدة الدور التي تمت صياغتها.
23 ـ تتكرر هذه العملية مع تحرير اليدين والجسم وبعض الانتقالات والميزانسينات العرضية على خشبة المسرح.
24 ـ صياغة خط الديكور وإقرارها..حيث يسال كل ممثل عن المكان الذي يفضل أن يكون فيه ، ويضع كل ممثل تصوره ، ثم من جميع التصورات التي يضعها الممثلون يتم وضع تصور (خطة) الديكور !
25 ـ صياغة الميز انسين وتمديده ..حيث يجرى ترتيب خشبة المسرح وفق خطة الديكور ، ويسال الممثل عند دخوله مثلا: أين يمكنك أن تفصح عن حبك ؟ أو تقنع صاحبك ؟ أو تتحدث بصراحة ..الخ..؟ أين يكون الانتقال لإخفاء ارتباكك..
وهكذا ، يبدأ الممثلون في تنفيذ جميع الأفعال الفيزيولوجية الضرورية حسب المسرحية.
26 ـ التحقق من خطوط المكان والميزانسين ، وفتح هذا الجدار أو ذاك بصورة مقصودة.
27 ـ العودة إلى الطاولة وفتح عدد من الأحاديث حول الخطوط الأدبية والسياسية والفنية للمسرحية .
28 ـ سمات الشخصية ..إن كل ما تم صنعه حتى الآن ، قد عمل على خلق سمات الخارجية فيجب أن تظهر أثناء ذلك من تلقاء نفسها ، ولكن ماذا نفعل إذا لم تظهر السمات الخارجية؟...
في هذه الحالة علينا أن نقوم بكل ما تم صنعه ولكن في حاله عرج ما ، أو في حاله كون اللسان به عيب ، أو في وضيعه معينة للأرجل أو الأيدي أو الجسم كله ، أو في حاله وجود عادات وتصرفات خارجية معينة .!بمعنى انه إذا لم تتولد السمات الخارجية للشخصية من تلقاء نفسها ، فيجب تطعيمها من الخارج مثلما نطعم غصن ليمون عادى بليمون هندي !
ـ وبعد ...
فهذا ملخص مبسط جدا لعمل ستانسلافسكي الهام حول بناء الدور المسرحي نورده ونحن ندرك أهمية إعادة النظر في تراث فن التمثيل في المسرح المصري وهى مهمة مناط بها المخرجون بالدرجة الأولى ، حيث قد تكدست لدينا مجموعه من التقاليد والمفاهيم المغلوطة، الميتة، للتمثيل والإخراج على خشبة المسرح المصري بداية من تقاليد البروفة الأولى، وبروفات الترابيزه، وانتهاء بطريقة عمل الميزانسين، ووضع تصورات الديكور والملابس.. وكما يقول (ستانسلافسكي) نفسه مرة أخيرة انه:
" شئ مؤلم أن يعتقد الفنانون بان فنهم اصبح مكتملا، وان يتوقفوا عن الحركة.. ولكن ليس اقل من ذلك باعثا على الألم عندما ينحني الفنانون للجديد فقط لمجرد كونه شيئا جديدا...!"
---------------------------------
نُشرت للمرة الأولى بمجلة المسرح المصرية – القاهرة – العددين 25،26 ديسمبر1990، يناير1991