مسرح شكسبير اللندني يؤدي إلى روما
مجلة الفنون المسرحية
مسرح شكسبير اللندني يؤدي إلى روما
شكسبير يصور سواد الناس خرافاً، والزعيم الماكر ذئباً جائعاً للسيطرة بخطبة عصماء منمقة، ينقلب الناس على الجنرال بومبي ويبايعون قيصراً.
في عيد ميلاد شكسبير، الكاتب المسرحي الأعظم، يغدق مسرح شكسبير الملكي من ميزانيته على إنتاج مسرحيات شكسبير الرومانية جميعها، “يوليوس قيصر” و”أنطونيو وكليوباترة” أولا ثم “كوريولانوس” و”تيتوسأندرونيكوس” من بعدهما.
ترامب في السلطة فارضا شعبوية لن تداويها الديمقراطية؛ وبريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبي مهددة بفوضى سياسية واقتصادية واجتماعية؛ وتعريف الصالح العالم يختلف الآن بين الحاكم والمحكوم اختلافا جذرياً. حقا آن الأوان لأقسى مسرحيات شكسبير دموية وأكثرها تشبعا بالسياسة، التراجيديا الملحمية “يوليوس قيصر” التي يتواصل عرضها حتى التاسع من سبتمبر المقبل في بلدة ستراتفورد-أبون-آيفون، مسقط رأس الكاتب.
في “يوليوس قيصر” ينفرط بلا كابح عقد السباق على حكم امبراطورية العالم. وتتردد في آذاننا البروباغندا السياسية بأطيافها، اليمين واليسار والوسط. وكلهم بلا استثناء يخاطبون الجموع طمعا في “أصواتهم”. يرتفع ستار العرض عن ثلاثة سياسيين عراة الصدور يجثمون على ثور هائل تحت أقدامهم. الثور يحتضر على أثر الضربات والرجال يقيمون الشعائر ويخضبون أجسادهم بدماء الجثة. من الذي يغتاله الساسة؟
ديمقراطية دامية
يؤوب قيصر من أتون الحرب، متوَّجا بهالة الانتصار. يختال أقوى رجل في العالم اختيالا، بيد واحدة يهيمن على منطقة تترامى من إسبانيا إلى بلاد الشام. وعلى خلفية من نشوة الغلبة، ينشب التمرد بين أروقة البرلمان. يوشي واش بأن قيصر، الإله الخالد حينذاك، يخطط لأن يتوج نفسه ملكا. هو في موقف القوة وله أن يستهزئ بالقواعد.
ولكن روما الجمهورية لم تشهد ملكا منذ خمسمئة عام. والحكم تتقاسمه ثلة من السياسيين بطريقة يمْكن وصفها اليوم “بالديمقراطية”.
الممثل البريطاني أندرو ودول يتقمص دور الطاغية المستبد تقمصاً مخيفاً يذكرنا بآكل لحوم البشر هانيبالليكتر في روايات توماس هاريس
يعتقد المخْلصون من الساسة والطامعون على حد سواء أن حاكما أوحد خطر على روما وشعبها. يتعالى صوت أحدهم، “لا سبيل إلا بتقاسم السلطة”. وهكذا تدب الوساوس بين أروقة القصور، ويصير التخلص من قيصر “الطَموح” هو الغاية والمبتغى لدرء الفوضى والشعبوية.
تتناهى إلينا كلمة “طَمُوح” وكأنها سبة في الجبين. كانت بالفعل سبة للرومان في هذا السياق السياسي. فكيف يطمح سياسي في استلاب شيء من شعب روما الحبيب؟ روما لم تركع من قبل، وكاسيوس الثوري الأصيل يندد، “الخطأ يا عزيزي بروتوس ليس في حظوظنا. ولكن في أنفسنا، في أننا تابعون”.
تتتابع المؤامرة المقاوِمة لصعود الدكتاتور ساعتين ونصف الساعة ونحن جالسون على أطراف المقاعد. ومعرفتنا بالحبكة لا تكبح إثارة تخللت إلينا مع كل جريمة قتل أو انتحار.
التلاعب بالحشود
ومثلما هو الحال دائما وأبدا، تتلون هذه الخيانة السياسية (أو التضحية السياسية، هي وجهات نظر لم يحسمها شكسبير) بلون الدماء. ثلاثون طعنة اخترقت جسد قيصر في البرلمان. يعاتب قيصر صديقه بروتوس ذلك العتاب الشهير، “حتى أنت يا بروتوس. اسْقُطْ إذن يا قيصر”. والأمر الأخير لنفسه يوحي بأن الخيانة أفقدته كل إرادة على الحياة.
يُغرق القتلة (أو الثوريون وفقا لانتمائك السياسي!) أنفسهم بالدماء حتى الأكواع في مشهد بدائي ينتمي إلى العصر الحجري. يسير المتآمرون في شوارع روما يتصايحون، “السلام، الحرية، الحرية”.
لم يضع الساسة في الحسبان أن أسوأ مخاوفهم قد تتحقق لتقتل أحلامهم في المهد. يشهد أنطونيو قائده يُذبح ذبحا، فلا يدخر حيلة للتلاعب بالحشود ليتمردوا، مرة ثالثة!
يتساءل المخرج آنجيس جاكسون في أحد حواراته الصحافية إن كان الانقلاب على الديمقراطية يبرر اغتيال القادة، “هل سيكون من المبرر أن تغتال المعارضة قائدا غربيا كترامب مثلا إن أساء استخدام سلطته؟” كما يعقِّب موقع “واتس أون ستيج” على المكيدة المسرحية بأن القوة الفجة للأداء والعرض الضخم لتراجيديا المؤامرة يجعلانها أكثر من مجرد استحضار للمكائد الترامبية.
لم يضع الساسة في الحسبان أن أسوأ مخاوفهم قد تتحقق لتقتل أحلامهم في المهد |
الرجل سيد قدره
أدار المخرج دفة المسرحية بكفاءة منقطعة النظير. ولكننا لا نكاد نتذكر أن للعرض مخرجا. على ما في الأحداث من قوة وجمال، لم تختلف الوقائع كثيرا عن نص شكسبير. قد يُعتبر اختيارا آمنا إلا أنها كانت واحدة من حسنات العرض.
فقد لعلعت اللغة الشكسبيرية مع لعلعة أدوات الحرب. بعضها سلس، والبعض الآخر في حاجة إلى مترجم! الملابس رائعة من الدرجة الأولى، والديكور مبهر استلهمه المصمم من الساحات الرومانية العتيقة، وبدا جليلا حريا بالامبريالية في أبهى صورها. يطالعنا وجه روما الحضاري الآني، وفي الوقت ذاته أنقاضها المستقبلية وراء الأسوار.
يتساءل شكسبير عن معنى القيادة والرجولة. ما معنى أن تكون رجلا في عهد إليزابيث الأولى؟ عله المعنى نفسه في يومنا هذا. يلازم الرجولة النبل والشجاعة، وأحيانا العنف. يؤكد السيناتور بروتوس أن الرجال أسياد أقدارهم. في المسرحية صوتان نسائيان فقط لا غير، ولا سلطة سياسية أو حربية لهما.
يتقمص الممثل البريطاني أندرو ودول دور الطاغية المستبد تقمصا مخيفا يذكِّرنا بآكل لحوم البشر هانيبال ليكتر في روايات توماس هاريس. جاء الأداء منوما مغناطيسيا، بالكاد تستطيع أن ترفع عينيك عن الممثلين، والجائزة الكبرى ينالها جيمز كوريجان في دور أنطونيو وأليكس ولدمان في دور بروتوس.
كان أدهى ما في العرض هو التصوير الدقيق للانقسامات بين الطامحين للفوز بالعرش والانقلاب على الحاكم المطلق. رويدا رويدا تتكشف لنا ظلال من اللون الرمادي. وقوفنا ضد الدكتاتور لا يعني أننا لسنا دكتاتوريين. وقوفنا ضد الشر لا يعني أننا نمثِّل الخير. تُحلل المسرحية قيمة الأخلاق ودلالاتها الاجتماعية. بروتوس مثال للرجل الخلوق، ولكن ينتهي به الأمر قاتلا لصديق ورئيس دولة. المضحي في سبيل أهله هو في الواقع جزار.
لا خير في المدينة
هذه الفكرة الفلسفية حيرت الكثيرين، وقادت السياسيين في متاهات ومتاهات. نتخيل عالما طافحا بالشر من دون مسحة خير. عالم يتقاتل نصرة للإيذاء والفتك. مَن يقف ضد الآخر يطمح في المزيد في الطغيان ليس إلا، ولا نصير للشعب.
إن الديمقراطية في التحليل الأخير هي حكم الشعب. وبسهولة منقطعة النظير يتلاعب كل اتجاه من الاتجاهات السياسية الثلاثة، يمين ويسار ووسط، بالشعب الذي بدا أشبه بالغوغاء في المسرحية. أكان تحذيرا من شكسبير بأضرار السلطة الشعبية؟ هل يلهث العامة وراء يوتوبيا بعيدة المنال أم أنهم مغيبون بالفطرة؟
عودة الأوتوقراطية والثورات الأهلية وما أعقبها من فوضى ووحشية |
يصور شكسبير سواد الناس خرافا، والزعيم الماكر ذئبا جائعا للسيطرة. بخطبة عصماء منمقة، ينقلب الناس على الجنرال بومبي ويبايعون قيصرا. وبخطبة مثلها ينقلبون على قيصر ويبايعون بروتوس، ومن بعده يجيء دور أنطونيو بخطبته الطنانة، “أصدقائي وأهل روما وأبناء بلدي”.
شعب ينحني مع الريح وتهزه النسمة. نرى رؤية العين كيف تتحول الديمقراطية إلى شعبوية. وتقلٌّب القوم بين المشهد والتالي مخيف فعلا. يداهمنا كل اتجاه سياسي بلغة ومنطق وتطرف خاص به، والأهم بمطامع لا تنقطع في العرش.
يوحي شكسبير بأن الحكم الأوحد ليس هو الشر المطبق. كيف وقيصر مهدور الدماء انتحب “حين بكى الفقراء”؟ الحق أن شعب روما لم يكترث على الإطلاق بفكرة الحرية. حين علموا كذِبا بأن قيصرا ترك لكل روماني 75 دراخمة في وصيته، هللوا وانقلبوا على الثورة في لحظات معدودات.
وهكذا يعري المشهد تلو المشهد حقيقة عصرنا هذا: عودة الأوتوقراطية والثورات الأهلية وما أعقبها من فوضى ووحشية. نريد أن تحيا روما بالطبع، ولكن هل من المجدي حقا أن تحيا روما أو “تموت حرة” كما هتف الثوريون؟ بين يدينا مسرحية معاصرة إلى حد الغرائبية.
ونترك للقارئ العربي تمييز الأحداث واستلهام العبرة، فالمسرحية ذاتها لم تنزلق في منزلق المجاز العاري. قد يستنكر البعض تقليدية العرض غير أن أفكاره النبوئية لن تخفى على أحد. لو عاش شكسبير إلى اليوم، لأتم أربعمئة وخمسين عاما. كل عام والكاتب العظيم بخير.
-----------------------------------------------
المصدر : هالة صلاح الدين - جريدة العرب
0 التعليقات:
إرسال تعليق